"لن تفوِّت هذه الفرصة يا ولد"
ثم أضافت الخطابة:
"طلبتك بالاسم أيها الفتى البائر"
أخذ قلبه يدق:
- ولكن..
أصرت بهية الخطابة:
- لا لكن ولا ماكن...لقد كبرت في السن وها قد حانت الفرصة..النجاة من بؤسك تنتظرك وتفتح لك ذراعيها كمرمى فريق كرة بلا حارس..فأنت بلا عزوة ولا مال ولا تملك سوى السمعة كأستاذ لغة عربية في مدرسة القرية..
لم تحتاج بهية الخطابة للكثير من الوقت لاقناعه، ليجد نفسه فجأة داخل الإقطاعية التي يملكها والد الفتاة وأبنائه..
الإقطاعية عبارة عن بلدة كاملة مسورة بجدار حجري ضخم، داخلها على الشرق تنتصب جملونات بيع المستلزمات اليومية للعاملين في الإقطاعية، وعلى اليسار المخازن الضخمة التي تورد محاصيل الأراضي الزراعية والبساتين، وفي الشمال الأقصى القصر الذي كان من المفترض أن يعيش داخله، غير أن هذا لم يحدث، وفي المنتصف ممر واسع يصل بين البوابة وحتى القصر وهو يمتد لكيلو مترات وهناك ممرات فرعية أخرى محتشدة بالعمال والسائقين.
فجأة رأى الناس تفسح الطريق في الممر الرئيسي لتعبر جيوش من البط الشفاف وطابور من أبن عرس يسير محاذياً يمين البط..
تدفق البط بصمت كما لو كان حاشية الملك. ثم اختفي قبل أن يبلغ القصر، فقد تم إدخاله إلى ماكينات ضخمة هو وأبن عرس، فغلته حياً حتى نفق ثم نتفت ريشه، تجهيزاً لتوزيعه كطعام للبشر.
قال العامل العجوز ذو الرقبة الممتلئة بالعروق:
- ابن عرس لا ينفق بسرعة.. إنه مقزز قليلاً بعد أن تسلخه الآلات.. لكن لحمه لذيذ..
لقد كان الشرط الوحيد الذي اشترطه والد زوجته هو ألا يبقى مع زوجته داخل القصر سوى ليلتين متفرقتين في الأسبوع. أما سائر الأيام فعليه أن ينام مع العمال تحت الجملونات، وغالباً ما كان يستيقظ ليجد هاتفه وقد سرق، فيذهب لتدريس التلاميذ من أبناء العمال مبادئ القراءة والكتابة، ووجهه غاضب.
- عليك أن تتحول إلى ذئب يا سيد أيمن..
يقول ناظر المدرسة المكونة من فصل واحد..فيرد عليه:
- وأنت .. لماذا لم تتحول لذئب؟
فيقول الناظر بفزع:
- أنا لست متزوجاً من ابنتهم.. أما انت فلك حقوق..
- أي حقوق..
ويفضل أن لا يسترسل في الحديث مع الناظر فهو لا يثق به، واشقاء زوجته مجرمون. فلو انتقل إلى أسماعهم أي كلام منه، فليس من المستبعد أن يعلقوه من خصيتيه.
- إنها كبيرة في السن أليس كذلك؟
فيصمت ولا يرد على اسئلة الناظر..
كانت الإقطاعية وشوارعها وجملوناتها تعج بالعمال ونسائهم وأطفالهم، وبدا مشوش الذهن قليلاً..
- سأنتقم منك أيها الكلب..
قال ذلك. وبالفعل علقوا الناظر من خصيتيه، ثم ضربوه ضرباً مبرحاً وركلوا مؤخرته خارج أسوار الإقطاعية.
كان يأمل من وشايته أن تقربه من أشقاء زوجته أكثر ليقبلوا به داخل القصر أو على الأقل في المبنى المجاور للقصر والذي يسكن فيه طباخو القصر وخدمه المباشرين. غير أنه وجد نفسه يقف في طابور الحصول على الكوتة اليومية المكونة من بطة منتوفة الريش وابن عرس مسلوخ الجلد. كانت البطة لا زالت تصدر أصواتاً كالنقيق، وحلق ابن عرس يتحرك للأعلى والأسفل.. فالآلات لم تكن تقتلهم بسرعة.
تعرف أثناء الطابور على شاب متحذلق، نحيل الجسد، فتصادقا، وسارا سوياً.
- إنها لم تحبل منك؟
أجاب:
- كن حذراً..حتى لا تعلق من خصيتيك كالناظر..
خاف صديقه الشاب ثم أضاف:
- إنني أبيع البطة وابن عرس خارج أسوار الإقطاعية بثمن جيد..
كان ذلك خبراً طيباً، وقرر الخروج من الإقطاعية لبيع نصيبه من البطة وابن عرس.
خارج الإقطاعية؛ كان سورها ينفصل عن باقي الأرض بخندق عميق، وكان عبوره مستحيلاً، إلا إذا قام عامل بوابة القصر بتنزيل الجسر الخشبي، وهذا لا يحدث إلا وفق نظام معين، بالدقيقة والثانية، ولذلك نجح بعض العمال داخل الإقطاعية والسماسرة من مشتري البط وابن عرس في نقل البط وابن عرس عبر حبال تصل بين الجانب الذي فيه أسوار القصر والجانب الذي يلي الخندق.
- إن أجمل ما في هذه الإقطاعية أنك لا تجوع فيها أبداً..
قال صديقه، وبدا له تقييم الإقطاعية مسألة معقدة بعض الشيء. هل الحياة فيها جيدة أم سيئة. ربما لأنه لا يعمل فيها سوى زوج لمرتين في الأسبوع وأستاذ مدرسة باقي الأيام. أما لو كان عاملاً فلربما كانت حياته فيها لن تطاق.
ولكي يدخل القصر لممارسة عمله كان يتم إدخاله من ممر الخدم الخلفي إلى الحمام مباشرة ليتم تطهيره من الأوساخ والحشرات، ثم من الحمام مباشرة يتم إدخاله إلى غرفة زوجته.
يؤدي دوره بصمت، ثم يتم إيقاظه في الخامسة صباحاً ليعود عبر ذات الممرات، ويتم تفتيشه قبل الخروج النهائي من القصر.
- لا بأس.. لا بأس..
لم يكن يثق حتى بصديقه داخل الإقطاعية، كان جميع العمال وأسرهم يبدون أجلافاً خشنين، فظي السلوك، ولديهم حنق مزمن ويتفشى بينهم الحسد. لذلك لم يجد من يتحدث إليه عن أزمته النفسية بعد أن منعوه -بلا تبرير- من دخول القصر، وهو لا يعرف إن كان لا زال محتفظاً بوظيفته كزوج أم تمت إقالته من وظيفته. قال صديقه:
- بما أنهم لم يركلوك خارج الإقطاعية فهم إذاً لم يقيلوك من وظيفتك..
فسأله:
- ولماذا يمنعونني من أداء عملي؟
فكر صديقه قليلاً وقال:
- ربما تكون قد حبلت..
كان ذلك تبريراً معقولاً..
- سيكون لي ابن..
قال صديقه بحسد:
- لا.. ليس لك.. أنت مجرد دجاجة أما البيض فلصاحبها..
- ولكن هذا ليس عدلاً..
اتسعت عينا صديقه وقال بوجه مخدر بالفزع:
- ربما يتخلصوا منك للأبد..
ونجح بالفعل في نقل فزعه المزيف إلى نفس أستاذ أيمن.
- وماذا أفعل؟
- لا شيء سوى الهرب من الإقطاعية.. وبأسرع ما يمكن..
- وابني؟
- سيتربى أحسن تربية ولن يحتاج لك.. أهرب فقط..
في الصباح نجح في الحصول على نصيبه من البطة وابن عرس وخرج مع العمال ليبيعهما، فبدأ بربط أقدامهما بعُقل معقودة على الحبال، وقبل أن يتحرك الحبل سمع فجأة صياح الجماهير. كانت هناك فتاة على يساره قد تعلقت بالحبال وبدأت في العبور إلى الضفة الأخرى وراء الخندق. فصرخ ثم قفز متسلقاً الحبال خلفها.
كان العمال يصرخون:
"اقبض عليها.. اعدها يا بطل.."
صرخت الفتاة حين شعرت بأنه يلاحقها فصاح:
- لا أريد القبض عليك فأنا أريد الهرب أيضاً..
غير أن صوته اختفى داخل صراخ الجماهير والفتاة، التي اصيبت بالفزع حتى فقدت السيطرة على نفسها وتخلت أصابعها عن الحبل، لتسقط في عمق الخندق جثة هامدة.
توقف هو قليلاً ونظر إلى شبح جثتها في القعر المظلم. ثم واصل عبوره للخندق بذعر.
- هربت يا خايب الرجا؟
قالت بهية الخطابة، فاكتفى بإشاحة وجهه عنها.
- إنهم يتآمرون عليك.. لا سبيل لك إلا العودة إلى الإقطاعية.. عزوة الفتاة كلها تبحث عنك.. ولو ذهبت للمدرسة فلن يقبل الناظر إعادة توظيفك فيها مرة أخرى..عليك أن تهرب من القرية..
- إنهم يحاصرون القرية ويتمركزون بكل منافذها في انتظار خروجي..ثم اصطيادي وقتلي..
صاح:
- ماذا يريدون مني.. ابنتهم معهم..
قالت:
- أنت والد الطفل..
قال:
- كان غلطة كبرى.. لا أريده ولا أريدها ولا أريدهم جميعاً..
همست بسرور مفتعل:
- سيجعلونك تعيش داخل القصر..
نظر إليها وقال بذعر:
- كيف عرفتِ؟
قالت بوجه متجهم:
- هذه رسالة منهم..
قال:
- إذاً فقد أخبرتهم بمكاني؟
- إنهم يعلمون مسبقاً..
ثم التقطت أنفاسها وقالت:
- لا سبيل أمامك إلا العودة إلى الإقطاعية أو.. شنقك..
تحسس رقبته والهواجس تطوف برأسه. ثم همس برجاء:
- ألا يوجد حل آخر يا بهية؟
مطت الخطابة شفتيها وهزت رأسها نفياً.
كان اليوم هو يوم استقبال قطعان البط وابن عرس الواردة إلى الإقطاعية، فحمل الكراسة ونزع قلم الحبر من وراء أذنه وبدأ في تدوين الكميات الواردة إلى الإقطاعية بدقة. لقد تمت ترقيته ومنحوه ثلاث وظائف مرة واحدة: زوج، وأب ومراجع حسابات الإقطاعية.
ورأى ذلك حسن.
(تمت)
ثم أضافت الخطابة:
"طلبتك بالاسم أيها الفتى البائر"
أخذ قلبه يدق:
- ولكن..
أصرت بهية الخطابة:
- لا لكن ولا ماكن...لقد كبرت في السن وها قد حانت الفرصة..النجاة من بؤسك تنتظرك وتفتح لك ذراعيها كمرمى فريق كرة بلا حارس..فأنت بلا عزوة ولا مال ولا تملك سوى السمعة كأستاذ لغة عربية في مدرسة القرية..
لم تحتاج بهية الخطابة للكثير من الوقت لاقناعه، ليجد نفسه فجأة داخل الإقطاعية التي يملكها والد الفتاة وأبنائه..
الإقطاعية عبارة عن بلدة كاملة مسورة بجدار حجري ضخم، داخلها على الشرق تنتصب جملونات بيع المستلزمات اليومية للعاملين في الإقطاعية، وعلى اليسار المخازن الضخمة التي تورد محاصيل الأراضي الزراعية والبساتين، وفي الشمال الأقصى القصر الذي كان من المفترض أن يعيش داخله، غير أن هذا لم يحدث، وفي المنتصف ممر واسع يصل بين البوابة وحتى القصر وهو يمتد لكيلو مترات وهناك ممرات فرعية أخرى محتشدة بالعمال والسائقين.
فجأة رأى الناس تفسح الطريق في الممر الرئيسي لتعبر جيوش من البط الشفاف وطابور من أبن عرس يسير محاذياً يمين البط..
تدفق البط بصمت كما لو كان حاشية الملك. ثم اختفي قبل أن يبلغ القصر، فقد تم إدخاله إلى ماكينات ضخمة هو وأبن عرس، فغلته حياً حتى نفق ثم نتفت ريشه، تجهيزاً لتوزيعه كطعام للبشر.
قال العامل العجوز ذو الرقبة الممتلئة بالعروق:
- ابن عرس لا ينفق بسرعة.. إنه مقزز قليلاً بعد أن تسلخه الآلات.. لكن لحمه لذيذ..
لقد كان الشرط الوحيد الذي اشترطه والد زوجته هو ألا يبقى مع زوجته داخل القصر سوى ليلتين متفرقتين في الأسبوع. أما سائر الأيام فعليه أن ينام مع العمال تحت الجملونات، وغالباً ما كان يستيقظ ليجد هاتفه وقد سرق، فيذهب لتدريس التلاميذ من أبناء العمال مبادئ القراءة والكتابة، ووجهه غاضب.
- عليك أن تتحول إلى ذئب يا سيد أيمن..
يقول ناظر المدرسة المكونة من فصل واحد..فيرد عليه:
- وأنت .. لماذا لم تتحول لذئب؟
فيقول الناظر بفزع:
- أنا لست متزوجاً من ابنتهم.. أما انت فلك حقوق..
- أي حقوق..
ويفضل أن لا يسترسل في الحديث مع الناظر فهو لا يثق به، واشقاء زوجته مجرمون. فلو انتقل إلى أسماعهم أي كلام منه، فليس من المستبعد أن يعلقوه من خصيتيه.
- إنها كبيرة في السن أليس كذلك؟
فيصمت ولا يرد على اسئلة الناظر..
كانت الإقطاعية وشوارعها وجملوناتها تعج بالعمال ونسائهم وأطفالهم، وبدا مشوش الذهن قليلاً..
- سأنتقم منك أيها الكلب..
قال ذلك. وبالفعل علقوا الناظر من خصيتيه، ثم ضربوه ضرباً مبرحاً وركلوا مؤخرته خارج أسوار الإقطاعية.
كان يأمل من وشايته أن تقربه من أشقاء زوجته أكثر ليقبلوا به داخل القصر أو على الأقل في المبنى المجاور للقصر والذي يسكن فيه طباخو القصر وخدمه المباشرين. غير أنه وجد نفسه يقف في طابور الحصول على الكوتة اليومية المكونة من بطة منتوفة الريش وابن عرس مسلوخ الجلد. كانت البطة لا زالت تصدر أصواتاً كالنقيق، وحلق ابن عرس يتحرك للأعلى والأسفل.. فالآلات لم تكن تقتلهم بسرعة.
تعرف أثناء الطابور على شاب متحذلق، نحيل الجسد، فتصادقا، وسارا سوياً.
- إنها لم تحبل منك؟
أجاب:
- كن حذراً..حتى لا تعلق من خصيتيك كالناظر..
خاف صديقه الشاب ثم أضاف:
- إنني أبيع البطة وابن عرس خارج أسوار الإقطاعية بثمن جيد..
كان ذلك خبراً طيباً، وقرر الخروج من الإقطاعية لبيع نصيبه من البطة وابن عرس.
خارج الإقطاعية؛ كان سورها ينفصل عن باقي الأرض بخندق عميق، وكان عبوره مستحيلاً، إلا إذا قام عامل بوابة القصر بتنزيل الجسر الخشبي، وهذا لا يحدث إلا وفق نظام معين، بالدقيقة والثانية، ولذلك نجح بعض العمال داخل الإقطاعية والسماسرة من مشتري البط وابن عرس في نقل البط وابن عرس عبر حبال تصل بين الجانب الذي فيه أسوار القصر والجانب الذي يلي الخندق.
- إن أجمل ما في هذه الإقطاعية أنك لا تجوع فيها أبداً..
قال صديقه، وبدا له تقييم الإقطاعية مسألة معقدة بعض الشيء. هل الحياة فيها جيدة أم سيئة. ربما لأنه لا يعمل فيها سوى زوج لمرتين في الأسبوع وأستاذ مدرسة باقي الأيام. أما لو كان عاملاً فلربما كانت حياته فيها لن تطاق.
ولكي يدخل القصر لممارسة عمله كان يتم إدخاله من ممر الخدم الخلفي إلى الحمام مباشرة ليتم تطهيره من الأوساخ والحشرات، ثم من الحمام مباشرة يتم إدخاله إلى غرفة زوجته.
يؤدي دوره بصمت، ثم يتم إيقاظه في الخامسة صباحاً ليعود عبر ذات الممرات، ويتم تفتيشه قبل الخروج النهائي من القصر.
- لا بأس.. لا بأس..
لم يكن يثق حتى بصديقه داخل الإقطاعية، كان جميع العمال وأسرهم يبدون أجلافاً خشنين، فظي السلوك، ولديهم حنق مزمن ويتفشى بينهم الحسد. لذلك لم يجد من يتحدث إليه عن أزمته النفسية بعد أن منعوه -بلا تبرير- من دخول القصر، وهو لا يعرف إن كان لا زال محتفظاً بوظيفته كزوج أم تمت إقالته من وظيفته. قال صديقه:
- بما أنهم لم يركلوك خارج الإقطاعية فهم إذاً لم يقيلوك من وظيفتك..
فسأله:
- ولماذا يمنعونني من أداء عملي؟
فكر صديقه قليلاً وقال:
- ربما تكون قد حبلت..
كان ذلك تبريراً معقولاً..
- سيكون لي ابن..
قال صديقه بحسد:
- لا.. ليس لك.. أنت مجرد دجاجة أما البيض فلصاحبها..
- ولكن هذا ليس عدلاً..
اتسعت عينا صديقه وقال بوجه مخدر بالفزع:
- ربما يتخلصوا منك للأبد..
ونجح بالفعل في نقل فزعه المزيف إلى نفس أستاذ أيمن.
- وماذا أفعل؟
- لا شيء سوى الهرب من الإقطاعية.. وبأسرع ما يمكن..
- وابني؟
- سيتربى أحسن تربية ولن يحتاج لك.. أهرب فقط..
في الصباح نجح في الحصول على نصيبه من البطة وابن عرس وخرج مع العمال ليبيعهما، فبدأ بربط أقدامهما بعُقل معقودة على الحبال، وقبل أن يتحرك الحبل سمع فجأة صياح الجماهير. كانت هناك فتاة على يساره قد تعلقت بالحبال وبدأت في العبور إلى الضفة الأخرى وراء الخندق. فصرخ ثم قفز متسلقاً الحبال خلفها.
كان العمال يصرخون:
"اقبض عليها.. اعدها يا بطل.."
صرخت الفتاة حين شعرت بأنه يلاحقها فصاح:
- لا أريد القبض عليك فأنا أريد الهرب أيضاً..
غير أن صوته اختفى داخل صراخ الجماهير والفتاة، التي اصيبت بالفزع حتى فقدت السيطرة على نفسها وتخلت أصابعها عن الحبل، لتسقط في عمق الخندق جثة هامدة.
توقف هو قليلاً ونظر إلى شبح جثتها في القعر المظلم. ثم واصل عبوره للخندق بذعر.
- هربت يا خايب الرجا؟
قالت بهية الخطابة، فاكتفى بإشاحة وجهه عنها.
- إنهم يتآمرون عليك.. لا سبيل لك إلا العودة إلى الإقطاعية.. عزوة الفتاة كلها تبحث عنك.. ولو ذهبت للمدرسة فلن يقبل الناظر إعادة توظيفك فيها مرة أخرى..عليك أن تهرب من القرية..
- إنهم يحاصرون القرية ويتمركزون بكل منافذها في انتظار خروجي..ثم اصطيادي وقتلي..
صاح:
- ماذا يريدون مني.. ابنتهم معهم..
قالت:
- أنت والد الطفل..
قال:
- كان غلطة كبرى.. لا أريده ولا أريدها ولا أريدهم جميعاً..
همست بسرور مفتعل:
- سيجعلونك تعيش داخل القصر..
نظر إليها وقال بذعر:
- كيف عرفتِ؟
قالت بوجه متجهم:
- هذه رسالة منهم..
قال:
- إذاً فقد أخبرتهم بمكاني؟
- إنهم يعلمون مسبقاً..
ثم التقطت أنفاسها وقالت:
- لا سبيل أمامك إلا العودة إلى الإقطاعية أو.. شنقك..
تحسس رقبته والهواجس تطوف برأسه. ثم همس برجاء:
- ألا يوجد حل آخر يا بهية؟
مطت الخطابة شفتيها وهزت رأسها نفياً.
كان اليوم هو يوم استقبال قطعان البط وابن عرس الواردة إلى الإقطاعية، فحمل الكراسة ونزع قلم الحبر من وراء أذنه وبدأ في تدوين الكميات الواردة إلى الإقطاعية بدقة. لقد تمت ترقيته ومنحوه ثلاث وظائف مرة واحدة: زوج، وأب ومراجع حسابات الإقطاعية.
ورأى ذلك حسن.
(تمت)