مهما يَكُن العِقاب الذي سينالني، فقدْ قررتُ أن أكتب وأن أعترف، لا بدّ وأن أخفِّف عن كاهلي كل ما أشعر به الآن مما يثقِله، أثِق في عدالةٍ ما سوف تنصِفني يومًا إذا تعرضتُ لمحاكمة أو لعقابٍ بسبب اعترافاتي تلك التي ستقرؤونها. مِن حقِّكم أن تعرفوا الحقيقة، ومِن حقِّي أنا أن أَظهَر للناس بصورتي الحقيقية، لا تلك التي رسمَها لي البعض من خيالهم ومن تصوراتهم، لولا الخوف لمَا رسَم الناسُ لي هذه الصورةَ السيئة، أنا أعرف تأثير الخوف وتجلياتِه، الناس أعداء ما جهِلوا دائمًا، يرسمون للمجهول صورة تكشف تصوراتِهم هُم عنه، ولا تكشف حقيقةَ المجهول نفسِه فكيف إذا كان المجهول هو الخوف؟! إشارتي تلك للخوف وللمجهول استوعبتُها متأخرًا جدًا.
بالضبط كما هو ممنوعٌ تمامًا على العاملين بالمناصب العالية في القضاء والنيابة والهيئات الدبلوماسية أن يختلِطوا بالناس، وأن يتحدثوا عن طبيعة مهامِهم ووظائفهم، كان – وما يزال – ممنوعًا عليَّ وعلى صاحبي أن نفتح فمَنا بكلمةٍ واحدة، ولا أن نَخرج للناس في أسواقهم وفي أعمالهم.. لكنني ضِقتُ ذرعًا بما أستشعِره من ظلمٍ مِن ناحية، وبما أحِسُّه مؤخرًا من مللٍ ورتابة بعد مرور كل هذه الأزمان في عملٍ واحدٍ، تم تكليفي أنا وصاحبي به من قِبل رئيس أكبر جهة رقابية. طلبتُ مِن صاحبي أن يشاركني الاعترافَ فأبَى وأعرضَ عني، وقال إنه يخاف الرقيبَ ويخشى عقابَه، وكأنني أنا لا أخافه ولا أخشى عقابَه! فاتَ صاحبي أن الرقيب عادِلٌ في أحكامِه، وأنه لن يرضى بعذابنا.
عندما كلَّفتنا الجهةُ الرقابية العليا بهذه المهمة، لا شك أنها شرَّفتنا بذلك، ووضعتْ ثقتَها المقدسة الغالية فيَّ وفي صاحبي، لكن كيف لم يدُرْ بخلدِها فكرة ضرورة تداول السلطة؟ وكيف لم تفكر أن استمرارنا، أنا وصاحبي، أزمانًا طويلة في وظيفةٍ واحدة، أمرٌ يبعث– مهما تكن درجة الثقة– على الفساد؟ فإذا أضَفنا إلى ذلك أن طبيعة تنفيذ المهمة وإجراءاتها تبعث على السأم والضيق والملل؛ بسبب رتابة الأداء واستمراره بوتيرةٍ واحدة لا تتغير أبدًا أبدًا! هذه الأسئلة تولّدت بعد الموقف الأخير الذي تَعرّضنا له، والذي سأحكيه عليكم.
صدرَ قرار تكليفِنا بمحاسبة الجميع دون استثناء، على ألا يفلِتَ من أسئلتنا رئيسٌ أو خفير، غَنِي أو فقير، وزيرٌ أو مواطِن.. كلهم سواء أمام قوانين المحاسَبة، ولكي نؤدي مهمتنا تلك بشفافيةٍ وموضوعية قررت الجهةُ الرقابية ألا يَعرِفنا أحد، وألا نَظهر على الناس إلا في اللحظة الأخيرة عندما يقررون الرحيلَ أو المغادرة نهائيًا.. في تلك اللحظة نَظهر ويَبدأ التحقيق، بينما الناس ينكرونني وصاحبي لظهورنا المباغِت، ولعدم معرفتهم المسبّقة بِنا، بعضهم قرأ عنا أو سمِع بنا، لكنهم في تلك اللحظة الدقيقة والفارقة ينسون كل شيء، ويظنون أنهم مغادِرون هكذا ببساطةٍ دون سؤالٍ ودون حساب.. مهمتنا قاصرة فقط على توجيه الأسئلة، وهي أسئلة بعينِها لا تتغير ولا تتبدل، س سؤال ج جواب.
ولقد تَناهَى إلى أسماعنا، أن كثيرين يظنون بنا ظن السوء ونحن نمارس وظيفتنا في توجيه الأسئلة، مِن أننا نَظهر على الناس بوجوهٍ كالحة، وأنيابٍ ومخالِبَ، وأصواتٍ منكَرة، وأننا نضرب ونعذّب.. وربما كان جزءٌ كبير مما تتمتع به أجهزة الأمن والتحقيق من صورةٍ ذهنية سلبية في أذهان الناس، مأخوذًا من تصوراتِهم عنا نحن في مهمّتِنا، فاستدعاء الأمن أو رجالِ التحقيق للذهن كفيلٌ باستحضار الظلْمَة والعَتمة، وأدواتِ التعذيب من عِصِيّ وهراوات ومَقامعَ وما إلى ذلك. وكل هذا ليس صحيحًا، الشيء الوحيد الذي هو حقيقي في كل هذا هو اختيار الجهة الرقابية مكانًا مظلِمًا لأداء وظيفتنا، وهو اختيارٌ دقيق، له علاقة بالحالة النفسية والعصبية للمتهَّمِين الموجّه إليهم الأسئلة، فالظلْمة تَبعث على الهدوء والراحة، وتتيح الفرصةَ للاسترخاء بعيدًا عن صخب الأضواء.. وربما كان اختيار الظلْمة تحديدًا لإجراء التحقيق أحدَ أهم العوامل التي صوّرتني أنا وصاحبي في أذهان الناس وحوشًا!
ولقد قضيتُ في وظيفتي تلك ما قضيتُ من وقتٍ وزمن لا أشكو ولا أتبرم، رغم أنها وظيفة تكاد تأخذ وقتَنا كله، في كل لحظة نحن أمام متَّهَم.. وفي كثير من الأحيان يجيئنا عشرات المتهَمِين في وقت واحد، وربما مئات.. يحدث هذا في الظروف الاستثنائية كالمرض والحروب والكوارث، وربما يعِنُّ لأحدِكم أن يتساءل كيف نستطيع أن نستجوب هؤلاء جميعًا في وقت واحد؟ وهو سؤال جيد، لكن إجابته متعلقة بكفاءاتٍ وقدرات خاصةٍ وَهبَنا إياها الرقيب. ولعلّه كان مقدّرًا أن أستمِر فيها إلى ما لا نهاية، أو على الأقل حتى يحيلنا الرقيبُ للتقاعد، ولقد كنا نعلم أن هناك علاماتٍ معيَّنةً سوف يرسلها لنتبيّن مِن خلالها قربَ إنهاء مهمتنا تلك.. ظهرتْ أكثر من مرة، ولقد كنتُ أمنِّي النفس كلما ظهرت علامة، أننا على وشك الانتهاء، لكن دون جدوى!
قاومتُ الشعورَ بالملل والإحساسَ بالرتابة، وما أكثرَ ما حدَّثتني نفسي أن أوجِّه سؤالا جديدًا، أو أن أستفسِر عن شيء عَنَّ لي.. لكنني لم أفعل. وما دمتُ في سياق الاعتراف فلا بدّ أن أؤكد أننا على طول ما قُمنا بالمهمة– أنا وصاحبي- لم نجامِل أحدًا، ولم نستثمر وظيفتنا في شيء...كان أداؤنا تطبيقًا للوائح والقوانين والتعليمات، والتزامًا بكل المواد المقررة. وساعَدنا على ذلك أن المتهمين جميعًا كانوا يأتوننا وهُم في أقسى لحظات ضعفِهم وانكسارِهم، يتمددون أمامَنا بلا حولٍ ولا قوة، بعيدين عن نفوذِهم وسُلُطاتهم، يأتوننا نائمين أو كالنائمين حتى نوقِظهم ونبدأ في طرح أسئلتنا التقليدية، وكانت إجاباتهم تأتي واضحةً ومباشرة، لم يحدث قَط أنِ راوغ أحدُهم أو كذبَ علينا، كان الخوف يشل حركتهم تمامًا، ويُطلِق ألسنتَهم بالإجابات الصادقة والحقيقية.
منذ بدء المهمة كان شرط المغادَرة أن يأتينا الناس بلا حقائبَ ولا ملابس ولا حاجياتٍ يحملونها، يأتون خفافًا؛ تسهيلا لعملية التحقيق، سمَحنا لهم برداءٍ واحد فقط يرتدونه، بشرط أن يغطي أجسادَهم كلها بدءًا من الرأس حتى أخمص القدميْن.
أقول، كان مقدَّرًا لي أنا أستمِر مع صاحبي راضيًا بالملل والرتابة، مُعرِضًا عن تلك الأفكار الثقافية الكبرى الخاصة بتداول السلطة، وبقاءِ الموظفين في أعمالهم فتراتٍ طويلة.. لولا تلك الواقعة التي حدثتْ منذ أيامٍ قليلة.. حيث استقبَلْنا أحدَهم، ممددًا، كان أمامَنا كغيرِه.. لم يحدث من قبل أن استيقظ أحدهم من تلقاء نفسِه، نظرتُ إليه أنا وصاحبي واقتربنا منه لنوقِظه، لكنه فاجأنا بأن استيقظ وحدَه! ألجمَتنا المفاجأة القاسية، كان المكان أضيقَ من أن نتحرك، فتجمّدنا– صاحبي وأنا– في مكاننا معتمديْن على أن الظلام الدامس الذي هو فيه لن يسمح له برؤيتنا، كتَمْنا أنفاسَنا تمامًا، وهو ينهَض من رقدتِه.. وهبَنا الرقيبُ إمكانياتٍ عاليةً ومتقدمة لنرى في الظلام، كان أول ما صَنعه أن مَد يديه ليزيل عن رأسه الرداءَ الأبيض، بدا أمامنا شابًا في مقتبل العمر، تشع من عينيه أمارات الذكاء.. رأيناه وهو يتلفّت عن يمينٍ وعن شمال، ثم يحاول أن يحدّق أمامَه في محاولة يائسة لأن يخترق حجبَ الظلام! تنفّسَ في عمق وزفرَ زفرة طويلة، ثم مدَّ يده إلى الرداء الذي يلف جسمه وأخرج جهازًا غريبًا، وضع جزءًا منه على أنفِه، ورفع جزءَه الأكبر إلى رأسه، كان واضحًا أنه يساعِده على التنفس، استنشق قليلا عبْر جهازه هذا ثم تكلم فقال:
- ها أنذا نجحتُ في خطتي، أوهمتهم جميعًا أنني مغادِرٌ فصدّقوني، ساعَدني مَن ساعَدني لأتحقق مِن هذا الذي يخافه الناس جميعًا، جئتُ بنفسي لتحاسباني فأين أنتما؟ هاتيا أسئلتكما بشرطٍ واحدٍ فقط، أن أحاسِبَكما كما تحاسِباني، وأن أسألكما كما تسألاني.. ها أين أنتما الآن؟ يمكنني حالًا أن أغادِر هذا المكانَ الضيق، بضربةِ قدمٍ واحدة على جدرانكما هذه سأخرج، لكنني لن أفعل... سأعطيكما الفرصةَ لتفكرا قليلا، سأقبَلُ التحدي إنْ كنتما حقيقةً موجوديْن.. سأنتظِر دقائق، لعلكما غائبان، لعلكما نائمان، لعلكما في الطريق.. أريد أن أعرّفكما بنفسي، أنا طبيب، وجرّاح مُخ وأعصاب، قضيت عمري كله في دراسة الخلايا العصبية وجِذع المخ، ولم يشغلني عملي عن القراءة، قرأت في الدين والفنون والفلسفة، قرأتُ عن الخوف وأدركتُ أنه أكبر أسباب وجودِكما، ولأنني الآن لست خائفًا فأنتما غير موجوديْن.
نظرتُ إلى صاحبي وقد أسقِط في يدنا، ماذا نفعل؟ هل نردّ عليه؟ وهل نسمح له باستجوابنا وطرح أسئلتِه علينا؟ كان الأمر جديدًا كل الجِدة، لم نعهده من قبل، ولم يرِدْ في توصيات الرقيب وتعاليمه وهو يشرح لنا مفردات عملِنا.. وضعَ صاحبي يدَه على فمِه يشير بعلامة السكوت، وحرّك إصبعَه أمام فمِه يمينًا وشمالا علامةَ النفي ورفْضَ الاستجابة فالتزمتُ وسَكتُّ تمامًا... مرت الدقائق وهو أمامَنا لا يفعل شيئًا غير الشهيق والزفير عبْر جهازِه هذا، ثم قال:
- الوقت لن يسعفني كثيرًا لأن أنتظِر أكثر من هذا، أنتما أكذوبةٌ كبرى، أنتما خرافةٌ لا وجود لها إلا في أذهان الجبناء، ليس مِن حق أحدٍ أن يحاسِبني غير الرقيب، وليس مِن حق أحد أن يسألني غيره! سبقَ أن أرسل الرقيبُ كُتبَه ورسائله إلينا وإلى غيرنا أنه هو وحدَه الذي يحاسِبنا والذي يسألنا، وقد أرجَأ كل ذلك إلى يوم أن يجتمع بنا جميعًا، فمتى كنتم وكلاءَه؟ وأين ذلك التوكيل الذي منحه إياكما؟ لماذا لم يَذكر ذلك لنا في كتبِه؟ لماذا لم يشِر إليه في رسائله؟
انطلقَ في كلامٍ كثير غير هذا، طوّفَ بي وبصاحبي حول مفاهيمَ ومصطلحاتٍ لم ننشغل بها من قبل، كنا منشغليْن فقط بعملنا ووظيفتنا، ما لنا نحن وحرية الرأي؟ وما علاقتنا بالسلطة المطلَقة والجزئي والنسبي، وتعريف الأسطورة، ودلالة الخرافة؟ كان كلامه قاسيًا وعنيفًا، ينكِر وجودي ووجودَ صاحبي، لكنه يؤكد وجودَ الرقيب، ويتحدث عنه بإيمانٍ ومحبة.
وعند إدراكنا لتلك الحقيقة، حقيقةَ إيمانِه بالرقيب ومحبتِه له، ارتفعنا فجأة- رغمًا عنا- في فضاء المكان الضيق، وتحولنا إلى ذراتٍ... وقبْلَ أن نتلاشى تمامًا رأيناه يمد قدمَه ويدفع الجدارَ بقوةٍ وهو يصرخُ: يا ألله!
بالضبط كما هو ممنوعٌ تمامًا على العاملين بالمناصب العالية في القضاء والنيابة والهيئات الدبلوماسية أن يختلِطوا بالناس، وأن يتحدثوا عن طبيعة مهامِهم ووظائفهم، كان – وما يزال – ممنوعًا عليَّ وعلى صاحبي أن نفتح فمَنا بكلمةٍ واحدة، ولا أن نَخرج للناس في أسواقهم وفي أعمالهم.. لكنني ضِقتُ ذرعًا بما أستشعِره من ظلمٍ مِن ناحية، وبما أحِسُّه مؤخرًا من مللٍ ورتابة بعد مرور كل هذه الأزمان في عملٍ واحدٍ، تم تكليفي أنا وصاحبي به من قِبل رئيس أكبر جهة رقابية. طلبتُ مِن صاحبي أن يشاركني الاعترافَ فأبَى وأعرضَ عني، وقال إنه يخاف الرقيبَ ويخشى عقابَه، وكأنني أنا لا أخافه ولا أخشى عقابَه! فاتَ صاحبي أن الرقيب عادِلٌ في أحكامِه، وأنه لن يرضى بعذابنا.
عندما كلَّفتنا الجهةُ الرقابية العليا بهذه المهمة، لا شك أنها شرَّفتنا بذلك، ووضعتْ ثقتَها المقدسة الغالية فيَّ وفي صاحبي، لكن كيف لم يدُرْ بخلدِها فكرة ضرورة تداول السلطة؟ وكيف لم تفكر أن استمرارنا، أنا وصاحبي، أزمانًا طويلة في وظيفةٍ واحدة، أمرٌ يبعث– مهما تكن درجة الثقة– على الفساد؟ فإذا أضَفنا إلى ذلك أن طبيعة تنفيذ المهمة وإجراءاتها تبعث على السأم والضيق والملل؛ بسبب رتابة الأداء واستمراره بوتيرةٍ واحدة لا تتغير أبدًا أبدًا! هذه الأسئلة تولّدت بعد الموقف الأخير الذي تَعرّضنا له، والذي سأحكيه عليكم.
صدرَ قرار تكليفِنا بمحاسبة الجميع دون استثناء، على ألا يفلِتَ من أسئلتنا رئيسٌ أو خفير، غَنِي أو فقير، وزيرٌ أو مواطِن.. كلهم سواء أمام قوانين المحاسَبة، ولكي نؤدي مهمتنا تلك بشفافيةٍ وموضوعية قررت الجهةُ الرقابية ألا يَعرِفنا أحد، وألا نَظهر على الناس إلا في اللحظة الأخيرة عندما يقررون الرحيلَ أو المغادرة نهائيًا.. في تلك اللحظة نَظهر ويَبدأ التحقيق، بينما الناس ينكرونني وصاحبي لظهورنا المباغِت، ولعدم معرفتهم المسبّقة بِنا، بعضهم قرأ عنا أو سمِع بنا، لكنهم في تلك اللحظة الدقيقة والفارقة ينسون كل شيء، ويظنون أنهم مغادِرون هكذا ببساطةٍ دون سؤالٍ ودون حساب.. مهمتنا قاصرة فقط على توجيه الأسئلة، وهي أسئلة بعينِها لا تتغير ولا تتبدل، س سؤال ج جواب.
ولقد تَناهَى إلى أسماعنا، أن كثيرين يظنون بنا ظن السوء ونحن نمارس وظيفتنا في توجيه الأسئلة، مِن أننا نَظهر على الناس بوجوهٍ كالحة، وأنيابٍ ومخالِبَ، وأصواتٍ منكَرة، وأننا نضرب ونعذّب.. وربما كان جزءٌ كبير مما تتمتع به أجهزة الأمن والتحقيق من صورةٍ ذهنية سلبية في أذهان الناس، مأخوذًا من تصوراتِهم عنا نحن في مهمّتِنا، فاستدعاء الأمن أو رجالِ التحقيق للذهن كفيلٌ باستحضار الظلْمَة والعَتمة، وأدواتِ التعذيب من عِصِيّ وهراوات ومَقامعَ وما إلى ذلك. وكل هذا ليس صحيحًا، الشيء الوحيد الذي هو حقيقي في كل هذا هو اختيار الجهة الرقابية مكانًا مظلِمًا لأداء وظيفتنا، وهو اختيارٌ دقيق، له علاقة بالحالة النفسية والعصبية للمتهَّمِين الموجّه إليهم الأسئلة، فالظلْمة تَبعث على الهدوء والراحة، وتتيح الفرصةَ للاسترخاء بعيدًا عن صخب الأضواء.. وربما كان اختيار الظلْمة تحديدًا لإجراء التحقيق أحدَ أهم العوامل التي صوّرتني أنا وصاحبي في أذهان الناس وحوشًا!
ولقد قضيتُ في وظيفتي تلك ما قضيتُ من وقتٍ وزمن لا أشكو ولا أتبرم، رغم أنها وظيفة تكاد تأخذ وقتَنا كله، في كل لحظة نحن أمام متَّهَم.. وفي كثير من الأحيان يجيئنا عشرات المتهَمِين في وقت واحد، وربما مئات.. يحدث هذا في الظروف الاستثنائية كالمرض والحروب والكوارث، وربما يعِنُّ لأحدِكم أن يتساءل كيف نستطيع أن نستجوب هؤلاء جميعًا في وقت واحد؟ وهو سؤال جيد، لكن إجابته متعلقة بكفاءاتٍ وقدرات خاصةٍ وَهبَنا إياها الرقيب. ولعلّه كان مقدّرًا أن أستمِر فيها إلى ما لا نهاية، أو على الأقل حتى يحيلنا الرقيبُ للتقاعد، ولقد كنا نعلم أن هناك علاماتٍ معيَّنةً سوف يرسلها لنتبيّن مِن خلالها قربَ إنهاء مهمتنا تلك.. ظهرتْ أكثر من مرة، ولقد كنتُ أمنِّي النفس كلما ظهرت علامة، أننا على وشك الانتهاء، لكن دون جدوى!
قاومتُ الشعورَ بالملل والإحساسَ بالرتابة، وما أكثرَ ما حدَّثتني نفسي أن أوجِّه سؤالا جديدًا، أو أن أستفسِر عن شيء عَنَّ لي.. لكنني لم أفعل. وما دمتُ في سياق الاعتراف فلا بدّ أن أؤكد أننا على طول ما قُمنا بالمهمة– أنا وصاحبي- لم نجامِل أحدًا، ولم نستثمر وظيفتنا في شيء...كان أداؤنا تطبيقًا للوائح والقوانين والتعليمات، والتزامًا بكل المواد المقررة. وساعَدنا على ذلك أن المتهمين جميعًا كانوا يأتوننا وهُم في أقسى لحظات ضعفِهم وانكسارِهم، يتمددون أمامَنا بلا حولٍ ولا قوة، بعيدين عن نفوذِهم وسُلُطاتهم، يأتوننا نائمين أو كالنائمين حتى نوقِظهم ونبدأ في طرح أسئلتنا التقليدية، وكانت إجاباتهم تأتي واضحةً ومباشرة، لم يحدث قَط أنِ راوغ أحدُهم أو كذبَ علينا، كان الخوف يشل حركتهم تمامًا، ويُطلِق ألسنتَهم بالإجابات الصادقة والحقيقية.
منذ بدء المهمة كان شرط المغادَرة أن يأتينا الناس بلا حقائبَ ولا ملابس ولا حاجياتٍ يحملونها، يأتون خفافًا؛ تسهيلا لعملية التحقيق، سمَحنا لهم برداءٍ واحد فقط يرتدونه، بشرط أن يغطي أجسادَهم كلها بدءًا من الرأس حتى أخمص القدميْن.
أقول، كان مقدَّرًا لي أنا أستمِر مع صاحبي راضيًا بالملل والرتابة، مُعرِضًا عن تلك الأفكار الثقافية الكبرى الخاصة بتداول السلطة، وبقاءِ الموظفين في أعمالهم فتراتٍ طويلة.. لولا تلك الواقعة التي حدثتْ منذ أيامٍ قليلة.. حيث استقبَلْنا أحدَهم، ممددًا، كان أمامَنا كغيرِه.. لم يحدث من قبل أن استيقظ أحدهم من تلقاء نفسِه، نظرتُ إليه أنا وصاحبي واقتربنا منه لنوقِظه، لكنه فاجأنا بأن استيقظ وحدَه! ألجمَتنا المفاجأة القاسية، كان المكان أضيقَ من أن نتحرك، فتجمّدنا– صاحبي وأنا– في مكاننا معتمديْن على أن الظلام الدامس الذي هو فيه لن يسمح له برؤيتنا، كتَمْنا أنفاسَنا تمامًا، وهو ينهَض من رقدتِه.. وهبَنا الرقيبُ إمكانياتٍ عاليةً ومتقدمة لنرى في الظلام، كان أول ما صَنعه أن مَد يديه ليزيل عن رأسه الرداءَ الأبيض، بدا أمامنا شابًا في مقتبل العمر، تشع من عينيه أمارات الذكاء.. رأيناه وهو يتلفّت عن يمينٍ وعن شمال، ثم يحاول أن يحدّق أمامَه في محاولة يائسة لأن يخترق حجبَ الظلام! تنفّسَ في عمق وزفرَ زفرة طويلة، ثم مدَّ يده إلى الرداء الذي يلف جسمه وأخرج جهازًا غريبًا، وضع جزءًا منه على أنفِه، ورفع جزءَه الأكبر إلى رأسه، كان واضحًا أنه يساعِده على التنفس، استنشق قليلا عبْر جهازه هذا ثم تكلم فقال:
- ها أنذا نجحتُ في خطتي، أوهمتهم جميعًا أنني مغادِرٌ فصدّقوني، ساعَدني مَن ساعَدني لأتحقق مِن هذا الذي يخافه الناس جميعًا، جئتُ بنفسي لتحاسباني فأين أنتما؟ هاتيا أسئلتكما بشرطٍ واحدٍ فقط، أن أحاسِبَكما كما تحاسِباني، وأن أسألكما كما تسألاني.. ها أين أنتما الآن؟ يمكنني حالًا أن أغادِر هذا المكانَ الضيق، بضربةِ قدمٍ واحدة على جدرانكما هذه سأخرج، لكنني لن أفعل... سأعطيكما الفرصةَ لتفكرا قليلا، سأقبَلُ التحدي إنْ كنتما حقيقةً موجوديْن.. سأنتظِر دقائق، لعلكما غائبان، لعلكما نائمان، لعلكما في الطريق.. أريد أن أعرّفكما بنفسي، أنا طبيب، وجرّاح مُخ وأعصاب، قضيت عمري كله في دراسة الخلايا العصبية وجِذع المخ، ولم يشغلني عملي عن القراءة، قرأت في الدين والفنون والفلسفة، قرأتُ عن الخوف وأدركتُ أنه أكبر أسباب وجودِكما، ولأنني الآن لست خائفًا فأنتما غير موجوديْن.
نظرتُ إلى صاحبي وقد أسقِط في يدنا، ماذا نفعل؟ هل نردّ عليه؟ وهل نسمح له باستجوابنا وطرح أسئلتِه علينا؟ كان الأمر جديدًا كل الجِدة، لم نعهده من قبل، ولم يرِدْ في توصيات الرقيب وتعاليمه وهو يشرح لنا مفردات عملِنا.. وضعَ صاحبي يدَه على فمِه يشير بعلامة السكوت، وحرّك إصبعَه أمام فمِه يمينًا وشمالا علامةَ النفي ورفْضَ الاستجابة فالتزمتُ وسَكتُّ تمامًا... مرت الدقائق وهو أمامَنا لا يفعل شيئًا غير الشهيق والزفير عبْر جهازِه هذا، ثم قال:
- الوقت لن يسعفني كثيرًا لأن أنتظِر أكثر من هذا، أنتما أكذوبةٌ كبرى، أنتما خرافةٌ لا وجود لها إلا في أذهان الجبناء، ليس مِن حق أحدٍ أن يحاسِبني غير الرقيب، وليس مِن حق أحد أن يسألني غيره! سبقَ أن أرسل الرقيبُ كُتبَه ورسائله إلينا وإلى غيرنا أنه هو وحدَه الذي يحاسِبنا والذي يسألنا، وقد أرجَأ كل ذلك إلى يوم أن يجتمع بنا جميعًا، فمتى كنتم وكلاءَه؟ وأين ذلك التوكيل الذي منحه إياكما؟ لماذا لم يَذكر ذلك لنا في كتبِه؟ لماذا لم يشِر إليه في رسائله؟
انطلقَ في كلامٍ كثير غير هذا، طوّفَ بي وبصاحبي حول مفاهيمَ ومصطلحاتٍ لم ننشغل بها من قبل، كنا منشغليْن فقط بعملنا ووظيفتنا، ما لنا نحن وحرية الرأي؟ وما علاقتنا بالسلطة المطلَقة والجزئي والنسبي، وتعريف الأسطورة، ودلالة الخرافة؟ كان كلامه قاسيًا وعنيفًا، ينكِر وجودي ووجودَ صاحبي، لكنه يؤكد وجودَ الرقيب، ويتحدث عنه بإيمانٍ ومحبة.
وعند إدراكنا لتلك الحقيقة، حقيقةَ إيمانِه بالرقيب ومحبتِه له، ارتفعنا فجأة- رغمًا عنا- في فضاء المكان الضيق، وتحولنا إلى ذراتٍ... وقبْلَ أن نتلاشى تمامًا رأيناه يمد قدمَه ويدفع الجدارَ بقوةٍ وهو يصرخُ: يا ألله!