ترك رفضُه المجيئ للوقوف معي في عزاء أمه جرحا غائرا في جبين قلبي ، تعلل بأنهم يضيقون الخناق على العرب في هولندا ؛ ولن يستطيع المجيء إلا بعد الحصول على الإقامة . برفق سحبت ابنتي صورته من بين يديّ ، حاولتْ أن تُنْهِضَني لأتناول أي طعام يعيد لمعدتي ذاكرة عملها الذي أوشكت أن تنساه ، ربتتْ على صدري وهي تقول: ما رأيك : أشتري لك محمولا حديثا لتستطيع محادثته ورؤيته متى تشاء؟ أومأتُ موافقا ، مددت يدي أسفل وسادتي ، لأناولها مبلغا أحتفظ به " لخرجتي " .
ما إن خرجتْ حتى استعدتُ الصورة ، غامتْ سماء عيني بدمعة حالتْ دون الرؤية ، " همبورجر " كما كان يحلو له أن أناديه صغيرا ، يبكي لأناوله ماكينة الحلاقة ليحلق ذقنه مثلي ، تحت نير الالحاح أرضخ ، أضع رغوة كثيفة من معجون الحلاقة على وجهه الأملس وأمرر عليه ظهر الماكينة ، تغمره النشوة ، أحمله تحت إبطي ، تغرف كفاه ما تستطيع من ماء الصنبور ليمرره على ورد خديه الرطب ، ينطلق نحو التسريحة ، يضع بين كفيه قليلا من " الكولونيا" ، يمررها على وجهه " يتوحوح " مثلما " أتوحوح" حين يلامس رذاذها موضع الحلاقة الملتهب ، يرتدي طاقم الخروج ، ينادي أمه بصوت جمع فيه كل قوته : أن تحضر له جوربه بسرعة ، فقد تأخر عن موعد العمل ، تحاول إقناعه أنه ما زال صغيرا ، يزداد إصرارا ويقول: من اليوم سيستريح والدي وأخرج أنا للشغل لآتيكم بالمال ، ألحق به عند الباب ، أرتدي قناع الجدية ، أرتكز على ركبتيّ حتى أصير محاذيا رأسه : ما رأيك تأخذ اليوم إجازة لنلعب سويا " ماريو" وغدا في الصباح الباكر تخرج للعمل؟
تلمع عيناه ، يهرع نحو " الأتاري " يضع وصلاته بالتلفاز ، يناولني الذراع القديم ، الذي لا يستجيب للضغط ، أتناوله مبتسما ، يجلس على الكرسي منتشيا بانخداعي والفوز بالذراع الجديد ، يقول منبها: سألعب أولا ، وسأختار " سوبر ماريو الأخضر " ، أبدي الإذعان وأختار " ماريو" الأحمر الذي لا يجيد القفز لتحصيل الذهب الذي يعينه على استكمال المارثون لتحرير الأميرة من يد الأشرار . يبدأ مشواره في ثقة يعبر جزر اللهب ، يسبح برشاقة في بحيرات من ماء يغلي ، يقفز فوق جبال دونها الموت ، فجأة يضغط " استوب " ينادي أمه وأخته بلهجة آمرة ، ليشاهداه وهو يتخطى عشرات الحراس والبوابات التي يشتعل من تحتها نار، الجحيم جذوة منها ، يصل إلى الأميرة التي تنتظره ، يحررها محبطا كل خطط الأشرار .
بعد تصفيق حاد أحمله على كتفي ألقي به على الفراش ، أتمدد بجواره يطوق بذراعيه الصغيرتين رقبتي ؛ يسألني بلغة تشع بهجة : هل كان جدي يلعب معك " ماريو " وأنت صغير؟ وهل كنتَ تستطيع الوصول للمراحل الأخيرة مثلي؟ أشرد بعيدا في ذلك اليوم الذي فتحتُ فيه عيني على صراخ نسوة وقد تحلّقن حول أمي وهي تكبش من تراب وسط الدار تلطخ به وجهها وهن يفعلن مثلها ، تقبِل عماتي من بعيد حافيات يسبقهن صراخ يشق الأفق ؛ معصوبات الرأس بطُرَحٍ سوداء وقد تدلت أطرافها على صدورهن " يشلشلن" بها ثم يتركنها ليشققن ثيابهن عن صدورهن وسرعان ما يتحولن إلى حبات في ذلك العُقد الأسود الذي تتوسطه أمي ؛ حتى إذا ما جاءت " المعددة" وقف الجميع فإذا ما صارت واسطة العقد ظلتْ تتمايل محركة سبابتيها قربا وابتعادا هبوطا وارتفاعا ، نادبة بكلام يتبعه صراخ جماعي . ما كادت العاصفة تهدأ قليلا حتى خرج النعش من المندرة يتقدمه عمي ، فشد فتيل قنابل الصراخ والعويل مصحوبا بلطيم حتى صارت الخدود قطعا من جمر .
سرت خلفهم للمقابر لا يشعر بوجودي أحد ، فلا صوت يعلو فوق صوت الموت " وحدووووووووه " ، اندسستُ بين الأقدام لأستطيع اللحاق بالنعش ، حتى إذا حاذيته ؛ ظللتُ أحملق فيه ، فقد يرفع أبي الغطاء ليراني ؛ ولكنه أبدا لم يفعل . عدت خلفهم للبيت وصورة النعش لا تفارقني ، تتجدد كل خميس حين تصحبني أمي وهي تضع على رأسها " مشنة " مملوءة بالكعك والقُرَص وبعض الفاكهة ؛ فإذا ما وصلت المقبرة ، جلست مرتكنة بظهرها عليها وبين الحين والحين تمسح عَبرةً ، حتى يأتي ذلك الكفيف الذي تسحبه طفلة تكبرني قليلا ليستقر أمام المقبرة ويقرأ آيات بسرعة وهو يتمايل يمنة ويسرة إلى أن يقول : صدق الله العظيم ببطء ووضوح وارتفاع ، وضعت أمي نصف المخبوزات والفواكه في " خُرجٍ " يحمله لينتقل بصحبة الطفلة لمقبرة مجاورة ؛ ينهال صبية على أمي من كل حدب وصوب طالبين الرحمة والنور فتوزع عليهم ما تبقى لتعود لارتكانتها وبين الحين والحين تمسح عَبرةً، وأنا ألاصق أذني للمقبرة لعلي أسمع صوت أبي ولكني أبدا لا أسمع شيئا ! حتى إذا مالت الشمس للغروب والبقع السوداء في السماء أخذتْ أهبتها للانتشار؛ أمسكتْ أمي بيدي متخذين طريق العودة للبيت .
ما زلت أذهب كل خميس أرتكن بظهري للمقبرة ، أمسح بين الحين والحين عبرة حتى يأتي " المقرئ " وحين ينتهي من قراءته أضع نصف المخبوزات والفاكهة في " خرجه" وأُوَزِع ما تبقى على الصبية الذين يأتون طالبين للرحمة والنور على روح أبي وأمي وزوجتي . انتبهتُ على صرير الباب ، أدركتُ أن ابنتي قد عادت بالمحمول ، جلست تعلمني " التاتش " وكيف أدخل على الفيس وهي تقول : " هعمل لك حسابا على " الفيس بوك " وأطلب صداقته وحين أتمتْ سألتني : ماذا أكتب له؟ قولي له : " همبورجر الحبيب : أليس لماريو والد؟
ما إن خرجتْ حتى استعدتُ الصورة ، غامتْ سماء عيني بدمعة حالتْ دون الرؤية ، " همبورجر " كما كان يحلو له أن أناديه صغيرا ، يبكي لأناوله ماكينة الحلاقة ليحلق ذقنه مثلي ، تحت نير الالحاح أرضخ ، أضع رغوة كثيفة من معجون الحلاقة على وجهه الأملس وأمرر عليه ظهر الماكينة ، تغمره النشوة ، أحمله تحت إبطي ، تغرف كفاه ما تستطيع من ماء الصنبور ليمرره على ورد خديه الرطب ، ينطلق نحو التسريحة ، يضع بين كفيه قليلا من " الكولونيا" ، يمررها على وجهه " يتوحوح " مثلما " أتوحوح" حين يلامس رذاذها موضع الحلاقة الملتهب ، يرتدي طاقم الخروج ، ينادي أمه بصوت جمع فيه كل قوته : أن تحضر له جوربه بسرعة ، فقد تأخر عن موعد العمل ، تحاول إقناعه أنه ما زال صغيرا ، يزداد إصرارا ويقول: من اليوم سيستريح والدي وأخرج أنا للشغل لآتيكم بالمال ، ألحق به عند الباب ، أرتدي قناع الجدية ، أرتكز على ركبتيّ حتى أصير محاذيا رأسه : ما رأيك تأخذ اليوم إجازة لنلعب سويا " ماريو" وغدا في الصباح الباكر تخرج للعمل؟
تلمع عيناه ، يهرع نحو " الأتاري " يضع وصلاته بالتلفاز ، يناولني الذراع القديم ، الذي لا يستجيب للضغط ، أتناوله مبتسما ، يجلس على الكرسي منتشيا بانخداعي والفوز بالذراع الجديد ، يقول منبها: سألعب أولا ، وسأختار " سوبر ماريو الأخضر " ، أبدي الإذعان وأختار " ماريو" الأحمر الذي لا يجيد القفز لتحصيل الذهب الذي يعينه على استكمال المارثون لتحرير الأميرة من يد الأشرار . يبدأ مشواره في ثقة يعبر جزر اللهب ، يسبح برشاقة في بحيرات من ماء يغلي ، يقفز فوق جبال دونها الموت ، فجأة يضغط " استوب " ينادي أمه وأخته بلهجة آمرة ، ليشاهداه وهو يتخطى عشرات الحراس والبوابات التي يشتعل من تحتها نار، الجحيم جذوة منها ، يصل إلى الأميرة التي تنتظره ، يحررها محبطا كل خطط الأشرار .
بعد تصفيق حاد أحمله على كتفي ألقي به على الفراش ، أتمدد بجواره يطوق بذراعيه الصغيرتين رقبتي ؛ يسألني بلغة تشع بهجة : هل كان جدي يلعب معك " ماريو " وأنت صغير؟ وهل كنتَ تستطيع الوصول للمراحل الأخيرة مثلي؟ أشرد بعيدا في ذلك اليوم الذي فتحتُ فيه عيني على صراخ نسوة وقد تحلّقن حول أمي وهي تكبش من تراب وسط الدار تلطخ به وجهها وهن يفعلن مثلها ، تقبِل عماتي من بعيد حافيات يسبقهن صراخ يشق الأفق ؛ معصوبات الرأس بطُرَحٍ سوداء وقد تدلت أطرافها على صدورهن " يشلشلن" بها ثم يتركنها ليشققن ثيابهن عن صدورهن وسرعان ما يتحولن إلى حبات في ذلك العُقد الأسود الذي تتوسطه أمي ؛ حتى إذا ما جاءت " المعددة" وقف الجميع فإذا ما صارت واسطة العقد ظلتْ تتمايل محركة سبابتيها قربا وابتعادا هبوطا وارتفاعا ، نادبة بكلام يتبعه صراخ جماعي . ما كادت العاصفة تهدأ قليلا حتى خرج النعش من المندرة يتقدمه عمي ، فشد فتيل قنابل الصراخ والعويل مصحوبا بلطيم حتى صارت الخدود قطعا من جمر .
سرت خلفهم للمقابر لا يشعر بوجودي أحد ، فلا صوت يعلو فوق صوت الموت " وحدووووووووه " ، اندسستُ بين الأقدام لأستطيع اللحاق بالنعش ، حتى إذا حاذيته ؛ ظللتُ أحملق فيه ، فقد يرفع أبي الغطاء ليراني ؛ ولكنه أبدا لم يفعل . عدت خلفهم للبيت وصورة النعش لا تفارقني ، تتجدد كل خميس حين تصحبني أمي وهي تضع على رأسها " مشنة " مملوءة بالكعك والقُرَص وبعض الفاكهة ؛ فإذا ما وصلت المقبرة ، جلست مرتكنة بظهرها عليها وبين الحين والحين تمسح عَبرةً ، حتى يأتي ذلك الكفيف الذي تسحبه طفلة تكبرني قليلا ليستقر أمام المقبرة ويقرأ آيات بسرعة وهو يتمايل يمنة ويسرة إلى أن يقول : صدق الله العظيم ببطء ووضوح وارتفاع ، وضعت أمي نصف المخبوزات والفواكه في " خُرجٍ " يحمله لينتقل بصحبة الطفلة لمقبرة مجاورة ؛ ينهال صبية على أمي من كل حدب وصوب طالبين الرحمة والنور فتوزع عليهم ما تبقى لتعود لارتكانتها وبين الحين والحين تمسح عَبرةً، وأنا ألاصق أذني للمقبرة لعلي أسمع صوت أبي ولكني أبدا لا أسمع شيئا ! حتى إذا مالت الشمس للغروب والبقع السوداء في السماء أخذتْ أهبتها للانتشار؛ أمسكتْ أمي بيدي متخذين طريق العودة للبيت .
ما زلت أذهب كل خميس أرتكن بظهري للمقبرة ، أمسح بين الحين والحين عبرة حتى يأتي " المقرئ " وحين ينتهي من قراءته أضع نصف المخبوزات والفاكهة في " خرجه" وأُوَزِع ما تبقى على الصبية الذين يأتون طالبين للرحمة والنور على روح أبي وأمي وزوجتي . انتبهتُ على صرير الباب ، أدركتُ أن ابنتي قد عادت بالمحمول ، جلست تعلمني " التاتش " وكيف أدخل على الفيس وهي تقول : " هعمل لك حسابا على " الفيس بوك " وأطلب صداقته وحين أتمتْ سألتني : ماذا أكتب له؟ قولي له : " همبورجر الحبيب : أليس لماريو والد؟