وأنا في ألمانيا لإنجاز الدكتوراه التقيت بجزائريين كان قسم منهم يردد " إن عربت خربت " وقد أوردتها في روايتي " تداعيات ضمير المخاطب "(١٩٩٣) .
لم تفاجئني العبارة ، إذ أخذت منذ ١٩٧٧ أقرأ الأدبيات الجزائرية التي صدرت في فلسطين للطاهر وطار وأتى في قسم منها على واقع الجزائر بعد الاستقلال ، ولطالما استشهدت بقصص وطار " الشهداء يعودون هذا الأسبوع "(١٩٧٤) وروايته " الزلزال "(١٩٧٧) تقريبا.
في ٩٠ القرن ٢٠ تابعت روايات أحلام مستغانمي وقد أتت فيها ، كما وطار ، على حرب التحرير والاستقلال والواقع الجزائري إبان الحكم الوطني ، كما قرأت بعض روايات واسيني الأعرج ومنها " شرفات بحر الشمال " .
في العام الأخير قرأت خمس روايات للحبيب السايح الذي لم أقرأ له من قبل وكتبت عن روايتين منها " أنا وحاييم " و" الموت في وهران " .
آخر ما وصلني من رواياته " ما رواه الرئيس " ( ٢٠٢١) و" نزلاء الحراش "(٢٠٢١) ، وفي الأولى يروي الجنرال المتقاعد صالح الزغبي الذي بلغ الثمانين على الأستاذ الجامعي معين العروي - سنعرف في نهاية الرواية أنه زوج ابنة الرئيس الوحيدة فضيلة دون أن يعرف أنها ابنته - يروي عليه قصة حياته منذ كان فتى يافعا ؛ يروي عن علاقته غير الطيبة بوالديه وعن التحاقه بالثورة وسجنه في زمن الاستقلال لوقوفه ضد انقلاب هواري بومدين على أحمد بن بللا ، وكان يمكن أن ينفق بقية عمره في السجن ، بل وكان يمكن أن يعدم لولا صديق له تدخل في القضية وطلب منه التبرؤ من موقفه والوقوف إلى جانب بومدين ، فيفعل ويصبح ركنا من أركان النظام الجديد .
يروي الرئيس على الأستاذ ليكتب له مذكراته ، فقد وقعا معا عقد شرف مقابل مبلغ من المال . ويغدو الرئيس مثل ( شهرزاد ) يروي دون خطة محكمة ، بل بقدر من التداعيات والانتقال من موضوع إلى آخر فهو " شخص متبدل الأطوار مثل الرئيس المتميز بقدرة عجيبة على التحول السريع من نقطةإلى أخرى ، الرئيس الذي يملك طاقة خارقة على جعلك تشعر أنه يتكلم بلسان كأنه لسانك !" ، يروي في جلسات - حصص من حصة - قصة حياته وقصة الثورة الجزائرية وما آلت إليه الجزائر منذ استقلالها حتى حراك ٢٠١٩ الذي رفع فيه الجزائريون شعار " العهدة الخامسة لا ! ارحل " في وجه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أراد تجديد عهدته الخامسة وهو في وضع صحي لا يمكنه من الحكم . يروي الرئيس وما يرويه بسبب تأنيب ضميره هو " في جانب منه ، شهادة اعتذار لمن أخطأنا بحقهم "( ص ٢٥٣ ) .
دال " الرئيس " في العنوان قبل الولوج إلى المتن الروائي يصرف ذهننا إلى الرئيس الذي يحكم الجزائر ، ويذكرنا بروايات عديدة من روايات أميركا اللاتينية التي كتبت عن الدكتاتور في ٧٠ القرن ٢٠ ، ومنها رواية ( استورياس )" السيد الرئيس " ، وقصة ( ماركيز ) " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " ، ولا تخلو روايات عربية عموما من دال الرئيس أو الزعيم ، فلنجيب محفوظ رواية عنوانها " يوم قتل الزعيم " ولليمني علي المقري رواية عنوانها " بلاد القائد " وقد تتقاطع الأخيرة مع " ما رواه الرئيس " في طلب الرئيس من كاتب أن يكتب له سيرته .
ونحن نقرأ الرواية نتوقف أمام دالين " الرئيس " والزعيم " والثاني هو الرجل الأول في الجزائر ، وإن نعت في نهاية الرواية ب " الرئيس " ( ص ٢٦٠ و ٢٦٢ ) . والحقيقة أنني في القراءة البدئية للعنوان انصرف ذهني إلى أن المقصود بالرئيس رئيس البلاد لا الجنرال ، والجنرالات عموما رؤساء ذوو سطوة " ، بل أكثر من ذلك فإن الجنرالات الرؤساء هم من يعينون الزعيم / رئيس البلاد " :
- " الظرف الحالي ، كما تقول يا محسن ، هو امتداد لأكثر من نصف قرن من اختصاص المؤسسة العسكرية في صناعة كل الرؤساء الذين تداولوا على الحكم "(ص ٢٦٠) .
الرئيس الذي يروي يروي الكثير ، وهو سليط اللسان بذيئه لديه قدر من السادية والاستعلاء والغطرسة واحتقار الآخرين ، علما بأنه مثقف ثقافة واسعة اكتسبها من تجاربه ومن قراءته ، فهو قاريء ممتاز يشعر من يحدثه أنه أكثر ثقافة منه حتى لو كان أستاذا جامعيا متخصصا في الإعلام والاتصال مثل الأستاذ معين نفسه يرى أن كثيرين ممن كانت لهم صلة به " قذرون وأنذال وديوثون ومثليون ، من أجل منصب أو إفلات من فضيحة أو طمع في مأرب يرهن الواحد منهم شرفه . أقول لك يا أستاذ ، لأني أعرف بعضهم ، وبعضهن من عائلات محترمة جدا "( ص ٢٤ ) .
العبارة السابقة عبارة مهمة ، إذ تحفل الرواية بشخصيات ثانوية عرفها الرئيس معرفة مباشرة تنطبق على كل واحدة منها صفة من الصفات السابقة ، ولقناعته بما قال عن الآخرين وعدم ثقته بهم فقد مر عليه وقت لم يكن يحدث فيه أحد سوى كلبه :
"- كنت لا أجد غير فوكس أبثه شجني مما يسببه لي أولئك الذين يطنون كالذباب حول براز . وكان أشهرهم فريد العكون "(ص ٧٨ ) . وفريد هذا كان القائم على إنشاء صرح الزعيم طرد العمال الذين رفضوا تحويل عشرة بالمائة من اجورهم إلى حسابه الخاص .
مثل فريد هذا الطبيب نذير المحلبي وهو عينة من النخبة . نذير متزوج من ظريفة حرثاني المدعوة كاميليا تعرض نفسها على الرئيس وتراوده عن نفسه بمعرفة زوجها ، فلولا الرئيس ما كان لنذير " أن يعين في مستشفى مصطفى باشا " ولا حصلت هي على وظيفتها الحالية .( ص ١٦٠) .
ويمكن أن آتي بمثال على كل صفة وردت في عبارة الرئيس .
ما يلفت النظر في الرواية هو علاقة الرئيس بالنساء ، فقد أقام علاقات مع غير امرأة ؛ تزوج وطلق منذ الليلة الأولى حين اكتشف أنها بلا غشاء بكارة ، ولم يحترم من النساء إلا واحدة أحبها وتزوجها وتوفيت يوم أنجبت ابنته الوحيدة التي أعطاها لامرأة تربيها وظل يتابع أخبارها وصارت زوجة الأستاذ معين .
من النساء اللافت حضورهن في الرواية صونيا التي تعمل في رئاسة الجامعة ، وهي ابنة وزير تقرب إليها يوم ذهب ليعزي في وفاة والدها وقد نجح في إقامة علاقة جنسية معها على الرغم من أن الفارق الزمني بينهما أربعون عاما . أغراها وعدد لها المساعدات التي قدمها لوالدها واستمرت علاقتهما حوالي عشر سنوات ، وحين علمت بأن معين سيكتب لصالح الزغبي مذكراته اتصلت بمعين وأفشت له سرا بيولوجيا يعاني منه وهو أنه بخصية واحدة ، وقالت لمعين إنها كانت تتحدث معه بندية وأكثر وكانت تناديه باسمه ، فلم تكن تراه رئيسا . كانت تراه " صالح " و " الزغبي " فقط . " " تمرغ عند قدميها مثل جرو روضته "( ص ١٠٢)
رواية " ما رواه الرئيس " رواية ممتعة تقرأ بشغف ، ولعل ما كتب فيها عن الجزائر ينطبق على دول عربية كثيرة حيث الفساد والرشوة والواسطة والحاكم الوحيد حتى الموت .
الجمعة والسبت ١٨ و١٩ شباط ٢٠٢٢
أ. د. عادل الأسطه
(مقال الأحد ٢٠ / ٢ / ٢٠٢٢ في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )
لم تفاجئني العبارة ، إذ أخذت منذ ١٩٧٧ أقرأ الأدبيات الجزائرية التي صدرت في فلسطين للطاهر وطار وأتى في قسم منها على واقع الجزائر بعد الاستقلال ، ولطالما استشهدت بقصص وطار " الشهداء يعودون هذا الأسبوع "(١٩٧٤) وروايته " الزلزال "(١٩٧٧) تقريبا.
في ٩٠ القرن ٢٠ تابعت روايات أحلام مستغانمي وقد أتت فيها ، كما وطار ، على حرب التحرير والاستقلال والواقع الجزائري إبان الحكم الوطني ، كما قرأت بعض روايات واسيني الأعرج ومنها " شرفات بحر الشمال " .
في العام الأخير قرأت خمس روايات للحبيب السايح الذي لم أقرأ له من قبل وكتبت عن روايتين منها " أنا وحاييم " و" الموت في وهران " .
آخر ما وصلني من رواياته " ما رواه الرئيس " ( ٢٠٢١) و" نزلاء الحراش "(٢٠٢١) ، وفي الأولى يروي الجنرال المتقاعد صالح الزغبي الذي بلغ الثمانين على الأستاذ الجامعي معين العروي - سنعرف في نهاية الرواية أنه زوج ابنة الرئيس الوحيدة فضيلة دون أن يعرف أنها ابنته - يروي عليه قصة حياته منذ كان فتى يافعا ؛ يروي عن علاقته غير الطيبة بوالديه وعن التحاقه بالثورة وسجنه في زمن الاستقلال لوقوفه ضد انقلاب هواري بومدين على أحمد بن بللا ، وكان يمكن أن ينفق بقية عمره في السجن ، بل وكان يمكن أن يعدم لولا صديق له تدخل في القضية وطلب منه التبرؤ من موقفه والوقوف إلى جانب بومدين ، فيفعل ويصبح ركنا من أركان النظام الجديد .
يروي الرئيس على الأستاذ ليكتب له مذكراته ، فقد وقعا معا عقد شرف مقابل مبلغ من المال . ويغدو الرئيس مثل ( شهرزاد ) يروي دون خطة محكمة ، بل بقدر من التداعيات والانتقال من موضوع إلى آخر فهو " شخص متبدل الأطوار مثل الرئيس المتميز بقدرة عجيبة على التحول السريع من نقطةإلى أخرى ، الرئيس الذي يملك طاقة خارقة على جعلك تشعر أنه يتكلم بلسان كأنه لسانك !" ، يروي في جلسات - حصص من حصة - قصة حياته وقصة الثورة الجزائرية وما آلت إليه الجزائر منذ استقلالها حتى حراك ٢٠١٩ الذي رفع فيه الجزائريون شعار " العهدة الخامسة لا ! ارحل " في وجه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أراد تجديد عهدته الخامسة وهو في وضع صحي لا يمكنه من الحكم . يروي الرئيس وما يرويه بسبب تأنيب ضميره هو " في جانب منه ، شهادة اعتذار لمن أخطأنا بحقهم "( ص ٢٥٣ ) .
دال " الرئيس " في العنوان قبل الولوج إلى المتن الروائي يصرف ذهننا إلى الرئيس الذي يحكم الجزائر ، ويذكرنا بروايات عديدة من روايات أميركا اللاتينية التي كتبت عن الدكتاتور في ٧٠ القرن ٢٠ ، ومنها رواية ( استورياس )" السيد الرئيس " ، وقصة ( ماركيز ) " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " ، ولا تخلو روايات عربية عموما من دال الرئيس أو الزعيم ، فلنجيب محفوظ رواية عنوانها " يوم قتل الزعيم " ولليمني علي المقري رواية عنوانها " بلاد القائد " وقد تتقاطع الأخيرة مع " ما رواه الرئيس " في طلب الرئيس من كاتب أن يكتب له سيرته .
ونحن نقرأ الرواية نتوقف أمام دالين " الرئيس " والزعيم " والثاني هو الرجل الأول في الجزائر ، وإن نعت في نهاية الرواية ب " الرئيس " ( ص ٢٦٠ و ٢٦٢ ) . والحقيقة أنني في القراءة البدئية للعنوان انصرف ذهني إلى أن المقصود بالرئيس رئيس البلاد لا الجنرال ، والجنرالات عموما رؤساء ذوو سطوة " ، بل أكثر من ذلك فإن الجنرالات الرؤساء هم من يعينون الزعيم / رئيس البلاد " :
- " الظرف الحالي ، كما تقول يا محسن ، هو امتداد لأكثر من نصف قرن من اختصاص المؤسسة العسكرية في صناعة كل الرؤساء الذين تداولوا على الحكم "(ص ٢٦٠) .
الرئيس الذي يروي يروي الكثير ، وهو سليط اللسان بذيئه لديه قدر من السادية والاستعلاء والغطرسة واحتقار الآخرين ، علما بأنه مثقف ثقافة واسعة اكتسبها من تجاربه ومن قراءته ، فهو قاريء ممتاز يشعر من يحدثه أنه أكثر ثقافة منه حتى لو كان أستاذا جامعيا متخصصا في الإعلام والاتصال مثل الأستاذ معين نفسه يرى أن كثيرين ممن كانت لهم صلة به " قذرون وأنذال وديوثون ومثليون ، من أجل منصب أو إفلات من فضيحة أو طمع في مأرب يرهن الواحد منهم شرفه . أقول لك يا أستاذ ، لأني أعرف بعضهم ، وبعضهن من عائلات محترمة جدا "( ص ٢٤ ) .
العبارة السابقة عبارة مهمة ، إذ تحفل الرواية بشخصيات ثانوية عرفها الرئيس معرفة مباشرة تنطبق على كل واحدة منها صفة من الصفات السابقة ، ولقناعته بما قال عن الآخرين وعدم ثقته بهم فقد مر عليه وقت لم يكن يحدث فيه أحد سوى كلبه :
"- كنت لا أجد غير فوكس أبثه شجني مما يسببه لي أولئك الذين يطنون كالذباب حول براز . وكان أشهرهم فريد العكون "(ص ٧٨ ) . وفريد هذا كان القائم على إنشاء صرح الزعيم طرد العمال الذين رفضوا تحويل عشرة بالمائة من اجورهم إلى حسابه الخاص .
مثل فريد هذا الطبيب نذير المحلبي وهو عينة من النخبة . نذير متزوج من ظريفة حرثاني المدعوة كاميليا تعرض نفسها على الرئيس وتراوده عن نفسه بمعرفة زوجها ، فلولا الرئيس ما كان لنذير " أن يعين في مستشفى مصطفى باشا " ولا حصلت هي على وظيفتها الحالية .( ص ١٦٠) .
ويمكن أن آتي بمثال على كل صفة وردت في عبارة الرئيس .
ما يلفت النظر في الرواية هو علاقة الرئيس بالنساء ، فقد أقام علاقات مع غير امرأة ؛ تزوج وطلق منذ الليلة الأولى حين اكتشف أنها بلا غشاء بكارة ، ولم يحترم من النساء إلا واحدة أحبها وتزوجها وتوفيت يوم أنجبت ابنته الوحيدة التي أعطاها لامرأة تربيها وظل يتابع أخبارها وصارت زوجة الأستاذ معين .
من النساء اللافت حضورهن في الرواية صونيا التي تعمل في رئاسة الجامعة ، وهي ابنة وزير تقرب إليها يوم ذهب ليعزي في وفاة والدها وقد نجح في إقامة علاقة جنسية معها على الرغم من أن الفارق الزمني بينهما أربعون عاما . أغراها وعدد لها المساعدات التي قدمها لوالدها واستمرت علاقتهما حوالي عشر سنوات ، وحين علمت بأن معين سيكتب لصالح الزغبي مذكراته اتصلت بمعين وأفشت له سرا بيولوجيا يعاني منه وهو أنه بخصية واحدة ، وقالت لمعين إنها كانت تتحدث معه بندية وأكثر وكانت تناديه باسمه ، فلم تكن تراه رئيسا . كانت تراه " صالح " و " الزغبي " فقط . " " تمرغ عند قدميها مثل جرو روضته "( ص ١٠٢)
رواية " ما رواه الرئيس " رواية ممتعة تقرأ بشغف ، ولعل ما كتب فيها عن الجزائر ينطبق على دول عربية كثيرة حيث الفساد والرشوة والواسطة والحاكم الوحيد حتى الموت .
الجمعة والسبت ١٨ و١٩ شباط ٢٠٢٢
أ. د. عادل الأسطه
(مقال الأحد ٢٠ / ٢ / ٢٠٢٢ في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )