تبدأ حياة من ظهرت عنده ميول أدبية منذ طفولته، أو مراهقته بكتابة الخواطر أو الشعر أو القصة القصيرة. وكلما مرّ الزمن، تشرع موهبته تتفتق على جنس محدد من الإبداع، وقد يستمر فيه، أو يتوقف عنه.
إن الإبداع المتصل بالذات الفردية وهمومها الخاصة يظهر من خلال الشعر، والغناء، ولذلك نجد الشعر، كما نُظِّر له منذ القرن التاسع عشر، تعبيرا عن الطفولة الإنسانية، وكان ارتباطه بالغناء تجسيدا للعلاقة بينه وبين العمل والمعاناة. لا عجب في أن نجد فن الملحون المغربي مثلا، والأمثلة كثيرة، برع فيه الحرفيون والمهنيون والصناع التقليديون، وقدموا فيه أنواعا لا حصر لها تعبر عن مختلف أنواع الحنين والشوق، من العشق العادي إلى التعلق الصوفي، مرورا بكل الأغراض المعروفة، والمتصلة بالحياة اليومية وآلامها وأفراحها.
لكن السرد وهو الجنس الرديف للشعر يمارس دائما في الحياة الاجتماعية، وكل يروي ما يقع يوميا، دون أن يصل إلى حد أن يتحول إلى نص قابل للسرد في أي زمان أو مكان، لذلك لا يمكن أن يبرع فيه المرء إلا إذا امتلأت ذخيرته بالنصوص السردية السابقة عليه، وتطورت تجربته الحياتية، لتصل إلى حد تجسيدها في حكايات وقصص يتمازج فيه الواقعي بالخيالي، وبطريقة يتداخل فيها التشويق بالحكمة المتوارية بين الأفعال والأحاسيس والأقوال. يبدو لنا هذا التمايز بين الشعر والسرد، في كون الأول ينسب إلى شخص محدد هو الشاعر، الذي يتميز بكلامه، وطريقة بنائه عن غيره من الناس. وتبعا لموقعه في النفوس، يبرز «الراوي» المحدد، الذي ينشر قصائد ذاك الشاعر في مختلف المحافل التي يحضرها. لكن السرد بسبب طبيعته المفتوحة على الإضافة، والحذف والتحوير، ولاسيما في المرحلة الشفاهية، ينسب إلى الراوي الذي «يعيد» ما قيل سابقا بطريقته الخاصة، وليس هو «السارد» الذي أنتج هذا الفعل الكلامي، بل إن هذا السارد يظل مجهولا، ويذوب إنتاجه في ما يضيفه الآخرون عليه، وهم في كل مرة يروونه بطريقة خاصة. ولم يبرز السارد تاريخيا إلا مع الكتابة، وصار إنتاجه يدخل في نطاق «الكتابة» تمييزا لها عن الشعر.
إن علاقة السارد بالكاتب قوية، وستتأكد بصورة خاصة في العصر الحديث، مع ظهور الكتابة وتطورها أولا، والرواية التي ستجعل الكاتب معبرا ليس عن أحاسيسه وانفعالاته، كما كان يفعل الشاعر، لكن عن رؤيته، وفهمه للواقع، وتمثيل تصوره له في مختلف صوره وأطواره. ولذلك كانت ثقافة الروائي، ووعيه بحال عصره، ومآله، وإلمامه بتفاصيل الصنعة الروائية مطلبا خاصا، تماما كما كانت للصنعة الشعرية قواعدها وأصولها، التي دون امتلاكها لا يعد الشاعر شاعرا. ولكل صناعة شروط صنعتها.
منذ أن عرف العرب الرواية في العصر الحديث، في لبنان ومصر، خاض غمار الكتابة فيها القاصون، وهم ينتقلون من نوع سردي إلى آخر شبيه، لكن بشكل مختلف. ثم مارسها الإعلاميون والصحافيون لأنهم رأوها تقترن بالمادة الخبرية التي تمثلوا أسرارها، وكيفية تحويلها إلى نص أدبي. ومارسها أصحاب المواقف والأفكار في زمانهم، فعملوا من خلالها على تجسيد فهمهم، وشاركوا في نقد مظاهر الواقع المختلفة، وصرَّفوا تجاربهم ورؤيتهم لما يجري من حولهم. وكان لتطور الرواية، وتطور أشكال السرد، أن صار مجال الكتابة السردية مفتوحا على مصراعيه، ولم يعد مقتصرا على «الكاتب» وهو الذي كان يلخص في كلمة «الأديب». لكن صار بإمكان الطبيب والمحامي والصحافي والعسكري، والسياسي، وسواهم من أصحاب المهن المختلفة أن يكتبوا الرواية، ولم يبق من الضروري أن تكتب باللغة الأدبية التي حرص عليها الكتاب الأوائل. فصارت الرواية من ثمة الإبداع الذي يتعإلى على «الكتابة» بمعناها «الأدبي» الكلاسيكي، إذ يكفي امتلاك لغة سليمة، وقدرة على السرد، وابتكار حبكة مشوقة، ليصبح للشخص الذي يقدم على إنجاز عمل سردي «ساردا» ينتج في إطار جنس السرد الذي صار مهيمنا على غيره من الأجناس. وكان في ذلك تجسيد لقولة بارت بأن السرد موجود في كل شيء. وبمقتضى هذه القولة صار بإمكاننا الذهاب إلى أن أي إنسان، تتوفر فيه شروط إنتاج نص قابل للحكي، يمكنه أن يصبح ساردا، مهما كان تخصصه، أو عرقه، أو لغته، أو مستواه الدراسي.
هذه الصورة التي صارت للسرد، بدأت تحتل مكانة خاصة في الثقافة العربية منذ السبعينيات من القرن الماضي، مع التطور الذي عرفته الرواية العربية بصورة مختلفة عما كانت عليه سابقا. بدأ الشعراء يغادرون قافلة الشعر، ويلتحقون بموكب الرواية. وبات الباحثون من مختلف الاختصاصات التي كرسوا لها قسطا مهما من حياتهم، من النقاد الأدبيين، ومؤرخي الأفكار، والمحللين السياسيين والاقتصاديين وغيرهم، ذكورا وإناثا، كهولا وشبابا، يجدون أنفسهم «مؤهلين» لكتابة رواية، بغض النظر عن نوعها السردي. وكان أن أصبح السؤال المطروح على كل من تُلمَس فيه إمكانية «الكتابة» هو: «لماذا لا تكتب رواية»؟ أو «متى ستكتب رواية» أو «هل حتى أنت بصدد كتابة رواية؟» أو «ما عليك سوى كتابة رواية».
ما أجمل هذا التحول لممارسة السرد! والأجمل إيجاد وخلق قارئه؟
إن الإبداع المتصل بالذات الفردية وهمومها الخاصة يظهر من خلال الشعر، والغناء، ولذلك نجد الشعر، كما نُظِّر له منذ القرن التاسع عشر، تعبيرا عن الطفولة الإنسانية، وكان ارتباطه بالغناء تجسيدا للعلاقة بينه وبين العمل والمعاناة. لا عجب في أن نجد فن الملحون المغربي مثلا، والأمثلة كثيرة، برع فيه الحرفيون والمهنيون والصناع التقليديون، وقدموا فيه أنواعا لا حصر لها تعبر عن مختلف أنواع الحنين والشوق، من العشق العادي إلى التعلق الصوفي، مرورا بكل الأغراض المعروفة، والمتصلة بالحياة اليومية وآلامها وأفراحها.
لكن السرد وهو الجنس الرديف للشعر يمارس دائما في الحياة الاجتماعية، وكل يروي ما يقع يوميا، دون أن يصل إلى حد أن يتحول إلى نص قابل للسرد في أي زمان أو مكان، لذلك لا يمكن أن يبرع فيه المرء إلا إذا امتلأت ذخيرته بالنصوص السردية السابقة عليه، وتطورت تجربته الحياتية، لتصل إلى حد تجسيدها في حكايات وقصص يتمازج فيه الواقعي بالخيالي، وبطريقة يتداخل فيها التشويق بالحكمة المتوارية بين الأفعال والأحاسيس والأقوال. يبدو لنا هذا التمايز بين الشعر والسرد، في كون الأول ينسب إلى شخص محدد هو الشاعر، الذي يتميز بكلامه، وطريقة بنائه عن غيره من الناس. وتبعا لموقعه في النفوس، يبرز «الراوي» المحدد، الذي ينشر قصائد ذاك الشاعر في مختلف المحافل التي يحضرها. لكن السرد بسبب طبيعته المفتوحة على الإضافة، والحذف والتحوير، ولاسيما في المرحلة الشفاهية، ينسب إلى الراوي الذي «يعيد» ما قيل سابقا بطريقته الخاصة، وليس هو «السارد» الذي أنتج هذا الفعل الكلامي، بل إن هذا السارد يظل مجهولا، ويذوب إنتاجه في ما يضيفه الآخرون عليه، وهم في كل مرة يروونه بطريقة خاصة. ولم يبرز السارد تاريخيا إلا مع الكتابة، وصار إنتاجه يدخل في نطاق «الكتابة» تمييزا لها عن الشعر.
إن علاقة السارد بالكاتب قوية، وستتأكد بصورة خاصة في العصر الحديث، مع ظهور الكتابة وتطورها أولا، والرواية التي ستجعل الكاتب معبرا ليس عن أحاسيسه وانفعالاته، كما كان يفعل الشاعر، لكن عن رؤيته، وفهمه للواقع، وتمثيل تصوره له في مختلف صوره وأطواره. ولذلك كانت ثقافة الروائي، ووعيه بحال عصره، ومآله، وإلمامه بتفاصيل الصنعة الروائية مطلبا خاصا، تماما كما كانت للصنعة الشعرية قواعدها وأصولها، التي دون امتلاكها لا يعد الشاعر شاعرا. ولكل صناعة شروط صنعتها.
منذ أن عرف العرب الرواية في العصر الحديث، في لبنان ومصر، خاض غمار الكتابة فيها القاصون، وهم ينتقلون من نوع سردي إلى آخر شبيه، لكن بشكل مختلف. ثم مارسها الإعلاميون والصحافيون لأنهم رأوها تقترن بالمادة الخبرية التي تمثلوا أسرارها، وكيفية تحويلها إلى نص أدبي. ومارسها أصحاب المواقف والأفكار في زمانهم، فعملوا من خلالها على تجسيد فهمهم، وشاركوا في نقد مظاهر الواقع المختلفة، وصرَّفوا تجاربهم ورؤيتهم لما يجري من حولهم. وكان لتطور الرواية، وتطور أشكال السرد، أن صار مجال الكتابة السردية مفتوحا على مصراعيه، ولم يعد مقتصرا على «الكاتب» وهو الذي كان يلخص في كلمة «الأديب». لكن صار بإمكان الطبيب والمحامي والصحافي والعسكري، والسياسي، وسواهم من أصحاب المهن المختلفة أن يكتبوا الرواية، ولم يبق من الضروري أن تكتب باللغة الأدبية التي حرص عليها الكتاب الأوائل. فصارت الرواية من ثمة الإبداع الذي يتعإلى على «الكتابة» بمعناها «الأدبي» الكلاسيكي، إذ يكفي امتلاك لغة سليمة، وقدرة على السرد، وابتكار حبكة مشوقة، ليصبح للشخص الذي يقدم على إنجاز عمل سردي «ساردا» ينتج في إطار جنس السرد الذي صار مهيمنا على غيره من الأجناس. وكان في ذلك تجسيد لقولة بارت بأن السرد موجود في كل شيء. وبمقتضى هذه القولة صار بإمكاننا الذهاب إلى أن أي إنسان، تتوفر فيه شروط إنتاج نص قابل للحكي، يمكنه أن يصبح ساردا، مهما كان تخصصه، أو عرقه، أو لغته، أو مستواه الدراسي.
هذه الصورة التي صارت للسرد، بدأت تحتل مكانة خاصة في الثقافة العربية منذ السبعينيات من القرن الماضي، مع التطور الذي عرفته الرواية العربية بصورة مختلفة عما كانت عليه سابقا. بدأ الشعراء يغادرون قافلة الشعر، ويلتحقون بموكب الرواية. وبات الباحثون من مختلف الاختصاصات التي كرسوا لها قسطا مهما من حياتهم، من النقاد الأدبيين، ومؤرخي الأفكار، والمحللين السياسيين والاقتصاديين وغيرهم، ذكورا وإناثا، كهولا وشبابا، يجدون أنفسهم «مؤهلين» لكتابة رواية، بغض النظر عن نوعها السردي. وكان أن أصبح السؤال المطروح على كل من تُلمَس فيه إمكانية «الكتابة» هو: «لماذا لا تكتب رواية»؟ أو «متى ستكتب رواية» أو «هل حتى أنت بصدد كتابة رواية؟» أو «ما عليك سوى كتابة رواية».
ما أجمل هذا التحول لممارسة السرد! والأجمل إيجاد وخلق قارئه؟