أ. د. عادل الأسطة - اللد ١٩٤٨: الخروج منها والبقاء فيها و"ما دونه الغبار"

بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ حدث أن مررت بتجربة سعيد . س الشخصية الرئيسة في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " ، فما إن سمحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة بزيارة المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ حتى وجدتني في حافلة مع أهل مخيم عسكر القديم لزيارة حيفا ويافا واللد وأخيرا ناتانيا .
لم أكن أعرف تلك المدن إلا من خلال حديث سكانها الذين هجروا منها عنها ، وحين زرتها سرت في شوارعها مع من عاش فيها ، وكان حظ اللد الأوفر في زيارة بعض أحيائها ، فقد كان في الحافلة رجال من عائلة سعد وعائلة الشلة اصطحبوا ركاب الحافلة لرؤية بيوتهم .
لم يكن رجال اللد من عائلات ثرية وإلا لما أقاموا في مخيمات اللاجئين ، إذ لو كانوا أثرياء لاستأجروا بيوتا في المدن . كانت بيوتهم بيوت فقراء وعادية حتى أنها لم تسحرني ؛ فلم أرها تختلف اختلافا لافتا مبهرا عن بيوت المخيم . كان الاختلاف يكمن في أن هناك ارتدادات واسعة بينها ، واللافت أن قسما منها بقي مهجورا على حاله ، وآمل ألا تكون الذاكرة خانتني ، فما بقي منها هو " ما دونه الغبار " ؛ غبار وقائع الأيام .
كانت تلك الزيارة الوحيدة ، خلافا لزيارة يافا وحيفا وعكا والناصرة ، فقد زرتها مرارا وكان الدافع لزيارة يافا أنها مدينة الآباء والأجداد وأنها الأكثر حضورا في الوجدان لحضورها في الشعر الفلسطيني والعربي وفي أغنية " أذكر يوما كنا بيافا " ، والدافع لزيارة المدن الثلاثة الباقية هو التواصل مع رموز الحركة الأدبية الفلسطينية ودور النشر فيها ، وكان نصيب حيفا وعكا من الزيارة هو الأكثر حظا ، ولكني للأسف لم أكتب عن تلك الزيارات إلا في الأعوام الثلاثة الأخيرة تحت عنوان " مدن في الذاكرة " .
عندما عاد محمود درويش إلى رام الله وأصدر " الكرمل " خصص مساحة للكتابة عن زيارات الأدباء الفلسطينيين لمدنهم ، ولا أذكر أنني قرأت كتابة لافتة عن اللد وربما فاتني إن كان الفنان التشكيلي اسماعيل شموط كتب شيئا .
عندما أصدر الروائي اللبناني الياس خوري روايته " أولاد الغيتو : اسمي آدم " (٢٠١٦) خصصتها بسبعة وثلاثين مقالا أصدرتها في كتاب " أسئلة الرواية العربية "(٢٠١٨) وقد عرفني على مصادره ومراجعه في الكتابة عن اللد ومنها رواية الكاتبة الايرلندية ( ايثيل مانين ) " الطريق إلى بئر سبع " (١٩٦٣) التي نقلها إلى العربية حلمي مراد في ( ١٩٩٨) فأذهلني ما ورد فيها عن رحلة التهجير من اللد باتجاه رام الله ، وخصصتها بمقالة أقارن فيها بينها وبين رواية خوري .
عندما صدر كتاب الحكيم " صفحات من مسيرتي النضالية : مذكرات جورج حبش "( ٢٠١٩) قرأت، يشغف ، ما كتبه عن أسرته وطفولته في اللد وخروجه منها في العام ١٩٤٨ ووصفه لرحلة الخروج إلى رام الله وقسوتها وإشارته إلى رواية ( مانين ) وتعقيبه عليها " وكأن هذه الكاتبة كانت معنا " فلم يجد أي مبالغة في ما كتبته " بل أستطيع القول إن المأساة كما عشتها كانت أكثر حدة مما أظهرته تلك الرواية "( ص٥٩) . ولعل ما أورده الحكيم عن أسرته وبيتها في اللد ما يدعم الانطباع الذي خرجت به عنها يوم زرتها " ولدت في مدينة اللد ..لأسرة ميسورة الحال .. كان بيتنا في اللد متواضعا .. "( ص٤٣) .
في العام الماضي صدرت للكاتبة دينا سليم حنحن من مواليد اللد واستقرت منذ ٢٠٠٥ في أستراليا رواية عنوانها " ما دونه الغبار " ترصد فيها سيرة عائلتها وما مرت به مدينة اللد من أحداث قبل النكبة وفيها وخلال السنوات التي تلتها ، وتتابع مآل شخصياتها وإلى ما انتهوا اليه وأين استقر بهم المقام ، وغالبا ما قابلت الأحياء منهم ونقلت شهاداتهم واعتمدت على مذكراتهم دون أن تبدي رأيا فيها ، فقد اختارت منذ البداية أن تكون راويا محايدا لا يبدي رأيا فيما يقرأ ويسمع حتى لو كانت هناك معلومات خاطئة وردت على ألسنتهم أو في كتاباتهم ، وإن وجب على الكاتبة أن تلتفت إليها وتصوبها في الهامش . لقد كانت الرواية - إن جنسناها كما جنستها - رواية توثيقية بالدرجة الأولى ، والكاتبة تقر بذلك مرارا ، بل إنها في تقديمها لها تستخدم مفردات سيرة وسيرة عائلية وسيرة وطن ، متخذة من اللد مثالا ، وأيضا مذكرات وشهادات وتستخدم المفردات كلها ثانية في المتن الروائي .
وعموما فإن الرواية / السيرة / الشهادات تتقاطع جزئيا مع الكتابات السابقة الوارد ذكرها ؛ مانين وخوري وحبش ، بل وتذكر في الكتابة عن العلاقات بين العرب واليهود في اللد بما كتبه ربعي المدهون في " مصائر " ( ٢٠١٥ ) ، فقد كتب أيضا عن اللد في ١٩٤٨ وما تلاه وعلاقة باقي هناك باليهود الذين استولوا على بيوت العرب وجاوروا من بقي منهم ، وعندما يقرأ المرء عن السلب والنهب والسرقات التي شهدتها المدينة ، في فوضى الخروج وما تلاه ، يتذكر رواية الكاتب الإسرائيلي ( يورام كانيوك ) " ١٩٤٨ " .
إن الرواية لها قيمة تاريخية توثيقية واجتماعية ، أما قيمتها الأدبية الفنية فهي لا تضيف إلى الرواية الفلسطينية شيئا لافتا ، وسيجد فيها من يكتب عن اليهود في الرواية الفلسطينية مادة لافتة تستحق كتابة مقالة .
الكتابة تطول والمساحة محدودة

الخميس والجمعة والسبت ٣ و ٤ و ٥ آذار ٢٠٢٢ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى