د. لميس جابر - الفلاح الفصيح.. أقدم معارض فى التاريخ

فى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، وفى عهد الملك «خيتى»، أحد ملوك أهناسيا، كُتبت قصة أدبية عُرفت بالفلاح الفصيح أو «ساكن الحقل».. وبطل هذه القصة أحد سكان وادى النطرون، أو «حقل الملح». وكان يسافر كل حين إلى مصر ليبيع محصول أرضه محملاً على الحمير، وذات مرة اعترضه أحد الموظفين، واغتصب منه حميره وما عليها بحيلة دنيئة، فذهب الفلاح إلى عاصمة المقاطعة، ليشكو الموظف إلى رئيسه «رينزى»، فجمع مجلس الأشراف ليفصل فى القضية، ولكن أعضاء هذا المجلس لم ينصفوا الفلاح على موظف من الكبار.. فصاغ الفلاح شكواه إلى رينزى فى أسلوب بليغ وفصيح أبهره وأثار إعجابه، فرأى أن الأمر جدير بأن يُعرض على جلالة الملك نفسه، نظراً للبلاغة النادرة والأسلوب الأخاذ الذى لم يعهده من قبل. أمر الملك أن يُترك هذا الفلاح دون أن يُبتّ فى شكواه حتى لا يتوقف عن الكلام الذى سيكون مادة أدبية ممتعة، وأمر بإحضار كاتب ليدون هذه الشكاوى، وأمر كذلك بإرسال المئونة لزوجته وأطفاله، وأن يُصرف له الطعام بشكل يومى. وتحدّث الفلاح الفصيح، فى تسع شكاوى متصاعدة فى حدتها، مع ازدياد شعوره بالظلم. وهذه مقتطفات بسيطة من رسائل ساكن الحقل: «يا مدير البيت العظيم، يا أعظم العظماء، إنك أب لليتيم، وزوج للأرملة، وأخ لتلك التى نُبذت، وغطاء لذلك الذى لا أم له.. دعنى أجعل اسمك فى هذه الأرض يتفق مع كل قانون عادل، فتكون حاكماً شريفاً مشجعاً للعدل يلبى نداء المستغيث. إنى أتكلم، فهل لك أن تسمع؟.. يا مثقال الميزان، لا تمل، ويا خيط الميزان لا تتذبذب. إن الإنسان سيموت مع خدمه، وهل ستكون رجلاً مخلداً؟ إن العدل يفلت، والقضاة ينحازون إلى جانب اللص.. إن الذى يجب عليه أن يحكم بالقانون يأمر بالسرقة، فمن ذا الذى يكبح الباطل إذن؟ وذلك الذى يجب عليه أن يقضى على الفقر يعمل على العكس، والذى يسير فى الطريق المستقيم يتعثر، والآخر ينال الشهرة بالضرر.. والحكمة تقول: عامل الناس بما تحب أن تعامَل به.. يا أيها السيد العظيم، اكبح جماح السارق.. دافع عن الفقير، واحذر من قرب الآخرة.. وقِّع العقاب على من يستحق العقاب.. إنك قيِّم على الميزان، اقبض على حبل الدفة.. أنت أيها السامع، إنك لا تصغى، ولماذا لا تصغى؟».

عندئذ أمر «رينزى» بضرب الفلاح بالسياط، فصاح متهماً إياه بالانحراف والسرقة والإجرام.. ثم استمر فى شكواه: «يا أيها العظيم، كن صبوراً حتى يمكن للإنسان أن يستغيث بك لقضيته العادلة.. لا تجعل قلبك يقسو، فذلك لا يليق بك. إن الحكام قد نُصِّبوا ليدرأوا السوء، وليكبحوا الكذب.. أقم العدل لرب العدل، والذى عدل عدالته دائمة، وأنت أيها القلم، وأنت أيتها البردية، ويا أيتها الدواة، ابتعدوا عن عمل السوء.. إن العدل سيكون إلى الأبد، ويذهب مع صاحبه إلى القبر، ويُدفن ويواريه التراب. أما اسمه فلن يُمحى من الأرض، بل سيُذكر للخير، وهكذا القانون فى كلمة الله، فهو ميزان لا يميل».

وأحضر «رينزى» السيد العظيم اثنين من الحجاب، ليذهبا ويُحضرا الفلاح، فظن أنه ذاهب للعقاب، ولكن السيد العظيم قال له: جهز نفسك لتسكن معى، وانتظر هنا لتسمع شكاواك. ثم أمر بقراءتها، كل شكوى على حسب محتوياتها، وأمر بإرسالها إلى جلالة الملك الذى سُرَّ بها أكثر من أى شىء فى الأرض.. وأمر الملك «رينزى» بأن يقضى فى أمر شكوى الفلاح، فأحضر الموظف المغتصب السارق، وأحصيت أملاكه وماشيته، وأخذ منه بيته وأعطاه للفلاح ساكن الحقل.. انتهت القصة.

كانت هذه الشكاوى من أبلغ وأروع ما كُتب فى الأدب المصرى القديم، حتى إنها كانت تُدرس فى عهد الدولة الحديثة للتلاميذ.. وقال «برستيد» عن هذه القصة «إن خطب هذا الفلاح هى حرب أشهرها ضد ما يرتكبه الموظفون من الفوضى والظلم والعبث بصغار الفلاحين، فكان بخطبته من حمَلة الأقلام الذين طلبوا العدالة الاجتماعية.. وفيها، ولأول مرة فى تاريخ أدب العالم، تشبيه العدالة بالميزان، وهو التشبيه الذى يزين أغلب محاكم العالم الآن.

يرى علماء المصريات هذه الشكاوى عملاً أدبياً رائعاً يدل على حضارة متفردة فى الرقى، متفوقة على حضارات العالم القديم كلها.. ويراها «برستيد» أول نداء بالعدالة الاجتماعية.. وأراها أنا أول صرخة معارضة فى التاريخ القديم، بل والمعارضة الجريئة من فلاح فقير لسيد عظيم بيده الأمر والقوة والسلطة، لأن المعارضة الحقة دائماً تبحث عن الصواب وتصرخ من أجل الإنصاف وإقامة العدل وترسيخ الوعى والحكمة.. والمعارض الحق هو أكثر المواطنين إخلاصاً لوطنه ولدولته.. هو عين الدولة التى لا ترى كل شىء، ولا تتحلى بكل الحكمة المطلوبة.. المعارض الحق هو قلب الحاكم الذى لا يمكنه الإلمام بكل ما يدور ويحدث على أرض الواقع، ولا يقبل نقيصة أو اعوجاجاً أو خطأ.

أكتب هذا الآن لأننى أرى بعض أصوات الصحافة قد أصبحت أسواطاً يجلد بعضها البعض، حتى صارت الأصوات صوتاً واحداً، وصارت الأقلام تسطر فى اتجاه واحد بلا أى اختلاف أو تباين.. وكلها تتجنب الواقع، وتسير بجوار الحوائط.. أخشى على وطنى من غياب الكلمة الحقة، ومن خوف القلم الصادق، وارتعاش القلب المخلص. وأصدق القول بأن الحكام دائماً فى حاجة إلى شكاوى الفلاح الفصيح الذى تجرأ وعارض وجاهر بالقول منذ أكثر من أربعة آلاف عام.
أعلى