أ. د. عادل الأسطة - رسائله/ا و.. رسائلي

... وأنا أتأمّل في أمر رسائله/ا أتذكر الكاتب (اشتيفان زفايج). أتذكّر قصته الطويلة "رسالة من امرأة مجهولة". في 22 أيلول 1989 اشتريت، وأنا في ألمانيا، أعماله القصصية الطويلة، بمبلغ زهيد؛ عشرة ماركات فقط. كانت منشورات "فيشر" أعادت نشرها ككتاب جيب. في حينه قرأت قصة "رسالة من امرأة مجهولة". وسيحثني طلبة ألمان على قراءة"schachnovel" و "Phantastische Nacht". ما الذي ذكرني بقصة (زفايج)؟
كنت أصحح أوراق امتحان الطلبة، حين رنّ جوّالي. تأخرت في الرد على المكالمة، فأغلق المتصل/ة جوّاله/ا. حاولت الاتصال، فأغلق/ ت. ثم كتبت رسالة قصيرة: "من حضرتكم؟ تحياتي".
مساءً يأتيني الرد: "علمتني الحياة أن أمثالك يصافحون القلوب قبل الأيادي، نفوسهم رائعة كالجبال الشامخة، محبتهم "شرف" ورفقتهم "ضمان" والتواصل معهم "حق" نسيانهم "محال" والدعاء لهم "واجب" فما أحوجنا لقلوب صادقة تسامحنا إذا أخطأنا وتعذرنا إذا قصرنا وتسأل عنا إذا غبنا" (فسلام وألف سلام) على قلوب طاهرة أصيلة أحبتنا وأحببناها وما زالت تسكن العين والقلب. بون بون".
من هو/ي؟ ما قصة بون بون؟ عمن سألت ممن غابوا؟ هل أحب أحداً ما، وهو يحبني دون أن أعرف. من هو/ي صاحب/ة الجوّال؟
ساعات المساء طويلة والجوّ ماطر، وثمة وقت لكتابة رسائل عابرة.
"أفصح.. ي. من عرفت في بون؟ أنا شخص أحياناً أكون ذكياً وأحياناً أكون غبياً. صدق.. ي أنني أفكر في كتابة مقال يكون هذا عنوانه. عقدنا درويش بشعره فكتب ألاّ أفسّر كلامه بملعقة الشاي تارة أو بملعقة الحساء طوراً.. أأنت قريب.. ة أم من بون..؟ على أية حال أهلاً وسهلاً.. سلام". سأكتب هذه الرسالة فيما بعد، سأكتبها رداً على الرسالة التي وصلتني وهي:
"ابتعادي عنك ما ظني هروب.. كيف أهرب عن هواك بلا سبب.. كانْ تْباعدْنا تْقرّبنا القلوب.. عمر إحساس المشاعر ما كذب. في هوانا تجتمع كل الدروب.. نلتقي ما نحسّ بالرحلة تعب. كل ما هبت مع النسمة هبوب.. تحمل الإخلاص مع صدق العتب. بون بون".
وسأعقّب على الرسالة الأولى، الرسالة التي ورد فيها دال (سلام وألف سلام): "أشكرك.. و.. سلام ألف سلام" وسأتبعها برسالة ثانية أبدي فيها رأيي في الخاطرة: "الخاطرة الأولى جيدة، أيضاً، ولكني لا أفتح بالمندل.. سلام.. ألف سلام.. الأمر يحتاج إلى جرأة.. ألا ليت الشباب!".
وكنت أتساءل: لماذا التركيز على هذا الدال: سلام؟ هل قرأ صاحب الرسالة مقالي: "خواطر.. قد تسر.. قد لا تسر.. الخاطر" وأخذ يتساءل عن المعنى الخبيء. الخفي. المقصود. ومن المؤكد أنني لم أكرر عنوان مجموعة نصري حجّاج "أعتقد أنني أحب الحكومة. من المؤكد أن سلام ليس/ت سلام فياض، مع أنني أرسلت وأساتذة جامعيين كتاباً له قبل أيام. (أتذكر سلام: جلبابها، شالها التوتي اللامع، قامتها الرشيقة).
أنهيت تصحيح أوراق الامتحان، وجلست أضع أسئلة امتحان ثان. وسيرنّ الهاتف رنّة وصول رسالة: "تعرف من أكون أقرب من طرف العيون ربما في دمك أكون أو في قلبك مدفون.. أشتاق إليك في كل لحظة". أنا لا أفتح في المندل. من هذا/ه الذي/التي يمزح/ تمزح؟ أهي أنثى أم ذكر يلعب ويمثل؟ شخص ما يحاول أن يبدو شاعراً.. يعشق الكلام شبه الموزون المقفّى. سجع. جناس ولا تورية. من هذا/ه السارد/ة كلي المعرفة. يعرف/ تعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي.
الليل طويل ولا شيء يطرد فجر الوحدة إلاّ صوت المطر. ثمة فرح ما، فرح ما بشيء ليس خفياً: المطر.
"مسكين قلبي. إنه مثل جسد خالد بن الوليد. لم يبق منه جزء بلا طعنات. لا أدري من أين تأتيني القدرة على الصمود. سلام.. سلامي لكم." (أتذكر قامتها، بنطالها الأسود، الأصح شروالها كأن له خرطوم فيل. أتذكر شالها الخمري) هل قرأ/ت مرسل/ة الرسائل مقالي "خواطر.. قد تسر.. قد لا تسر.. الخاطر"؟ هل توقف/ت أمام "ماركس عاشق"؟
"إذا ضايقتك بكلامي" سامحني.. احترامي لك". كثيرون هم الذين ضايقوني.
هناك في ألمانيا ضايقني الذين احتككت بهم/ بهن. وهنا تأتيني المضايقات من الجهات كلها: من شرق ومن غرب ومن شمال ومن جنوب ومن فوق ومن تحت ومن وسط.. من فتح ومن حماس ومن الجبهات ومن الحزب، ومن المنتمي ومن اللامنتمي. من أخي ومن أختي ورحم الله أبي وأمي ومن أقاربي وأصدقائي وزملائي و... و... .
"أنا سأكتب قصة عنوانها: رسائل غادة السمّان إلى غسّان كنفاني، سأوظف فيها رسائل فتاة. طبعاً سيكون للخيال دور فيها. ليل الشتاء طويل كليل الضفة. لا أحب قصص كثير عزة وجميل. أسامحك حين تفصح.. ين.. أأنت هنا؟ في نابلس؟".
"أنا مواليد دبي سكان رام الله والأصل جنين وبحبّ كثير أهل نابلس لأنهم خوالنا. سامحني" (يكتب الشخص بالعامية أحياناً).
"لا فائدة. أعوّد أصابعي على النقر. تصبح.. ين على وطن من سحاب ومن شجر: أهل جنين قتلوا جوليانو.. اللهم يسّر.. سامحتك غصباً، لقول مظفر: هذا الفتى البهي من جنين/ حذاؤه أشرف منهم جملة ومفرداً/ هيهات أن يلين".
في الصباح أتذكّر قصة (اشتيفان زفايج). تذكرني (بون) بعبير وبأستاذ الاستشراق وبكاترينا والموز. "رسالة من امرأة مجهولة:
Stefan Zweig, Deutschland. Guten morgen"
"إعراب الورد فاعل للعجايب يرفع المتاعب ويُهدى لأغلى الحبايب.. صباح الورد". فأتذكر صديقي الدكتور علي حبايب.
وأنا في الجامعة أنظر في أعمال (اشتيفان زفايج) وآخذها معي إلى البيت، أريها لأحد زملائي. كانت الحروف الأولى من اسم المؤلف واسم القصص مطبوعة بحرف بارز لافت مغاير لبقية الحروف، وفي المساء تأتيني الرسالة التالية:
"يا قمـ R يلـ E عيونـ K حلويـ N ومخلـ E النا S ورا K دايخيـ N صباحـ K عسـ L ومسا K ياسميـ N.. بون بون". ليست كتابة عربيزية. حروف بالعربية والحرف الأخير بالإنجليزية. وسأكتب: "Koennen Sie Deutsch Lesen Ich habe manche Buecher, die ich nicht brauche"
وأتذكر سلام. سلام ذات الشال التوتي اللامع، لا سلام فياض.

أحياناً أكون ذكياً.. أحياناً أكون غبياً
حقاً إنني فكرت، قبل أن تصلني الرسائل البلفونية، حقاً إنني فكرت أن أكتب تحت هذا العنوان. ما من رواية تركت أثراً فيّ مثل رواية إميل حبيبي "المتشائل" (1974): كنت أحسبك حماراً فإذا أنت أحمر" ويبدو أنني لم أكن حماراً، قدر ما كنت أحمر أو مستفيداً من بعض أصدقاء يساريين أو من أفكار يسارية: الحق والقانون، لا التسرع والطيش. من أين أفاد إميل في سخريته؟ من مقامات بديع الزمان الهمذاني؟ "زج الزمان بحمق/ إن الزمان زبون/ لا تخدعن بعقل/ ما العقل إلاّ الجنون" أم من (يا روسلاف هاتشيك): "الجندي الطيب شفايك"، أم أن هناك جينات ورثها عن آبائه وأجداده؟
أنا شخص أكاديمي اضطررت كذا مرة للتعامل مع حرفيين. من كان يستغفل الآخر فينا؟ الحرفيون أم أنا؟ وسأكتشف أنني أحياناً كثيرةً كنت غفلاً، بلا تجارب، ثم غدوت صاحب تجارب، ومع ذلك أحياناً تفوتني أشياء وأشياء، ما يجعلني أحياناً أبدو مازوخياً يتلذّذ بشتم الذات.
كم من معلم بناء حاول أن يستغفلني ثم تنبّهت فيما بعد إلى ألاعيبه وأحابيله، وحكّمت آخرين بيننا. معلم البناء الأول لم يشرح لي الفرق بين العرقة المدلّية في السقف والعرقة المخفية، وحين جاءت ساعة الحساب حسب المتر مترين، وحين سألت، قال لي بنّاؤون آخرون: هذا إذا شرح لك واتفقتم، وهكذا لم أدفع له المتر مترين. وكم من كهربائي زاد في عدد النقاط دون أن يوضح لي ذلك مسبقاً! هل كنت أنصب حين كنت أدافع عن حقي؟ وحين يسألني رجل المخابرات الإسرائيلية، ذات زمن مضى، عن أصدقائي، أعدد له أسماء كل من أعرف من المخيم. وما الذي أنجاني من موت ذات نهار؟ سألني الإيراني إن كنت عربياً، فقلت له: إنني تركي.
أحياناً أكون ذكياً فأنجو، أحياناً أكون غفلاً فأدفع ثمناً باهظاً. ترى هل أراد/ت صاحب/ة الرسائل أن تستغفلني؟ وأحياناً أغبط الحمار، لأنه حمار في عالم يعتقد كل من فيه أنه الأذكى. أحياناً.

أ. د. عادل الأسطة
2011-11-27


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى