في كتابي "أسئلة الرواية العربية: أولاد الغيتو..اسمي آدم إلياس خوري نموذجا" (بيروت، دار الآداب، 2018) توقفت أمام حضور محمود درويش في الأدب العربي والفلسطيني، وأعتقد أن ما كتبته يمكن أن يشكل مدخلا لأطروحة جامعية من الوزن الثقيل، إن أنجزها دارس مثقف وصبور. ودراسة تأثير الشاعر وعمله في أعمال الآخرين وفي مجتمعه فكرة أثيرة وأساسية في النقد الاجتماعي الماركسي.
وفكرة حضور محمود درويش وتأثيره في الأدب وفي الوعي السياسي والاجتماعي جالت عموما بأذهان كثر.
مرة اقترح علي الناقد فيصل دراج أن أكتب عن حضور محمود درويش في الوعي الشعبي الفلسطيني، وقد أنجزت كتابة مطولة نشرتها في جريدة "الأيام" الفلسطينية. ومرة ثانية اقترح بروفيسور إسرائيلي من جامعة (بار إيلان) - إن لم تخني الذاكرة - على طالبة من اللد أن تكتب عن تأثير محمود درويش في الوعي السياسي الفلسطيني، وقد أنجزت منى أطروحتها ولم أعد أعرف ماذا ألم بها، فقد أخبرتني أنها قد تنشرها.
تأثير محمود درويش في الوعي الفلسطيني ما زال قائما، والفلسطينيون يحتفلون كل عام في آذار بذكرى ميلاده الذي جعلوا منه يوم الثقافة الفلسطينية.
غاب الشاعر جسدا ولم يغب فكرا وشعرا، وما زال له تأثيره وحضوره.
قبل أشهر قليلة أصدر الروائي إلياس خوري الجزء الثاني من روايته "أولاد الغيتو: اسمي آدم "تحت عنوان" أولاد الغيتو 2: نجمة القلب" وكان لمدينة الشاعر الأولى، وهي حيفا، الحضور الأبرز فيها، وحيفا التي كتب إلياس عنها هي حيفا في 60 القرن العشرين، وفي هذه الفترة أقام الشاعر في المدينة وذاع صيته أدبيا وشخصيا أيضا.
ولو سألنا أنفسنا عن أشهر قصائد الشاعر التي كتبها في أثناء إقامته في حيفا لتوقفنا بالتأكيد أمام قصيدتين هما "سجل أنا عربي" و"ريتا والبندقية"، ولم تحقق القصيدتان انتشارا لحظيا وحسب، فما زالتا تحظيان بقراءة واسعة، وفاقت الثانية الأولى شهرة، ولذلك طبعا أسباب عديدة أبرزها أنها لحنت وغناها المغني اللبناني المعروف مارسيل خليفة، وبالإضافة إلى ما سبق أنها تعبر عن تجربة إنسانية بين اثنين من قوميتين متحاربتين، ومن الأسباب أن الشاعر لم يتخل عن القصيدة وأن المحبوبة أيضا لم تغب عن ذهنه شعريا، فقد عاد بعد أكثر من 20 عاما ليكتب عنها من جديد قصيدة أجمل من الأولى "شتاء ريتا الطويل" ليستحضر العلاقة مع ريتا في زمن آخر.
ربطت إلياس خوري بالشاعر علاقة أدبية وفكرية وشخصية، فقد التقى الاثنان في بيروت وعملا معا في مركز الأبحاث الفلسطيني وفي مجلة "شؤون فلسطينية" ومجلة "الكرمل" وكتب إلياس العديد من الدراسات حول أشعار الشاعر.
تحضر أشعار درويش في روايات خوري. وفي "أولاد الغيتو "بجزأيها تحضر تأويلات نقدية وآراء ظاهراتية فيها، من خلال شخصيات روائية يختفي إلياس وراءها، فما يرد على لسان الشخصيات الروائية يرد في دراسات إلياس ومقالاته.
وبما أن الموضوع الفلسطيني هو موضوع "أولاد الغيتو" بجزأيها، وبما أن أحداث الرواية يجري قسمها الأكبر في فلسطين في الفترة التي عاصرها الشاعر، فإن حضور بعض تجاربه يحضر في الرواية، وأبرز تجربة وأكثرها شهرة هي علاقة الحب التي ربطته بالفتاة اليهودية التي كتب فيها القصائد. أنها ريتا الدال الرمزي لفتيات يهوديات عرفهن الشاعر.
في كتابة سابقة عن رواية "أولاد الغيتو 2: نجمة البحر" عقدت مقارنة بينها وبين رواية (ا.ب.يهوشع) "العاشق" وقلت، إن الثانية "العاشق" مكون أساسي من مكونات الأولى "نجمة" (انظر الأيام الفلسطينية/ شباط)، ولسوف يستحضر العاشقان في الرواية علاقة درويش بريتا، ويستطيع المرء أن يوازن بين العلاقتين؛ علاقة درويش بريتا وعلاقة آدم برفقة، ويلحظ تقاطعات عديدة أبرزها ما آلت إليه العلاقة وسبب هذا المآل.
في إحدى المقابلات مع محمود درويش قال، إنه أقام مرة علاقة مع فتاة يهودية قبلتها الأم - العلاقة - ورفضها الأب (انظر كتابي "أدب المقاومة "1998)، ومرة ثانية قال، إن سبب فشل العلاقة يعود إلى التحاق الفتاة بالجيش الإسرائيلي، فكيف يراها تقتل أبناء شعبه ويستمر معها في علاقة، وهو ما عبر عنه في قوله، "بين ريتا وعيوني بندقية"، وفي قوله، إن اللقاء يمكن أن يتواصل "حين ينمو البنفسج في قبعات الجنود" وفي قوله، في "شتاء ريتا الطويل": "عن حلمين يتقاطعان؛ فواحد يستل سكينا وآخر يودع الناي الوصايا" - لنلاحظ "حلمين يتقاطعان". فما هو سبب فشل علاقة آدم برفقة؟
كانت رفقة أرادت علاقة حب لا تنتهي بزواج؛ فهي تعرف أباها غابرييل. يشغل العمال العرب ويعطيهم أجورهم ويأكل معهم وقد تبنى آدم ليعوض أخاه شلومو الذي سقط في معارك حيفا، أما أن يزوجه ابنته رفقة، فهذا ما لا يحتمل، وهنا يصبح العرب عرقا آخر؛ عرقا وسخا.
وتلتحق رفقة بالجيش؛ فيكون الانفصال.
تتجسد نهاية العلاقة تحت عنوان هو "الممحاة" ويقع في القسم الثاني من الرواية ("عشاق حيفا" في الصفحة 190 حتى الصفحة 195). هنا يوظف إلياس خوري الحلم.
يتذكر آدم رفقة، بعد 40 عاما، وهو في نيويورك، ويأتي على علاقتهما معا، ويذكر أنه خلال دراسته في جامعة حيفا لم يلتق بها إلا مرة. ويذكر أيضا أنه خلال الأربعين سنة على لقائه الأخير بها "لم يكن جادا في البحث "عنها، ويتساءل: "كيف استطاعت رفقة أن تمحوه؟".
حين كان يعمل في حيفا، في فرن عبلة، حلم بأنهما - هو ورفقة - يلتقيان فـ"مد يده كي يمسك بيدها، فسحبتها، وفتحت حقيبتها الجلدية وأخرجت منها ممحاة. أمسكت بالممحاة التي كانت بحجم كفها وانحنت فوق آدم وبدأت تمحوه، محت يده، ثم محت قدميه، واقتربت الممحاة من شفتيه، فحاول أن يعضها بأسنانه التي تساقطت عندما لمستها الممحاة".
ثمة دلالة رمزية لا شك وسوف يقرر آدم "أن يتوقف عن حب رفقة" وتلتحق هي بالجيش.
يخترع آدم فصلا من خياله حول نهاية العلاقة "لكنه صار حقيقيا أكثر من الحقيقة" (194).
يتخيل أنه التقى برفقة وأنها أخبرته أن أباها قد سامحه، وأنها هي فكرت فيه كثيرا فيجيب:
"أنا محوتك، اشتريت ممحاة ومحوتك بها" (195):
"وأخرج آدم من جيبه ممحاة صغيرة.
ضحكت رفقة، وقالت إن فكرة الممحاة غريبة.
"لماذا تمحوني؟" سألت.
"أنا لا أحب ثيابك العسكرية".
"أرأيت؟ كان غابرييل على حق.."
"لا، محمود درويش على حق"
"لم أفهم"، قالت.
"لن تفهمي، ولا أريدك أن تفهمي، لأني أخاف عليك".
أدار آدم ظهره ومضى، وفكر في أن عليه أن يمحو البذلة العسكرية من الصورة. ورفقة ليست ريتا التي سيكتبها محمود درويش، وهو لن يصلي لعيون عسلية تحجبها بندقية، كما أنه لا يريد لهذه الفتاة الرقيقة أن تقتل طفلا عربيا كي تفهم" (195).
وسواء أكانت رفقة هي ريتا محمود درويش أم لم تكن فإن ظلال حكاية الشاعر مع ريتا تحضر حضورا لافتا.
ربما تروق هذه الكتابة لفيصل دراج وربما أكون أنجزت ما طلبه، ولكن الكتاب الذي قرر إصداره عن الشاعر لم يصدر.
أ. د. عادل الأسطة
2019-03-03
وفكرة حضور محمود درويش وتأثيره في الأدب وفي الوعي السياسي والاجتماعي جالت عموما بأذهان كثر.
مرة اقترح علي الناقد فيصل دراج أن أكتب عن حضور محمود درويش في الوعي الشعبي الفلسطيني، وقد أنجزت كتابة مطولة نشرتها في جريدة "الأيام" الفلسطينية. ومرة ثانية اقترح بروفيسور إسرائيلي من جامعة (بار إيلان) - إن لم تخني الذاكرة - على طالبة من اللد أن تكتب عن تأثير محمود درويش في الوعي السياسي الفلسطيني، وقد أنجزت منى أطروحتها ولم أعد أعرف ماذا ألم بها، فقد أخبرتني أنها قد تنشرها.
تأثير محمود درويش في الوعي الفلسطيني ما زال قائما، والفلسطينيون يحتفلون كل عام في آذار بذكرى ميلاده الذي جعلوا منه يوم الثقافة الفلسطينية.
غاب الشاعر جسدا ولم يغب فكرا وشعرا، وما زال له تأثيره وحضوره.
قبل أشهر قليلة أصدر الروائي إلياس خوري الجزء الثاني من روايته "أولاد الغيتو: اسمي آدم "تحت عنوان" أولاد الغيتو 2: نجمة القلب" وكان لمدينة الشاعر الأولى، وهي حيفا، الحضور الأبرز فيها، وحيفا التي كتب إلياس عنها هي حيفا في 60 القرن العشرين، وفي هذه الفترة أقام الشاعر في المدينة وذاع صيته أدبيا وشخصيا أيضا.
ولو سألنا أنفسنا عن أشهر قصائد الشاعر التي كتبها في أثناء إقامته في حيفا لتوقفنا بالتأكيد أمام قصيدتين هما "سجل أنا عربي" و"ريتا والبندقية"، ولم تحقق القصيدتان انتشارا لحظيا وحسب، فما زالتا تحظيان بقراءة واسعة، وفاقت الثانية الأولى شهرة، ولذلك طبعا أسباب عديدة أبرزها أنها لحنت وغناها المغني اللبناني المعروف مارسيل خليفة، وبالإضافة إلى ما سبق أنها تعبر عن تجربة إنسانية بين اثنين من قوميتين متحاربتين، ومن الأسباب أن الشاعر لم يتخل عن القصيدة وأن المحبوبة أيضا لم تغب عن ذهنه شعريا، فقد عاد بعد أكثر من 20 عاما ليكتب عنها من جديد قصيدة أجمل من الأولى "شتاء ريتا الطويل" ليستحضر العلاقة مع ريتا في زمن آخر.
ربطت إلياس خوري بالشاعر علاقة أدبية وفكرية وشخصية، فقد التقى الاثنان في بيروت وعملا معا في مركز الأبحاث الفلسطيني وفي مجلة "شؤون فلسطينية" ومجلة "الكرمل" وكتب إلياس العديد من الدراسات حول أشعار الشاعر.
تحضر أشعار درويش في روايات خوري. وفي "أولاد الغيتو "بجزأيها تحضر تأويلات نقدية وآراء ظاهراتية فيها، من خلال شخصيات روائية يختفي إلياس وراءها، فما يرد على لسان الشخصيات الروائية يرد في دراسات إلياس ومقالاته.
وبما أن الموضوع الفلسطيني هو موضوع "أولاد الغيتو" بجزأيها، وبما أن أحداث الرواية يجري قسمها الأكبر في فلسطين في الفترة التي عاصرها الشاعر، فإن حضور بعض تجاربه يحضر في الرواية، وأبرز تجربة وأكثرها شهرة هي علاقة الحب التي ربطته بالفتاة اليهودية التي كتب فيها القصائد. أنها ريتا الدال الرمزي لفتيات يهوديات عرفهن الشاعر.
في كتابة سابقة عن رواية "أولاد الغيتو 2: نجمة البحر" عقدت مقارنة بينها وبين رواية (ا.ب.يهوشع) "العاشق" وقلت، إن الثانية "العاشق" مكون أساسي من مكونات الأولى "نجمة" (انظر الأيام الفلسطينية/ شباط)، ولسوف يستحضر العاشقان في الرواية علاقة درويش بريتا، ويستطيع المرء أن يوازن بين العلاقتين؛ علاقة درويش بريتا وعلاقة آدم برفقة، ويلحظ تقاطعات عديدة أبرزها ما آلت إليه العلاقة وسبب هذا المآل.
في إحدى المقابلات مع محمود درويش قال، إنه أقام مرة علاقة مع فتاة يهودية قبلتها الأم - العلاقة - ورفضها الأب (انظر كتابي "أدب المقاومة "1998)، ومرة ثانية قال، إن سبب فشل العلاقة يعود إلى التحاق الفتاة بالجيش الإسرائيلي، فكيف يراها تقتل أبناء شعبه ويستمر معها في علاقة، وهو ما عبر عنه في قوله، "بين ريتا وعيوني بندقية"، وفي قوله، إن اللقاء يمكن أن يتواصل "حين ينمو البنفسج في قبعات الجنود" وفي قوله، في "شتاء ريتا الطويل": "عن حلمين يتقاطعان؛ فواحد يستل سكينا وآخر يودع الناي الوصايا" - لنلاحظ "حلمين يتقاطعان". فما هو سبب فشل علاقة آدم برفقة؟
كانت رفقة أرادت علاقة حب لا تنتهي بزواج؛ فهي تعرف أباها غابرييل. يشغل العمال العرب ويعطيهم أجورهم ويأكل معهم وقد تبنى آدم ليعوض أخاه شلومو الذي سقط في معارك حيفا، أما أن يزوجه ابنته رفقة، فهذا ما لا يحتمل، وهنا يصبح العرب عرقا آخر؛ عرقا وسخا.
وتلتحق رفقة بالجيش؛ فيكون الانفصال.
تتجسد نهاية العلاقة تحت عنوان هو "الممحاة" ويقع في القسم الثاني من الرواية ("عشاق حيفا" في الصفحة 190 حتى الصفحة 195). هنا يوظف إلياس خوري الحلم.
يتذكر آدم رفقة، بعد 40 عاما، وهو في نيويورك، ويأتي على علاقتهما معا، ويذكر أنه خلال دراسته في جامعة حيفا لم يلتق بها إلا مرة. ويذكر أيضا أنه خلال الأربعين سنة على لقائه الأخير بها "لم يكن جادا في البحث "عنها، ويتساءل: "كيف استطاعت رفقة أن تمحوه؟".
حين كان يعمل في حيفا، في فرن عبلة، حلم بأنهما - هو ورفقة - يلتقيان فـ"مد يده كي يمسك بيدها، فسحبتها، وفتحت حقيبتها الجلدية وأخرجت منها ممحاة. أمسكت بالممحاة التي كانت بحجم كفها وانحنت فوق آدم وبدأت تمحوه، محت يده، ثم محت قدميه، واقتربت الممحاة من شفتيه، فحاول أن يعضها بأسنانه التي تساقطت عندما لمستها الممحاة".
ثمة دلالة رمزية لا شك وسوف يقرر آدم "أن يتوقف عن حب رفقة" وتلتحق هي بالجيش.
يخترع آدم فصلا من خياله حول نهاية العلاقة "لكنه صار حقيقيا أكثر من الحقيقة" (194).
يتخيل أنه التقى برفقة وأنها أخبرته أن أباها قد سامحه، وأنها هي فكرت فيه كثيرا فيجيب:
"أنا محوتك، اشتريت ممحاة ومحوتك بها" (195):
"وأخرج آدم من جيبه ممحاة صغيرة.
ضحكت رفقة، وقالت إن فكرة الممحاة غريبة.
"لماذا تمحوني؟" سألت.
"أنا لا أحب ثيابك العسكرية".
"أرأيت؟ كان غابرييل على حق.."
"لا، محمود درويش على حق"
"لم أفهم"، قالت.
"لن تفهمي، ولا أريدك أن تفهمي، لأني أخاف عليك".
أدار آدم ظهره ومضى، وفكر في أن عليه أن يمحو البذلة العسكرية من الصورة. ورفقة ليست ريتا التي سيكتبها محمود درويش، وهو لن يصلي لعيون عسلية تحجبها بندقية، كما أنه لا يريد لهذه الفتاة الرقيقة أن تقتل طفلا عربيا كي تفهم" (195).
وسواء أكانت رفقة هي ريتا محمود درويش أم لم تكن فإن ظلال حكاية الشاعر مع ريتا تحضر حضورا لافتا.
ربما تروق هذه الكتابة لفيصل دراج وربما أكون أنجزت ما طلبه، ولكن الكتاب الذي قرر إصداره عن الشاعر لم يصدر.
أ. د. عادل الأسطة
2019-03-03