مر عام على رحيل الشاعر محمود درويش. هكذا مر مروراً سريعاً. سأسأل أنا نفسي: هل حقاً رحل الشاعر؟ لو قمت بإحصاء دفاتري التي كتبتها في هذه الزاوية، وضمنتها أسطراً شعرية مما كتبه، للاحظت أنها تحفل بالكثير من أشعاره. هذا يعني أن الشاعر رحل جسداً، ولم يرحل روحاً وشعراً. هل سيكون الدهر من رواة قصائده، مثله مثل المتنبي؟ من يدري؟!
في العام المنصرم أنجزت دراسة عن أشعاره ألقيتها في مؤتمر جامعة بيرزيت (11/3/2009) عنوانها: محمود درويش وأبو فراس الحمداني. كانت بذرة الدراسة قائمة في دراسة سابقة عنوانها: إشكالية الشاعر والسياسي في الأدب الفلسطيني: محمود درويش نموذجاً. (1967)، وسأكتشف، حين أزور عمان وألقي دراسة ثانية أنجزتها أيضاً عن أشعار الشاعر في العام الحالي، وعنوانها: سلطة اللغة ولغة السلطة، سأكتشف أن الدكتور ابراهيم خليل أنجز دراسة عن درويش وأبي فراس، وسينشرها في كتاب أهداني إياه عنوانه: من معالم الشعر الحديث في فلسطين والأردن (2006). لم يطلع د. ابراهيم خليل على دراستي الأولى، ولم أطلع أنا على دراسته أيضاً. هل سأصدم لأنني كررت الكتابة في موضوع كتب فيه؟ بالطبع لا، فالكتابة مختلفة كلياً، وما يسعفني أن نظرية التلقي الألمانية تقول: إن قراءة نص واحد تختلف من قارئ لقارئ، بل إنها تختلف من القارئ نفسه حين يقرأها في زمنين مختلفين، وما يسعفني أيضاً أن أشعار درويش نفسه، بخاصة بعد خروجه من الأرض المحتلة، غدت قابلة لغير تأويل، خلافاً لأشعاره الأولى التي كتبها يوم كان في الحزب الشيوعي. يومها لم يكن درويش يكتب قصيدة قابلة لقراءات عديدة، بل كانت قصائده وقصائد رفاقه في الحزب كأنها قصيدة واحدة، وهذا ما أقر به هو في المقابلات التي أجريت معه. كأنما كانوا يصوغون خطاب الحزب السياسي شعراً.
سألقي دراستي الثانية عن درويش: سلطة اللغة ولغة السلطة، في ندوة ومؤتمرين، في منتدى تنوير في نابلس، وفي جامعة النجاح الوطنية، وفي الجامعة الأردنية أيضاً، وسأنشرها في مواقع عديدة، تنشرها مواقع أخرى عنها. وستجد صدى ونقاشاً. فهل غاب الشاعر حقاً؟
مرة كتبت مقالة عنوانها: أنا وحتى وأشعار محمود درويش، قلت فيها إن أشعاره لي مثل حتى لعلماء اللغة والنحو. بعضهم مات وفي نفسه شيء من حتى، ولعلني سأموت وفي نفسي قول شيء عن أشعاره لم أقله. كنت أود هذا العام أن أشارك في مؤتمر جامعة فيلادلفيا، مؤتمر التواصل، لأكتب عن التواصل في أشعار درويش، ولكني حفرت قبري بيدي حين اقترحت على منظمي المؤتمر أن يتيحوا الفرصة لمشاركين جدد، وقد أخذوا على ما يبدو برأيي، وآثروا اختيار مشاركين جدداً، وأما أنا فكنت شاركت في مؤتمر العام المنصرم. هل سينتهي العام دون أن أكتب دراسة ثالثة عن أشعار درويش؟ لا أدري.
سيرسل لي د. هيثم سرحان، من جامعة فيلادلفيا، رسالة يخبرني فيها عن مؤتمر سيعقد في جامعة ابن زهر في أكادير في المغرب عن اللغة واللسانيات، وسيروق لي محور من محاوره أعتقد أنني سأقول فيه أشياء معقولة، لأعتمد فيها على أشعار محمود درويش. هل سأشارك في المؤتمر وأنجز الدراسة؟ ربما. ألم أكتب: سأموت وفي نفسي شيء عن أشعار الشاعر لم أقله؟
وأعتقد أن علاقتي بأشعار الشاعر هي عشرة عمر، والتعبير هذا مأخوذ من دعاية عن مارتديلا السنيورة. كانت قراءتي الأولى لأشعاره، وربما ذكرت هذا مراراً، في العام .1973 درسني د. هاشم ياغي، شفاه الله، قصيدة: جندي يحلم بالزنابق البيضاء، ومنذ ذلك اليوم أخذت أقرأ أشعاره، حتى إذا ما عثرت، في عمان، على نسخة من ديوان الوطن المحتل الذي أعده الشاعر يوسف الخطيب، لازمتني، أشعار الشاعر، كما لازمت أشعار المتنبي محمود درويش، ودون أن أعرف أن الشاعر سيكتب، فيما بعد، النصيحة التالية لشاعر شاب:
"إذا أردت مبارزة النسر حلق معه" (لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، ص142)
سأجدني أحلق مع النسر. مع محمود درويش. وسأكتب عنه وعن أشعاره مقالات ودراسات عديدة، سيلتفت إليها دارسون وشعراء كثيرون، سأغبط من بعضهم، وسأشتم من آخرين، وقد أحارب بسببها، فلسان حال من لم ترق له كتاباتي العديدة عن أشعار الشاعر: أليس هناك شعراء آخرون؟
وإذا كانت بعض كتبي ودراساتي عن الشاعر لاقت قبولاً وترحيباً من دور نشر ومجلات وجرائد، فإن قسماً آخر منها كان سيء الحظ، إذ لم يجد ناشراً حتى اللحظة، بخاصة كتاب: جدل الشعر والسياسة والذائقة: دراسة في ظاهرة الحزن والتغيير في أشعار محمود درويش.
في ذكرى محمود درويش كان لا بد من كتابة. ربطتني بأشعاره رابطة عميقة، خلافاً لعلاقتي به، فلم ألتق به إلا مراراً. ولا بد من كتابة ما.
في السياق ذاته: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي
في أيار زرت عمان لأشارك في مؤتمر اللغة واللسانيات في الجامعة الأردنية. كانت ورقتي عن أشعار درويش. ولما أخذت أتجول في مكتبات المدينة اشتريت ديوانه الأخير: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي (2009)، وكانت أكثر قصائده نشرت في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية. وقد قرأتها مراراً ودونت ملاحظات على النسخة التي أملكها، بل وأتيت على قصيدة: طللية البروة، غير أني لم أكتب عن الديوان، حتى اللحظة، دراسة مفصلة. ولا أدري سبباً لهذا، فسابقاً ما إن كان ديوان للشاعر يصدر حتى أجدني أبادر بالكتابة عنه. ولم ألاحظ كتابات كثيرة أيضاً عن الديوان. أيعود السبب إلى الديوان أم إلى وفاة الشاعر أم... أم...؟
في الديوان قصائد جميلة وجميلة جداً، وفيه خوض في موضوعات جديدة، فيما أرى، بخاصة تلك التي وقف فيها الشاعر على الأطلال. أنا أتيت على هذا الجانب وأنا أدرس علاقة درويش بامرئ القيس. لم يكن الشاعر في بداية حياته معجباً بامرئ القيس وبوقوفه على الأطلال، ولكنه، في نهاية حياته، سيقف هو نفسه على أطلال قريته البروة، وعلى أطلال سكة الحديد التي كانت تربط فلسطين بمصر، وسيكتب قصائد يقف فيها على الأطلال. وسيعلمه الزمن الحكمة، هو الذي لم تخل أشعاره من حكم، مثله مثل المتنبي، علماً بأنه حافظ على غنائيته حتى آخر قصائده.
من الحكم الجميلة التي توقفت أمامها وأنا أقرأ الديوان:
"أحب الحمار لأن الحمار أقل كراهية"
هل قال الشاعر هذا، حين لاحظ مدى كراهية الآخر لنا؟ أعني كراهية بعض اليهود في دولة إسرائىل للشعب الفلسطيني. ربما. ولم يكن ذكر الحمار في أشعار درويش يرد للمرة الأولى، فقد أورده من قبل مراراً. مرة، وأظن في ديوان: هي أغنية... هي أغنية )1986( أتى على ذكر حمار بلعام الذي بسببه يثأر منا أبناء العمومة، فهم منذ ألفي عام ما زالوا يتذكرونه، ويحللون قتلنا بسببه. ومرة، وأظن في خطب الدكتاتور الموزونة، أراد درويش أن يجعل من الحمار رمز علمنا. هل أورد هذا ساخراً أم جاداً؟ أم أنه أدرك في ديوان: حالة حصار (2002). الذاكرة تشيخ، وكل شيء يشيخ، ولم يرد محمود درويش لهذي القصيدة أن تنتهي... ها نحن نتابع الكتابة عن القصائد، فهل انتهت الأخيرة؟
في الذكرى الأولى لرحيل الشاعر، لا بد من كتابة حتى لو كانت قلقة ومبعثرة ومتشتتة وشظايا. لا بد.
في العام المنصرم أنجزت دراسة عن أشعاره ألقيتها في مؤتمر جامعة بيرزيت (11/3/2009) عنوانها: محمود درويش وأبو فراس الحمداني. كانت بذرة الدراسة قائمة في دراسة سابقة عنوانها: إشكالية الشاعر والسياسي في الأدب الفلسطيني: محمود درويش نموذجاً. (1967)، وسأكتشف، حين أزور عمان وألقي دراسة ثانية أنجزتها أيضاً عن أشعار الشاعر في العام الحالي، وعنوانها: سلطة اللغة ولغة السلطة، سأكتشف أن الدكتور ابراهيم خليل أنجز دراسة عن درويش وأبي فراس، وسينشرها في كتاب أهداني إياه عنوانه: من معالم الشعر الحديث في فلسطين والأردن (2006). لم يطلع د. ابراهيم خليل على دراستي الأولى، ولم أطلع أنا على دراسته أيضاً. هل سأصدم لأنني كررت الكتابة في موضوع كتب فيه؟ بالطبع لا، فالكتابة مختلفة كلياً، وما يسعفني أن نظرية التلقي الألمانية تقول: إن قراءة نص واحد تختلف من قارئ لقارئ، بل إنها تختلف من القارئ نفسه حين يقرأها في زمنين مختلفين، وما يسعفني أيضاً أن أشعار درويش نفسه، بخاصة بعد خروجه من الأرض المحتلة، غدت قابلة لغير تأويل، خلافاً لأشعاره الأولى التي كتبها يوم كان في الحزب الشيوعي. يومها لم يكن درويش يكتب قصيدة قابلة لقراءات عديدة، بل كانت قصائده وقصائد رفاقه في الحزب كأنها قصيدة واحدة، وهذا ما أقر به هو في المقابلات التي أجريت معه. كأنما كانوا يصوغون خطاب الحزب السياسي شعراً.
سألقي دراستي الثانية عن درويش: سلطة اللغة ولغة السلطة، في ندوة ومؤتمرين، في منتدى تنوير في نابلس، وفي جامعة النجاح الوطنية، وفي الجامعة الأردنية أيضاً، وسأنشرها في مواقع عديدة، تنشرها مواقع أخرى عنها. وستجد صدى ونقاشاً. فهل غاب الشاعر حقاً؟
مرة كتبت مقالة عنوانها: أنا وحتى وأشعار محمود درويش، قلت فيها إن أشعاره لي مثل حتى لعلماء اللغة والنحو. بعضهم مات وفي نفسه شيء من حتى، ولعلني سأموت وفي نفسي قول شيء عن أشعاره لم أقله. كنت أود هذا العام أن أشارك في مؤتمر جامعة فيلادلفيا، مؤتمر التواصل، لأكتب عن التواصل في أشعار درويش، ولكني حفرت قبري بيدي حين اقترحت على منظمي المؤتمر أن يتيحوا الفرصة لمشاركين جدد، وقد أخذوا على ما يبدو برأيي، وآثروا اختيار مشاركين جدداً، وأما أنا فكنت شاركت في مؤتمر العام المنصرم. هل سينتهي العام دون أن أكتب دراسة ثالثة عن أشعار درويش؟ لا أدري.
سيرسل لي د. هيثم سرحان، من جامعة فيلادلفيا، رسالة يخبرني فيها عن مؤتمر سيعقد في جامعة ابن زهر في أكادير في المغرب عن اللغة واللسانيات، وسيروق لي محور من محاوره أعتقد أنني سأقول فيه أشياء معقولة، لأعتمد فيها على أشعار محمود درويش. هل سأشارك في المؤتمر وأنجز الدراسة؟ ربما. ألم أكتب: سأموت وفي نفسي شيء عن أشعار الشاعر لم أقله؟
وأعتقد أن علاقتي بأشعار الشاعر هي عشرة عمر، والتعبير هذا مأخوذ من دعاية عن مارتديلا السنيورة. كانت قراءتي الأولى لأشعاره، وربما ذكرت هذا مراراً، في العام .1973 درسني د. هاشم ياغي، شفاه الله، قصيدة: جندي يحلم بالزنابق البيضاء، ومنذ ذلك اليوم أخذت أقرأ أشعاره، حتى إذا ما عثرت، في عمان، على نسخة من ديوان الوطن المحتل الذي أعده الشاعر يوسف الخطيب، لازمتني، أشعار الشاعر، كما لازمت أشعار المتنبي محمود درويش، ودون أن أعرف أن الشاعر سيكتب، فيما بعد، النصيحة التالية لشاعر شاب:
"إذا أردت مبارزة النسر حلق معه" (لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، ص142)
سأجدني أحلق مع النسر. مع محمود درويش. وسأكتب عنه وعن أشعاره مقالات ودراسات عديدة، سيلتفت إليها دارسون وشعراء كثيرون، سأغبط من بعضهم، وسأشتم من آخرين، وقد أحارب بسببها، فلسان حال من لم ترق له كتاباتي العديدة عن أشعار الشاعر: أليس هناك شعراء آخرون؟
وإذا كانت بعض كتبي ودراساتي عن الشاعر لاقت قبولاً وترحيباً من دور نشر ومجلات وجرائد، فإن قسماً آخر منها كان سيء الحظ، إذ لم يجد ناشراً حتى اللحظة، بخاصة كتاب: جدل الشعر والسياسة والذائقة: دراسة في ظاهرة الحزن والتغيير في أشعار محمود درويش.
في ذكرى محمود درويش كان لا بد من كتابة. ربطتني بأشعاره رابطة عميقة، خلافاً لعلاقتي به، فلم ألتق به إلا مراراً. ولا بد من كتابة ما.
في السياق ذاته: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي
في أيار زرت عمان لأشارك في مؤتمر اللغة واللسانيات في الجامعة الأردنية. كانت ورقتي عن أشعار درويش. ولما أخذت أتجول في مكتبات المدينة اشتريت ديوانه الأخير: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي (2009)، وكانت أكثر قصائده نشرت في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية. وقد قرأتها مراراً ودونت ملاحظات على النسخة التي أملكها، بل وأتيت على قصيدة: طللية البروة، غير أني لم أكتب عن الديوان، حتى اللحظة، دراسة مفصلة. ولا أدري سبباً لهذا، فسابقاً ما إن كان ديوان للشاعر يصدر حتى أجدني أبادر بالكتابة عنه. ولم ألاحظ كتابات كثيرة أيضاً عن الديوان. أيعود السبب إلى الديوان أم إلى وفاة الشاعر أم... أم...؟
في الديوان قصائد جميلة وجميلة جداً، وفيه خوض في موضوعات جديدة، فيما أرى، بخاصة تلك التي وقف فيها الشاعر على الأطلال. أنا أتيت على هذا الجانب وأنا أدرس علاقة درويش بامرئ القيس. لم يكن الشاعر في بداية حياته معجباً بامرئ القيس وبوقوفه على الأطلال، ولكنه، في نهاية حياته، سيقف هو نفسه على أطلال قريته البروة، وعلى أطلال سكة الحديد التي كانت تربط فلسطين بمصر، وسيكتب قصائد يقف فيها على الأطلال. وسيعلمه الزمن الحكمة، هو الذي لم تخل أشعاره من حكم، مثله مثل المتنبي، علماً بأنه حافظ على غنائيته حتى آخر قصائده.
من الحكم الجميلة التي توقفت أمامها وأنا أقرأ الديوان:
"أحب الحمار لأن الحمار أقل كراهية"
هل قال الشاعر هذا، حين لاحظ مدى كراهية الآخر لنا؟ أعني كراهية بعض اليهود في دولة إسرائىل للشعب الفلسطيني. ربما. ولم يكن ذكر الحمار في أشعار درويش يرد للمرة الأولى، فقد أورده من قبل مراراً. مرة، وأظن في ديوان: هي أغنية... هي أغنية )1986( أتى على ذكر حمار بلعام الذي بسببه يثأر منا أبناء العمومة، فهم منذ ألفي عام ما زالوا يتذكرونه، ويحللون قتلنا بسببه. ومرة، وأظن في خطب الدكتاتور الموزونة، أراد درويش أن يجعل من الحمار رمز علمنا. هل أورد هذا ساخراً أم جاداً؟ أم أنه أدرك في ديوان: حالة حصار (2002). الذاكرة تشيخ، وكل شيء يشيخ، ولم يرد محمود درويش لهذي القصيدة أن تنتهي... ها نحن نتابع الكتابة عن القصائد، فهل انتهت الأخيرة؟
في الذكرى الأولى لرحيل الشاعر، لا بد من كتابة حتى لو كانت قلقة ومبعثرة ومتشتتة وشظايا. لا بد.
في ذكرى محمود درويش - عادل الأسطة -
www.al-ayyam.ps