هل ترك محمود درويش أثراً على أحلام مستغانمي؟ هل يعثر قارئ رواياتها على تأثر ما بالشاعر؟ سؤال أثَرته وأنا أقرأ رواياتها الأولى "ذاكرة الجسد" (1993)، ورواياتها اللاحقة، وتحديداً الأخيرة "الأسود يليق بك" (2012).
قد يقول قائل: إن الأمر يعود إلى عشقي لأشعار درويش وكثرة الكتابة عنها، وقد يذهب إلى أنني لا أرى سواه، كأنه الأصل وغيره الفروع. قد .. قد.
حين أشرفت على رسالة ماجستير عنوانها "تأثير الرواية الجزائرية في الرواية الفلسطينية" اقترحت على الطالبة أن تشير إلى تأثر الروائية الجزائرية بالشعر الفلسطيني، وتحديداً فيما يخص كتابة أحلام عن المدينة، وأن تلحظ صورة المدينة في أشعار محمود درويش، وتحديداً قصيدته "حوار مع مدينة" التي أعاد نشرها في ديوان "محاولة رقم 7" تحت عنوان آخر "بين حلمي واسمه كان موتي بطيئاً".
هل شطط فيما اقترحته؟
الروائية تركت أثراً لافتاً على روائي فلسطيني هو يوسف العيلة الذي كتب "غزل الذاكرة" فأفاد من عنوان "ذاكرة الجسد" ومن أسلوبها، أيضاً، وهذا كان موضوع كتابة رائدة ياسين طالبة الماجستير.
وأنا أقرأ "الأسود يليق بك" لاحظت تأثر أحلام بدرويش في غير مكان وفي غير ظاهرة. لغة أحلام فيها قدر من المجاز والغموض، وتحتاج إلى قارئ يُمعن النظر فيما يقرأ، ويتوقف أمام ما يقرأ، وهذه سمة درويشية بامتياز، بخاصة في أشعاره بعد خروجه من الأرض المحتلة وأرى أن لغتها النثرية، هي التي بدأت شاعرة، لم تتخلّص من الشعر، مثل نثر درويش، أيضاً.
أكثر ما جعلني أتوقف أمام تأثرها بدرويش المشهد الذي جمع طلال هاشم الشخصية الذكورية المحورية في "الأسود يليق بك" وهالة الوافي الشخصية النسائية المحورية في الرواية بخاصة حين أراد أن ينالها وهما يقيمان في جناحي فندق في باريس.
سيشرب غير كأس حتى تفرغ الزجاجة هل يذكر قراء "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" لدرويش (1968) مشهد حوار درويش مع الجندي؟ أيضاً، ثمة كؤوس تدار، وثمة غير كأس يجرعها الجندي، والشاعر يصب له الخمر حتى يفرغ الجندي ما في داخله، كما أخرج طلال هاشم أسراره لهالة الوافي وهو يشرب كؤوس النبيذ. ربما لا توافقني أحلام مستغانمي فيما ذهبت إليه. ربما، غير أنها قراءة تؤيدها النظريات النقدية الحديثة التي تقول إن المعنى في بطن القارئ.
في السياق .. قريباً منه ..
أقرأ "الأسود يليق بك" فأحنّ إلى... في رواية مستغانمي الأخيرة، والراوية تروي عن والد هالة الوافي المطربة الصاعدة، أتذكر أبي وأحنّ إلى زمن مضى كانت الأسر فيه تجتمع في ساحة البيت، يوم كان للبيوت ساحات، ولم يكن نظام الشقق عامّاً طامّاً، بل وأتذكر الشاعر علي الخليلي وما قاله، ذات نهار، قبل بضعة أعوام في إحدى ندواته في نابلس عن المدينة في 40 و50 ق20. كانت نابلس أصغر، ولم تكن هناك تلفازات وشاشات كمبيوتر، وكان الناس يلتقون معاً أكثر، فيجلسون ويثرثرون ويحيون ساعات العصر، بل وساعات المساء بالطرب والغناء والرقص من كان صوته جميلاً يغني، من كان صوتها جميلاً تغني.
من كان يجيد الضرب على الطبل يقرع الطبل، ومن كان يجيد العزف على العود يعزف، ومن كان يجيد الرقص يرقص...
أتذكر عمي الأصغر كيف كان يرقص في أفراح العائلة ويضع النارجيلة على جبينه دون أن تقع.. يحرك يديه وجسده وهي ثابتة فيبهر الجميع.
منذ الانتفاضة الأولى بدأت تلك الأجواء تتلاشى. بدأت المدن تتحول إلى قرى محافظة تقريباً، بل إلى قرى تخلو من الحادي والمغني الشعبي، هل أخطأ محمود شقير فيما ذهب إليه حين كتب عن القدس ورام الله وترييف المدينتين؟ هل أخطأت سحر خليفة فيما كتبته، بعد زيارتها بيرزيت في العام 2004 تقريباً، عن جامعة بيرزيت وترييفها وتراجعها عما كانت عليه في 70 ق20؟
منذ أشهر كتبت مقالاً عن نابلس وخمّاراتها، وما زلت أحتفظ به ولم أنشره، وسأنشره حين تعوزني فكرة لكتابة مقال، تذكرت فيه خمّارات المدينة وأجواءها في 60 و70 ق20. ما عاد الآن في المدينة خمّارات، على الرغم من وجود غير مسلمين في المدينة.
هل هذا مؤشر على أننا نسير نحو الأفضل؟ هل غدا الناس ملائكة حتى المسيحيون منهم؟ هل غدو مسلمين؟ هل أدعو إلى الرذيلة؟
هناك مثل كان أبي يردده دائماً: الرأس اللّي ما فيه كيف حلال قطعه بالسيف، وكان أبي يحبّ الانبساط والسرور ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكثيراً ما حدثني عن عمي الشيخ محمد "بلبل يافا"، قبل أن يصاب بمسّ في عقله بسبب النكبة التي أبعدته عن ابنه وزوجته المصرية. وكان يحدثني عن محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وزيارتهما يافا.
بعض اليساريين كانوا يمدحون الملك حسين على الرغم مما فعله بهم في 50 و60 ق20 لماذا؟ لأنهم كانوا يرون أنه يمنحهم بعض حريات شخصية، قد لا يجدونها إذا ما سيطر المتشددون دينياً. وأنا أتابع أخبار ليبيا وسورية ومصر أخاف من المستقبل، لا لأنني أحب حكام تلك البلدان، فهم المسؤولون عما يجري، وإنما لأنني أتذكر بيت الشعر:
دعوت على عمرو، فمات فسرّني
فلما أتى زيد بكيت على عمرو
قد يقول قائل: إن الأمر يعود إلى عشقي لأشعار درويش وكثرة الكتابة عنها، وقد يذهب إلى أنني لا أرى سواه، كأنه الأصل وغيره الفروع. قد .. قد.
حين أشرفت على رسالة ماجستير عنوانها "تأثير الرواية الجزائرية في الرواية الفلسطينية" اقترحت على الطالبة أن تشير إلى تأثر الروائية الجزائرية بالشعر الفلسطيني، وتحديداً فيما يخص كتابة أحلام عن المدينة، وأن تلحظ صورة المدينة في أشعار محمود درويش، وتحديداً قصيدته "حوار مع مدينة" التي أعاد نشرها في ديوان "محاولة رقم 7" تحت عنوان آخر "بين حلمي واسمه كان موتي بطيئاً".
هل شطط فيما اقترحته؟
الروائية تركت أثراً لافتاً على روائي فلسطيني هو يوسف العيلة الذي كتب "غزل الذاكرة" فأفاد من عنوان "ذاكرة الجسد" ومن أسلوبها، أيضاً، وهذا كان موضوع كتابة رائدة ياسين طالبة الماجستير.
وأنا أقرأ "الأسود يليق بك" لاحظت تأثر أحلام بدرويش في غير مكان وفي غير ظاهرة. لغة أحلام فيها قدر من المجاز والغموض، وتحتاج إلى قارئ يُمعن النظر فيما يقرأ، ويتوقف أمام ما يقرأ، وهذه سمة درويشية بامتياز، بخاصة في أشعاره بعد خروجه من الأرض المحتلة وأرى أن لغتها النثرية، هي التي بدأت شاعرة، لم تتخلّص من الشعر، مثل نثر درويش، أيضاً.
أكثر ما جعلني أتوقف أمام تأثرها بدرويش المشهد الذي جمع طلال هاشم الشخصية الذكورية المحورية في "الأسود يليق بك" وهالة الوافي الشخصية النسائية المحورية في الرواية بخاصة حين أراد أن ينالها وهما يقيمان في جناحي فندق في باريس.
سيشرب غير كأس حتى تفرغ الزجاجة هل يذكر قراء "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" لدرويش (1968) مشهد حوار درويش مع الجندي؟ أيضاً، ثمة كؤوس تدار، وثمة غير كأس يجرعها الجندي، والشاعر يصب له الخمر حتى يفرغ الجندي ما في داخله، كما أخرج طلال هاشم أسراره لهالة الوافي وهو يشرب كؤوس النبيذ. ربما لا توافقني أحلام مستغانمي فيما ذهبت إليه. ربما، غير أنها قراءة تؤيدها النظريات النقدية الحديثة التي تقول إن المعنى في بطن القارئ.
في السياق .. قريباً منه ..
أقرأ "الأسود يليق بك" فأحنّ إلى... في رواية مستغانمي الأخيرة، والراوية تروي عن والد هالة الوافي المطربة الصاعدة، أتذكر أبي وأحنّ إلى زمن مضى كانت الأسر فيه تجتمع في ساحة البيت، يوم كان للبيوت ساحات، ولم يكن نظام الشقق عامّاً طامّاً، بل وأتذكر الشاعر علي الخليلي وما قاله، ذات نهار، قبل بضعة أعوام في إحدى ندواته في نابلس عن المدينة في 40 و50 ق20. كانت نابلس أصغر، ولم تكن هناك تلفازات وشاشات كمبيوتر، وكان الناس يلتقون معاً أكثر، فيجلسون ويثرثرون ويحيون ساعات العصر، بل وساعات المساء بالطرب والغناء والرقص من كان صوته جميلاً يغني، من كان صوتها جميلاً تغني.
من كان يجيد الضرب على الطبل يقرع الطبل، ومن كان يجيد العزف على العود يعزف، ومن كان يجيد الرقص يرقص...
أتذكر عمي الأصغر كيف كان يرقص في أفراح العائلة ويضع النارجيلة على جبينه دون أن تقع.. يحرك يديه وجسده وهي ثابتة فيبهر الجميع.
منذ الانتفاضة الأولى بدأت تلك الأجواء تتلاشى. بدأت المدن تتحول إلى قرى محافظة تقريباً، بل إلى قرى تخلو من الحادي والمغني الشعبي، هل أخطأ محمود شقير فيما ذهب إليه حين كتب عن القدس ورام الله وترييف المدينتين؟ هل أخطأت سحر خليفة فيما كتبته، بعد زيارتها بيرزيت في العام 2004 تقريباً، عن جامعة بيرزيت وترييفها وتراجعها عما كانت عليه في 70 ق20؟
منذ أشهر كتبت مقالاً عن نابلس وخمّاراتها، وما زلت أحتفظ به ولم أنشره، وسأنشره حين تعوزني فكرة لكتابة مقال، تذكرت فيه خمّارات المدينة وأجواءها في 60 و70 ق20. ما عاد الآن في المدينة خمّارات، على الرغم من وجود غير مسلمين في المدينة.
هل هذا مؤشر على أننا نسير نحو الأفضل؟ هل غدا الناس ملائكة حتى المسيحيون منهم؟ هل غدو مسلمين؟ هل أدعو إلى الرذيلة؟
هناك مثل كان أبي يردده دائماً: الرأس اللّي ما فيه كيف حلال قطعه بالسيف، وكان أبي يحبّ الانبساط والسرور ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكثيراً ما حدثني عن عمي الشيخ محمد "بلبل يافا"، قبل أن يصاب بمسّ في عقله بسبب النكبة التي أبعدته عن ابنه وزوجته المصرية. وكان يحدثني عن محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وزيارتهما يافا.
بعض اليساريين كانوا يمدحون الملك حسين على الرغم مما فعله بهم في 50 و60 ق20 لماذا؟ لأنهم كانوا يرون أنه يمنحهم بعض حريات شخصية، قد لا يجدونها إذا ما سيطر المتشددون دينياً. وأنا أتابع أخبار ليبيا وسورية ومصر أخاف من المستقبل، لا لأنني أحب حكام تلك البلدان، فهم المسؤولون عما يجري، وإنما لأنني أتذكر بيت الشعر:
دعوت على عمرو، فمات فسرّني
فلما أتى زيد بكيت على عمرو