محمد عبدالولي - لونُ المَطَر..

- هل أنت خائف ?
- لا, إنني أرتجف.. ربما ذلك من البرد.. أو...
وصمت قليلاً وراح يحملق في الفضاء أمامه, وعادت عيناه بعد أن اصطدمتا بقمم الجبال السوداء, التي تحتضن الوادي العميق, النائم في صمت خرافي, صمت خاله أبدياً, حتى وهو يردد صدى طلقات نارية بعيدة.
أنت جائع..?
- ربما, إنني لم أذق طعم أكل حقيقي منذ أيام بعيدة.
- والخبز...?
- لقد مللت منه...
- إيه... إنك مغفل, أتعرف.. إنني أتذوق له طعماً رائعاً? لقد مللت ما تسمونه أكلاً حقيقياً. عشرون عاماً, ذقت فيها كل شيء, من الثعابين الصينية حتى شربة الضفادع الافرنسية و...
- هل ستبدأ في قصة ذلك من جديد..?
- ولم.. لا, قد يمضي الليل سريعاً, فلا نشعر بالسأم.. أو الخوف..
- أو الجوع.. أليس كذلك..?
- ربما..
ودوت طلقة من بعيد رددها الأخدود, فارتجف.
ألم أقل لك إنك خائف...
أرجوك, إنني أشعر بالبرد فقط.
انظر: ألا تشعر بشيء جديد في هذه الليلة?
ما هو? قالها بصوت خائف...
لقد أمطرت السماء في النهار.
إذن?
ألا تشعر بلون المطر الذي غسل كل شيء.. حتى لون القمر...
وأشار بيده إلى القمر.
الأفضل أن تترك يدك على زناد بندقيتك...
أوه... ألا تنظر, ما أروع كل شيء..? هل تخيلت عمرك منظراً ساحراً كهذا.. القمر يرسل ضوءه كشلال المطر الذي تساقط نهاراً, حتى النجوم تشبه انطلاقة القطرات من السحب. إن للمطر لوناً لا تشعر به, إلا عندما توده, وتود تلك الأحياء التي يتساقط فيها, لم أكن أتأثر بالقمر أو بالمطر وأنا في الباخرة, كان ذلك يذكرني بالقرية, أنت لا تعرف معنى البحر أن تقضي فيه أعواماً, تشويك الشمس, ويلتهمك المساء بصمته, كنت مستعداً لدفع حياتي ثمناً لمنظر كهذا, ألا تلاحظ قمم الجبال المقابلة? إنها واضحة كل الوضوح, بكل تفاصيلها. أنظر هنالك, سأدفع حياتي ثمناً لهذا, يا إلهي, كنت أظنها مجرد مغامرة, أن أحمل السلاح وأمضي وأنشد أناشيد الثورة, كتلك التي أسمعها من عمال الموانئ في فرنسا, عن الثورة, ونابليون والمارسيلييز, ولكن هل رأوا شيئاً رائعاً كهذا? إن القمر يكشف لك كل شيء, نعم, كل شيء...
و.. ضغط على زناد بندقيته, وردد الجبل الصدى, وارتجف الجسد الممدد بجانبه.
- مالك.. هل جننت?
- لا.. لا شيء, القمر رائع, لقد هوى, ألم تلاحظ شيئاً? لذلك أنا أعشق القمر, الضوء الخافت, إنه لا يعطيك كل الصورة, الظلال تكفي, لا ترتجف هكذا يا عزيزي, أنت لم تتعود البرد في - عدن -, هناك الشمس مضيئة دائماً, ولكنها تثير الضيق أحياناً, أنت لم تر جبال الثلج عشرين عاماً عملت فيها ملاحاً, رأيت كل البحار, وسمعت كل الحكايات, إلا أن أكون جندياً في صفوف الثورة, تلك آخر أسطورة كنت أتصور حدوثها, ولكنها حدثت.
- إسمع يا عزيزي, لقد سمعت ذلك للمرة العشرين, ولكنك لأول مرة تثبت لي بأنك رامٍ جيد, لعله يتألم هناك, أو - لعله قد مات. لم ألاحظ أي شيء, لم أره إلا بعد أن هوى.
وصمت قليلاً, ثم قال:
ولكنك كنت تعيد علي كل ذلك من جديد, والقمر هو القمر, الذي يوجد في كل ليلة والنجم والأمطار.. لا شيء إلا أنني غرقت في الأوحال وأنا أطارد ذلك الأرنب اللعين ظهر اليوم, لقد كنت أرسم في مخيلتي مائدة لذيذة لأرنب مشوي, ولكني لم أجد سوى الخبز اليابس!
وهبت رياح باردة كان لها صرير وهي تعبر شقوق الأخدود, وردد الجبل صدى إنسان يصرخ.. لم يجب عليه أحد, فمات الصدى, وهوى إنسان في القاع, وارتطم حجر في الوادي العميق.
اسمع, اسمع.. هل تحس بشيء?
كان صوته خائفاً, وشد بقوة على البندقية.
لا تخف, إنه صوت هدير المياه, إنه السيل القادم من الشمال, كانت الغيوم تغطي كل المنطقة منذ الصباح, هذه المياه القادمة بصخب هي حصيلة الأمطار التي هطلت, ألا تشعر بصوتها العذب? يخيل إلي كأنه هدير جنود يزحفون إلى الهدف, دونما خوف, يمزقون الصمت والجبن, لقد تناسوا كل شيء, حتى وجودهم, إنه يندفعون, كل واحد يتشجع لأن آخرين بجانبه, لو كان وحيداً.. لفر.. ولكنهم جموع. أتدري, إنهم أكثر من شخص واحد, أتسمع ارتطامهم بالجبال? وحتى تساقط الأشجار لا يهمهم, إنهم يندفعون, كل واحد يشجع الآخرين, دونما خوف, دونما خوف.
وكان السيل قد بلغ الوادي, كانوا ممتدين على قمة الجبل وكان الماء يندفع بشدة وقد حمل أمامه أشياء كثيرة لم يلاحظوا منها شيئاً, والماء يرتفع وينخفض بعنف, وصوت ارتطامه يرتفع ويرتفع, حتى ظنوا بأنه سيلتهمهم. وضمهم صمت عميق والماء يمضي من تحتهم بعيداً, كثعبان أسطوري خرج فجأة من أعماق الجبال بعد سجن دام قروناً, وراح يحطم كل شيء..
ونحن أيضاً مثله, لا ندري ما يلتهم أمامنا, ولكننا نمضي بعنف, ولكوننا مجموعة فنحن لا نشعر بالخوف, لا يهمنا. ثم نرتطم, إنها البداية, والبداية عنيفة دونما حدود, كل شيء مباح وقانوني.. ما دمنا في النهاية سنسقي حقولاً, وما دمنا نعطي الصحراء لون اخضرار رائع, بساطاً من السعادة, إن اندفاعنا لن يستمر طويلاً, سنهدأ بعد قليل, ولكنا سنعطي الأرض لوناً آخر! حياة أخرى. وساد صمت. وكان القمر حنوناً. والسيل قد مضى بعيداً.
وماذا عنها? هل كتبت لها شيئاً?
مزقت كل شيء.. مع من سأرسل رسائلي? عدن.. إنها بعيدة الآن.. ما كان أغباني! قلت لها إنني سأكتب لها دائماً, لعلها تعتبرني الآن بطلاً, وتنتظر مني أن أحكي لها أساطير عن بطولاتي, إنها لن تصدق بأنني أرتجف عند سماع طلق ناري, وكأن الرصاص ينغرس في أعماقي, أنت أكبر مني, لقد رأيت عوالم فسيحة, ولعلك تسخر مني الآن.. أما أنا..
وضحك بحزن.
أنا مجرد طفل.. لا يجيد سوى الحساب والكتابة و.. التحدث عن الوطنية بحماس أجوف.. الشيء الكبير في حياتي هو أنني هنا. كنت مستعجلاً في قراري هذا, لو فكرت قليلاً, قليلاً فقط, لما كنت هنا - إنه الحماس, أنا الذي تحدث في الوطنية حتى مل الناس منه, وها هي ذي الثورة, كيف أقف بعيداً عنها? كثيرون قالوا لي تطوع, تطوع, وتطوعت, لم يمض على زواجي سوى أشهر, لم أفكر فيها, قال لي والدها, لا تخف,.. أنا هنا,.. وقال الأصدقاء, نحن هنا.. وها أنذا, ستخجل مني لو قلت لها ما هي الحرب, وما هو الخوف.. أقول لنفسي, إنني أخاف من أجلها. ولكني كاذب, إن طعم الحياة أشعر به هنا على لساني.. عند كل طلقة رصاص.
ودوى طلق ناري, وارتجف, وجفّ ريقه..
لقد هوى, إنهم ملاعين, يعرفون أن القمر يكشف القمم فيتسلقون الصخور, ويبحثون عن فجوات, ولكنه هوى, هل تشعر بشيء?
لا, لا.. إنني خائف حتى الموت..
لا, لا تقل ذلك, استمر في حديثك, كأن شيئاً لم يحدث...
أنت شخص آخر, قاتلت اليوم, وقاتلت من قبل, وربما أكثر من مرة.
ضحك البحار قائلاً: ومع أكثر من جهة, وبدون مبرر. أما اليوم, فأنا أحارب من أجل شيء. ربما كان ذلك هو لون المطر, في بلادنا. من قبل حاربت مع الإيطاليين, ثم عدت فحاربت مع الانجليز, ثم عملت مهرباً للأسلحة, ولكني لم أشعر بأي لذة, لم تكن الجبال, ولا القمر أو النجوم حتى ولا لون المطر في بلاد الناس تثيرني, كنت أحلم بهذا, هذا الهواء البارد, هذه القمم العارية, هؤلاء السخفاء المتسللين, صائدي الذهب والسلاح, والغباء, والحالمين بعيد الثورة, حلمت بكل هؤلاء, ولم أعرف بأنني, وتحت هذه الأمطار, أمطار بلادي, سأكون أنا صائداً, إيه يا بني.. عرفت أرصفة موانئ الدنيا كلها, نمت على حصاها, تشردت في أزقة مارسيليا, وكنت جائعاً, عملت أياماً وليالي, في مخازن الفحم, وعند لهيب الأفران, وتحت سماء مثلجة, عرفت معنى أن تحارب حرباً ليست هي حربك, صعب أن ترى وجوهاً جائعة, و.. الآن.. ألا تريدني أن أصرخ فرحاً هنا: (لكم أنا سعيد. لكم أنا سعيد?!) آه.. سأقص كل هذا, لكل الناس وفي كل مكان, آه لكم كنت أخجل أن أقول لهم من أين أنا, أما الآن, فلن أخجل مطلقاً, بل سأقص عليهم قصتك, ابن - عدن - النائم شبه عار وجائع, فوق قمم الجبال, في برد لم يعرف طعمه, يتغذى بالخبز وحده, ويحلم بأرنب مشوي, ويكتب رسائل خياليه لامرأة أكثر خيالاً.
إنني لا أكذب..
لم أقل لك ذلك, كل شيء هنا واقعي حتى أصبحت الواقعية لا تصدق!
عيناهما تبحث عن شيء أمامهما, شيء غير الصمت, أو لون المطر, شيء كانا يحسان بدبيب أقدامه يتقدم كنصل حاد يزرع الموت. وكان الوادي من تحتهما يمضي بعيداً وقد فقد قوته الأسطورية, كان هادئاً, يمضي إلى الجنوب, لا أحد فيهم يعرف من أين يبتدئ ولا أين ينتهي, وإن كانوا يعرفون تماماً ما يريد أن يعطيه, ويعرفون الأرض التي تحتضنه وتقبله...
كان الدبيب يقترب, ويقترب, وكان لون القمر يصفر..
كان ذلك في ميناء, كنت أيامها شاباً, في يدي وريقات خضراء وحمراء, وفي أعماقي تنفجر رجولة, لم أكن قد بعت ذراعي لأحد, كنت أعمل بشرف, بعرقي وجهدي, وكنت فرحاً لأني خلفت من ورائي اليمن, لأرى عالماً جديداً, كله أضواء وصراخ وأناس, أقل ما تصورته أنهم من نوع الملائكة. لقد قضيت على الباخرة ستة أشهر, هل تعرف معنى الغربة? لم أكن أعرفها, ولكني لقيتها مع امرأة ذات ليلة, قبلاتها كانت كاذبة, لم أشعر بذلك إلا في البحر, عندما استعدت ذاكرتي, وعرفت إنني أبله, ولكني لم أنس تلك الميناء, ظللت أرسل رسائلي إليها دون أن أعرف حتى عنوانها, مجرد اسم الميناء, كان ذلك يكفي لأن أحبها. لقد نسيت حتى اسمها, وعدت إليها عدة مرات, ولكنها لم تكن هناك, لأنني عدت إليها بعد ثلاث سنوات, ذلك هو الشيء الوحيد الذي سميته حباً. أعرف الآن انها خدعتني, أخذت كل شيء, كل شيء, ولكنها تركت في فمي مرارة الغربة. لقد زرعت هذه المرارة, نعم زرعتها.. أنت يا عزيزي تملك بيتاً, وحباً وأصدقاء, آه... أما أنا, فلقد عدت إلى اليمن بعد عشرين عاماً, فلم أجد أحداً, كانوا قد مضوا هم أيضاً, وجدت بعض القبور, ولا شيء غير ذلك, لكني كنت قد تغيرت بعض الشيء.. هممت بأن أعود إلى البحر, الصديق الكبير الذي لم أفقده, والذي هو مستعد دائماً لأن يحتضنني, في أية لحظة, وها أنت ذا ترى بأنني هنا وليس في مكان آخر. إنها المصادفة وحدها, أليس كذلك? مصادفة, أو مجرد حظ تمنيته دائماً, لقد بعت نفسي لأكثر من جيش, وأكثر من شركة, تعلمت كيف أعمل في باخرة, وتعلمت كيف أمسك ببندقية وأقتل أناساً لا أعرفهم وليس بيني وبينهم أية عداوة.. أما اليوم فلا.. إنني أعرف, ولأول مرة لماذا أنا هنا, ولماذا تقع هذه البندقية في يدي, قد لا أعرف من أقتل, ولكني أعرف لماذا أقتل, أتسمع? إنني أعرف ولأول مرة منذ عشرين عاماً شيئاً ما.. صور المقابر لا تزال أمامي, عدت فرحاً أحمل هدايا ونقوداً, ولكني لم أجد سوى شواهد قبور أمامي, إنني هنا أصنع شواهد قبور جديدة, وربما صنعت واحداً لنفسي.
قاطعه الصوت الآخر, فجأة: - لا تقل ذلك, أرجوك..
الصبح يقترب, سنظل هنا معاً..
نعم فنحن آخر من بقي..
لا أحد يعرف, قد يكون آخرون استطاعوا مثلنا أن يشقوا لهم طريقاً وسط تلك الصخور..
ربما..
من بعيد, لاح ضوء, ولكن القمر لم يكن قد غاب.
وأمامهما بعيداً, كانت خطوط تربط السماء بالأرض كانت تلوح بعيداً, وكان لها رائحة عذبة.
انظر, إنه المطر, ألا ترى لونه? لا أستطيع أن أصفه, ولكني أحس به إحساساً عجيباً, حتى إني لأشعر بأنني أستطيع وصفه..
إنني أستطيع أن أحس برائحته, رائحة عطر ما.. كنت أبيعه في الدكان الذي عملت به.
اقترب الدبيب, كانت الأرض تخبر بذلك, واحتواهما الضوء وارتفعت أصوات وكانت طلقات, عديدة, ونار وغبار خفيف حولهما, وردد الوادي صدى الطلقات..
لا تخف, سنظل معاً.
وستحكي ذلك على الباخرة..
نعم, سأقول لهم ما هو لون المطر في بلادي.
وسأقول لهم في - عدن - ما هو طعم البرد هنا.
احتوى الجبل هدير, وكان الماء ينساب في الوادي, هادئاً, والجبال تردد الصدى, صدى الطلقات, عنيفاً.. عنيفاً.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...