محمد عبد الولي - الدرس الأخير....

كان الفصل هادئاً .. وثلاثون طالباً يتنفسون بهدوء وينظرون بعيون قلقة إلى الباب. فبعد
دقائق سيدخل المدرس ليلقي آخر دروسه. في الأيام العادية، وفي مثل هذه اللحظات، يكون الفصل كامل الفوضى: يتقاذف الطلبة بالطباشير ويصيحون متلفظون بكلمات بذيئة. وقد تجد أحدهم في إحدى الزوايا يعبئ فمه ببقايا رغيف بينما عيون نهمة تتابع حركات يديه وفمه. وقد يحمل طالب آخر كرسياً يقف عليه أمام السبورة ليكتب شيئاً يجول في خاطره بخط صغير ضعيف، ويقهقه آخر وهو يصحح له أخطاءه، وإذا دخل المدرس فجأة يأخذ الضجيج في الخفوت والطلاب يتدافعون وهم في طريقهم إلى أماكنهم. ويسود الهدوء وتكون العيون قلقة حائرة ،.. وخائفة، عيون تشعر بذنبها لكنها بعد خروج المدرس بلحظات تعود إلى العمل نفسه. أما اليوم فالأمر يختلف .. فالجميع يجلسون بهدوء وصمت عميق،
وعيونهم الصغيرة المتطلعة دائماً بفضول تنظر بحيرة إلى الباب والسبورة وكرسي المدرس الخالي. كل طلبة الصف السادس يجمعهم اليوم لأول مرة شعور واحد بقلق حقيقي .. بالهيبة أمام هذا الدرس الأخير. منذ عام دخل الفصل مدرس شاب في السادسة والعشرين ذو شارب صغير وأنيق ونظارات تبدو خلفها عيون شابة حالمة، قوية وواثقة من نفسها، وصلعة صغيرة تزحف بهدوء لتسيطر على الرأس ذي الشعر الأسود .. كان هذا المدرس في ذلك اليوم بالنسبة للطلبة شخصاً غريباً لكنه أصبح حبيباً قريباً إلى قلوبهم فيما بعد. فلم يكونوا يتوقعون أن يأتي يوماً يجلسون فيه بهذا الهدوء ... هدوء المأتم ليودعوا مدرسهم بصمت يملأه الاحترام والغضب. لماذا؟ نعم لماذا يجب أن يودعوا مدرسهم؟ إنهم يحبونه أكثر من حبهم للمدرسة نفسها ... الدرس الوحيد هو درسه الذي لا يغيب فيه أي طالب . كانت كلماته تنبع دائماً من القلب بصوت هادئ رزين وعميق لتستقر في تلك القلوب الصغيرة المملوءة حباً للحياة، قلوبهم التي فتحها المدرس لتشرف على عالم واسع، فمن فمه سمعوا لأول مرة كلمات جديدة .. الشعب .. الأمة والوطن، وكيف يجب أن يحبوا الجميع. حقيقة أنهم سمعوا الكلمات نفسها من مدرسين آخرين ومن آبائهم وهم يقرؤون الصحف، لكنهم سمعوها منه بمعان جديدة وجميلة. لم تزل العيون متعلقة بالباب والمدرس لم يدخل بعد. إنهم يشعرون لأول مرة بحاجتهم إليه .. إلى أحاديثه وإلى صوته الحزين . لماذا تأخر؟ لم يتمنوا مرة واحدة أن يغيب عنهم . إنهم لا يصدقون مطلقاً أنه سيودعهم واليوم بالذات وربما إلى الأبد. لن يروه بعد اليوم في فصلهم .. لن يسمعوا صوته . وفتح الباب بهدوء .. لم يشعر أحد متى دخل المدرس ولم يشعر هو متى قام الطلبة لتحيته .. دخل بهدوء ونظر إلى الجميع وابتسامة حزينة على وجهه وعيونه المتألمة .. ومرت لحظات التقت خلالها عينا المدرس بعيون كل الطلبة في تحية صامتة . - اجلسوا ... اجلسوا. لكن الطلبة ظلوا واقفين، وابتسم المدرس وجلسوا بعد أن جلس هو على كرسيه. عادت الذكرى بالطلبة من جديد إلى اليوم الأول حين دخل المدرس الفصل .. لقد سمعوا عنه كثيراً قبل أن يصبح مدرساً لهم . سمعوا عنه وقرؤوا له قبل أن يروه. وكم كان فرحهم حين علموا أنه سيكون مدرساً لهم ومدرساً للتاريخ. دخل في ذلك اليوم وعلى شفتيه ابتسامة لم تكن حزينة كتلك التي يرونها اليوم. إنهم يتذكرون جيداً كيف بدأ درسهم الأول وقد تحدث إليهم كأنه أخ .. أخ اكبر منهم لم يفرض عليهم احترامه ولكنهم وجدوا أنفسهم يحترمونه وهو يخط على السبورة بأحرف أنيقة عنوان الدرس الأول " تاريخ اليمن ". لم يحدثهم عن الأشياء التي كتبت في الكتب المدرسية وإنما قال لهم أشياء جديدة عن حضارات قديمة، عن أصالة شعب، صنع حضارات وبنى سدوداً وأقام في بلاده جنة صغيرة، صنع - اليمن السعيد- ومن التاريخ القديم عاد إلى الحاضر، وبهدوء تحدث أكثر فأكثر عن بلادهم المقسمة، إلى شمال وجنوب. وها هم اليوم يتلقنون في الدرس الأخير في فصلهم الصغير ذي الجدران القديمة، والنوافذ الواسعة وذكريات عام كامل تتماوج في خاطره وفي خاطر كل طالب والمروحة المعلقة في منتصف الصف تدور في هدوء.

[HEADING=3][/HEADING]
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...