تحمل كلمة "مثقّف" على الحيرة والريبة. اليساري صنعها من خليط الملتزم والمناضل والماركسي والمحامي والمهندس والطبيب والكاتب والخطيب والنقابي والجامعي والأكاديمي واختصاصي التظاهرات والبيانات وصفحات الرأي في الجرائد. اليميني يُسقط عليها صفات المتعلّم والمتعدّد الاطّلاع واللامع والأستاذ والمتوقّد الذاكرة والمؤمن المتسامح أو الملحد المحافِظ. المثقّف عند الفريقين وسواهما هو الجاهز للاعتراض وتقديم الملاحظات والاقتراحات. إنه شيئًا ما توما، الحائر بين أن يكون رسولاً وأن يكون معارضًا. هي ترجمة لكلمة "انتلكتوييل" والأصحّ أن تكون ترجمة لكلمة "كولتيفي". الأولى ترجمتها الأقرب هي "رجل فكر".
لا معنى لأن يتباهى أحد بأنه خرِّيج جامعة أو قارئ كتب. وإن تباهى فمن المضحك أن يجعلها وظيفة. صار هناك طبقة اسمها "المثقّفون" كما صار هناك طبقة اسمها "المجتمع المدني". وصار هناك أشخاص اسمهم «ناشطون في المجتمع المدني». تسميات هيوليّة لمعانٍ غامضة أو وهميّة. وآخر بدعة شاهدتُها على الشاشات صفة "مفكر عربي" تحت أسماء شخصيات سياسيّة معروفة ويمكن وصفها بأي تعريف إلاّ "المفكّر". وإنْ يكن أتباعها بـ "العربي" يسوّغ هزليّتها.
هذه الفوضى نشأت من رخاوة في التسديد: عدم إجادة التسمية. ضبابيّة تخفي مجاملة أو جهلاً. وأتعس ما يكون، صفة "المناضل"، خاصة حين تُطْلَق على مَن لا أحد يستطيع أن يوضح ضد ماذا يناضل ومتى وأين انتصر وأين انهزم. مجتمع من الآرمات. لعلّ مصدر هذه الآفة هم الفرنسيّون، وبالتحديد فريق من اليسار الفرنسي المولع بالمفردات الحزبيّة والعسكريّة والاختصاصيّة. لا سيما منذ قضية الضابط اليهودي درايفوس ودفاع إميل زولا عنه. الشعراء أنفسهم لم يَسْلموا من هذا الوباء حين انتشرت بين الدادائيين والسورياليين في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، ورغم أنارشيّتهم الرافضة كلّ سلطة، تعابير ناهية زاجرة آمرة تستوحي اللغة العسكريّة والنفحة الديكتاتورية. ليتنا نرجع إلى الكلمات البسيطة، الرشيدة. "كاتب"، مثلاً، ماذا تشكو؟ وأديب وناقد وشاعر وباحث وقاصّ ومؤرّخ وصحافي؟ الثقافة، أوّلاً وأخيرًا، ليست بالشيء الخطير مقارنةً بفنون الخَلْق وبنقد هذا الخلق. وفي كلمة "مثقّف" تصنيف اجتماعي أدنى إلى الوجاهة. اتّساع دائرة المعنى في هذه الكلمة حتّى ضياع المعنى يستدعي التحفّظ في استعمالها. كأنها غطاء لعموميّة تريد أن تخفي طفيليّتها. إذا كان لا بدّ من كلمة شاملة تؤدّي معنىً مشابهًا وتتخفَّف من ادّعائيّة كلمة "مثقّف"، فلماذا لا نفكر في كلمة "شاهد"، مثلاً؟
أنسي الحاج
الأثنين 23/6/2008
لا معنى لأن يتباهى أحد بأنه خرِّيج جامعة أو قارئ كتب. وإن تباهى فمن المضحك أن يجعلها وظيفة. صار هناك طبقة اسمها "المثقّفون" كما صار هناك طبقة اسمها "المجتمع المدني". وصار هناك أشخاص اسمهم «ناشطون في المجتمع المدني». تسميات هيوليّة لمعانٍ غامضة أو وهميّة. وآخر بدعة شاهدتُها على الشاشات صفة "مفكر عربي" تحت أسماء شخصيات سياسيّة معروفة ويمكن وصفها بأي تعريف إلاّ "المفكّر". وإنْ يكن أتباعها بـ "العربي" يسوّغ هزليّتها.
هذه الفوضى نشأت من رخاوة في التسديد: عدم إجادة التسمية. ضبابيّة تخفي مجاملة أو جهلاً. وأتعس ما يكون، صفة "المناضل"، خاصة حين تُطْلَق على مَن لا أحد يستطيع أن يوضح ضد ماذا يناضل ومتى وأين انتصر وأين انهزم. مجتمع من الآرمات. لعلّ مصدر هذه الآفة هم الفرنسيّون، وبالتحديد فريق من اليسار الفرنسي المولع بالمفردات الحزبيّة والعسكريّة والاختصاصيّة. لا سيما منذ قضية الضابط اليهودي درايفوس ودفاع إميل زولا عنه. الشعراء أنفسهم لم يَسْلموا من هذا الوباء حين انتشرت بين الدادائيين والسورياليين في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، ورغم أنارشيّتهم الرافضة كلّ سلطة، تعابير ناهية زاجرة آمرة تستوحي اللغة العسكريّة والنفحة الديكتاتورية. ليتنا نرجع إلى الكلمات البسيطة، الرشيدة. "كاتب"، مثلاً، ماذا تشكو؟ وأديب وناقد وشاعر وباحث وقاصّ ومؤرّخ وصحافي؟ الثقافة، أوّلاً وأخيرًا، ليست بالشيء الخطير مقارنةً بفنون الخَلْق وبنقد هذا الخلق. وفي كلمة "مثقّف" تصنيف اجتماعي أدنى إلى الوجاهة. اتّساع دائرة المعنى في هذه الكلمة حتّى ضياع المعنى يستدعي التحفّظ في استعمالها. كأنها غطاء لعموميّة تريد أن تخفي طفيليّتها. إذا كان لا بدّ من كلمة شاملة تؤدّي معنىً مشابهًا وتتخفَّف من ادّعائيّة كلمة "مثقّف"، فلماذا لا نفكر في كلمة "شاهد"، مثلاً؟
أنسي الحاج
الأثنين 23/6/2008