كان من حسن حظي أنني تعرفت على الأستاذ الجليل الدكتور الطاهر أحمد مكي “رحمه الله” في فترة مبكرة من حياتي وتحديداً عام 1964، وكان ذلك عن طريق زوج خالتي المرحوم أحمد البكري موسى على الغول الذي يمت بصلة قرابة للدكتور طاهر، والذي توفي منذ شهور قليلة.
كنت أتردد على الدكتور طاهر في تلك الفترة لمساعدتي في فهم بعض قواعد النحو وما كان يصعب عليّ من مواد الدراسة الأخرى. وكان – رحمة الله عليه – لا يضن بالمساعدة علي، ولا يضيق من تكرار زيارتي له، بل كان يرحب بذلك ويتعامل معي بحنان وود أبوي كبيرين. كان يسكن معه في الشقة أخيه المستشار عبد الستار أحمد مكي وكان الاثنان يحظيان باحترام وتقدير الجيران جميعاً، لما يتمتعان به من دماثة وود كان يميز تعاملهما مع الجميع.
في بعض الأحيان كان يتصادف أن يكون الدكتور طاهر مشغولاً بكتابة شيء ما؛ فكان يطلب مني أن أجلس وانتظر قليلا إلى أن ينتهي مما يكتبه. كان يكتب على ورق أبيض، ويستخدم ريشه يقوم بغمسها في دواة بها حبر أسود، ويكتب بخط منمق جميل ومرتب، ويراعي ترك فواصل منتظمة بين الكلمة والأخرى، وبين السطر والسطر الذي يليه، على الرغم من أن الورق الذي كان يكتب عليه لم يكن من النوع المسطر.
وخلال كتابته لم يكن يشطب أي شيء، وبعد أن ينتهي من كتابة ورقة، كان يضعها جانبا حتى ينشف الحبر، ويبدأ في كتابة ورقة أخرى وهكذا. كانت جدران الغرفة التي يكتب فيها تضم مكتباً ومقعدا، وجدرانها مغطاة تماما بالكتب.
وفيما بعد قام الدكتور طاهر بتوسيع المكتبة لتضم أيضا الغرفة الثانية وعلى ما أذكر جزء من الصالة. كنت ألاحظ أن الدكتور طاهر يصعد السلم بطريقة معينة، حيث كان يصعد بقدمه اليمنى على السلم ثم يضع اليسرى بجانبها وينتظر ثوانٍ، ثم يصعد الدرجة التالية بقدمه اليمنى ثم يضع اليسرى وينتظر ثوانٍ بنفس الطريقة.
وكان بالطبع يستغرق وقتاً طويلاً في صعود السلم، وعندما كنت أسأله عن ذلك، كان يقول لي أنه قد سار لمسافة طويلة ويشعر بالإرهاق، وأن هذه الطريقة في صعود السلم هي الطريقة الأسلم من الناحية الصحيةً.
كان الدكتور طاهر واحداً من المشائين العظام، فكان يسير من مقر كلية دار العلوم حتى شارع المراغي في العجوزة مشياً على الأقدام. وحتى بعد عودته من البعثة التعليمية في الجزائر في السبعينيات، وإحضاره لسيارة بيجو لم أره يقود تلك السيارة أبداً، التي كان يتولى قيادتها في ذلك الوقت المرحوم عبد الستار، في حين كنت أرى الدكتور طاهر سائرا على قدميه على الدوام.
وحتى عندما انتقل إلى شقته الخاصة بأعضاء الهيئات التعليمية في شارع مصدق بالدقي، والتي كنت أزوره فيها أيضا، كان ينزل من شقته في موعد معين لممارسة رياضة المشي في المناطق المحيطة بالعمارة. ولكنه في سنواته الأخيرة لم يكن يتمكن من ذلك بسبب الزحام، والسيارات، والأرصفة المرتفعة التي يستلزم صعودها جهدها كبيراً كان يرهقه لحد كبير. وكان يقول لي عندما عرف أنني أسكن في أكتوبر، أنه لو كان يسكن في أكتوبر لذرع شوارعها وأحيائها، طولاً وعرضاً مشياً على الأقدام.
استمرت مساعدات الدكتور طاهر لي في الشرح والدروس طيلة المرحلة الإعدادية والثانوية. ومن سوء حظي أنه كان في الجزائر وأنا في السنة الثالثة الثانوية، ولذلك لم أستفد من مشورته القيمة في اختيار الكلية المناسبة. كنت قد حصلت في ذلك العام على مجموع كبير في القسم الأدبي وهو 83 في المئة. ونصحتني جارة تعمل مفتشة تعليمية بأن أكتب الرغبة الثانية كلية التجارة جامعة القاهرة، لأن الرغبة الأولى لجميع طلاب الأدبي في ذلك الوقت كانت هي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. والذي حدث أن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في ذلك العام، قبلت، لسوء حظي، الحاصلين على الثانوية العامة من القسم الأدبي من الحاصلين على 233 درجة في حين كان مجموع درجاتي 232 درجة فقط. فتم توزيعي على كلية التجارة جامعة القاهرة. وبعد أن قضيت فيها عدة أسابيع في بداية الدراسة تبين لي أنني لن أستمتع بالدراسة بها، فحاولت الانتقال إلى كلية الآداب ولكني أخبرت أن باب الانتقال قد أغلق فأكملت دراستي الجامعية في كلية التجارة التي لم أحب الدراسة بها يوما، فقد كان معظم المواد التي تدرس فيها وتضم المحاسبة والرياضة والإحصاء والتخطيط، من المواد التي لا تستيغها ذائقتي التي كانت تميل إلى المواد الأدبية واللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.
وعندما عاد الدكتور طاهر من الجزائر، كنت أشكو له اثناء زياراتي له، من عدم انسجامي مع مواد كلية التجارة، فكان يقول لي إنه لو كان موجودا في القاهرة بعد نجاحي في الثانوية العامة، لنصحني بدخول كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية التي كانت في ذلك العام تقبل مجموع يبدأ من 63 في المئة وكانت متاحة أمامي منذ البداية ولكنني استخسرت مجموعي في الكلية.
ولكن الدكتور طاهر نصحني، مع ذلك، نصيحة ثمينة، استفدت بها في حياتي العملية، وهي أن أداوام القراءة الخارجية باللغة الإنجليزية والفرنسية وهو ما فعلته، وتمكنت من تطوير لغتي الإنجليزية بدرجة كبيرة وهو ما ساعدني عندما اغتربت في الخليج أن أعمل مترجما ثم صحفيا مستفيدا من معرفتي الواسعة باللغة الإنجليزية: وكنت في البداية، قد حاولت التقدم لوظيفة محاسب أو إداري ولكني لم أنجح في الاختبارات الي كانت تجرى لي، لأنني لم أكن متفوقاً في كلية التجارة كما أسلفت القول، وعندما انتهيت من الدراسة بها لم أفكر في قراءة كتاب واحد من كتب المواد التي كنا ندرسها في تلك الكلية.
خلال فترة غربتي في الإمارات العربية المتحدة، كنت أقابل الدكتور طاهر في الإجازات الصيفية، حيث كنت أتردد عليه في شقته في شارع مصدق في الدقي. كانت شقة أكبر حجماً وأثثها الدكتور طاهر تأثيثاً يختلف عن تأثيث الشقة القديمة في العجوزة، التي كانت تقع في الدور الخامس في عمارة ليس بها مصعد كهربائي على عكس العمارة الجديدة التي كان يوجد بها عدة مصاعد وأمن وغيرها من الخدمات. وكانت الشقة تقع في الدور الرابع، وتتكون من 3 حجرات وصالتين كبيرتين. كانت الكتب تحتل أجزاء كبيرة من الشقة كالعادة. وكنت استمتع أيما استمتاع بزيارة الدكتور طاهر والحديث معه في كافة شؤون الحياة، ومنها شؤون السياسة وأذكر أنه عقب مصرع السادات، وترشيح مبارك لتولي المنصب قال لي إن مبارك هو أنسب الموجودين على الرغم من أن نسبة ذكائه كما قال لي لا تتجاوز خمسين في المئة. وعندما كنت المناقشات مع الدكتور طاهر تتناول موضوعات ثقافية، كان يبدي رأيه في بعض العاملين في الحقل الثقافي والأدبي بصراحة وحيادية مطلقة.
وعندما كنت أُذكره بما قاله في بعض المقالات التي كنت أقرأها في بعض الصحف والمجلات كان يقول لي إنه لم يتقاضَ أي أتعاب عن تلك المقابلات، وأن من أجراها معه أجراها بصفته طالباً يريد الاستزادة من علم الدكتور، وليس كصحفي ينوي نشر المقابلة والاستفادة مادياً أو معنويا من وراءها.
كنت أتابع باهتمام شديد ما يكتبه الدكتور طاهر في مجلة” أدب ونقد” التي كان يصدرها حزب التجمع والتي كان الدكتور يرأس تحريرها، وكانت مجلة قيمة ودسمة للغاية ولكنها توقفت نتيجة لمضايقات من السلطات، على ما أرجح.
في بعض الأحيان كان يحضر ضيوف لزيارة الدكتور طاهر ويتصادف أن أكون أنا موجودا، فيعرف الضيوف عليّ، ومعظمهم من الأساتذة الأجلاء تعريفاً يجعلني أشعر بالفخر. وفي بعض الأحيان كنت أطرق عليه الباب فيتصادف أن يكون لديه ضيوف فيصر على الرغم من ذلك على الترحيب بي ومشاركة الجلسة، فكنت أجلس صامتا أتابع ما يقولون ولم أكن في ذلك الوقت أعرف الكثيرين ممن يقومون بزيارته ولكن من خلال تلك الجلسات عرفت الكثيرين منهم.
ناقشته أيضا في السنوات الأخيرة في قيام مواقع الإخوان بوضع ما كتبه عن زيارة حسن البنا لقريته” كيمان المطاعنة” في أربعينيات القرن الماضي، وانطباعاته عن حسن البنا، فقال لي إنه كتب هذه المقالة في زمن لم تكن المشاعر مناوئة للإخوان، ولكن الإخوان استثمروا هذا المقالة، ووضعوها في مختلف المواقع الإخوانية مما كان يعطي انطباعا للبعض أن الدكتور إخواني في حين أنه لم يكن كذلك، حيث كان يساريا قحاً بل رمزا من رموز اليسار المصري.
ظللت مواظبا على زيارة الدكتور طاهر على الرغم من اعتلال صحته في السنوات الأخيرة وكان يطلب مني في بعض الأحيان إنجاز بعض الخدمات التي لا تسمح بها صحته مثل الذهاب إلى إحدى شركات الاتصالات في شأن يتعلق بالإنترنت فكنت أقوم بذلك رداً لجزء من جميله عليّ؛ كما كنت أعرض عليه أن يتصل بي لو احتاجني في أي شيء، ولكن المرحوم في الحقيقة لم يكن يحب أن يثقل على أحد.
كنت قبل زيارتي للدكتور طاهر أحرص على ترتيب موعد الزيارة معه هاتفيا، وفي بعض الأحيان كان لا يرد ثم يرد علي بعد ذلك، ويقول إنه كان مسافراً أو أنه كان مريضاً، وفي المرة الأخيرة اتصلت به عدة مرات فلم يرد فاعتقدت أنه ربما يكون قد سافر البلد أو سافر للاستجمام في مكان ما ، ومع طول المدة انتابني القلق حتى قرأت خبر وفاته في جريدة الأهرام، فحزنت حزنا شديداً على وفاة هذا الأستاذ الجليل الذي تشرفت بمعرفته والاستفادة من علمه الغزير لعشرات السنين.
وحرصت على حضور حفل تأبينه الذي أقيم في مقر نقابة الصحفيين، حيث التقيت بالمستشار أحمد عبد الستار مكي نجل المرحوم عبد الستار أحمد مكي لأول مرة، كما قابلت الدكتور محمود مكي الذي كنت قد جلست معه مرة أثناء إحدى زياراتي للدكتور طاهر والذي تصادف وجوده فيها. كما رأيت الأستاذ حسين الناظر وكنت أود تعريفه بنفسي، ولكني لم أتمكن من ذلك لأنه كان مشغولاً جداً في تنظيم المناسبة التي جرى التقاط بعض الصور التذكارية في آخرها، وهي صور احتفظ بها واعتز بها أيما اعتزاز.
رحم الله أستاذي الكبير، والعالم الجليل الدكتور طاهر احمد مكي وجعل مثواه الجنة.
كنت أتردد على الدكتور طاهر في تلك الفترة لمساعدتي في فهم بعض قواعد النحو وما كان يصعب عليّ من مواد الدراسة الأخرى. وكان – رحمة الله عليه – لا يضن بالمساعدة علي، ولا يضيق من تكرار زيارتي له، بل كان يرحب بذلك ويتعامل معي بحنان وود أبوي كبيرين. كان يسكن معه في الشقة أخيه المستشار عبد الستار أحمد مكي وكان الاثنان يحظيان باحترام وتقدير الجيران جميعاً، لما يتمتعان به من دماثة وود كان يميز تعاملهما مع الجميع.
في بعض الأحيان كان يتصادف أن يكون الدكتور طاهر مشغولاً بكتابة شيء ما؛ فكان يطلب مني أن أجلس وانتظر قليلا إلى أن ينتهي مما يكتبه. كان يكتب على ورق أبيض، ويستخدم ريشه يقوم بغمسها في دواة بها حبر أسود، ويكتب بخط منمق جميل ومرتب، ويراعي ترك فواصل منتظمة بين الكلمة والأخرى، وبين السطر والسطر الذي يليه، على الرغم من أن الورق الذي كان يكتب عليه لم يكن من النوع المسطر.
وخلال كتابته لم يكن يشطب أي شيء، وبعد أن ينتهي من كتابة ورقة، كان يضعها جانبا حتى ينشف الحبر، ويبدأ في كتابة ورقة أخرى وهكذا. كانت جدران الغرفة التي يكتب فيها تضم مكتباً ومقعدا، وجدرانها مغطاة تماما بالكتب.
وفيما بعد قام الدكتور طاهر بتوسيع المكتبة لتضم أيضا الغرفة الثانية وعلى ما أذكر جزء من الصالة. كنت ألاحظ أن الدكتور طاهر يصعد السلم بطريقة معينة، حيث كان يصعد بقدمه اليمنى على السلم ثم يضع اليسرى بجانبها وينتظر ثوانٍ، ثم يصعد الدرجة التالية بقدمه اليمنى ثم يضع اليسرى وينتظر ثوانٍ بنفس الطريقة.
وكان بالطبع يستغرق وقتاً طويلاً في صعود السلم، وعندما كنت أسأله عن ذلك، كان يقول لي أنه قد سار لمسافة طويلة ويشعر بالإرهاق، وأن هذه الطريقة في صعود السلم هي الطريقة الأسلم من الناحية الصحيةً.
كان الدكتور طاهر واحداً من المشائين العظام، فكان يسير من مقر كلية دار العلوم حتى شارع المراغي في العجوزة مشياً على الأقدام. وحتى بعد عودته من البعثة التعليمية في الجزائر في السبعينيات، وإحضاره لسيارة بيجو لم أره يقود تلك السيارة أبداً، التي كان يتولى قيادتها في ذلك الوقت المرحوم عبد الستار، في حين كنت أرى الدكتور طاهر سائرا على قدميه على الدوام.
وحتى عندما انتقل إلى شقته الخاصة بأعضاء الهيئات التعليمية في شارع مصدق بالدقي، والتي كنت أزوره فيها أيضا، كان ينزل من شقته في موعد معين لممارسة رياضة المشي في المناطق المحيطة بالعمارة. ولكنه في سنواته الأخيرة لم يكن يتمكن من ذلك بسبب الزحام، والسيارات، والأرصفة المرتفعة التي يستلزم صعودها جهدها كبيراً كان يرهقه لحد كبير. وكان يقول لي عندما عرف أنني أسكن في أكتوبر، أنه لو كان يسكن في أكتوبر لذرع شوارعها وأحيائها، طولاً وعرضاً مشياً على الأقدام.
استمرت مساعدات الدكتور طاهر لي في الشرح والدروس طيلة المرحلة الإعدادية والثانوية. ومن سوء حظي أنه كان في الجزائر وأنا في السنة الثالثة الثانوية، ولذلك لم أستفد من مشورته القيمة في اختيار الكلية المناسبة. كنت قد حصلت في ذلك العام على مجموع كبير في القسم الأدبي وهو 83 في المئة. ونصحتني جارة تعمل مفتشة تعليمية بأن أكتب الرغبة الثانية كلية التجارة جامعة القاهرة، لأن الرغبة الأولى لجميع طلاب الأدبي في ذلك الوقت كانت هي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. والذي حدث أن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في ذلك العام، قبلت، لسوء حظي، الحاصلين على الثانوية العامة من القسم الأدبي من الحاصلين على 233 درجة في حين كان مجموع درجاتي 232 درجة فقط. فتم توزيعي على كلية التجارة جامعة القاهرة. وبعد أن قضيت فيها عدة أسابيع في بداية الدراسة تبين لي أنني لن أستمتع بالدراسة بها، فحاولت الانتقال إلى كلية الآداب ولكني أخبرت أن باب الانتقال قد أغلق فأكملت دراستي الجامعية في كلية التجارة التي لم أحب الدراسة بها يوما، فقد كان معظم المواد التي تدرس فيها وتضم المحاسبة والرياضة والإحصاء والتخطيط، من المواد التي لا تستيغها ذائقتي التي كانت تميل إلى المواد الأدبية واللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.
وعندما عاد الدكتور طاهر من الجزائر، كنت أشكو له اثناء زياراتي له، من عدم انسجامي مع مواد كلية التجارة، فكان يقول لي إنه لو كان موجودا في القاهرة بعد نجاحي في الثانوية العامة، لنصحني بدخول كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية التي كانت في ذلك العام تقبل مجموع يبدأ من 63 في المئة وكانت متاحة أمامي منذ البداية ولكنني استخسرت مجموعي في الكلية.
ولكن الدكتور طاهر نصحني، مع ذلك، نصيحة ثمينة، استفدت بها في حياتي العملية، وهي أن أداوام القراءة الخارجية باللغة الإنجليزية والفرنسية وهو ما فعلته، وتمكنت من تطوير لغتي الإنجليزية بدرجة كبيرة وهو ما ساعدني عندما اغتربت في الخليج أن أعمل مترجما ثم صحفيا مستفيدا من معرفتي الواسعة باللغة الإنجليزية: وكنت في البداية، قد حاولت التقدم لوظيفة محاسب أو إداري ولكني لم أنجح في الاختبارات الي كانت تجرى لي، لأنني لم أكن متفوقاً في كلية التجارة كما أسلفت القول، وعندما انتهيت من الدراسة بها لم أفكر في قراءة كتاب واحد من كتب المواد التي كنا ندرسها في تلك الكلية.
خلال فترة غربتي في الإمارات العربية المتحدة، كنت أقابل الدكتور طاهر في الإجازات الصيفية، حيث كنت أتردد عليه في شقته في شارع مصدق في الدقي. كانت شقة أكبر حجماً وأثثها الدكتور طاهر تأثيثاً يختلف عن تأثيث الشقة القديمة في العجوزة، التي كانت تقع في الدور الخامس في عمارة ليس بها مصعد كهربائي على عكس العمارة الجديدة التي كان يوجد بها عدة مصاعد وأمن وغيرها من الخدمات. وكانت الشقة تقع في الدور الرابع، وتتكون من 3 حجرات وصالتين كبيرتين. كانت الكتب تحتل أجزاء كبيرة من الشقة كالعادة. وكنت استمتع أيما استمتاع بزيارة الدكتور طاهر والحديث معه في كافة شؤون الحياة، ومنها شؤون السياسة وأذكر أنه عقب مصرع السادات، وترشيح مبارك لتولي المنصب قال لي إن مبارك هو أنسب الموجودين على الرغم من أن نسبة ذكائه كما قال لي لا تتجاوز خمسين في المئة. وعندما كنت المناقشات مع الدكتور طاهر تتناول موضوعات ثقافية، كان يبدي رأيه في بعض العاملين في الحقل الثقافي والأدبي بصراحة وحيادية مطلقة.
وعندما كنت أُذكره بما قاله في بعض المقالات التي كنت أقرأها في بعض الصحف والمجلات كان يقول لي إنه لم يتقاضَ أي أتعاب عن تلك المقابلات، وأن من أجراها معه أجراها بصفته طالباً يريد الاستزادة من علم الدكتور، وليس كصحفي ينوي نشر المقابلة والاستفادة مادياً أو معنويا من وراءها.
كنت أتابع باهتمام شديد ما يكتبه الدكتور طاهر في مجلة” أدب ونقد” التي كان يصدرها حزب التجمع والتي كان الدكتور يرأس تحريرها، وكانت مجلة قيمة ودسمة للغاية ولكنها توقفت نتيجة لمضايقات من السلطات، على ما أرجح.
في بعض الأحيان كان يحضر ضيوف لزيارة الدكتور طاهر ويتصادف أن أكون أنا موجودا، فيعرف الضيوف عليّ، ومعظمهم من الأساتذة الأجلاء تعريفاً يجعلني أشعر بالفخر. وفي بعض الأحيان كنت أطرق عليه الباب فيتصادف أن يكون لديه ضيوف فيصر على الرغم من ذلك على الترحيب بي ومشاركة الجلسة، فكنت أجلس صامتا أتابع ما يقولون ولم أكن في ذلك الوقت أعرف الكثيرين ممن يقومون بزيارته ولكن من خلال تلك الجلسات عرفت الكثيرين منهم.
ناقشته أيضا في السنوات الأخيرة في قيام مواقع الإخوان بوضع ما كتبه عن زيارة حسن البنا لقريته” كيمان المطاعنة” في أربعينيات القرن الماضي، وانطباعاته عن حسن البنا، فقال لي إنه كتب هذه المقالة في زمن لم تكن المشاعر مناوئة للإخوان، ولكن الإخوان استثمروا هذا المقالة، ووضعوها في مختلف المواقع الإخوانية مما كان يعطي انطباعا للبعض أن الدكتور إخواني في حين أنه لم يكن كذلك، حيث كان يساريا قحاً بل رمزا من رموز اليسار المصري.
ظللت مواظبا على زيارة الدكتور طاهر على الرغم من اعتلال صحته في السنوات الأخيرة وكان يطلب مني في بعض الأحيان إنجاز بعض الخدمات التي لا تسمح بها صحته مثل الذهاب إلى إحدى شركات الاتصالات في شأن يتعلق بالإنترنت فكنت أقوم بذلك رداً لجزء من جميله عليّ؛ كما كنت أعرض عليه أن يتصل بي لو احتاجني في أي شيء، ولكن المرحوم في الحقيقة لم يكن يحب أن يثقل على أحد.
كنت قبل زيارتي للدكتور طاهر أحرص على ترتيب موعد الزيارة معه هاتفيا، وفي بعض الأحيان كان لا يرد ثم يرد علي بعد ذلك، ويقول إنه كان مسافراً أو أنه كان مريضاً، وفي المرة الأخيرة اتصلت به عدة مرات فلم يرد فاعتقدت أنه ربما يكون قد سافر البلد أو سافر للاستجمام في مكان ما ، ومع طول المدة انتابني القلق حتى قرأت خبر وفاته في جريدة الأهرام، فحزنت حزنا شديداً على وفاة هذا الأستاذ الجليل الذي تشرفت بمعرفته والاستفادة من علمه الغزير لعشرات السنين.
وحرصت على حضور حفل تأبينه الذي أقيم في مقر نقابة الصحفيين، حيث التقيت بالمستشار أحمد عبد الستار مكي نجل المرحوم عبد الستار أحمد مكي لأول مرة، كما قابلت الدكتور محمود مكي الذي كنت قد جلست معه مرة أثناء إحدى زياراتي للدكتور طاهر والذي تصادف وجوده فيها. كما رأيت الأستاذ حسين الناظر وكنت أود تعريفه بنفسي، ولكني لم أتمكن من ذلك لأنه كان مشغولاً جداً في تنظيم المناسبة التي جرى التقاط بعض الصور التذكارية في آخرها، وهي صور احتفظ بها واعتز بها أيما اعتزاز.
رحم الله أستاذي الكبير، والعالم الجليل الدكتور طاهر احمد مكي وجعل مثواه الجنة.