آرثر غابرييـل ياك - لا يهم فأنت من هنـــاك

قد يكون حظك كحظ الذين كانوا يضحكون على النبي نوح عندما كان يبني فلكا قبل الطوفان الإلهي العتيق، أو كحظ أومودو دونقو أوكيلو الذي أعدم رميا بثلاثة وثلاثين سهما مسموما لأنه أكل- عن طريق سحره الذي جلبه من غرب أفريقيا- قلب ابنة جاره "إسحق الفوراوي"، تماما كما تنبأت عرافة "جبل خير" التي أسلمت الروح قبل ثلاث عشرة شهرا أثيوبيا من عيد ميلادها المائة. وقد تسبر أغوار عالمك الكجوري وتغوص في بحيرة أحلامك الآسنة شابا أفريقيا شكسبيري الطراز يرتدي زى من العصر الفيكتوري ويمشي الهوينى في بهو "التن داوننج ستريت"، ربما أستقبلك عامل النظافة وسط جوقة من كورال الكنيسة الأنجيلكانية في شارع جوموكينياتا فاعتقدته القس جورج كيري، أو ربما استجبت لدعوة عابرة أفريقية بنفسجية الوجه لتناول عشاء في مطعم البيكاديلي.


أطلقت ساقيك لريح الجليد بعد أن أطلق الحفيد الخامس ل فان جوخ كلاب حراسته لتتصيدك لأنك لا تستحق اللجوء السياسي.

في شارع فلاحي الملمح، لا أعلم فلاح صعيدي ينحدر من صلب "رمسيس" أم فلاح قدم من منطقة بحر الجبل متطوعا في حرب الأيام الستة. لا يهم، فأنت من هناك، من مدينة جنوبية الرائحة. أذهب، فهناك ستجد المكتب الذي سمعت عنه كثيرا، بداخله أناس صفر الوجوه لا يطيقونك. أنت لاجئ سمج. هل لديك أطفال؟ كنت أعلم انك أب لأربعة شبان حتى أواخر عام 1994. لكني بعد كثير عناء علمت أن الشبان الأربعة هم أبناء شقيق كليتو جوزيف أبو شكه الذي راح ضحية مجزرة ليلة العرس في منزل بجوار محكمة نمرة 3. كان ذلك في عام 1965.


أنت أب أو أم هذا لا يهم، المهم هو أن تذهب إلى هناك. فهؤلاء المقرفصين داخل الغرف المكندشة، والذين بلغ رزقهم على المعذبين في الأرض مبلغ السيل الزبى سيجعلون طفلك، الذي وضعته في رصيف إحدي السفارات، يتيما غير مفطوم.



نعم لقد مت في اليوم المحدد والساعة المحددة والدقائق التي بعدد حروف اللعنة: REJECTION وحين نطق بهذه الكلمة كانت روحك قد غادرت جسدك. ما أثقل جثث اللاجئين! كانت جثتك عبءً ثقيلا على كاهلنا. الكنيسة: "ما فيش فلوس"، قال القس. شهر من الزمن الأجرب ظل جسدك مسجى داخل ثلاجة المشرحة. "عاوزين تشوفوه؟" سأل عامل المشرحة الذي كان يأكل طعام غداءه ورائحة الجثث تملأ المكان. "ماشي هات حلاوة" بصق الحانوتي على وجوهنا، وقد كان على حق فلم نكن نملك حفنة جنيهات لنشتري بها الكفن.



هناك خلف الترابيزة، في المكتب الأنيق، في شارع فلاحي الملمح، امرأة بدينة تدخن سيجارة نظيفة تنفثها بعنجهية في سماء الغرفة. هكذا كانت تدخن جدتك "تنباك الكتكر" بشراهة عندما قالت لك، وهى تمارس شعائر شعوذتها المقدسة تحت شجرة الجميز عند ضفاف نهر الجور، إن رحلتك ستتوقف عند المنطقة التي تعقر فيها طمي النيل وتفقد أنوثتها الطاغية. سألتك البدينة بعد أن أشعلت السيجارة الثالثة: "عندك أيه مشكلة سياسية؟" فجأة تذكرت غرفة تطل على ال"سيتي بنك". منع الاغتسال، الطيارة قامت، الحرمان من التبول وقضاء الحاجة الطبيعية. ضحكت وقالت: "دي ما مشكلة سياسية"، ثم أشعلت مارلبورتها السادسة. كانت هيئتها تنطبق عليها النظرية الداروينية. "عندك علاقة بالحركة الشعبية" سألتك. تقافزت إلى ذهنك كل الأشياء الشعبية. اللجنة الشعبية التي لم توزع السكر منذ ثلاث سنين، الشرطة الشعبية، الإعدامات الشعبية الجهادية كأقصر الطرق إلى دخول الجنة. ضحكت الموظفة حتى ارتجت فرائصها سبع درجات بمقياس الأمم المتحدة. قلت الكثير: كنت أجبر على تقليد نقيق الضفادع، نهيق الحمير. ستة أشهر منعت من أداء فريضة الصلاة.



في تلك الليلة، في مقر اللجنة القومية للانتخابات، رأيت فيما يرى النائم ـ نعم أنت وحدك رأيت ذلك، أما أنا فقد أعدمت قبل ذلك بستة أشهر في مزرعة بسوبا ـ الملك جبرائيل، هزيلا يصلي من أجلكم جميعا، حتى من أجل الذين كانوا يشرفون على تعذيبك: "عصفور" "جكس"، "بدران"، لم يعلم الملك جبرائيل أنها أسماء حركية: "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعرفون ما يفعلون "قال ذلك واختفى كسحابة صيف في الثالث من شهر مارس.



تورد جبينك عندما نزعت الموظفة قميصك وسكبت دمعة على الطفاية. شيء واحد لم تذكره، لو ذكرته لانتفضت الموظفة والهيئات الدينية ونقابات بيع وشراء الكلى، لكنها لا تتعدى أن تكون زوبعة سكر على قعر الفنجان.


وأنت متجه إلى الشارع نفسه، في الأوتوبيس، داهمتك أحلاما جميلة: أمريكا؟ لا في جرائم كتير. كندا؟ أيوه، لكن بس كلام البرد ما صعب. استراليا؟ أووه ده ما توب يا جيك!. نطق الموظف الدولي أسمك عاليا، الكل كان ينظر إليك وأنت تشق عباب الزحمة مخترقا الأحلام الوردية التي تعشش في أدمغتهم. نفض الظرف. أكثر من مائتين بؤبؤ عين مركزة على الورقة التي بين يديك. اختلطت الحروف عندك. تقلب الجواب رأسا على عقب، أو على قفاه، تبحث عن نظارتك الطبية في أركان جيوبك المثقوبة. في آخر لحظة تتذكر أن الشيخ "حسن" إمام مسجد القيادة العامة بالخرطوم والذي كان يشرف على تعذيبكم في سوبا قد داسها برجله.

ـ مبروك يا...

ـ عقبال ال Resttlement !

ابتسامات "الهجرة إلى الشمال" ارتسمت على شفاه أطفالك. "مشروع حضاري دا كلام فاضي وخمج" عفويا خرج هذا الكلام من فمك.

كنت تشخر شخير من سهر ليلتين دون أن يغمض له جفن.

ـ سيبوه يا جماعة والله تعبان.

لكنه كان قد أتى و أنت ممسكا بورقة الكشف الطبي بكلتي يديك. حينه نطق منفعلا فجاء صوته مشروخا:

ـ يا أبو الشباب صح النوم.

فتحت عينيك بفتور واضح وقبضة يدك اليمنى تحاول أن تمنع هواء التثاؤب من الانتشار في أرجاء المكان. غالبك النعاس مرة أخرى.

ـ يا شاب أنت ما عاوز تدفع ولا شنو؟

كانت بلهجة أكثر حدة هذه المرة، عدت إلى وعيك، نظرت إلى يديك، لم تكن هنالك ورقة الكشف الطبي.

ـ يا جماعة الكشف الطبي ورقة الكشف الطبي يا جماعة.

صرخت عاليا، ضحك الجميع، ألقيت نظرة سريعة عبر الشباك، كان النيل الأزرق هادئاً والبص ما زال في وسط كبري بري يمشي كسلحفاة في الشهر الثالث من عمرها.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...