أمل الكردفاني - المغزل.. قصة

هو مصنع، مصنع أو لص حديدي، كعقل الفصامي، في هذه اللحظة بالذات، يبدو صوت وقع حذائي واضحاً، فالفراغ مشبع بالصمت. الصمت الثقيل، ستسمع صوت سقوط برغي، وحتى موجاته حين يدور حول نفسه ثم يستقر على جنبه كراقصة باليه في بحيرة البجع.
"لا غزل بعد اليوم.. توقفنا.. إنها حرب قذرة تلك التي ارتكبها المنافسون الأتراك". ثم يشعل سيجارة ويخرق سحب الدخان بنظرات عينيه الخائبتين. "لم يكتفوا بشراء كل قطن في العالم بل باعوا بالخسارة". فأتذكر حرب القطن الملك.. ثم ينتبه المدير ويسالني "من أنت؟". أظل واقفاً وأقول: "انا؟.. وعند مضي برهة يقول: "نعم أنت..".
أجفاني ثقيلة من النعاس، التعب والتوتر والقلق والإرهاق، جسدي محطم كما لو سحقه قطار شحن. وأرى أنوار المغزل تنطفئ وأعود لأستمع لوقع خطواتي، حذائي ذو النعل الخشبي المبطن بالبلاستيك المصهور. هنا سرقونا.. سرقوا شبابنا، ماضينا ومن ثم حاضرنا. "كلاب".. أيها الكاذب.
ما الذي تجيده في الحياة، فتقسيم العمل جعلني بلا حرفة. "إنني أجيد لفَّ البكرات". .."حسنٌ..واجيد تكوير القماش.. والقص كذلك.." عندما أرى يده بطيئة الحركة حين يضع سيرتي الذاتية المكونة من ربع صفحة فوق سير آخرين أدرك بأن النتيجة سلبية. فتح عينيه بصعوبة ونظر نحوي دون أن يراني، هكذا أحسست، قلت:
- كيف أنت الآن..
وضع سبابته بين شفتيه وقال بهدوء بالغ:
- صرت إنساناً عادياً..
قلت:
- إجابتك تؤكد عكس ذلك..
قال بسرعة وصوت خفيض:
- يحقنوني بعشرات الحقن.. صدمات كهربائية.. أقراص علاج السيكزوفرينيا.. إنهم يذوبون دماغي..
قلت:
- ملابسك نظيفة..
- نعم.. يغسلونها باستمرار.. إنهم يعتنون بي جيداً..
- يجب أن تخرج؟
- لماذا؟
- لتتزوج وتعِش الحياة كما يجب..
ضحك وظهرت اسنانه الصفراء بسبب السجائر. أدركت أنه يريدني أن أغادر. ففعلت.
كيف تحكون قصة.. أي قصة.. هذا العالم معقد أكثر من أن يُحكى، اليس كذلك؟ من يعرف ما بداخله ليعرف ما بداخل الآخرين ليحكيه. ذلك الابتذال الكتابي.. التفاهة أن نحدد شخصيات ونتحدث عنها كما لو كنا آلهة.
من مصنع الغزل والنسيج إلى دار المرضى العقليين، والآن إلى أين؟ إلى أين؟ يحل المساء بسرعة وأشعر بالإكتئاب، يجب أن أتسكع حتى لا أشعر بضياع العمر. هناك زقاق صغير وشارع واسع. لكن بماذا يتحدث قلب كل امرئ، إن القلب يثرثر كثيراً، وقد تدفعه ثرثته إلى الهزيمة أو القتل أو الانتحار أو النصر أو الحب أو الكره. إن القلب يتحدث في كل ما سبق دفعة واحدة.. فكيف نحكي قصة عن خطاب قلبي واحد من البداية وحتى النهاية. يقول سوفوكليس في فيلوكتيتس أن الحياة تدبرها الأقوال لا الافعال. هذه هي الثرثرة القلبية التي تحرك العالم.
يسند ذراعه على الطاولة كفيلسوف فرنسي والسيجارة بين أصبعيه:
- كنت تحرض العمال.. أكتب قصة إنك بارع في الخطابة واعتقد بأنك بارع في الكتابة أيضاً.. أليس كذلك؟
- أجيد لف البكرات.. القص.الخ.
يقول بنفاد صبر:
- انتهى ذلك العهد..عليك أن تصدق بأن المصنع قد انتهى.. الا تراه خالياً..
ثم يدفن السيجارة في المنفضة:
- أوقفت الحكومة دعمها لنا.. أصبح فعل ذلك غير مشروع.. لم نكُ جاهزين لمنافسة الصينيين والأتراك..
نظرت إليه متسائلاً، فعوج شفتيه بحيرة وقال:
- أتمنى أن يقدموا لنا عرضاً..
- ألا يمكنكم ان تندمجوا مع المصانع الصغيرة الأخرى؟
طوح براسه وقال:
- مصانعنا قديمة.. قديمة جداً.. كل المصانع الحديثة تعمل اليوم بالكمبيوتر.. إنها لا تحتاجك للتكوير أو القص..بل تحتاجك كقادر على التعامل مع الحاسب..
- لماذا تأتي للمصنع كل يوم إذاً؟..
أشعل سيجارة أخرى وقال:
-الربان لا يترك سفينته الغارقة.. بل يغرق معها..
تحت وهج الشمس رقصت خصل من شعرها.. فازاحته عن جبهتها.. كانت قد أدركت أنني لم أعد صالحاً لشيء.. فجمعت حقيبتها بين فخذيها ودارت على عقبيها مغادرة مطأطأة الرأس..
تم كل شيء بسلاسة.. بتفهم حضاري.. بصمت ذكي.. وشعر كلانا بالإرتياح وبقليل من الحزن.. الحزن السعيد..
هناك زقاق صغير وشارع واسع.. سارت في الشارع الواسع وسرت في الزقاق الضيق. سيفضي إلى الأرض الطينية وكمائن الطوب حيث يرتمي النهر خلفها.
إنني متردد في سؤاله.. أردد السؤال في راسي لكنني لا أستطيع نقله إليه..لكنه لم يلمح نظراتي نحوه..
- هل يمكنني العمل في كمائن الطوب؟
يحمل الشاب مفتول العضلات كتل الطوب فوق ظهره ويعتلي التل الترابي، جلده يلمع بالعرق رغم الأتربة التي تصبغ بعض أجزاء جسده.. اتبعه بصمت وعندما يدور حول الفرن الطيني أرفع طوبة وأضربه بها على قفاه.. يخر مغمى عليه.. فأخلع ملابسه وأشرع في اغتصابه ببطء..كان شهياً بشفتيه المتهدلتين كفجر طازج.
- إننا لن ننتظر أكثر من ذلك.. إنكم لا تجيدون شيئاً سوى العمل.. العمل الذي يحرموننا منه.. نحن عمال نسيج ولسنا عمال أفران طوب.. يجب أن ناخذ مكانتنا...
امتلأت الشوارع بالصخور والاخشاب وبقايا أعمدة الإنارة.. تم إحراق مئات الإطارات، وعبقت السماء بالدخان والسواد.. واطلق الرصاص الحي..وسبحت الشوارع بمستنقعات الدماء.
وفي ذات الزقاق رأيتها تركض باحثة عني:
- احمد الله أنك بخير..
ركضنا عبر الأزقة المتفرعة حتى بداية النهر..
- قلت لك ألف مرة لا تحرض العمال.. لا تجعلهم يثورون.. سيقتلونك.. لقد عرفوا أنك من فعل ذلك..
- كنت ابحث عن شيء ما في هذه الحياة.. لم يكن العمال شغلي الشاغل.. الا تفهم ذلك..لم يكن اغتصابي لك مهما في ذاته..
- لقد دمرتني نفسياً..
كنت أرى سكينه تلمع، تمتلئ بالدماء ثم تغوص في معدتي مرات ومرات.. وكانت هي تصرخ.. كان في الأفق.. رأيت المعنى.. هناك.. هنااك.. في الأفق.. حيث تتسع ابتسامته الصفراء بسبب السجائر..كان يشعر بالغبطة والجزل..

(تمت)
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...