ممّا لاريب فيه أنّ تُراث عباس محمود العقّاد ( ١٨٨٩- ١٩٦٤م )الأدبيّ والفكري والثقافي الذي انطوت عليه عشرات الكتب التي خطّها قلم الكاتب الكبير، ناهيكَ عن عدد كبير من المقالات المبثوثة في تضاعيف عدد من المجلّات والصحف السيارة في عصره قد تناول معظم القضايا التي استأثرت باهتمام أقلام كبار الكتّاب آنذاك.
على أنّ مايعنينا هنا إنّما هو العقّاد الناقد .
لقد تناثرت آراء وتوجّهات العقّاد النقدية في معظم كتبه المعنية بالأدب ونقده بدءاً من
كتابه" خلاصة اليوميّة" الصادر عام
(١٩١٢)، ومروراً بمقدّمة ديوانه الشعريّ الصادر عام(١٩٢٨) ، وكذا بكتابه" شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي"(١٩٣٧) ، وليس انتهاءً بكتابه" ساعات بين الكتب"
الصادر عام(١٩٥٠) . إلاّ أنّ كتابه المشترَك مع ( ابراهيم عبد القادر المازنيّ) والذي يحمل عنوان " الديوان في النقد والأدب" الصادر في جزأين عام(١٩٢١) يمثّل بحقّ جماع الفكر النقديّ عند العقّاد.
نورِد فيما يلي خلاصة نقد العقّاد لما
دعاه بالوصف الحسّي عند الشاعر ( أحمد شوقي) مستدلاًّ على ذلك ببيت شوقي الذي يصف فيه الهلال:
تلكَ حمراءُ في السماءِ وهذا
أعوجُ النّصل مِن مِراس الجِلادِ
يقول العقّاد :
" إنّ الشاعر مَن يشعر بجوهر الأشياء، لا مَن يعدّدها ويحصي أشكالها وألوانها، وأنْ ليست مزيّة الشاعر أنْ يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنّما مزيّته أنْ يقول ما هو، ويكشف لك عن لُبابه، وصلة الحياة به. وليس همُّ الناس أنْ يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنّما همّهم أنْ يتعاطفوا، ويُودِع أحسّهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه . وإذا كان وكْدكَ من التشبيه أنْ تذكر شيئاً أحمرَ ثمّ تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زِدْتَ
على أنْ ذكرتَ أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد ، ولكنّ التشبيه أنْ تطبع في وجدان سامعك
وفكره صورة واضحة ممّا انطبع في
ذات نفسك. وما ابْتُدِع التشبيه لرسم
الأشكال والألوان، فإنّ الناس جميعاً
يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنّما ابتُدِع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان مِن نفس إلى نفس . وبقوّة الشعور، وتيقّظه، وعمقه، واتساع مداه، ونفاذه إلى صميم الأشياء، يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطرِباً مؤثّراً، وكانت النفوس توّاقة إلى سماعه واستيعابه، لأنّه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نوراً. فالمرآة تعكس على البصر
ما يضيء عليها من الشعاع، فتضاعف سطوعه، والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه، فيزيد الموصوف وجوداً إنْ صحَّ هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساساً بوجوده. وصفوة القول إنّ المحكّ الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره: فإنْ كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء، وإنْ كنتَ تلمح وراء الحواس شعوراً حيّاً،
ووجداناً تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدّم، ونفَحَات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر
الطبع القويّ، والحقيقة الجوهريّة،
وهناك ما هو أحقر مِن شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضّالة
والمدارك الزائفة، وما إخال غيره كلاماً أشرف منه بَكَمُ الحيوان الأعجم" *
* عباس محمود العقّاد، " الديوان.."
الجزء الأول، ص،١٣.
دكتور زياد العوف
على أنّ مايعنينا هنا إنّما هو العقّاد الناقد .
لقد تناثرت آراء وتوجّهات العقّاد النقدية في معظم كتبه المعنية بالأدب ونقده بدءاً من
كتابه" خلاصة اليوميّة" الصادر عام
(١٩١٢)، ومروراً بمقدّمة ديوانه الشعريّ الصادر عام(١٩٢٨) ، وكذا بكتابه" شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي"(١٩٣٧) ، وليس انتهاءً بكتابه" ساعات بين الكتب"
الصادر عام(١٩٥٠) . إلاّ أنّ كتابه المشترَك مع ( ابراهيم عبد القادر المازنيّ) والذي يحمل عنوان " الديوان في النقد والأدب" الصادر في جزأين عام(١٩٢١) يمثّل بحقّ جماع الفكر النقديّ عند العقّاد.
نورِد فيما يلي خلاصة نقد العقّاد لما
دعاه بالوصف الحسّي عند الشاعر ( أحمد شوقي) مستدلاًّ على ذلك ببيت شوقي الذي يصف فيه الهلال:
تلكَ حمراءُ في السماءِ وهذا
أعوجُ النّصل مِن مِراس الجِلادِ
يقول العقّاد :
" إنّ الشاعر مَن يشعر بجوهر الأشياء، لا مَن يعدّدها ويحصي أشكالها وألوانها، وأنْ ليست مزيّة الشاعر أنْ يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنّما مزيّته أنْ يقول ما هو، ويكشف لك عن لُبابه، وصلة الحياة به. وليس همُّ الناس أنْ يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنّما همّهم أنْ يتعاطفوا، ويُودِع أحسّهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه . وإذا كان وكْدكَ من التشبيه أنْ تذكر شيئاً أحمرَ ثمّ تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زِدْتَ
على أنْ ذكرتَ أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد ، ولكنّ التشبيه أنْ تطبع في وجدان سامعك
وفكره صورة واضحة ممّا انطبع في
ذات نفسك. وما ابْتُدِع التشبيه لرسم
الأشكال والألوان، فإنّ الناس جميعاً
يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنّما ابتُدِع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان مِن نفس إلى نفس . وبقوّة الشعور، وتيقّظه، وعمقه، واتساع مداه، ونفاذه إلى صميم الأشياء، يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطرِباً مؤثّراً، وكانت النفوس توّاقة إلى سماعه واستيعابه، لأنّه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نوراً. فالمرآة تعكس على البصر
ما يضيء عليها من الشعاع، فتضاعف سطوعه، والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه، فيزيد الموصوف وجوداً إنْ صحَّ هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساساً بوجوده. وصفوة القول إنّ المحكّ الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره: فإنْ كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء، وإنْ كنتَ تلمح وراء الحواس شعوراً حيّاً،
ووجداناً تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدّم، ونفَحَات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر
الطبع القويّ، والحقيقة الجوهريّة،
وهناك ما هو أحقر مِن شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضّالة
والمدارك الزائفة، وما إخال غيره كلاماً أشرف منه بَكَمُ الحيوان الأعجم" *
* عباس محمود العقّاد، " الديوان.."
الجزء الأول، ص،١٣.
دكتور زياد العوف