كان في مدينة بغداد رجل اسمه ابراهيم عريق في الحسب والنسب وكان ساكناً في قصر على جانب الرصافة وكان ذلك القصر واسع الأرجاء أمامه المروج الخضراء حيث حفيف الأشجار وخرير الأنهار وتغريد الأطيار تطرب الناظر وتسر الخاطر ولكن هذه المناظر الأنيقة لم تكن إلا لتزيده كربة وتنغص عيشه لأنه كان قد طعن في السن وشعر بقرب الأجل ولم يكن له خليفة فأحب أن يموت مطمئن القلب بوجود من يحيي اسمه من بعده ويقوم بسياسة أملاكه الواسعة وثروته الطائلة.
فبقي مدة من الزمان وهو على ذلك الحال مضطرب البال قلق الخاطر لا يهنأ له عيش. وكان له زوجة اسمها أديبة فكانت تلك المسكينة عندما يقع نظرها عليه وتراه كئيباً حزيناً متشرد الأفكار تجلس إلى جانبه وتأخذ بتخفيف أحزانه وأشجانه بعذوبة كلامها التي كانت تنزل على فؤاده المتصدع كمرهم شاف وكانت أيضاً تسرد على مسمعه أخباراً شتى سارة تحمله على الاعتقاد برحمة الله الواسعة. ولأنه كان يحبها محبة الآلهة كان يتظاهر كمن سرى عنه.
وفي ذات يوم بينما هو جالس في حديقته الغناء مر به طبيب نطاسي فرأى علامات الحزن والكآبة بادية على محياه، فبعد التحية سأله قائلاً: مالي أراك أيها الشيخ الجليل مصفر اللون هزيل الجسم خائر القوى قلق البال مضطرب الأفكار وعهدي بك من الأغنياء العظماء الكبار الذين لا ينقصهم شيء من أمور هذه الدنيا.
ابراهيم- لقد نطقت بالصواب أيها الطبيب الحاذق لأن الله قد خصني بقسم كبير من حطام هذه الدنيا ولم ينقصني منها شيء سوى من يقوم بعدي ويخلد اسمي بنسله ويحييه بذريته. وبما أني شيخ كما تراني الآن وقد كادت شمس حياتي تغيب فمن جراء ذلك أذوب حزناً وغماً.
الطبيب- ولماذا لا تذهب إلى أحد الأطباء الماهرين وتعرض عليه داءك هذا لعله يجد له دواءً.
ابراهيم- اسمح لي يا حضرة الطبيب أن أقول أن دائي عضال وليس يوجد له دواء البتة وبعبارة أخرى هل يوجد يا ترى دواء للعقر والعقم؟
الطبيب- لا تيأس من رحمة الله ولا تقنط من جوده بل اصغِ لما أقول.
ابراهيم- كلي آذان صاغية لكل كلمة تخرج من فمك.
الطبيب- قد درست الطب في الأصقاع الأوربية على أحسن أساتذتها ولي مهارة تفوق التصور بهذا الفن فإذا أردت أن تحصل على ولد فتعال بكرة أنت وزوجتك إلى محل الطبابة وسترى صدق مقالي.
ابراهيم- إذا صدق فألك وصحت نبوتك فسأغمرك بالعطايا النفيسة ولن أنسى فضلك وأفضالك ما حييت.
الطبيب- ليس ذلك مرادي بل جل قصدي هو أن أفرج عنك كربتك تلك التي أضرت ضرراً بليغاً بصحتك وبعقلك ولا أريد منك سوى أجرتي العادية.
ابراهيم- هذا مما يدل على حسن طويتك واخلاصك واني أشكرك سلفاً ثم ودعه الطبيب ومضى في سبيله.
فاستحوذ على ابراهيم القلق والنصب طول ذلك النهار وأخذ يفكر في قول الطبيب تارة بصدق ما حدثه به ويعلل نفسه بالآمال ويبني القصور والعلالي، وطوراً يكذب ما سمعه منه ويهدم ما بناء ويحسب ذلك اضغاث أحلام فلما ضاق ذرعاً ولم يتمالك عن أن يضبط نفسه فاتح إمرأته بذلك الفكر الذي كان يجول في خاطره وقص عليها ما وقع له مع الطبيب وما دار بينهما من الحديث فسرت غاية السرور وحمدت الله على ذلك الذي لم تكن تتوقع أن تحصل عليه ولم تكن تحلم به أيضاً وطلبت منه تعالى أن يكمل تلك الأمنية بأسرع وقت.
فلما وافى الليل هجمت عليهما الهواجس والتخيلات فبقيا طول تلك الليلة يتجاذبان أطراف الحديث ولم تكتحل عيناهما بالنوم، فلما لاح الفجر نهضا وذهبا إلى بيت الطبيب وهناك رأياه جالساً على كرسي وأمامه مائدة فوقها كتاب كبير الحجم يقلب صفحاته. وعندما رآهما رحّب بهما وأجلسهما إلى جانبه وما زال ينثر على مسمعيهما الأقوال الحاملة على الاطمئنان والتصديق بأن سيولد لهما ولد بعونه تعالى الذي لا يعسر عليه شيء، ويسرد عليهما القصص والنوادر المضحكة ثم أمر الخادم أن يهيء الترويقة، ففعل كما أمره سيده. وبعد أن أكلوا قام وأدخلهما في غرفة خاصة وبعد الفحص والتنقيب عرف علتهما وأعطاهما دواء للشرب. ولكن قبل أن يذهبا أخذ الطبيب بيد ابراهيم وانفرد به وقال له ان زوجتك ستحمل وتلد ولكن يوجد خطر على حياتها في حبلها لأن أليافها التناسلية قد تصلبت لكبر سنها. فتظاهر ابراهيم من شدة فرحه كأنه لم يسمع انذار الطبيب وتنبيهه على مسألة تتعلق عليها حياة مالكة فؤاده. ثم أخذ زوجته ورجع مسرعاً إلى بيته حامداً الله هلى هذه النعمة السنية والعطية المجانية. ولم يمض شهر على ذلك إلا وزوجته حامل فدعى الطبيب وأسداه بعطايا سنية تليق بشأنه وأولم الولائم ودعى الأهل والأصحاب وفرح معهم فرحاً يكل عن وصفه اللسان ووزع ربع ماله على الفقراء والمساكين في ذلك اليوم ولم تكد تنتهي التسعة أشهر إلا ورزقه المولى بابنة آية في الجمال، لأن الطبيعة لم تبخل عليها بشيء من محاسنها، فأعطتها من الوردة حمرتها، ومن المهاة مقلتها، ومن البان قوامه، فدعاها والداها المحبة وأيقنا أنها ستكون فريدة عصرها ووحيدة زمانها، لما رأياه على وجهها من امارات النجابة والعفة والطهارة، فلنترك الطفلة تنمو في القامة والجمال ولنرجع إلى والدتها.
ان تلك الوالدة المسكينة كانت قد تألمت عند الولادة من جراء تصلب ألياف الرحم كما أشار الطبيب في حينه. وبعد ذلك ببضع أسابيع اشتدت عليها وطأة المرض حتى قطع الرجاء من شفائها فلما رأى ابراهيم ذلك دعى الأطباء من وطنيين وأجانب لأجل المشاورة ووعدهم أن يعطيهم نصف أمواله إذا استطاعوا أن يجدوا لدائها دواء فيعد الفحص المدقق والوقوف التام على علتها قر رأيهم أن لا علاج لمرضها وقالوا ذلك لها ولقرينها شفاهاً فلما رأي ابراهيم أن حيل الأطباء لم تنجع معها سلم أموره إلى الله تعالى. ففي ذلك النهار دعته زوجته وأوصته لكي يعتني بالطفلة المنكودة الطالع ويلقنها منذ نعومة أظفارها الآداب الدينية والأخلاق الحسنة ويزرع بذار التقوى والصلاح في تربة قلبها السليم ويجعله كجنة عدن في النقاوة والطهارة، وأن يقلع الأشواك الخبيثة التي تنمو حول سياجه فأجابها بالإيجاب ووعدها بأنه يفعل أكثر مما طلبت وابتغت ثم قالت له لقد علمت بأنك تحبني لأنك لم تكسر وصيتي بل قبلت ما أوصيتك به فالآن أموت قريرة العين مطمئنة القلب.
وفي اليوم الثاني عندما علمت أن منيتها قد قربت لتترك هذا العالم الفاني استدعت الطفلة وقبلتها ثم ركعت على سريرها وصلت من أجلها قائلة يا إلهي لقد قضت إرادتك الأزلية أن أفارق هذه الدنيا وابنتي صغيرة جداً ولم تسمح لي بأن أتمتع برؤيتها عندما تترعرع لكي القي عليها الإرشادات والنصائح التقوية حتى تشب على الفضيلة وتشيب عليها ولكن أسألك اللهم أن تمنح والدها العمر الطويل لكي يمكنه عوضي أن يدربها في سبيل خوف اسمك ولا يكون للشر والفساد نصيب فيها. وعزّه برحمتك لكي يستطيع أن يحتمل لوعة الفراق وأطلب من جودك أن تجمعني وإياه وطفلتنا هذه في دار البقاء حيث لا بكاء ولا حزن ولا مرض وحيث يد الموت لا تقوى على تبديد شملنا فاسمعني واستجبني لمجد اسمك القدوس.
ثم التفتت إلى الطفلة وقبلتها ثانية والدموع تهطل من عينها وقالت لها أستودعك يا عزيزتي ومهجة قلبي بيد العناية الإلهية لكي تراقبك من المهد إلى اللحد ثم تلجلج لسانها وثقل ولم تعد قادرة على الكلام فجاء ابراهيم وأسندها بصدره فلما رأى صفرة الموت علت وجنتها، وعيناها الجميلتان غارتامن حجاجهما وفقدتا بهائهما وضعها على سريرها لكي تستريح فنامت وبعد بضع ثوانٍ فتحت عينيها السوداوين فنظرت ابراهيم واقف عند رأسها فمدت ذراعها وقبلته ثم رفعت يديها نحو السماء قائلة لتكن مشيئتك يا الله فأنا أخضع لقضائك احفظ زوجي الشيخ الحزين وابنتي الطفلة ثم ضمت ذراعيها وبعد ذلك ببضع ثوان لفظت روحها وهكذا ذهبت شهيدة الحبل والولادة.
ولا تسأل عن حزن ابراهيم وبكائه المر وانتحابه عند موت زوجته فلعن تلك الساعة التي قابله بها الطبيب، وكان يفضل أن يبقى بدون نسل من أن يفقد تلك الزوجة الفاضلة ولكن ماذا ينفع الندم بعد ما زلت القدم وكان كلما يتذكر ما كانت عليه من الصفات الجليلة والمزايا الشريفة يزداد بالنحيب والعويل والنوح فجميع من حضر أخذ يقاسمه أحزانه ويشاطره كآبته حتى ان الجماد شاركه مصابه والدار شاطرته في رد صدى اشجانه.
فما انتشر خبر منعاها إلا وتقاطر الأهل والأصحاب وشقوا الجيوب وقرعوا الصدور على تلك البلية الدهماء والنازلة الشعواء والداهية الدهياء. فاحتشدت الجموع عقيب ذلك في دار ابراهيم لنقل الجثة فلما أتموا كل ما يلزم حملوا النعش المزين بالورود والرياحين إلى المقبرة وكانت الطرق غاصة بالناس وشرفات البيوت والشبابيك والأبواب مفتوحة لترى ذلك الموكب المحزن المشيع من الجمهور. فوقف ذلك الحشد في ساحة المقبرة العظمى ثم سار من هناك إلى المحل المعد لدفنها ورأى أن الرمس حاضر فوارى تلك الجثة الهامدة في التراب على رجاء قيامة الأجساد وأخذ الناس يستمطرون وابل الرحمة على روحها الطيبة العنصر ويطلبون من الله أن يلهم قرينها الصبر والعزاء لكي يمكنه أن يحتمل ذلك المصاب الأليم وهكذا أرفضّ الجمهور ورجع كل منهم إلى بيته يحدث ما سمع عن مزايا تلك الفاضلة ومناقبها الأثيلة وأفعالها الصالحة المجيدة تلك التي بلا شك ستكون لها خير زاد للآخرة وقصّوا كيف أبّنها بعض الكتبة وبينوا أفضالها وفضائلها وما كانت عليها من دماثة الأخلاق ولين العريكة ورقة قلبها وشفقتها على المساكين والفقراء والأخذ بساعد المظلومين وكيف بكتها الأغنياء والفقراء.
فعاد ابراهيم إلى البيت حزين القلب مكسور الخاطر منحني الظهر والدموع تتساقط على خديه وهو لا يعي على شيء من شدة الغم والكدر فكان الناس يعزوه ويسلوه بحوادث وأقوال تشفي صدأ القلب ولكن لم تكن تلك تغني عنه فتيلاً لأنه كان قد فقد أكبر مسل وأعظم معزٍ وأعز رفيق على وجه هذه الأرض. وكان فقط يردد هذه الأبيات:
ضاق السبيل على الباكي الحزين فلا عاد الحبيب ولا قلـب المحــب ســـلا
يهيج للحزن فــي أحشـــائــــه لـهـب وكلما رام اخماداً لـــــــه اشتعـــــــلا
كل الجراحات يشفيها الــدواء سـوى جرح الفؤاد فلا يشفــى وكـــم قتـــلا
****
نفذ القضــــــا من أوج ذاك المنبـــر فاصبر على بلواك أو لا تصبــــــر
ولقد أتى ما لســــت تملـــك بعـــده غير البكاء ولوعـــــــة المتحســــر
1910
فبقي مدة من الزمان وهو على ذلك الحال مضطرب البال قلق الخاطر لا يهنأ له عيش. وكان له زوجة اسمها أديبة فكانت تلك المسكينة عندما يقع نظرها عليه وتراه كئيباً حزيناً متشرد الأفكار تجلس إلى جانبه وتأخذ بتخفيف أحزانه وأشجانه بعذوبة كلامها التي كانت تنزل على فؤاده المتصدع كمرهم شاف وكانت أيضاً تسرد على مسمعه أخباراً شتى سارة تحمله على الاعتقاد برحمة الله الواسعة. ولأنه كان يحبها محبة الآلهة كان يتظاهر كمن سرى عنه.
وفي ذات يوم بينما هو جالس في حديقته الغناء مر به طبيب نطاسي فرأى علامات الحزن والكآبة بادية على محياه، فبعد التحية سأله قائلاً: مالي أراك أيها الشيخ الجليل مصفر اللون هزيل الجسم خائر القوى قلق البال مضطرب الأفكار وعهدي بك من الأغنياء العظماء الكبار الذين لا ينقصهم شيء من أمور هذه الدنيا.
ابراهيم- لقد نطقت بالصواب أيها الطبيب الحاذق لأن الله قد خصني بقسم كبير من حطام هذه الدنيا ولم ينقصني منها شيء سوى من يقوم بعدي ويخلد اسمي بنسله ويحييه بذريته. وبما أني شيخ كما تراني الآن وقد كادت شمس حياتي تغيب فمن جراء ذلك أذوب حزناً وغماً.
الطبيب- ولماذا لا تذهب إلى أحد الأطباء الماهرين وتعرض عليه داءك هذا لعله يجد له دواءً.
ابراهيم- اسمح لي يا حضرة الطبيب أن أقول أن دائي عضال وليس يوجد له دواء البتة وبعبارة أخرى هل يوجد يا ترى دواء للعقر والعقم؟
الطبيب- لا تيأس من رحمة الله ولا تقنط من جوده بل اصغِ لما أقول.
ابراهيم- كلي آذان صاغية لكل كلمة تخرج من فمك.
الطبيب- قد درست الطب في الأصقاع الأوربية على أحسن أساتذتها ولي مهارة تفوق التصور بهذا الفن فإذا أردت أن تحصل على ولد فتعال بكرة أنت وزوجتك إلى محل الطبابة وسترى صدق مقالي.
ابراهيم- إذا صدق فألك وصحت نبوتك فسأغمرك بالعطايا النفيسة ولن أنسى فضلك وأفضالك ما حييت.
الطبيب- ليس ذلك مرادي بل جل قصدي هو أن أفرج عنك كربتك تلك التي أضرت ضرراً بليغاً بصحتك وبعقلك ولا أريد منك سوى أجرتي العادية.
ابراهيم- هذا مما يدل على حسن طويتك واخلاصك واني أشكرك سلفاً ثم ودعه الطبيب ومضى في سبيله.
فاستحوذ على ابراهيم القلق والنصب طول ذلك النهار وأخذ يفكر في قول الطبيب تارة بصدق ما حدثه به ويعلل نفسه بالآمال ويبني القصور والعلالي، وطوراً يكذب ما سمعه منه ويهدم ما بناء ويحسب ذلك اضغاث أحلام فلما ضاق ذرعاً ولم يتمالك عن أن يضبط نفسه فاتح إمرأته بذلك الفكر الذي كان يجول في خاطره وقص عليها ما وقع له مع الطبيب وما دار بينهما من الحديث فسرت غاية السرور وحمدت الله على ذلك الذي لم تكن تتوقع أن تحصل عليه ولم تكن تحلم به أيضاً وطلبت منه تعالى أن يكمل تلك الأمنية بأسرع وقت.
فلما وافى الليل هجمت عليهما الهواجس والتخيلات فبقيا طول تلك الليلة يتجاذبان أطراف الحديث ولم تكتحل عيناهما بالنوم، فلما لاح الفجر نهضا وذهبا إلى بيت الطبيب وهناك رأياه جالساً على كرسي وأمامه مائدة فوقها كتاب كبير الحجم يقلب صفحاته. وعندما رآهما رحّب بهما وأجلسهما إلى جانبه وما زال ينثر على مسمعيهما الأقوال الحاملة على الاطمئنان والتصديق بأن سيولد لهما ولد بعونه تعالى الذي لا يعسر عليه شيء، ويسرد عليهما القصص والنوادر المضحكة ثم أمر الخادم أن يهيء الترويقة، ففعل كما أمره سيده. وبعد أن أكلوا قام وأدخلهما في غرفة خاصة وبعد الفحص والتنقيب عرف علتهما وأعطاهما دواء للشرب. ولكن قبل أن يذهبا أخذ الطبيب بيد ابراهيم وانفرد به وقال له ان زوجتك ستحمل وتلد ولكن يوجد خطر على حياتها في حبلها لأن أليافها التناسلية قد تصلبت لكبر سنها. فتظاهر ابراهيم من شدة فرحه كأنه لم يسمع انذار الطبيب وتنبيهه على مسألة تتعلق عليها حياة مالكة فؤاده. ثم أخذ زوجته ورجع مسرعاً إلى بيته حامداً الله هلى هذه النعمة السنية والعطية المجانية. ولم يمض شهر على ذلك إلا وزوجته حامل فدعى الطبيب وأسداه بعطايا سنية تليق بشأنه وأولم الولائم ودعى الأهل والأصحاب وفرح معهم فرحاً يكل عن وصفه اللسان ووزع ربع ماله على الفقراء والمساكين في ذلك اليوم ولم تكد تنتهي التسعة أشهر إلا ورزقه المولى بابنة آية في الجمال، لأن الطبيعة لم تبخل عليها بشيء من محاسنها، فأعطتها من الوردة حمرتها، ومن المهاة مقلتها، ومن البان قوامه، فدعاها والداها المحبة وأيقنا أنها ستكون فريدة عصرها ووحيدة زمانها، لما رأياه على وجهها من امارات النجابة والعفة والطهارة، فلنترك الطفلة تنمو في القامة والجمال ولنرجع إلى والدتها.
ان تلك الوالدة المسكينة كانت قد تألمت عند الولادة من جراء تصلب ألياف الرحم كما أشار الطبيب في حينه. وبعد ذلك ببضع أسابيع اشتدت عليها وطأة المرض حتى قطع الرجاء من شفائها فلما رأى ابراهيم ذلك دعى الأطباء من وطنيين وأجانب لأجل المشاورة ووعدهم أن يعطيهم نصف أمواله إذا استطاعوا أن يجدوا لدائها دواء فيعد الفحص المدقق والوقوف التام على علتها قر رأيهم أن لا علاج لمرضها وقالوا ذلك لها ولقرينها شفاهاً فلما رأي ابراهيم أن حيل الأطباء لم تنجع معها سلم أموره إلى الله تعالى. ففي ذلك النهار دعته زوجته وأوصته لكي يعتني بالطفلة المنكودة الطالع ويلقنها منذ نعومة أظفارها الآداب الدينية والأخلاق الحسنة ويزرع بذار التقوى والصلاح في تربة قلبها السليم ويجعله كجنة عدن في النقاوة والطهارة، وأن يقلع الأشواك الخبيثة التي تنمو حول سياجه فأجابها بالإيجاب ووعدها بأنه يفعل أكثر مما طلبت وابتغت ثم قالت له لقد علمت بأنك تحبني لأنك لم تكسر وصيتي بل قبلت ما أوصيتك به فالآن أموت قريرة العين مطمئنة القلب.
وفي اليوم الثاني عندما علمت أن منيتها قد قربت لتترك هذا العالم الفاني استدعت الطفلة وقبلتها ثم ركعت على سريرها وصلت من أجلها قائلة يا إلهي لقد قضت إرادتك الأزلية أن أفارق هذه الدنيا وابنتي صغيرة جداً ولم تسمح لي بأن أتمتع برؤيتها عندما تترعرع لكي القي عليها الإرشادات والنصائح التقوية حتى تشب على الفضيلة وتشيب عليها ولكن أسألك اللهم أن تمنح والدها العمر الطويل لكي يمكنه عوضي أن يدربها في سبيل خوف اسمك ولا يكون للشر والفساد نصيب فيها. وعزّه برحمتك لكي يستطيع أن يحتمل لوعة الفراق وأطلب من جودك أن تجمعني وإياه وطفلتنا هذه في دار البقاء حيث لا بكاء ولا حزن ولا مرض وحيث يد الموت لا تقوى على تبديد شملنا فاسمعني واستجبني لمجد اسمك القدوس.
ثم التفتت إلى الطفلة وقبلتها ثانية والدموع تهطل من عينها وقالت لها أستودعك يا عزيزتي ومهجة قلبي بيد العناية الإلهية لكي تراقبك من المهد إلى اللحد ثم تلجلج لسانها وثقل ولم تعد قادرة على الكلام فجاء ابراهيم وأسندها بصدره فلما رأى صفرة الموت علت وجنتها، وعيناها الجميلتان غارتامن حجاجهما وفقدتا بهائهما وضعها على سريرها لكي تستريح فنامت وبعد بضع ثوانٍ فتحت عينيها السوداوين فنظرت ابراهيم واقف عند رأسها فمدت ذراعها وقبلته ثم رفعت يديها نحو السماء قائلة لتكن مشيئتك يا الله فأنا أخضع لقضائك احفظ زوجي الشيخ الحزين وابنتي الطفلة ثم ضمت ذراعيها وبعد ذلك ببضع ثوان لفظت روحها وهكذا ذهبت شهيدة الحبل والولادة.
ولا تسأل عن حزن ابراهيم وبكائه المر وانتحابه عند موت زوجته فلعن تلك الساعة التي قابله بها الطبيب، وكان يفضل أن يبقى بدون نسل من أن يفقد تلك الزوجة الفاضلة ولكن ماذا ينفع الندم بعد ما زلت القدم وكان كلما يتذكر ما كانت عليه من الصفات الجليلة والمزايا الشريفة يزداد بالنحيب والعويل والنوح فجميع من حضر أخذ يقاسمه أحزانه ويشاطره كآبته حتى ان الجماد شاركه مصابه والدار شاطرته في رد صدى اشجانه.
فما انتشر خبر منعاها إلا وتقاطر الأهل والأصحاب وشقوا الجيوب وقرعوا الصدور على تلك البلية الدهماء والنازلة الشعواء والداهية الدهياء. فاحتشدت الجموع عقيب ذلك في دار ابراهيم لنقل الجثة فلما أتموا كل ما يلزم حملوا النعش المزين بالورود والرياحين إلى المقبرة وكانت الطرق غاصة بالناس وشرفات البيوت والشبابيك والأبواب مفتوحة لترى ذلك الموكب المحزن المشيع من الجمهور. فوقف ذلك الحشد في ساحة المقبرة العظمى ثم سار من هناك إلى المحل المعد لدفنها ورأى أن الرمس حاضر فوارى تلك الجثة الهامدة في التراب على رجاء قيامة الأجساد وأخذ الناس يستمطرون وابل الرحمة على روحها الطيبة العنصر ويطلبون من الله أن يلهم قرينها الصبر والعزاء لكي يمكنه أن يحتمل ذلك المصاب الأليم وهكذا أرفضّ الجمهور ورجع كل منهم إلى بيته يحدث ما سمع عن مزايا تلك الفاضلة ومناقبها الأثيلة وأفعالها الصالحة المجيدة تلك التي بلا شك ستكون لها خير زاد للآخرة وقصّوا كيف أبّنها بعض الكتبة وبينوا أفضالها وفضائلها وما كانت عليها من دماثة الأخلاق ولين العريكة ورقة قلبها وشفقتها على المساكين والفقراء والأخذ بساعد المظلومين وكيف بكتها الأغنياء والفقراء.
فعاد ابراهيم إلى البيت حزين القلب مكسور الخاطر منحني الظهر والدموع تتساقط على خديه وهو لا يعي على شيء من شدة الغم والكدر فكان الناس يعزوه ويسلوه بحوادث وأقوال تشفي صدأ القلب ولكن لم تكن تلك تغني عنه فتيلاً لأنه كان قد فقد أكبر مسل وأعظم معزٍ وأعز رفيق على وجه هذه الأرض. وكان فقط يردد هذه الأبيات:
ضاق السبيل على الباكي الحزين فلا عاد الحبيب ولا قلـب المحــب ســـلا
يهيج للحزن فــي أحشـــائــــه لـهـب وكلما رام اخماداً لـــــــه اشتعـــــــلا
كل الجراحات يشفيها الــدواء سـوى جرح الفؤاد فلا يشفــى وكـــم قتـــلا
****
نفذ القضــــــا من أوج ذاك المنبـــر فاصبر على بلواك أو لا تصبــــــر
ولقد أتى ما لســــت تملـــك بعـــده غير البكاء ولوعـــــــة المتحســــر
1910