كان الفن القصصي في العراق عامة والموصل خاصة فناً مستهجناً تحذر الصحف القراء من قراءة قصة أو رواية لأنها في ظنهم تقود إلى المفاسد وسوء الأخلاق.
ونشر المقالات المحذرة من مخاطر الفن القصصي على الشباب كما ورد في مجلة (لغة العرب) للأب انستاس الكرملي ج9/191 على الرغم من أن المجلة نشرت رواية (فتاة بغداد) لرزوق عيسي في ثلاثة أعداد من المجلة ونشر رواية (الأوهام) في العام ذاته ليوسف رزق الله غنيمة فضلاً عن تحذيرات الصحف مثل جريدة الرقيب العدد 573/1961 وجريدة العراق العدد 769/1922 في مقال بعنوان (حاجتنا إلى النهضة الفكرية) ورد فيه "نجد أننا نود أن نوجه النظر إلى الاحتراز من السير مع الهوى فينصرف كتابنا إلى الكتابة والترجمة في المواضيع والأقاصيص التافهة الفارغة والروايات السقيمة التي ليس ثمنها كبير ولا يستفيد مطالعها أي فائدة بل بعكس ذلك يضيع وقتاً ثميناً في قراءتها).
ونشرت مجلة الحاصد في عددها الأول عام 1935 مقالا بعنوان (من فضلكم وسوسات إبليس) ورد فيه "أصبحت كتابة القصة موضة آخر زمان ففلان وفلان كلهم يسودون الصحائف بالقصص.. يملئونها بالكلام الفارغ.. يا أيها المتطفلون على موائد الأدب أكرمونا سكوتكم من فضلكم" (الرواية العربية في العراق، عمر الطالب ص 59).
إلا أن الرواية العراقية ظهرت عام 1919 بقلم سليمان فيضي الموصلي تحت اسم (الرواية الإيقاظية) وهي رواية تعلىمية جمع كاتبها بين الرواية في الجزء الثاني والمسرحية في الجزء الأول وبأسلوب أقرب إلى أسلوب المقامة، وقد أختلف الدارسون في تصنيفها وأعدها (مسرواية) أي قبل أن يكتب توفيق الحكيم المسرواية (بنك القلق) بعدة عقود.
وبدأ محمود أحمد السيد بكتابة القصة ونشر (في سبيل الزواج) عام 1921 و(مصير الضعفاء) عام 1922 قبل أن يصدر روايته الشهيرة (جلال خالد) عام 1935. إلى جانب مقالات قصصية بدأت بالظهور في الصحف العراقية منذ العقد الأول من القرن العشرين.
وبرز في الموصل كاتباً للقصة ذنون أيوب الذي أصدر أربع عشرة مجموعة قصصية بدأها بـ (راسل الثقافة) عام 1937 و(الضحايا) و(صديقي) و(وحي الفن) عام 1928 و(برج بابل) و(الكادحون) عام 1929 وكتب في هذه السنة روايته الأولي (الدكتور إبراهيم) واستمر في كتابة القصة والرواية بعد هجرته من العراق إلى فينا ولاقت قصصه شهرة كبيرة في العراق لجرأتها ومجابهتها للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العراق على الرغم من ضعفها الفني فهي أقرب إلى المقالة القصصية منها إلى القصة.
ونشر عبد الخالق فاضل روايته (مجنونان) عام 1939 وكتب عدة قصص في مجلته (المجلة) التي أصدرها في الموصل عام 1940 وكانت هذه المجلة المتنفس لكتاب القصة في الموصل مثل غانم الدباغ الذي نشر فيها العديد من القصص وبرع في كتابة القصة الفتية إلا أنه لم يصدرها في مجاميع إلا في السبعينات فنشر (الماء العذب) عام 1969 و(سوناتا في ضوء القمر) 1970 وروايته إلىتيمة (ضجة في الزقاق) 1972 و(حكاية من المدينة القديمة) 1974 وأصيب بالفالج وتوقف عن الكتابة.
وبدأت بنشر قصصي في الجرائد العراقية منذ عام 1949 حيث أرسل مدرس اللغة العربية المرحوم ذنون الشهاب قصة لي إلى جريدة (المصري) المصرية ونشرت فيها وحزت على مكافأة قدرها خمس جنيهات وهي مبلغ لا بأس به في ذلك الوقت وقد كنت قارئاً نهماً منذ طفولتي حيث فتحت عيني على مجلات مثل الاثنين والمصور وآخر ساعة والنفير والصباح والرواية وأخبار اليوم ولكنها تنشر قصصاً وأنا ما زلت في الدراسة الابتدائية وقد أثرت بي روايات المنفلوطي بداء من (الفضيلة وتحت ظلال الزيزفون والعبرات) وانتهاء بـ (الشاعر وفي سبيل التاج) وقرأت في هذه المرحلة جبران خليل جبران وطه حسين وأولعت بترجمات (روايات الجيب) حيث قرأت فيها (نانا) لأميل زولا و(الجريمة والعقاب) لدستويفسكي و(الحرب والسلام) لتولستوي و(لبنة البخيل) لبلزاك و(كل شيء هادئ في الجبهة الغربية) لريمارك فضلاً عن ولعي بالسينما.
وكان خالي يصطحبني مرتين في الأسبوع لمشاهدة الأفلام الأجنبية ولا أنس الساعات التي عشتها مع أفلام مثل (ذهب مع الريح، ودكتور جايكل، ومستر هايد، ومستر ديدز يذهب إلى المدينة) فضلاً عن حبي للموسيقي والغناء منذ مشاهدتي فلم (الوردة البيضاء) لمحمد عبد الوهاب في سينما الهلال و(يحيا الحب) لليلي مراد ومحمد عبد الوهاب و(وداد) لأم كلثوم و(دنانير) لأم كلثوم أيضاً وكانت السينمات عديدة في الموصل منذ أواخر الثلاثينات واستمرت في ازدهارها حتى قيد عرض الأفلام وأقلع الجمهور المثقف عن الذهاب إلى السينما منذ عام 1980 وحل (الفيديو) محلها.
وانكببت في الدراسة المتوسطة على قراءة يوسف السباعي وأمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله حتى اكتشفت نجيب محفوظ في روايته (القاهرة الجديدة) ولم أدع منذ ذلك الوقت قصة أو رواية لنجيب محفوظ إلا واشتريتها وكونت لي مكتبة صغيرة تغلب عليها الروايات والقصص وأثرت بي في هذه الفترة ترجمات عن الأدب الأوربي ولا سيما (آلام فرتر وفاوست) لغوته و(روفائيل) لمارتين و(دافيد كوبر فيلر) لجارلس ديكنز.
ولم أعد أقرأ الصحف المحلية وما يكتب فيها من قصص لأنني أراها هزيلة بالنسبة للقصص العربية والأجنبية وفي المدرسة الإعدادية تعرفت على شكسبير وقرأت معظم مسرحياته وأعجبني (هاملت وماكبث والملك لير) بالدرجة الأولي وكانت من ترجمة مطران خليل مطران.
وكنت قد حزت في امتحان البكالوريا للصف الثالث على درجة كبيرة (تسعة وتسعون) فأجبرني مدير المدرسة الإعدادية (عزيز جاسم) على دخول القسم الأدبي في الوقت الذي كنت أميل فيه إلى القسم العلمي ولاسيما الرياضيات والطبيعيات إلا أنها كانت الإعدادية الوحيدة في الموصل ولم يفد الحوار مع المدير فقد أصر على دخولي القسم الأدبي قائلاً "لدي خمسة حصلوا على مائة في الرياضيات والعلوم إلا أنك الوحيد الذي تحصل على درجة عالية في اللغة العربية" وأصابني اليأس وفكرت في الانتقال إلى (أربيل) لدخول القسم العلمي وكانت أقرب إعدادية إلى الموصل تبعد تسعين كيلومتراً إلا أنني كنت صغيراً ولم يوافق أهلي على عرضي.
إلا أن اليأس بدأ بالزوال لرعاية مدرس اللغة العربية (ذنون الشهاب) لي وفتح أمامي مكتبة المدرسة وكانت زاخرة بالكتب والروايات والمسرحيات وأعطاني مكانة في لجنة الخطابة وجربت الكتابة في مجلة المدرسة (الإلهام) ووجدت في نفسي القدرة على الكتابة إلا أنني أصبت بصدمة أخرى فقد كان الطالب الذي يحصل على معدل خمسة وسبعين يرسل للدراسة في الخارج. ودرست اللغة الفرنسية في كنيسة الآباء الدومنيكان لاستعد لدراسة القانون في السوربون إلا أن القانون تغير في تلك السنة 1949 وأصبحت البعثات خاصة بالجامعات فدخلت كلية الحقوق إلا أن حبي للفن القصصي دفعني إلى التقديم إلى دار المعلمين العالية وكانت لا تقبل إلا الطلبة المتفوقين وبعدد محدود لسد الشواغر في المدارس ونجحت في الامتحان الذي أجراه قسم اللغة العربية ورحت أداوم صباحاً فيها ومساء في كلية الحقوق، وأسهر في مكتبة القسم الداخلي وكانت تعد أفضل مكتبة في بغداد آنذاك وقرأت جميع الروايات والقصص فيها فضلاً عما وجدته في المكتبة العامة وما كنت اشتريه من كتب وكان من دورتي شعراء مثل سعدي يوسف وزكي الجابر ومحمد جميل شلش وكنا نتنافس على الكتابة الجدية والنشر في الصحف وبقدر ما أصابتني دار المعلمين العالية بالخيبة لأنها كانت تعد الأدب الحديث ينتهي مع شوقي والرصافي وجدت في مقهى (حسن عجمي) من يهتم بالأدب الحديث حيث كان يتردد على المقهى الجواهري والسياب والبياتي وظهرت مجموعة عبد الملك نوري (نشيد الأرض) ومجموعة فؤاد التكرلي (الوجه الآخر) وكان فيهما تقنية جديدة لكتابة القصة.
فكتبت وأنا طالب في الكلية مائتي قصة، نشرت منها عشر قصص فضلاً عن قصة كتبتها عام 1969 فأثارت المجموعة التي صدرت باسم (خمسينات أضاعها ضباب الأيام) عام 1971 ضجة كبيرة في الموصل وكنت وقتها رئيساً لقسم اللغة العربية في الموصل وخشيت أن تؤثر على مكانتي وأنا تدريسي في الجامعة وما أدهشني حقاً أنني نشرت بعض هذه القصص في صحف عراقية في الخمسينات ولاقت ترحيباً من قبل القراء.
وكنت قد كتبت رواية بعنوان (ألف ألف مسيح) وقرأها غانم الدباغ وعدها أفضل رواية قرأها عام 1969 في حديث له مع جريدة الجمهورية إلا أن الرقابة رفضتها فقدمت رواية أخري بعنوان (الأحداق المجروحة) حذفت الرقابة نصفها وصدرت عام 1976 وكتبت عام 1970 روايتين وفعل الرقيب فيهما ما فعل بالروايتين السابقتين فجمعتهما في كتاب واحد حمل عنوان (إنسان الزمن الجديد) ومع هذه الرواية ألحقت الرواية الأخرى التي حذف الرقيب نصفها بعنوان (من الذي يأتي ؟) وصدرت عام 1981.
إلا أن هذه الخيبة لم تفت في عضدي واستمررت في كتابة القصة والرواية إلا أن الصحف والمجلات العراقية نشرت القليل منها في الوقت الذي نشرت دراساتي النقدية على نطاق واسع.
ووجدت فرصتي عندما أوفدت للتدريس في الجامعات المغربية فنشرت رواية كتبتها عام 1969 باسم (صراع على مشارف قلب) عام 1986 ومجموعتين قصصيتين (القرب والمدى) و(البحر الحزين) عام 1987 ومجموعة قصصية أخرى باسم (القمر وصيادو السمك) عام 1990 و(نقطة ضعف) عام 1993 و(الجد والفرس المحتضرة) عام 2003 وعدت إلى العراق وأصبح السفر متعذراً والحصار خانقاً والتضخم قاتلاً فانصرفت إلى كتابة القصة القصيرة والرواية وكتبت عشرين مجموعة قصصية تضم الواحدة خمس عشرة قصة وعشر روايات قدمتها للنشر فرفضت لأنها لا تسير في الخط والاتجاه السياسي العام آنذاك ووافقوا على نشر رواية (انزياحات الرغبة وصاحب اللحية السوداء) وقامت الحرب ولا أدري ما حل بالرواية الآن.
وأنا أسعي الآن إلى نشر هذه الروايات والقصص التي نشر بعضها في صحف ومجلات عراقية وأجنبية بعد الحذف منها وعلى سبيل المثال حذفت الصحيفة نصف قصة (موت الرجل الغريب) إلا أن كبت حريتي الشخصية هذا زادني استمراراً على الكتابة والقراءة والتدريس في الجامعة على الرغم من العقبات التي وضعوها أمامي.
وقد ازدهرت القصة في الموصل وظهر كتاب شباب مثل سعد البزاز ومحمود جنداري وفاتح عبد السلام وحمد صالح ونجمان ياسين ويوسف الصائغ ونزار عبد الستار وثامر معيوف وأمجد توفيق وسالم العزاوي ومحمود سعيد وجاسم الرصيف وحسن مطلك وغيرهم.
وظهر مبدعون من الشباب في الموصل يمثلون جيل الهزيمة والجوع والتضخم والإذلال لا يمكن لباحث جاد أن يقيمهم إلا بعد عقد من الزمان على الأقل خوف أن ينصرفوا عن الكتابة كما انصرفت أجيال من قبلهم ولم يصدروا غير مجموعة واحدة أو بعض قصص منشورة هنا وهناك.
ونشر المقالات المحذرة من مخاطر الفن القصصي على الشباب كما ورد في مجلة (لغة العرب) للأب انستاس الكرملي ج9/191 على الرغم من أن المجلة نشرت رواية (فتاة بغداد) لرزوق عيسي في ثلاثة أعداد من المجلة ونشر رواية (الأوهام) في العام ذاته ليوسف رزق الله غنيمة فضلاً عن تحذيرات الصحف مثل جريدة الرقيب العدد 573/1961 وجريدة العراق العدد 769/1922 في مقال بعنوان (حاجتنا إلى النهضة الفكرية) ورد فيه "نجد أننا نود أن نوجه النظر إلى الاحتراز من السير مع الهوى فينصرف كتابنا إلى الكتابة والترجمة في المواضيع والأقاصيص التافهة الفارغة والروايات السقيمة التي ليس ثمنها كبير ولا يستفيد مطالعها أي فائدة بل بعكس ذلك يضيع وقتاً ثميناً في قراءتها).
ونشرت مجلة الحاصد في عددها الأول عام 1935 مقالا بعنوان (من فضلكم وسوسات إبليس) ورد فيه "أصبحت كتابة القصة موضة آخر زمان ففلان وفلان كلهم يسودون الصحائف بالقصص.. يملئونها بالكلام الفارغ.. يا أيها المتطفلون على موائد الأدب أكرمونا سكوتكم من فضلكم" (الرواية العربية في العراق، عمر الطالب ص 59).
إلا أن الرواية العراقية ظهرت عام 1919 بقلم سليمان فيضي الموصلي تحت اسم (الرواية الإيقاظية) وهي رواية تعلىمية جمع كاتبها بين الرواية في الجزء الثاني والمسرحية في الجزء الأول وبأسلوب أقرب إلى أسلوب المقامة، وقد أختلف الدارسون في تصنيفها وأعدها (مسرواية) أي قبل أن يكتب توفيق الحكيم المسرواية (بنك القلق) بعدة عقود.
وبدأ محمود أحمد السيد بكتابة القصة ونشر (في سبيل الزواج) عام 1921 و(مصير الضعفاء) عام 1922 قبل أن يصدر روايته الشهيرة (جلال خالد) عام 1935. إلى جانب مقالات قصصية بدأت بالظهور في الصحف العراقية منذ العقد الأول من القرن العشرين.
وبرز في الموصل كاتباً للقصة ذنون أيوب الذي أصدر أربع عشرة مجموعة قصصية بدأها بـ (راسل الثقافة) عام 1937 و(الضحايا) و(صديقي) و(وحي الفن) عام 1928 و(برج بابل) و(الكادحون) عام 1929 وكتب في هذه السنة روايته الأولي (الدكتور إبراهيم) واستمر في كتابة القصة والرواية بعد هجرته من العراق إلى فينا ولاقت قصصه شهرة كبيرة في العراق لجرأتها ومجابهتها للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العراق على الرغم من ضعفها الفني فهي أقرب إلى المقالة القصصية منها إلى القصة.
ونشر عبد الخالق فاضل روايته (مجنونان) عام 1939 وكتب عدة قصص في مجلته (المجلة) التي أصدرها في الموصل عام 1940 وكانت هذه المجلة المتنفس لكتاب القصة في الموصل مثل غانم الدباغ الذي نشر فيها العديد من القصص وبرع في كتابة القصة الفتية إلا أنه لم يصدرها في مجاميع إلا في السبعينات فنشر (الماء العذب) عام 1969 و(سوناتا في ضوء القمر) 1970 وروايته إلىتيمة (ضجة في الزقاق) 1972 و(حكاية من المدينة القديمة) 1974 وأصيب بالفالج وتوقف عن الكتابة.
وبدأت بنشر قصصي في الجرائد العراقية منذ عام 1949 حيث أرسل مدرس اللغة العربية المرحوم ذنون الشهاب قصة لي إلى جريدة (المصري) المصرية ونشرت فيها وحزت على مكافأة قدرها خمس جنيهات وهي مبلغ لا بأس به في ذلك الوقت وقد كنت قارئاً نهماً منذ طفولتي حيث فتحت عيني على مجلات مثل الاثنين والمصور وآخر ساعة والنفير والصباح والرواية وأخبار اليوم ولكنها تنشر قصصاً وأنا ما زلت في الدراسة الابتدائية وقد أثرت بي روايات المنفلوطي بداء من (الفضيلة وتحت ظلال الزيزفون والعبرات) وانتهاء بـ (الشاعر وفي سبيل التاج) وقرأت في هذه المرحلة جبران خليل جبران وطه حسين وأولعت بترجمات (روايات الجيب) حيث قرأت فيها (نانا) لأميل زولا و(الجريمة والعقاب) لدستويفسكي و(الحرب والسلام) لتولستوي و(لبنة البخيل) لبلزاك و(كل شيء هادئ في الجبهة الغربية) لريمارك فضلاً عن ولعي بالسينما.
وكان خالي يصطحبني مرتين في الأسبوع لمشاهدة الأفلام الأجنبية ولا أنس الساعات التي عشتها مع أفلام مثل (ذهب مع الريح، ودكتور جايكل، ومستر هايد، ومستر ديدز يذهب إلى المدينة) فضلاً عن حبي للموسيقي والغناء منذ مشاهدتي فلم (الوردة البيضاء) لمحمد عبد الوهاب في سينما الهلال و(يحيا الحب) لليلي مراد ومحمد عبد الوهاب و(وداد) لأم كلثوم و(دنانير) لأم كلثوم أيضاً وكانت السينمات عديدة في الموصل منذ أواخر الثلاثينات واستمرت في ازدهارها حتى قيد عرض الأفلام وأقلع الجمهور المثقف عن الذهاب إلى السينما منذ عام 1980 وحل (الفيديو) محلها.
وانكببت في الدراسة المتوسطة على قراءة يوسف السباعي وأمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله حتى اكتشفت نجيب محفوظ في روايته (القاهرة الجديدة) ولم أدع منذ ذلك الوقت قصة أو رواية لنجيب محفوظ إلا واشتريتها وكونت لي مكتبة صغيرة تغلب عليها الروايات والقصص وأثرت بي في هذه الفترة ترجمات عن الأدب الأوربي ولا سيما (آلام فرتر وفاوست) لغوته و(روفائيل) لمارتين و(دافيد كوبر فيلر) لجارلس ديكنز.
ولم أعد أقرأ الصحف المحلية وما يكتب فيها من قصص لأنني أراها هزيلة بالنسبة للقصص العربية والأجنبية وفي المدرسة الإعدادية تعرفت على شكسبير وقرأت معظم مسرحياته وأعجبني (هاملت وماكبث والملك لير) بالدرجة الأولي وكانت من ترجمة مطران خليل مطران.
وكنت قد حزت في امتحان البكالوريا للصف الثالث على درجة كبيرة (تسعة وتسعون) فأجبرني مدير المدرسة الإعدادية (عزيز جاسم) على دخول القسم الأدبي في الوقت الذي كنت أميل فيه إلى القسم العلمي ولاسيما الرياضيات والطبيعيات إلا أنها كانت الإعدادية الوحيدة في الموصل ولم يفد الحوار مع المدير فقد أصر على دخولي القسم الأدبي قائلاً "لدي خمسة حصلوا على مائة في الرياضيات والعلوم إلا أنك الوحيد الذي تحصل على درجة عالية في اللغة العربية" وأصابني اليأس وفكرت في الانتقال إلى (أربيل) لدخول القسم العلمي وكانت أقرب إعدادية إلى الموصل تبعد تسعين كيلومتراً إلا أنني كنت صغيراً ولم يوافق أهلي على عرضي.
إلا أن اليأس بدأ بالزوال لرعاية مدرس اللغة العربية (ذنون الشهاب) لي وفتح أمامي مكتبة المدرسة وكانت زاخرة بالكتب والروايات والمسرحيات وأعطاني مكانة في لجنة الخطابة وجربت الكتابة في مجلة المدرسة (الإلهام) ووجدت في نفسي القدرة على الكتابة إلا أنني أصبت بصدمة أخرى فقد كان الطالب الذي يحصل على معدل خمسة وسبعين يرسل للدراسة في الخارج. ودرست اللغة الفرنسية في كنيسة الآباء الدومنيكان لاستعد لدراسة القانون في السوربون إلا أن القانون تغير في تلك السنة 1949 وأصبحت البعثات خاصة بالجامعات فدخلت كلية الحقوق إلا أن حبي للفن القصصي دفعني إلى التقديم إلى دار المعلمين العالية وكانت لا تقبل إلا الطلبة المتفوقين وبعدد محدود لسد الشواغر في المدارس ونجحت في الامتحان الذي أجراه قسم اللغة العربية ورحت أداوم صباحاً فيها ومساء في كلية الحقوق، وأسهر في مكتبة القسم الداخلي وكانت تعد أفضل مكتبة في بغداد آنذاك وقرأت جميع الروايات والقصص فيها فضلاً عما وجدته في المكتبة العامة وما كنت اشتريه من كتب وكان من دورتي شعراء مثل سعدي يوسف وزكي الجابر ومحمد جميل شلش وكنا نتنافس على الكتابة الجدية والنشر في الصحف وبقدر ما أصابتني دار المعلمين العالية بالخيبة لأنها كانت تعد الأدب الحديث ينتهي مع شوقي والرصافي وجدت في مقهى (حسن عجمي) من يهتم بالأدب الحديث حيث كان يتردد على المقهى الجواهري والسياب والبياتي وظهرت مجموعة عبد الملك نوري (نشيد الأرض) ومجموعة فؤاد التكرلي (الوجه الآخر) وكان فيهما تقنية جديدة لكتابة القصة.
فكتبت وأنا طالب في الكلية مائتي قصة، نشرت منها عشر قصص فضلاً عن قصة كتبتها عام 1969 فأثارت المجموعة التي صدرت باسم (خمسينات أضاعها ضباب الأيام) عام 1971 ضجة كبيرة في الموصل وكنت وقتها رئيساً لقسم اللغة العربية في الموصل وخشيت أن تؤثر على مكانتي وأنا تدريسي في الجامعة وما أدهشني حقاً أنني نشرت بعض هذه القصص في صحف عراقية في الخمسينات ولاقت ترحيباً من قبل القراء.
وكنت قد كتبت رواية بعنوان (ألف ألف مسيح) وقرأها غانم الدباغ وعدها أفضل رواية قرأها عام 1969 في حديث له مع جريدة الجمهورية إلا أن الرقابة رفضتها فقدمت رواية أخري بعنوان (الأحداق المجروحة) حذفت الرقابة نصفها وصدرت عام 1976 وكتبت عام 1970 روايتين وفعل الرقيب فيهما ما فعل بالروايتين السابقتين فجمعتهما في كتاب واحد حمل عنوان (إنسان الزمن الجديد) ومع هذه الرواية ألحقت الرواية الأخرى التي حذف الرقيب نصفها بعنوان (من الذي يأتي ؟) وصدرت عام 1981.
إلا أن هذه الخيبة لم تفت في عضدي واستمررت في كتابة القصة والرواية إلا أن الصحف والمجلات العراقية نشرت القليل منها في الوقت الذي نشرت دراساتي النقدية على نطاق واسع.
ووجدت فرصتي عندما أوفدت للتدريس في الجامعات المغربية فنشرت رواية كتبتها عام 1969 باسم (صراع على مشارف قلب) عام 1986 ومجموعتين قصصيتين (القرب والمدى) و(البحر الحزين) عام 1987 ومجموعة قصصية أخرى باسم (القمر وصيادو السمك) عام 1990 و(نقطة ضعف) عام 1993 و(الجد والفرس المحتضرة) عام 2003 وعدت إلى العراق وأصبح السفر متعذراً والحصار خانقاً والتضخم قاتلاً فانصرفت إلى كتابة القصة القصيرة والرواية وكتبت عشرين مجموعة قصصية تضم الواحدة خمس عشرة قصة وعشر روايات قدمتها للنشر فرفضت لأنها لا تسير في الخط والاتجاه السياسي العام آنذاك ووافقوا على نشر رواية (انزياحات الرغبة وصاحب اللحية السوداء) وقامت الحرب ولا أدري ما حل بالرواية الآن.
وأنا أسعي الآن إلى نشر هذه الروايات والقصص التي نشر بعضها في صحف ومجلات عراقية وأجنبية بعد الحذف منها وعلى سبيل المثال حذفت الصحيفة نصف قصة (موت الرجل الغريب) إلا أن كبت حريتي الشخصية هذا زادني استمراراً على الكتابة والقراءة والتدريس في الجامعة على الرغم من العقبات التي وضعوها أمامي.
وقد ازدهرت القصة في الموصل وظهر كتاب شباب مثل سعد البزاز ومحمود جنداري وفاتح عبد السلام وحمد صالح ونجمان ياسين ويوسف الصائغ ونزار عبد الستار وثامر معيوف وأمجد توفيق وسالم العزاوي ومحمود سعيد وجاسم الرصيف وحسن مطلك وغيرهم.
وظهر مبدعون من الشباب في الموصل يمثلون جيل الهزيمة والجوع والتضخم والإذلال لا يمكن لباحث جاد أن يقيمهم إلا بعد عقد من الزمان على الأقل خوف أن ينصرفوا عن الكتابة كما انصرفت أجيال من قبلهم ولم يصدروا غير مجموعة واحدة أو بعض قصص منشورة هنا وهناك.