أود في هذا الحيز الضيق تقديم نظرة تقييمية مكثفة عن المنجز القصصي العراقي منذ النشأة حتى الأن، رغم صعوبة الأمر، فعمر القصة العراقية يقارب عمر الدولة العراقية التي نشأت بحدودها الحالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ممثلة بنصوص ـ محمود أحمد السيد ـ الذي يعود له فضل تأسيس قالب القص بشكله المعاصر، وما تلاه من أجيال جاهدت من أجل بلورة قالب قصصي يناسب البيئة والتجربة العراقية بين الحربين العالميتين.. الحيز ضيق وغرضه ألقاء الضوء على ظاهرة، نص، جيل، لذلك سأتناول جانباً جوهرياً بصيرورة النص القصصي العراقي إلا وهو مسيرة نضج السرد القصصي فنيا كي يعي ذاته، فبمقدار ما يتخلص السرد من الأفكار الأيدلوجية المسبقة ذات المقاصد والمباغي سواء أكانت خيّرة أو شريرة يصل إلى نضجه بحياديته، فيستطيع لمس كيان الإنسان عميقاً مما يبرر النص القصصي المكتوب كونه فناً يحمل قيمته الجمالية أولاً، التي تحقق بدورها قيمة أيدلوجية مطلقة بالضد من الأيدلوجيات المتصارعة من أجل السلطة والمال. أيدلوجية معنية بالإنسان ومحنة وجوده وأغترابه تنبثق هذه القيمة من باطن ارتصاف الحروف بجسد الكلمة، والكلمة بجسد الجملة السردية المنشأة بتلابسها مع الما قبل والما بعد كوناً.. مناخاً مختلفاً يحرض على الحلم يشابه الواقع لكنه ليس واقعا، وبشابه الخيال ولكنه ليس خيال.
من هذه الزاوية.. ومن خلال دراستي للقصة العراقية منذ نشأتها أستطيع القول:
أن مرحلة التأسيس المضنية التي انطلقت من العشرينات أثمرت في الخمسينات عن ولادة بنية قصصية واعية لذاتها على يد المبدعين الكبيرين ـ عبد الملك نوري ـ في مجموعته ( نشيد الأرض ) و ـ فؤاد التكرلي ـ في ( الوجه الأخر ) لكن الأخير أي التكرلي تميز بتنقية السرد من كل ظلال الأيدلوجيا سوى مطلقها المعني بكينونة الإنسان، مما أكسب تلك النصوص نضارة دائمة تجد تجسّدها في سر قراءتها رغم غبار الزمن وكأن ما يحصل لذوات شخصياتها المقهورة في قصص.. العيون الخضر، موعد النار، الوجه الأخر وباقي القصص يحصل لحظة القراءة. هذه الذروة الفنية التي أمسكت بلحظة أبدية في بنيتها السردية كان من المفترض أن تدفع بالفن القصصي العراقي إلى مرحلة جديدة، لكن ظلت ـ الوجه الآخر ـ شاخصة كمعلم فني وحيد جوار ـ نشيد الأرض ـ وبعض أقاصيص سابقة أسست لفؤاد وعبد الملك إلا وهي أقاصيص ـ يوسف متى ـ الذي ضاع أثره، إلى فترة متأخرة نسبياً بسبب التسيّس الحاد للمجتمع العراقي في أعقاب وصول العسكر إلى السلطة في 14 تموز 1958 حيث طغت الشعارات السياسية الفجة على مناحي الحياة وألسنة العراقيين، أعقبها تناحر دموي بين رؤوس السلطة العسكرية انعكس سلباً على النص الفني، وأستطيع القول: أن التناحر اللامعقول ألقى ظلاله المعتمة على بنية السرد القصصي، حيث انشغل العراقي وقتها بمحنة المحافظة على الكينونة.. سلامتها خشية بطش السلطة.. كان ذلك لفترة ليست بالطويلة إذ سرعان ما أستعاد جيل الستينات الذي شبَّ في لحظة انحسار الأحلام وتألقها.. بين واقع بحور الدم التي أغرقت القوى المتصارعة وحلم ثورة تحقق عدالة مستحيلة.. وفي سنوات ضعف السلطة العراقية النسبي بالفترة الواقعة بين 1964 ـ 1970 في تلك الفترة من تأريخ ظلال الحرية في العراق ولد جيل الستينات الأدبي المتمرد متأثراً بأفكار سارتر وكاموا الوجودية، وبأفكار جيفارا الذي ذهب إلى حلمه وحتفه في أرياف بوليفيا.
أستطيع القول ـ فيما يخص ما ركزتُ عليه ـ: أن النص القصصي العراقي أنتقل أبعد في تأمله بالشأن البشري، متخلصاً من كل أدران الأيدلوجيا السياسية والتي أخذت طابع العشائرية في بنية المجتمع العراقي.. وذلك في نصوص ـ جليل القيسي ـ ( صهيل المارة حول العالم ) الصادرة عن دار النهار اللبنانية 1968. و ـ محمود جنداري ـ في ( أعوام الضمأ ) 1969. و ـ عبد الرحمن مجيد الربيعي ـ في ( السفينة والسيف ) 1966. و ـ أحمد خلف ـ في ( نزهة في شوارع مهجورة ) 1974. و ـ فهد الأسدي ـ في ( عدن مضاع ) . وـ موسى كريدي ـ في ( أصوات المدينة ) 1968. وـ عالية ممدوح ـ في ( هوامش السيدة ب ) الصادرة عن دار الآداب بيروت. وـ محمد خضير ـ في ( المملكة السوداء) 1972 المكثفة بنصوصها الثلاثة عشر، وكأنها البوابة التي أفضت إلى تلك اللحظة الكامنة بين الحلم واليقظة.. اللحظة الوهم التي لا هي واقع ولا هي حلم.. لحظة تشبه أحلام اليقظة..تذكر الحلم.. أو حلم دائم يحياه القارئ لحظة القراءة.. ومن يريد استعادة مثل هذه اللحظات فما عليه إلا الاستغراق في عوالم نصوص ( أمنية القرد ) وحتى النص الثالث عشر ( التابوت ).
لم يترك القاص ـ محمد خضير ـ ثيمة في التجربة العراقية إلا وتناولها في نصوص مملكته السوداء، الحب، الحرب، الفقدان، الاغتراب، الفراق، الطفولة.. بـ ـ محمد خضير ـ أصبح من العسير على الكتاب الشباب إيجاد أسلوبهم دون المرور بأسلوبه المذهل؛ السهل ظاهراً.. العسير المنال جوهراً.. هذا ما حدث للعديد من الشباب المبدعين قبل أن يعثروا على صوتهم الخاص..
لم يستمر الأمر طويلاً، فسرعان ما ساد خطابان أيدلوجيان متناقضان تحالفا حلفاً شكلياً طوال فترة السبعينات من القرن العشرين المنصرم: البعثي والشيوعي؛ حيث طغى الخطاب الأيدلوجي على كل ما هو متأمل وحقيقي.. لينتهي بتناحر لا يختلف في جوهره عن تناحر أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. سحق مطلق للرأي الأخر، وتسييس قسري لكل عراقي شاء أم أبى، فأتت الحروب كمحصلة وكنقطة تحول في حياة المجتمع العراقي المعاصر والنص القصصي العراقي.. وما أعقبها من دمار وتشديد الإرهاب والهجرات الواسعة للكتاب والمثقفين.
وضعت الظروف الجديدة القصة العراقية في امتحان عسير حيث ضغطت السلطة باتجاه تشجيع تيار أدبي مجّدَ الحرب والقتل؛ فظهر العديد من الكتاب الشباب الجدد أنصاف الموهوبين الذين كتبوا سيلاً من النصوص الركيكة المتغزلة بالحرب والقتل والضباط والقادة في محاولة لإضفاء الشرعية على ذلك الموت المجاني الذي طال العراقي المساق إلى النار قسراً. هذا التيار الجارف المعروف والموثق في كتب صدرت تحت لافتة ـ قصص قادسية صدام ـ أربك العديد من المبدعين ـ جيل الستينات ـ الذين عايشوا الوضع في الداخل، فأدى الوضع الجديد ومنذُ أواسط الثمانينات إلى بروز تيار جديد في القصة العراقية فرضته ظروف الحرب. تيار نأى عن نصوص الحرب المؤدلجة الممجدة لفعل الشر ـ الحرب ـ، واستدار عن مأزق الإنسان العراقي وأمكنته الممزقة بآثار الحرب الطويلة والمستمرة، ليدخل مأزقه الخاص ويتغرب عن عصره منشغلاً بكائنات أساطير بلاد الرافدين القديمة والأمكنة المندثرة لحضارات ازدهرت ما بين النهرين وبشرها المختلفين عن بنية العراقي المعاصر الأقرب إلى بنية حضارات مازالت حية كالإسلام والمسيحية، مما جعل الرموز ومدلولاتها محصورة بحدود النص ومصادر الكتب القديمة وأطلال الأمكنة، مما أدى إلى خلق بنية سردية مبتكرة وجديدة على السرد العراقي والعربي، فالتبست طريقة السرد حتى على كاتبها لدى ـ محمود جنداري ـ الذي تفجر في مجموعته القصصية ـ مصاطب الآلهة ـ فظن أنه يكتب نصا بلا حبكة في محاضرة في اتحاد الأدباء في العراق كما ذُكِرَ في مقدمة المجموعة الصادرة عن دار أزمنة ـ الأردن ـ، لكنني وجدت فيها لدى تحليلها نصاً تأتى حبكته من سبر غور التاريخ والدم المساح في العراق في نشيد أعمق من الشعر أفضى به إلى زنزانة الإعدام ثم إلى الموت بالسكتة قبيل صدور مجموعته المشار إليها.
ولدى المخضرم والمجدد ـ محمد خضير ـ تحول النص إلى معمار لغوي ينحت ماضي الأمكنة مطعماً بألغازها وأحجيتها الملتبسة في غموض يقتل المدلولات قصة ( رؤيا البرج ) وحول بعض قصصه إلى أحجية كقصة ( صفيحة التساؤلات ) وغيرها من مجموعته القصصية ـ رؤيا الخريف ـ الصادرة في الأردن أيضا.
ولدى ـ جليل القيسي ـ المميز بأسلوبه الواضح إذ تحولت القصة لديه إلى بنية الحكاية السابقة لمفهوم النص القصصي الحديث ( مملكة الانعكاسات الضوئية ).. وبعض أقاصيص ـ لطفية الدليمي ـ ذات المسحة الصوفية. ومحصلة هذا التيار إغناء القصة العراقية والسرد العراقي والعربي بأشكال وبني سردية جديدة من جهة، وَتَغرب النص العراقي عن مأزق العراقي زمن الحرب حيث كان الإنسان العراقي بأمس الحاجة إلى متخيلٍ فني يعادل قباحة الواقع ويجعل من الحياة أكثر احتمالاً.
بالعكس من التيار المذكور، ومنذ أواسط الثمانينات أيضاً بدأت تنمو خارج العراق قصة منفى عراقية تميزت دون كل التجارب الأخرى كونها لصيقة بما يجري للعراقي في الوطن، سرعان ما رسخت كمصطلح جديد في الأدب العراقي السردي يستند إلى نصوص نُشرت لكتاب تبلورت موهبتهم ورؤاهم الفنية والفكرية في أجواء الحرية المكتسبة من فعل النفي العراقي بدوافعه الأيدلوجية ـ السياسية المختلفة عن واقع المنفى العربي عدا التجربة الفلسطينية المفترقة بدورها عن جوهر تجربة النفي العراقية، مما جعل النص القصصي العراقي المكتوب في المنفى يطرح إشكاليات جديدة في القص العربي المعاصر تختلف عن إشكاليات أدب المهجر اللبناني السوري في بدايات القرن العشرين، وعن أدب المقاومة الفلسطيني، فما زال المنفي ـ المبدع ـ العراقي يحلم بعودة قريبة؛ ينام ويصحو عليها منذ لحظة مغادرته تراب وطنه، يحلم.. ويحلم بالبشر والأمكنة مما جعل نصوص الكتاب المنفيين تبدو وكأن كتباها يعيشون في العراق لكن لديهم حرية التعبير عن المأزق الذي يعيش فيه العراقي دون رقيب، فعرضت تلك النصوص محنة العراقي في ظل الديكتاتورية والحرب وظروف القسوة بوضوح، خوفه، استلابه، أحلامه، تشوّهه، موته العبثي.. نجد ذلك في نصوص جنان جاسم حلاوي ( قصص الحب.. قصص الحرب ).. التي تناولت معضلة الإنسان في ظل الحرب العراقية الإيرانية وهموم الجنود في الجبهات وفي الإجازات في المدن، ونجم والي في مجموعته ( ليلة ماري الأخيرة ) التي تناولت نصوصه فيها أوضاع مختلفة للبشر من أطفال وجنود زمن الحرب، وكريم عبد في ( الهواء يوشك على الوجوم ) التي تناول في نصوص عدة محنة الموت في الحرب سواء في جبهة الحرب العراقية الإيرانية أو في الجبل بين الثوار، وشاكر الأنبا ري في ( ثمار البلوط ) .. و ( أنا والمجنون ) إذ تناولت بعض نصوصه محنة الجندي الهارب من الحرب وطريقة تسلله إلى الجبال لعبور الحدود قصة ـ ثمار البلوط ـ وموضوعات تتعلق بمحنة الإنسان في زمن الحرب والدكتاتورية في نص ـ دكة الموتى ـ وغيرها، وكاتب هذه السطور في مجموعته الأولى ـ رؤيا اليقين ـ 1994 دار الكنوز الأدبية ـ بيروت. التي تناولت نصوصها السبعة محنة العراقي في تجربة الثوار في الجبال شمال العراق، و ـ سرير الرمل ـ دار حواران دمشق 2000 التي تناولت في نصوصها مأزق الإنسان في المنفى، والحب في الصبا والشيخوخة، أضافة إلى تيمة فقد الأحباب في المعتقلات والحرب، وسلام عبود في ـ العودة إلى آل أزيرج ـ و ـ ضباب أفريقي ـ الصادرة عن دار المنفى 1998.
وعندما يخوض النص في كينونة المنفي ومعناه يكون شديد التوتر، يفيض بالقلق المتولد من تقاطع الشعور بوقتية النفي وطول زمنه؛ ـ إبراهيم أحمد ـ في ( بعد مجيء الطير ). ـ حسين الموزاني ـ ( خريف المدن ). أما ـ هيفاء زنكنة ـ فقد صدرت لها مجموعة ـ بيت النمل ـ التي خاضت في جميع نصوصها بالخراب الروحي الذي يورثه المنفى بكينونة المنفي. كما لابد أن نذكر ـ علي عبد العال ـ في مجموعته ـ العنكبوت الصادرة عن دار المنفى ـ السويد 1997 ـ التي تناول فيها محنة المنفى في نص طويل وجميل من نصوص المجموعة. بالإضافة إلى انشغال العديد من النصوص في إعادة بناء أمكنة الطفولة وشؤونها في العديد من نصوص الكتاب المذكورين وبروح مختلفة متأتية من خصوصية إلتباس تجربة النفي العراقية، تجلى ذلك بتميز لدى ـ جبار ياسين ـ في ( وداعا أيها الطفل ) المركز العربي للفنون والآداب ـ بلجيكا ـ بروكسل 1995. إذ مزج الطفولة بالواقع السياسي العراقي الدامي.. فجاءت القصص بعيني طفل يرى العنف في الشوارع زمن الانقلابات العسكرية أواخر الخمسينات وخلال الستينات. أما لدى ـ سالمة صالح ـ فتحول النص إلى رسم أمكنة الطفولة وحكاياتها بأسلوب طغى عليه العاطفة الجياشة وأغرقه الحنين في ( زهرة الأنبياء ) دار المدى 1994.
أما أساليب القص فمتنوعة في تقنياتها ومذاهبها من أسلوب القص التقليدي كما لدى ـ علي عبد العال ـ و ـ سلام عبود ـ إلى أسلوب السرد الحديث والمبتكر كما هو لدى ـ جنان جاسم حلاوي ـ و ـ جبار ياسين ـ . رغم هذا التباين الأسلوب الغني فقد تميزت لغة النصوص بالوضوح والرشاقة والتكثيف والبناء بالمتانة، عدا أن غالبية المبدعين المذكورين مثقفين يمارسون الكتابة النقدية الإبداعية في الصحف والمجلات العراقية الصادرة بالمنفى والعربية.
( لابد من الذكر هنا أن الكتاب المنفيين من الأجيال السابقة لهذا الجيل استمرت بالنشر وبنشاط مجاميع قصصية أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر؛ ـ فاضل العزاوي ـ، ـ محمود سعيد ـ، وغيرهم لكن النصوص التي أطلعت عليها متخلفة من ناحية الصوغ الفني وطريقة تناول الموضوعات عن الجيل الأنف الذكر... وهنا أود تذكير القارئ بأني أقصر حديثي هنا عن ـ القصة ـ وليس الرواية التي ساهمت الأسماء المذكورة فيها وكانت جهدها الرئيسي في الكتابة والنشر ولي وقفة معها في موضع أخر يخص الرواية العراقية..).
منذ أوائل التسعينات بدأ يتبلور تيار جديد من القص العراقي.. هو جيل من الكتاب الشباب خارج لتوه من هول الحروب، الحصار، الجوع، القمع، ملتجئا إلى معسكرات اللجوء في دول الجوار؛ إيران والسعودية أو تشّرد بين عمان ودمشق ودول اللجوء في أنحاء العالم. ويظهر لاحقا كتاب ممن بقوا داخل الوطن يعانون ويكتبون بصمت وبطريقة مبتكرة وجديدة. هذا المخاض القصصي العراقي المحتدم احتدام الواقع العراقي الثقافي والاجتماعي والسياسي نشر أظهر أسماء طموحة بدأت بالتنظير قبل تحقق النص مثل جماعة البصرة التي نشرت بياناً وضعت له عنوناً عريضاً يقول ـ مختبر جماعة البصرة أواخر القرن العشرين ـ وعنوان طبيعة الموضوع ـ أنساق القصة القصيرة جداً ـ إضاءات الرحلة ـ هواجس التجربة ـ ووقع هذا البيان؛ قصي الخفاجي/ كاظم الحلاق/ نجاح الجبيلي/ كريم عباس زامل/ محمد عبد الحسن. لست بصدده لأني لا أميل إلى التنظير قبل النص.. لكنني تابعت ما استطعت من نصوص لهذا الجيل فوجدتها مهمومة بمواضيع جديدة، مختلفة تماما تروي ما لم يروه جيل الستينات المتواجدة رموزه في اللحظة الراهنة في العراق والمنفى، وما لم يستطع أن يرويه الجيل الناضج فنياً الذي ترعرع في المنفى، لكنني تلمست في غالبيتها تخلفاً من ناحية وعي السرد لذاته التي حققتها الأجيال السابقة، فالنصوص التي أطلعت عليها متشظية، تريد قول كل شيء.. كل المآزق.. كل الهموم الفلسفية.. كل تفاصيل التجربة دفعة واحدة لا تتيحها القصة القصيرة كقالب فني محدود المساحة، مما شظاها بنيةً ولغة، وهذه قراءتي استمرت طوال تسعينات القرن الماضي. وهنا لابد أن أضيف العديد من الأسماء التي أصدرت مجاميع قصصية من هذا الجيل أذكر منهم ـ محسن الرملي ـ، ـ هادي السعدون ـ عدنان حسين أحمد ـ، المرحوم ـ محمد الحمرني ـ وغيرهم.
وهذا الجيل يحتاج إلى دراسة نقدية مستقلة تقلب جهده ومساره في مسيرة القصة العراقية لست بصددها الآن.
كنت وقتها أتساءل مع نفسي:
ـ هل سيبلور هذا الجيل الشاب الجديد ـ عند استواء نضجه الفني القريب الأكيد ـ سرداً فنياً جديداً في القصة العراقية جديرة به لما لها من فرادة في التجربة تختلف كليا عن المحيط العربي والأجنبي الملاصق لها؟!.
وكنتُ واثقا من ولادة أو بقولٍ أدق تميز نصوص تطور ما وصل إليه النص القصصي العراقي.. وكنت أنتظر ذلك بحرارة.. وتحقق هاجسي حينما قرأت مجموعة القاص العراقي ـ نعيم شريف ـ ( عن العالم السفلي ) الصادرة عن دار الشجرة دمشق 2003.. ( يجد القارئ تحليل لقصص المجموعة في هذا العدد من القصة العراقية ) ومجموعة القاص ـ لؤي حمزة عباس ـ ( على دراجة في الليل ) الصادرة عن دار أزمنة 1997 الأردن. ومجموعة القاص ـ جلال نعيم ـ ( بينما يحدث في بغداد الآن ). الصادرة عن دار ألواح 2007. تأكد هاجسي وثقتي بالعراقي المبدع والحياة. ولي وقفة خاصة في تحليل نصوص الكتب التي أشرت إليها لتبيان ما أضافته للقصة العراقية القصيرة من تجديد وعمق يمس جوهر العراقي كذات في المنفى وفي العراق.. أعمار القصاصين متقاربة اثنان منهم في أمريكا وواحد في البصرة..
هذا التشخيص يتعلق بما وقع بين يدي من نصوص هؤلاء الكتاب، فعذرا لمن لم أطلع على نصه أو ما كتبه فهنالك الكثير والعراقي معطاء رغم الجهل وقيم مجتمعه المغلق الذي لجأ إلى بنية متخلفة في هذا الزمن بنية العشيرة السابقة للدولة.
من هذه الزاوية.. ومن خلال دراستي للقصة العراقية منذ نشأتها أستطيع القول:
أن مرحلة التأسيس المضنية التي انطلقت من العشرينات أثمرت في الخمسينات عن ولادة بنية قصصية واعية لذاتها على يد المبدعين الكبيرين ـ عبد الملك نوري ـ في مجموعته ( نشيد الأرض ) و ـ فؤاد التكرلي ـ في ( الوجه الأخر ) لكن الأخير أي التكرلي تميز بتنقية السرد من كل ظلال الأيدلوجيا سوى مطلقها المعني بكينونة الإنسان، مما أكسب تلك النصوص نضارة دائمة تجد تجسّدها في سر قراءتها رغم غبار الزمن وكأن ما يحصل لذوات شخصياتها المقهورة في قصص.. العيون الخضر، موعد النار، الوجه الأخر وباقي القصص يحصل لحظة القراءة. هذه الذروة الفنية التي أمسكت بلحظة أبدية في بنيتها السردية كان من المفترض أن تدفع بالفن القصصي العراقي إلى مرحلة جديدة، لكن ظلت ـ الوجه الآخر ـ شاخصة كمعلم فني وحيد جوار ـ نشيد الأرض ـ وبعض أقاصيص سابقة أسست لفؤاد وعبد الملك إلا وهي أقاصيص ـ يوسف متى ـ الذي ضاع أثره، إلى فترة متأخرة نسبياً بسبب التسيّس الحاد للمجتمع العراقي في أعقاب وصول العسكر إلى السلطة في 14 تموز 1958 حيث طغت الشعارات السياسية الفجة على مناحي الحياة وألسنة العراقيين، أعقبها تناحر دموي بين رؤوس السلطة العسكرية انعكس سلباً على النص الفني، وأستطيع القول: أن التناحر اللامعقول ألقى ظلاله المعتمة على بنية السرد القصصي، حيث انشغل العراقي وقتها بمحنة المحافظة على الكينونة.. سلامتها خشية بطش السلطة.. كان ذلك لفترة ليست بالطويلة إذ سرعان ما أستعاد جيل الستينات الذي شبَّ في لحظة انحسار الأحلام وتألقها.. بين واقع بحور الدم التي أغرقت القوى المتصارعة وحلم ثورة تحقق عدالة مستحيلة.. وفي سنوات ضعف السلطة العراقية النسبي بالفترة الواقعة بين 1964 ـ 1970 في تلك الفترة من تأريخ ظلال الحرية في العراق ولد جيل الستينات الأدبي المتمرد متأثراً بأفكار سارتر وكاموا الوجودية، وبأفكار جيفارا الذي ذهب إلى حلمه وحتفه في أرياف بوليفيا.
أستطيع القول ـ فيما يخص ما ركزتُ عليه ـ: أن النص القصصي العراقي أنتقل أبعد في تأمله بالشأن البشري، متخلصاً من كل أدران الأيدلوجيا السياسية والتي أخذت طابع العشائرية في بنية المجتمع العراقي.. وذلك في نصوص ـ جليل القيسي ـ ( صهيل المارة حول العالم ) الصادرة عن دار النهار اللبنانية 1968. و ـ محمود جنداري ـ في ( أعوام الضمأ ) 1969. و ـ عبد الرحمن مجيد الربيعي ـ في ( السفينة والسيف ) 1966. و ـ أحمد خلف ـ في ( نزهة في شوارع مهجورة ) 1974. و ـ فهد الأسدي ـ في ( عدن مضاع ) . وـ موسى كريدي ـ في ( أصوات المدينة ) 1968. وـ عالية ممدوح ـ في ( هوامش السيدة ب ) الصادرة عن دار الآداب بيروت. وـ محمد خضير ـ في ( المملكة السوداء) 1972 المكثفة بنصوصها الثلاثة عشر، وكأنها البوابة التي أفضت إلى تلك اللحظة الكامنة بين الحلم واليقظة.. اللحظة الوهم التي لا هي واقع ولا هي حلم.. لحظة تشبه أحلام اليقظة..تذكر الحلم.. أو حلم دائم يحياه القارئ لحظة القراءة.. ومن يريد استعادة مثل هذه اللحظات فما عليه إلا الاستغراق في عوالم نصوص ( أمنية القرد ) وحتى النص الثالث عشر ( التابوت ).
لم يترك القاص ـ محمد خضير ـ ثيمة في التجربة العراقية إلا وتناولها في نصوص مملكته السوداء، الحب، الحرب، الفقدان، الاغتراب، الفراق، الطفولة.. بـ ـ محمد خضير ـ أصبح من العسير على الكتاب الشباب إيجاد أسلوبهم دون المرور بأسلوبه المذهل؛ السهل ظاهراً.. العسير المنال جوهراً.. هذا ما حدث للعديد من الشباب المبدعين قبل أن يعثروا على صوتهم الخاص..
لم يستمر الأمر طويلاً، فسرعان ما ساد خطابان أيدلوجيان متناقضان تحالفا حلفاً شكلياً طوال فترة السبعينات من القرن العشرين المنصرم: البعثي والشيوعي؛ حيث طغى الخطاب الأيدلوجي على كل ما هو متأمل وحقيقي.. لينتهي بتناحر لا يختلف في جوهره عن تناحر أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. سحق مطلق للرأي الأخر، وتسييس قسري لكل عراقي شاء أم أبى، فأتت الحروب كمحصلة وكنقطة تحول في حياة المجتمع العراقي المعاصر والنص القصصي العراقي.. وما أعقبها من دمار وتشديد الإرهاب والهجرات الواسعة للكتاب والمثقفين.
وضعت الظروف الجديدة القصة العراقية في امتحان عسير حيث ضغطت السلطة باتجاه تشجيع تيار أدبي مجّدَ الحرب والقتل؛ فظهر العديد من الكتاب الشباب الجدد أنصاف الموهوبين الذين كتبوا سيلاً من النصوص الركيكة المتغزلة بالحرب والقتل والضباط والقادة في محاولة لإضفاء الشرعية على ذلك الموت المجاني الذي طال العراقي المساق إلى النار قسراً. هذا التيار الجارف المعروف والموثق في كتب صدرت تحت لافتة ـ قصص قادسية صدام ـ أربك العديد من المبدعين ـ جيل الستينات ـ الذين عايشوا الوضع في الداخل، فأدى الوضع الجديد ومنذُ أواسط الثمانينات إلى بروز تيار جديد في القصة العراقية فرضته ظروف الحرب. تيار نأى عن نصوص الحرب المؤدلجة الممجدة لفعل الشر ـ الحرب ـ، واستدار عن مأزق الإنسان العراقي وأمكنته الممزقة بآثار الحرب الطويلة والمستمرة، ليدخل مأزقه الخاص ويتغرب عن عصره منشغلاً بكائنات أساطير بلاد الرافدين القديمة والأمكنة المندثرة لحضارات ازدهرت ما بين النهرين وبشرها المختلفين عن بنية العراقي المعاصر الأقرب إلى بنية حضارات مازالت حية كالإسلام والمسيحية، مما جعل الرموز ومدلولاتها محصورة بحدود النص ومصادر الكتب القديمة وأطلال الأمكنة، مما أدى إلى خلق بنية سردية مبتكرة وجديدة على السرد العراقي والعربي، فالتبست طريقة السرد حتى على كاتبها لدى ـ محمود جنداري ـ الذي تفجر في مجموعته القصصية ـ مصاطب الآلهة ـ فظن أنه يكتب نصا بلا حبكة في محاضرة في اتحاد الأدباء في العراق كما ذُكِرَ في مقدمة المجموعة الصادرة عن دار أزمنة ـ الأردن ـ، لكنني وجدت فيها لدى تحليلها نصاً تأتى حبكته من سبر غور التاريخ والدم المساح في العراق في نشيد أعمق من الشعر أفضى به إلى زنزانة الإعدام ثم إلى الموت بالسكتة قبيل صدور مجموعته المشار إليها.
ولدى المخضرم والمجدد ـ محمد خضير ـ تحول النص إلى معمار لغوي ينحت ماضي الأمكنة مطعماً بألغازها وأحجيتها الملتبسة في غموض يقتل المدلولات قصة ( رؤيا البرج ) وحول بعض قصصه إلى أحجية كقصة ( صفيحة التساؤلات ) وغيرها من مجموعته القصصية ـ رؤيا الخريف ـ الصادرة في الأردن أيضا.
ولدى ـ جليل القيسي ـ المميز بأسلوبه الواضح إذ تحولت القصة لديه إلى بنية الحكاية السابقة لمفهوم النص القصصي الحديث ( مملكة الانعكاسات الضوئية ).. وبعض أقاصيص ـ لطفية الدليمي ـ ذات المسحة الصوفية. ومحصلة هذا التيار إغناء القصة العراقية والسرد العراقي والعربي بأشكال وبني سردية جديدة من جهة، وَتَغرب النص العراقي عن مأزق العراقي زمن الحرب حيث كان الإنسان العراقي بأمس الحاجة إلى متخيلٍ فني يعادل قباحة الواقع ويجعل من الحياة أكثر احتمالاً.
بالعكس من التيار المذكور، ومنذ أواسط الثمانينات أيضاً بدأت تنمو خارج العراق قصة منفى عراقية تميزت دون كل التجارب الأخرى كونها لصيقة بما يجري للعراقي في الوطن، سرعان ما رسخت كمصطلح جديد في الأدب العراقي السردي يستند إلى نصوص نُشرت لكتاب تبلورت موهبتهم ورؤاهم الفنية والفكرية في أجواء الحرية المكتسبة من فعل النفي العراقي بدوافعه الأيدلوجية ـ السياسية المختلفة عن واقع المنفى العربي عدا التجربة الفلسطينية المفترقة بدورها عن جوهر تجربة النفي العراقية، مما جعل النص القصصي العراقي المكتوب في المنفى يطرح إشكاليات جديدة في القص العربي المعاصر تختلف عن إشكاليات أدب المهجر اللبناني السوري في بدايات القرن العشرين، وعن أدب المقاومة الفلسطيني، فما زال المنفي ـ المبدع ـ العراقي يحلم بعودة قريبة؛ ينام ويصحو عليها منذ لحظة مغادرته تراب وطنه، يحلم.. ويحلم بالبشر والأمكنة مما جعل نصوص الكتاب المنفيين تبدو وكأن كتباها يعيشون في العراق لكن لديهم حرية التعبير عن المأزق الذي يعيش فيه العراقي دون رقيب، فعرضت تلك النصوص محنة العراقي في ظل الديكتاتورية والحرب وظروف القسوة بوضوح، خوفه، استلابه، أحلامه، تشوّهه، موته العبثي.. نجد ذلك في نصوص جنان جاسم حلاوي ( قصص الحب.. قصص الحرب ).. التي تناولت معضلة الإنسان في ظل الحرب العراقية الإيرانية وهموم الجنود في الجبهات وفي الإجازات في المدن، ونجم والي في مجموعته ( ليلة ماري الأخيرة ) التي تناولت نصوصه فيها أوضاع مختلفة للبشر من أطفال وجنود زمن الحرب، وكريم عبد في ( الهواء يوشك على الوجوم ) التي تناول في نصوص عدة محنة الموت في الحرب سواء في جبهة الحرب العراقية الإيرانية أو في الجبل بين الثوار، وشاكر الأنبا ري في ( ثمار البلوط ) .. و ( أنا والمجنون ) إذ تناولت بعض نصوصه محنة الجندي الهارب من الحرب وطريقة تسلله إلى الجبال لعبور الحدود قصة ـ ثمار البلوط ـ وموضوعات تتعلق بمحنة الإنسان في زمن الحرب والدكتاتورية في نص ـ دكة الموتى ـ وغيرها، وكاتب هذه السطور في مجموعته الأولى ـ رؤيا اليقين ـ 1994 دار الكنوز الأدبية ـ بيروت. التي تناولت نصوصها السبعة محنة العراقي في تجربة الثوار في الجبال شمال العراق، و ـ سرير الرمل ـ دار حواران دمشق 2000 التي تناولت في نصوصها مأزق الإنسان في المنفى، والحب في الصبا والشيخوخة، أضافة إلى تيمة فقد الأحباب في المعتقلات والحرب، وسلام عبود في ـ العودة إلى آل أزيرج ـ و ـ ضباب أفريقي ـ الصادرة عن دار المنفى 1998.
وعندما يخوض النص في كينونة المنفي ومعناه يكون شديد التوتر، يفيض بالقلق المتولد من تقاطع الشعور بوقتية النفي وطول زمنه؛ ـ إبراهيم أحمد ـ في ( بعد مجيء الطير ). ـ حسين الموزاني ـ ( خريف المدن ). أما ـ هيفاء زنكنة ـ فقد صدرت لها مجموعة ـ بيت النمل ـ التي خاضت في جميع نصوصها بالخراب الروحي الذي يورثه المنفى بكينونة المنفي. كما لابد أن نذكر ـ علي عبد العال ـ في مجموعته ـ العنكبوت الصادرة عن دار المنفى ـ السويد 1997 ـ التي تناول فيها محنة المنفى في نص طويل وجميل من نصوص المجموعة. بالإضافة إلى انشغال العديد من النصوص في إعادة بناء أمكنة الطفولة وشؤونها في العديد من نصوص الكتاب المذكورين وبروح مختلفة متأتية من خصوصية إلتباس تجربة النفي العراقية، تجلى ذلك بتميز لدى ـ جبار ياسين ـ في ( وداعا أيها الطفل ) المركز العربي للفنون والآداب ـ بلجيكا ـ بروكسل 1995. إذ مزج الطفولة بالواقع السياسي العراقي الدامي.. فجاءت القصص بعيني طفل يرى العنف في الشوارع زمن الانقلابات العسكرية أواخر الخمسينات وخلال الستينات. أما لدى ـ سالمة صالح ـ فتحول النص إلى رسم أمكنة الطفولة وحكاياتها بأسلوب طغى عليه العاطفة الجياشة وأغرقه الحنين في ( زهرة الأنبياء ) دار المدى 1994.
أما أساليب القص فمتنوعة في تقنياتها ومذاهبها من أسلوب القص التقليدي كما لدى ـ علي عبد العال ـ و ـ سلام عبود ـ إلى أسلوب السرد الحديث والمبتكر كما هو لدى ـ جنان جاسم حلاوي ـ و ـ جبار ياسين ـ . رغم هذا التباين الأسلوب الغني فقد تميزت لغة النصوص بالوضوح والرشاقة والتكثيف والبناء بالمتانة، عدا أن غالبية المبدعين المذكورين مثقفين يمارسون الكتابة النقدية الإبداعية في الصحف والمجلات العراقية الصادرة بالمنفى والعربية.
( لابد من الذكر هنا أن الكتاب المنفيين من الأجيال السابقة لهذا الجيل استمرت بالنشر وبنشاط مجاميع قصصية أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر؛ ـ فاضل العزاوي ـ، ـ محمود سعيد ـ، وغيرهم لكن النصوص التي أطلعت عليها متخلفة من ناحية الصوغ الفني وطريقة تناول الموضوعات عن الجيل الأنف الذكر... وهنا أود تذكير القارئ بأني أقصر حديثي هنا عن ـ القصة ـ وليس الرواية التي ساهمت الأسماء المذكورة فيها وكانت جهدها الرئيسي في الكتابة والنشر ولي وقفة معها في موضع أخر يخص الرواية العراقية..).
منذ أوائل التسعينات بدأ يتبلور تيار جديد من القص العراقي.. هو جيل من الكتاب الشباب خارج لتوه من هول الحروب، الحصار، الجوع، القمع، ملتجئا إلى معسكرات اللجوء في دول الجوار؛ إيران والسعودية أو تشّرد بين عمان ودمشق ودول اللجوء في أنحاء العالم. ويظهر لاحقا كتاب ممن بقوا داخل الوطن يعانون ويكتبون بصمت وبطريقة مبتكرة وجديدة. هذا المخاض القصصي العراقي المحتدم احتدام الواقع العراقي الثقافي والاجتماعي والسياسي نشر أظهر أسماء طموحة بدأت بالتنظير قبل تحقق النص مثل جماعة البصرة التي نشرت بياناً وضعت له عنوناً عريضاً يقول ـ مختبر جماعة البصرة أواخر القرن العشرين ـ وعنوان طبيعة الموضوع ـ أنساق القصة القصيرة جداً ـ إضاءات الرحلة ـ هواجس التجربة ـ ووقع هذا البيان؛ قصي الخفاجي/ كاظم الحلاق/ نجاح الجبيلي/ كريم عباس زامل/ محمد عبد الحسن. لست بصدده لأني لا أميل إلى التنظير قبل النص.. لكنني تابعت ما استطعت من نصوص لهذا الجيل فوجدتها مهمومة بمواضيع جديدة، مختلفة تماما تروي ما لم يروه جيل الستينات المتواجدة رموزه في اللحظة الراهنة في العراق والمنفى، وما لم يستطع أن يرويه الجيل الناضج فنياً الذي ترعرع في المنفى، لكنني تلمست في غالبيتها تخلفاً من ناحية وعي السرد لذاته التي حققتها الأجيال السابقة، فالنصوص التي أطلعت عليها متشظية، تريد قول كل شيء.. كل المآزق.. كل الهموم الفلسفية.. كل تفاصيل التجربة دفعة واحدة لا تتيحها القصة القصيرة كقالب فني محدود المساحة، مما شظاها بنيةً ولغة، وهذه قراءتي استمرت طوال تسعينات القرن الماضي. وهنا لابد أن أضيف العديد من الأسماء التي أصدرت مجاميع قصصية من هذا الجيل أذكر منهم ـ محسن الرملي ـ، ـ هادي السعدون ـ عدنان حسين أحمد ـ، المرحوم ـ محمد الحمرني ـ وغيرهم.
وهذا الجيل يحتاج إلى دراسة نقدية مستقلة تقلب جهده ومساره في مسيرة القصة العراقية لست بصددها الآن.
كنت وقتها أتساءل مع نفسي:
ـ هل سيبلور هذا الجيل الشاب الجديد ـ عند استواء نضجه الفني القريب الأكيد ـ سرداً فنياً جديداً في القصة العراقية جديرة به لما لها من فرادة في التجربة تختلف كليا عن المحيط العربي والأجنبي الملاصق لها؟!.
وكنتُ واثقا من ولادة أو بقولٍ أدق تميز نصوص تطور ما وصل إليه النص القصصي العراقي.. وكنت أنتظر ذلك بحرارة.. وتحقق هاجسي حينما قرأت مجموعة القاص العراقي ـ نعيم شريف ـ ( عن العالم السفلي ) الصادرة عن دار الشجرة دمشق 2003.. ( يجد القارئ تحليل لقصص المجموعة في هذا العدد من القصة العراقية ) ومجموعة القاص ـ لؤي حمزة عباس ـ ( على دراجة في الليل ) الصادرة عن دار أزمنة 1997 الأردن. ومجموعة القاص ـ جلال نعيم ـ ( بينما يحدث في بغداد الآن ). الصادرة عن دار ألواح 2007. تأكد هاجسي وثقتي بالعراقي المبدع والحياة. ولي وقفة خاصة في تحليل نصوص الكتب التي أشرت إليها لتبيان ما أضافته للقصة العراقية القصيرة من تجديد وعمق يمس جوهر العراقي كذات في المنفى وفي العراق.. أعمار القصاصين متقاربة اثنان منهم في أمريكا وواحد في البصرة..
هذا التشخيص يتعلق بما وقع بين يدي من نصوص هؤلاء الكتاب، فعذرا لمن لم أطلع على نصه أو ما كتبه فهنالك الكثير والعراقي معطاء رغم الجهل وقيم مجتمعه المغلق الذي لجأ إلى بنية متخلفة في هذا الزمن بنية العشيرة السابقة للدولة.