"على كل من يكتب عن الشرق أن يحدد موقعه من الشرق" (إدوارد سعيد).
قبل بضع سنوات، كنت جالساً ذات مرة قبالة ساحة جامع الفنا بمراكش أستمتع بفنجان قهوة فدنا مني سائح فرنسي. وبعد تحيتي أعرب لي عن إحساسه الغامر بالتواجد في الشرق. في الشرق؟ نعم، البزارات والأسواق وعبير التوابل… وكأنها حكاية شرقية، أليس كذلك؟ لم أجد لا الشجاعة ولا الصبر لأقول له إن ‘الشرق’ و’الغرب’ بصفتهما فضاءين ذهنيين في متخيلنا الجماعي ليس لهما وجود جغرافي على أرض الواقع. فالمغرب بالنسبة للعرب هو المغرب الأقصى، أي الغرب الأقصى؛ شيئاً بعيداً وغرائبياً بالنسبة للمواطن اليمَني، تماماً كما كانت دمشق أو بغداد بعيدة وغرائبية بالنسبة لنا (في أوروبا) قبل انطلاق الرحلات الجوية منها وإليهما.
نظراً لبعده الجغرافي بالنسبة إلى أبناء القبائل البدوية التي قادها حماسها الديني إلى اختلاق الخلافة العربية في القرن الميلادي الثامن، صارت كلمة ‘غرب’، التي تشتق منها كلمة ‘غربي’ الكاطلانية و’الغربي’ البرتغالية و’الغريب’ القشتالية المهجورة، مرادفة لما هو ‘أجنبي’، ‘غير عادي’ أو ‘غير مألوف’. ومن ثم، انبثقت عن جذورها كلمات مثل ‘غريب’ و’غرابة’ و’غراب’ و(فعل) ‘غرب’ و’غربة’، علما بأن هذه الأخيرة تستعمل في شمال أفريقيا للدلالة أيضاً على الوحدة والحنين. وتمتد تداعيات مفردة ‘غرب’ امتداداً، لكنني سأكتفي بما ذكرت من أمثلة.
وتُبين لنا هذه اللطيفة والخرجة الاشتقاقية ارتداد وتقلب معنى ‘الشرق’ و’الغرب’ عبر التاريخ، وذلك بحسب وجهة النظر، الذهنية أكثر منها الجغرافية، التي نتموقع فيها. ولعل البحر الأبيض المتوسط ، أو ‘بحرنا’ كما كان يسميه الرومان قديماً، هو خير مثال على هذه الاصطدامات الفضاثقافية التي توالت على ضفتيه منذ أزيد من عشرين قرناً. المسمَون بالغزاة الآسيويين في العالم الإغريقي- اليوناني، مع هزيمة الفرس أول الأمر على يد أثينا واحتجاز العرب في كوباضونغا (إسبانيا) وواتييه (فرنسا) ثم حصار العثمانيين لفيينا (النمسا) الذي جعل المسيحية ترتعد، عادة ما يُنظر إليهم من جانب واحد، ولا نولي (في أوروبا) أي اهتمام لكيف كان يُنظَر إلينا من الجانب الآخر. رغم ذلك، ففكرة القرطاجنيين عن روما ستكون، على سبيل المثال، توضيحية تماما مثل نقيضتها بالنسبة لدارسي الموضوع. لكن قوة الأسلحة والرواية التاريخية التي يضعها المنتصِر هما اللتان تكتبان الماضي وتشكلان حياتنا في الحاضر. وتلخص الجملة الآتية لمرتكِب الإبادة الجماعية، الصربوسني رادوفان كرادجيتش، هذه النظرة الأحادية الجانب والحصرية إلى الوقائع وتذهب بها إلى أبعد الحدود، حيث يقول: ‘التاريخ، إذا لم يكن في مصلحتنا،لا ينبغي أن يوجد’.
إن التحدث باللغة السياسية الراهنة عن ‘الشرق’ و’الغرب’ ليعدّ كناية؛ هذا على أوروبا والعالم الأمريكي الذي أحدثته، وذاك على الإسلام. يتعلق الأمر إذن بمصطلحين متعاديين منذ قرون عديدة وتجسد المواجهة بينهما،التي يُفترض أن لا مفر منها، ‘صراع الحضارات’ الشهير الذي قال به البعض وأسال أنهاراً من الحبر منذ منتصف العقد الأخير من القرن الميلادي العشرين، خاصة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وإذا اعتُبر هذا سداً لاحتواء التوسع السوفييتي (حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعماً سخياً للطالبان الأفغان)، فإنه قد تحول من جديد إلى رمز للوحشية التي نستحملها اليوم. فبعد موت الشيوعية، عاد الإسلام للظهور. وبعد توقف قصير في أعقاب سقوط جدار برلين جعلنا نحلم بنهاية التاريخ، استعادت ‘الحرب الباردة’ دورها الحاسم في المحيط السياسي-الديني للرئاسة الإمبريالية الأخيرة لجورج بوش (الإبن): الدفاع عن الديموقراطية والحريات في مواجهة إيديولوجية شمولية أخرى تجعل من الإرهاب سلاح الدمار الشامل لديها.
ولمواجهة التطرف الأعمى لأسامة بن لادن، الموجَه بالدرجة الأولى ضد المسلمين الذين لا يعتنقون مفهوم ‘الجهاد’ لديه، ثم، في المقام الثاني، ضد من يسميهم ‘الصهاينة والصليبيين’، تبنى الرئيس الأمريكي السابق و’براكينه’ تطرفاً ضاداً لا يشمل مجموعات تنظيم ‘القاعدة’ السديمي لوحدها، بل كذلك شركاءه المزعومين، صدام حسين وإيران آيات الله، المضمنين في ‘محور الشر’ الغارق في المذهبية والترميق. التمييز الضروري بين المسلم والإسلاموي والجهادي تلاشى وتبخر على يد المبشرين عبر التلفاز والقساوسة العسكريين المتنكرين في زي مستشارين سياسيين. لقد قُدمت خدمة جليلة لصدام الحضارات، بين حضارة الدول الديموقراطية المنضوية تحت ‘الحلف الأطلسي’ وحضارة الإسلام، بين حضارة فِرق التدخل السريع دفاعا عن الحرية وحضارة القوى الظلامية والقمعية. هذا الطرح لم يكن ليفضي إلى شيء آخر غير الكارثة التي نعاني من عواقبها اليوم.
هكذا كنا، منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، شهوداً على حربين فتاكتين: الأولى حظيت بدعم من المنتظم الدولي ولكن أسيء الإعداد لها وخوضها، وهي التي تدور رحاها حالياً في أفغانستان؛ والثانية، حرب العراق، التي كانت نتاج الجشع وسلسلة من الزوائف الملبوسة بشعور قومي لتزيين الواجهة، ولن تستطيع الاستحقاقات السياسية الهزيلة المجنية منها لفائدة سكان خاضعين لاستبداد ليس لا أفضل وأسوأ من الاستبدادات القائمة في أغلب البلدان العربية تبرير التدمير الذي ألحقته ببنى العراق التحتية، والمواجهة التي أحدثتها بين مكوناته العرقية-الدينية الثلاثة (دون أن ننسى مضايقة المسيحيين منذ زمن بعيد) والعدد الهائل من الضحايا (بمن فيها الأمريكية). وقد صاحبت الحربين آليات دعائية ضخمة تخلط الأمور بعضها ببعض وتحكم على الكل اعتماداً على الجزء/ البعض. إن تنوع الوقائع والثقافات والتقاليد الدينية الموجودة في العالم الإسلامي لثرية ومعقدة بنفس المستوى الموجود في العالم المسيحي، لكن لا شيء من ذلك همّ ‘البنتاغون’ أو ‘البيت الأبيض’. ما يخدم المصالح المرتبطة بالطاقة (النفط) والإستراتيجية الأحادية الجانب المرسومة لتعزيز وضع أقوى دولة على وجه الأرض تحول، كما كان يحصل إبان الاستعمار الأوروبي، إلى ‘مهمة تحضيرية’ (نسبة إلى الحضارة). ويبين الفشل الذريع لهذا الادعاء إلى أي حدّ كانوا مخطئين.
وإذا تم النظر إلى مختلف المعتقدات والنظم الدينية في الفضاء الآسيوي، كالكونفوشيوسية والبرهمانية والبوذية وغيرها من بعيد، بعين الطيبوبة أو التساهل، فقد ظل الإسلام، كما أشار إلى ذلك في حينه المؤرخ التونسي الكبير هشام جعيط، يجسد عقيدة قريبة وغير قابلة للاستيعاب، وذات هاجس توسعي يقلق بالنا ومرآة تنعكس فيها ذواتنا. لقد كانت هناك فترات سلام بالفعل، أو على الأقل فترات توازن، بين هاتين القطعتين المتكونتين من أقمشة متعددة الألوان والمسميتين بالمسيحية والإسلام، غير أن الذكريات السائدة في مخيلتي الجانبين هي ذكريات الغزوات والانتصارات والهزائم والحروب الصليبية والمعارك الجهادية. هذا التاريخ الطويل والمضطرب المشترك بيننا، المليء بالتقلبات والنزاعات، انتهى قبل ما يزيد على قرن من الزمن بالانتصار الكامل للقوى الأوروبية: سقوط الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة واحتلال الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، من مضيق جبل طارق إلى تركيا.
كانت الدولة العلمانية التي أنشأها مصطفى أتاتورك في تركيا وثورة عبد الكريم الخطابي في الريف (بالمغرب)، الثورة التي يجدر التذكير بأنها قامت على الشرعية الدولية الجديدة التي استعرض معالمها الرئيس الأمريكي ويلسون في النقاط الأربع عشرة الشهيرة عند نهاية الحرب العالمية الأولى ولكن تم سحقها من طرف الجيشين، الإسباني بقيادة فرانكو والفرنسي بقيادة الماريشال بيتان، إشارة واضحة إلى أن مرحلة تاريخية جديدة تلوح في الأفق. وبعد ثلاثة عقود من ذلك، بينت الأحداث بأنهما كانا على صواب.
كل هذا يبدو اليوم بعيداً وراءنا، لكن علينا العودة إلى الماضي لفهم الحاضر وعدم تكرار الأخطاء التي ارتكبناها في السابق. علينا في يوم من الأيام أن نفسر لماذا وكيف أن الحركات التحررية من الاستعمار في العالم العربي، من المغرب إلى العراق، والتي كانت في الأصل علمانية وذات تطلعات ديمقراطية، وقعت الواحدة تلو الأخرى بين أيدي الطغاة، أو تحت وطأة الدينوقراطية (نسبة إلى الدين) لدرجة أنه بات من الصعب تمييزها عن السلالات الجمهورية التي أنشئت منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي (العشرين) في دول مثل سورية وليبيا ومصر وتونس والجزائر. وبينما تحولت خطابة الوحدة العربية إلى نكتة (يكفي استحضار العرض الذي قدمَته خلال الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة)، فإن العودة إلى الدين، سواء في الحياة العامة أو الخاصة، تكشف عن عجز الشعوب وعدم اكتراثها بالسياسة وذلك على حساب القيم الديمقراطية وحقوق المرأة. سأعود إلى هذه الأمور لاحقاً.
لقد أشرتُ إلى اندثار إرث شخصيات كالتي قادت حركات الاستقلال العربية – القومية منها والعلمانية والديمقراطية-: المهدي بن بركة من المغرب والحاج مسالي وفرحات عباس وبن خدة ومحمد بوضياف من الجزائر والحبيب بورقيبة من تونس، ومؤسسي حزب ‘البعث’ السوري والعراقي، دون أن نغفل الدستوريّين المصريين من بداية الحماية التاريخية إلى غاية سقوط الملكية وانتصار جمال عبد الناصر. هذه جميعها شخصيات وحركات عرفت الاضطهاد على يد المُحضِرين (من الحضارة) الأوروبيين المزعومين أولا، ثم على يد المَلكيات أو الحُسُم (ج. حُسام) الموالية لمصالح هؤلاء في وقت لاحق.
هكذا نجد أن الإصلاحيين والمنشقين عن الشيوعية السوفييتية تلقوا الدعم المعنوي والمادي من ‘الغرب’ أثناء الحرب الباردة، في حين أن الدول العربية تم كسحها أمام لامبالاتها أو بتواطؤ غير مجيد منها. لقد غلبت المصالح الاقتصادية والإستراتيجية لكل من إنكلترا وفرنسا ثم، في وقت لاحق، الولايات المتحدة الأمريكية، القيم التي كانت تتشدق بالدفاع عنها خارج حدودها. فكانت النتيجة كارثية، وهذا ما تثبته الإحصاءات الخاصة بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي في العالم العربي-الإسلامي. ولا بأس أن نذكر أيضاً في هذا السياق الانقلاب الذي أعِد ضد السياسي الديموقراطي في إيران، مصدق، لتجرؤه على تأميم شركات النفط الغربية، وذلك بهدف إعادة الشاه إلى عرش إيران. والآن أود أن أقتبس إحدى تلك الإحصاءات، التي قرأتها قبل بعض الوقت وقد تحتاج إلى تحيين؛ إنها إحصاءات تشمل مجموع المجال الإسلامي:
‘في العالم الإسلامي، تبلغ قيمة استهلاك الطاقة للفرد الواحد 3700 دولار، مقارنة مع 28000 دولار في العالم المتقدم. ويعادل الناتج الداخلي الخام (الإجمالي) للدول الإسلامية مجتمعة الناتج الداخلي لفرنسا بمفردها. والناتج الداخلي الخام (الإجمالي) للدول العربية مجتمعة هو أقل حجماً منه في إسبانيا لوحدها. كما أن سبعة وأربعين في المئة من المسلمين أميون، لا يستطيعون القراءة والكتابة ، ولم يلتحقوا أبداً بالمدرسة. وعليه، هناك أزمة علم ومعرفة. واللغة العربية هي لغة ما يقرب من ثلاثمئة مليون شخص، لكن الكتب المنشورة سنويا باللغة اليونانية، التي لا يتحدث بها سوى خمسة عشر مليون نسمة، تفوق تلك المنشورة باللغة العربية. كما أنه لا توجد أكثر من خمسمئة جامعة في العالم الإسلامي في الوقت الذي تتوفر فيه الولايات المتحدة الأمريكية وحدها على خمسة آلاف جامعة، وقس على ذلك.’
مثل هذا العرض المقتضب للحقائق لا يحتاج إلى تفسير أو توضيح. إن اختلال التوازن الصارخ بين أوروبا والبلدان العربية-الإسلامية لا يرجع فقط إلى أسباب دينية، كما لا يمكن تفسيره بالاستشهاد بآيات من القرآن الكريم مبررة للعنف، بل إلى أسباب اجتماعية وسياسية وثقافية ملبوسة بعباءة الكتاب المقدس؛ وهي أسباب يجب علينا تحليلها بكل عناية لنركز بشكل أفضل على نوعية العلاقة معها في المستقبل. لا ينبغي تحميل أنفسنا اللوم كله. فمسؤوليات الشعوب العربية الإسلامية هي في نفس خطورة وحِدة مسؤولياتنا. إن السلطة الاجتماعية المتزايدة للقوى المحافظة والتقليدية المتشبثة بتفسير جامد لنصوص الوحي القرآني وبالدفاع عن قوانين وأعراف تعود إلى عهد غابر، خاصة فيما يتعلق بوضع المرأة، إنما هي نتيجة الإحباط المراكَم طوال عقود من الزمن إزاء فساد النخب الحاكمة والديكتاتوريات التي ترسخ نفسها في الحكم. فالانتخابات المهزلة التي تتكرر في معظم الدول العربية لا يمكنها أن تكون جداراً لمنع انتشار التيار الإسلاموي. بل العكس هو الصحيح: إنها تشجعه وتجعل منه بديلا.
إن الديمقراطية، التي تقترن لدى العديدين بالصفقات التجارية المربحة للدول الغربية مع بترومَلكيات الخليج وبالأثرياء والأمراء الذين يستعرضون ثرواتهم في الدار البيضاء والقاهرة وبيروت وماربيا بشكل مخل بالآداب قد فقدت قوة الجذب التي كانت لها في الماضي لاستقطاب الجماهير الفقيرة والأمية، التي يغلق عليها أيضاً صنبور الهجرة. مع ظهور النفط في باطن الأرض أو في المجال البحري لمرزبة معينة، تختفي بأعجوبة مشكلة انتهاك حقوق الإنسان التي تطرحها الديمقراطيات الغربية لدى هيئة الأمم المتحدة. مثل هذا النفاق، كالإدانة بالكلام فقط للاحتلال الإسرائيلي المتواصل للأراضي الفلسطينية، له ثمن: تشوه سمعة تلك الديموقراطيات الغربية في عيون الشعوب المسلمة وتعزيز التطرف. غير أن ميزان القوى بين السلطة القمعية بدرجة أو بأخرى والمجتمع المدني المنهك يختلف من دولة إلى أخرى: من الغياب شبه التام في بعض الدول إلى النضال العسير لفئات في وضع أقلية لكنها مكافحة في دول أخرى من أجل قيم مدنية شبيهة بالتي لدينا، بعيدة عن الدين ولكن دون أن تكون معارضة له. هذه العلاقة الوثيقة ليست في المغرب نفسها، بل في مصر؛ وفي دولة علمانية مثل تركيا كما في بلد مثل جمهورية إيران الإسلامية، الشديدة التعقيد من جهة والغنى والتناقض الفكريان من جهة أخرى.
في مقابلة لي خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003 مع زعيم المعارضة بإسبانيا آنئذ الاشتراكي خوسيه لويس رودريغيث ثاباطيرو، قبل أول زيارة له إلى المغرب، شرحتُ له وجهة نظري فيما يخص اليقينية المذهبية لكل من الرئيس الأمريكي جورج بوش (الإبن) ورئيس الحكومة الإسبانية خوسيه ماريا أثنار، وأثرها على حوض البحر الأبيض المتوسط. قلت إن ضرورة وجود علاقات جيدة مع البلدين اللذين يشكلان نقطة الاتصال بالنسبة للاتحاد الأوروبي مع العالم الإسلامي، أي مع جارنا في الجنوب (المغرب) ومع تركيا، يجب أن تكون على رأس الأولويات ، ومَن غاب عنه هذا غاب عنه كل شيء. لهذا السبب، حاججتُ من أجل انضمام أنقرة إلى ما يطلق عليه البعض ‘النادي المسيحي’، رغم ما يعنيه ذلك من عقبات كبرى، داخلية وخارجية، ومن أجل إقامة روابط متميزة مع المغرب، الذي من شأن أيّ زعزعة لاستقراره أو تقهقر يصيبه أن يكون أسوأ ما يمكن أن يحدث بالنسبة لبلدان الضفة الشمالية من المتوسط، بدءاً ببلدنا (إسبانيا).
وفيما يلي عرض سريع لبعض الشروط اللازمة مقابل الحصول على ذلك الدعم: تحقيق التقدم في دمقرطة نظام الحكم وحرية الصحافة واحترام الأقليات العرقية والدينية والمساواة القانونية للمرأة مع الرجل. والمطالبة بهذه الأشياء لا تعني فرضاً لقيمنا، باعتبار أن هذه الأخيرة لديها صلاحية عالمية ولو أن تبنيها يفترض اصطداماً مع العادات القبلية والمحظورات التي يستدعي الأمر بعض الوقت للتغلب عليها، كما حدث في إسبانيا في القرن الماضي (العشرين). إن مثال تركيا اليوم يدل على أن الديمقراطية والإسلام ليسا متناقضين. فمثلما كانت هناك ولا تزال أحزاب ديموقراطية-مسيحية (أوروبية)، وجب اعتبار الإسلام المعتدل الذي يتبناه رجب أردوغان وعبد الله غول بمثابة أداة فعالة لتحقيق التقدم والتحديث في تركيا، بحيث يوفق بين ممارسة المعتقدات الدينية وولاء للتقاليد الدينية ومجتمع مفتوح على دينامية العالم وتتوسع فيه دائرة الحريات عبر سلسلة من الإجراءات التي تجعل تركيا تتوافق مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. إن محاكمة الكاتبين (التركيين) أورهان باموك ونديم غورسل بتهمة القذف في حق ‘الهوية التركية’ ومؤسس العقيدة الإسلامية لا تندرج ضمن الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي وينبغي شجبها. وكما قال غورسل مؤخراً على صفحات صحيفة ‘لوموند’، إن تراجع الهوية الأوروبية، وخاصة في فرنسا وألمانيا، يمثل خطوة إلى الوراء بالنظر إلى أوروبا متعددة اللغات والثقافات تستطيع بفضل وزنها السياسي والاقتصادي مضاهاة ليس فقط الولايات المتحدة الأمريكية، بل أيضا الدول الكبرى الناشئة مثل الصين والهند.
وإلا بماذا نفسر التناقض الذي يجعل من إسطنبول العاصمة الثقافية المقبلة لأوروبا في عام 2010 في حين يتم رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بسبب أوهام ومخاوف ديموغرافية من جراء غزو إسلاموي مزعوم؟
إن ‘تحالف الحضارات’ الذي يرعاه رئيسا حكومتي تركيا وإسبانيا ، والذي أفضل أن نسميه ‘تحالف القيم المشتركة’ بين الدول الأوروبية وتلك البلدان الموجودة على رأس العالم الإسلامي من حيث التنمية والحرية والديمقراطية هذا ليس ريح بطن ولا فعلا ملائكياً كما يزعم منتقدوه، بل خياراً برغماتياً حظي بتأييد باراك حسين أوباما في الخطاب الذي ألقاه بإسطنبول في السادس من نيسان (أبريل) الماضي، حيث صرح بكل قوة ووضوح، وفي تناقض حاد مع اللغة العدوانية التي كان يستعملها سلفه (جورج بوش الإبن)، بأن بلاده ‘ليست ولن تكون أبداً في حالة حرب ضد الاسلام’؛ ثم بالأخص، في خطاب الرابع من حزيران (يونيو) الذي ألقاه في جامعة القاهرة (الإسلامية)، حيث قال الرئيس الأميركي الجديد وبصدق وبدهية غير معهودين على لسان رئيس أمريكي: ‘من الواجب علي أن أكافح الصور النمطية عن الإسلام أينما وُجدَت…[...]؛ الفلسطينيون يعانون يومياً من الإذلال، كبيراً كان أو صغيراً ، المصاحِب للاحتلال [...] إن وضع الشعب الفلسطيني وضع لا يمكن تحمله.’ ولم تفت الرئيس في مداخلته الإشارة إلى احترام حقوق المرأة وعلى رأسها التعليم، وكذا إلى ‘حكومة تتسم بالشفافية ، ولا تنهب أموال الشعب؛ وإلى حرية الاختيار واحترام الأقليات [المارونية والقبطية]؛ حكومة من الشعب لخدمة الشعب: وهذه جميعها قيم عالمية وليست حصراً من الأمة الأمريكية’. ترى ماذا كان رد فعل المتطرفين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وملوك النفط في الخليج ورؤساء السلالات الجمهورية الحاكمة من طينة القذافي أو مبارك؟ إن الأحزاب والجماعات السياسية التي تطالب بحرية الرأي، على غرار ملايين الرجال والنساء الذين يتعرضون لهمجية بعض العادات القبلية في المملكة العربية السعودية أو إيران أو باكستان، يستحقون منا كل الدعم. في هذه الحالة، يجب أن لا نلتزم بالصمت ونخفي الرأس في الرمل بدعوى أننا نتصرف بحكمة.
لكن ليس كل شيء قاتماً في لوحة كوكبنا المعولم. إن تراجع القيم الديموقراطية في ‘دار الاسلام’ ليس أمراً لا رجعة فيه. الإصلاحيون موجودون وصوتهم مسموع: أعرف هذا شخصياً وقد تحدثتُ إلى البعض منهم في كل من إيران والشرق الأوسط والبلدان المغاربية. إنهم ديمقراطيون ومسلمون في نفس الوقت، وبذلك يمثلون نموذجاً حياً على بطلان فكرة ‘صدام الحضارات’، حيث يطالبون بالحقوق المنصوص عليها في الميثاق المؤسس لهيئة الأمم المتحدة ويشجعون الشراكات التي يكون فيها للمرأة دور فاعل. هؤلاء الرجال والنساء هم الذين يسعون إلى تحالف أو تفاهم مع الذين يشاطرونهم قيمهم، دون أن يثبط عزيمتهم عداء أو جمود أبناء وطنهم. أمام لغة الحرب على الإرهاب والتصريحات النارية التي يطلقها تنظيم ‘القاعدة’ ولاحركية الحكومات المعنية لغرض في نفسها، ينتظر هؤلاء (الإصلاحيون) بكل ثقة تحول السياسة الأوروبية والأمريكية. وبينما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية أن تجد لنفسها مخرجاً من مأزق العراق وإيجاد نقطة التقاء صعبة المنال بين السنة والشيعة والأكراد من شأنها الحفاظ على الإنجازات المدنية المزرية في العراق منذ عقود من الزمن والتوصل إلى إنشاء دولة قابلة للحياة في أفغانستان، على أن تفعل ذلك دون التضحية بنصف سكانه، أي النساء، على النحو الذي يطالب به الرئيس حميد كارزاي، تتوجه كل الأنظار إلى المقيم الجديد (باراك أوباما) في ‘البيت الابيض’. لا ينبغي توقع المعجزات لأنها غير موجودة. ولكن نهاية التحالف غير المشروط مع إسرائيل ، والكارثي على المدى المتوسط بالنسبة إلى واشنطن وتل أبيب، وسياسة متوافق حولها مع أوروبا من أجل العودة إلى الشرعية الدولية، أي إلى حدود 1967 ، واليد الممدودة إلى المسلمين انطلاقاً من الاقتناع بأن القوة وحدها لا تستطيع حل المشكلات ولا تشكل البديل المناسب عن التطرف، ستكون خطوات مشجعة في الاتجاه الصحيح. إن البحث عن مجال للتلاقي، عن قيم تجمع بين الناس، يعزز فكرة الحوار على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل للثقافات والتقاليد كلما كانت هذه قابلة للاحترام.
خلافاً لما يدعيه الأصوليون الدينيون أو القوميون، فإن الحضارات المختلفة الموجودة في العالم ليست لا موحَدة ولا ثابتة، بل هي، على العكس، نتاج تبادلات وتناضحات ولدتها وأخصبتها الاتصالات والاقتراضات واختلاط السداة والبذور. ولعل إسبانيا خير مثال على ذلك: مجموع من العناصر الإغريقية اليونانية والمسيحية والبيزنقوطية والعربية واليهودية أسفرت عنه هجنة أدبية وفنية فريدة من نوعها. وسأردد هنا الاستنتاج الذي توصلتُ إليه منذ زمن بعيد: الثقافة، سواء الإسبانية أو الفرنسية أو الكاطلانية أو غيرها، إنما هي (نتيجة) مجموع التأثيرات التي تلقتها طوال تاريخها. أما مصطلح ‘الهوية الخالصة’ الذي أسمعه هنا وهناك فإنه يدعوني إما للضحك وإما للتخوف، وذلك تبعاً لطبيعة الظرف والسياق.
ختاماً، أعود إلى ما افتتحت به كلامي؛ إلى ‘غرابة’ و’غربة’ الفضاءين الذهنيين لهذا الزوجيّ الذي يزعمون أنه غير قابل للاختزال: الإسلام/ الغرب. لننفكَّ منهما ونعيدهما إلى طبيعتهما: فضاءين طبيعيين يسكنهما أشخاص مثلنا. لنمد الجسور بين ‘الشمال’ و’الجنوب’، بين ‘الشرق’ و’الغرب’. سوف نفوز جميعاً في النهاية بفضل التعارف فيما بيننا. وبذلك، ستسود القيم المشتركة على الاختلافات التي ستثرينا إن نحن قدّرناها حق قدرها. وفي نهاية المطاف، ستكون أسمى الحضارات هي تلك التي تعتبر نفسها مؤلفة من مجموع جميع الحضارات.
خوان غويتيصولو
قبل بضع سنوات، كنت جالساً ذات مرة قبالة ساحة جامع الفنا بمراكش أستمتع بفنجان قهوة فدنا مني سائح فرنسي. وبعد تحيتي أعرب لي عن إحساسه الغامر بالتواجد في الشرق. في الشرق؟ نعم، البزارات والأسواق وعبير التوابل… وكأنها حكاية شرقية، أليس كذلك؟ لم أجد لا الشجاعة ولا الصبر لأقول له إن ‘الشرق’ و’الغرب’ بصفتهما فضاءين ذهنيين في متخيلنا الجماعي ليس لهما وجود جغرافي على أرض الواقع. فالمغرب بالنسبة للعرب هو المغرب الأقصى، أي الغرب الأقصى؛ شيئاً بعيداً وغرائبياً بالنسبة للمواطن اليمَني، تماماً كما كانت دمشق أو بغداد بعيدة وغرائبية بالنسبة لنا (في أوروبا) قبل انطلاق الرحلات الجوية منها وإليهما.
نظراً لبعده الجغرافي بالنسبة إلى أبناء القبائل البدوية التي قادها حماسها الديني إلى اختلاق الخلافة العربية في القرن الميلادي الثامن، صارت كلمة ‘غرب’، التي تشتق منها كلمة ‘غربي’ الكاطلانية و’الغربي’ البرتغالية و’الغريب’ القشتالية المهجورة، مرادفة لما هو ‘أجنبي’، ‘غير عادي’ أو ‘غير مألوف’. ومن ثم، انبثقت عن جذورها كلمات مثل ‘غريب’ و’غرابة’ و’غراب’ و(فعل) ‘غرب’ و’غربة’، علما بأن هذه الأخيرة تستعمل في شمال أفريقيا للدلالة أيضاً على الوحدة والحنين. وتمتد تداعيات مفردة ‘غرب’ امتداداً، لكنني سأكتفي بما ذكرت من أمثلة.
وتُبين لنا هذه اللطيفة والخرجة الاشتقاقية ارتداد وتقلب معنى ‘الشرق’ و’الغرب’ عبر التاريخ، وذلك بحسب وجهة النظر، الذهنية أكثر منها الجغرافية، التي نتموقع فيها. ولعل البحر الأبيض المتوسط ، أو ‘بحرنا’ كما كان يسميه الرومان قديماً، هو خير مثال على هذه الاصطدامات الفضاثقافية التي توالت على ضفتيه منذ أزيد من عشرين قرناً. المسمَون بالغزاة الآسيويين في العالم الإغريقي- اليوناني، مع هزيمة الفرس أول الأمر على يد أثينا واحتجاز العرب في كوباضونغا (إسبانيا) وواتييه (فرنسا) ثم حصار العثمانيين لفيينا (النمسا) الذي جعل المسيحية ترتعد، عادة ما يُنظر إليهم من جانب واحد، ولا نولي (في أوروبا) أي اهتمام لكيف كان يُنظَر إلينا من الجانب الآخر. رغم ذلك، ففكرة القرطاجنيين عن روما ستكون، على سبيل المثال، توضيحية تماما مثل نقيضتها بالنسبة لدارسي الموضوع. لكن قوة الأسلحة والرواية التاريخية التي يضعها المنتصِر هما اللتان تكتبان الماضي وتشكلان حياتنا في الحاضر. وتلخص الجملة الآتية لمرتكِب الإبادة الجماعية، الصربوسني رادوفان كرادجيتش، هذه النظرة الأحادية الجانب والحصرية إلى الوقائع وتذهب بها إلى أبعد الحدود، حيث يقول: ‘التاريخ، إذا لم يكن في مصلحتنا،لا ينبغي أن يوجد’.
إن التحدث باللغة السياسية الراهنة عن ‘الشرق’ و’الغرب’ ليعدّ كناية؛ هذا على أوروبا والعالم الأمريكي الذي أحدثته، وذاك على الإسلام. يتعلق الأمر إذن بمصطلحين متعاديين منذ قرون عديدة وتجسد المواجهة بينهما،التي يُفترض أن لا مفر منها، ‘صراع الحضارات’ الشهير الذي قال به البعض وأسال أنهاراً من الحبر منذ منتصف العقد الأخير من القرن الميلادي العشرين، خاصة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وإذا اعتُبر هذا سداً لاحتواء التوسع السوفييتي (حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعماً سخياً للطالبان الأفغان)، فإنه قد تحول من جديد إلى رمز للوحشية التي نستحملها اليوم. فبعد موت الشيوعية، عاد الإسلام للظهور. وبعد توقف قصير في أعقاب سقوط جدار برلين جعلنا نحلم بنهاية التاريخ، استعادت ‘الحرب الباردة’ دورها الحاسم في المحيط السياسي-الديني للرئاسة الإمبريالية الأخيرة لجورج بوش (الإبن): الدفاع عن الديموقراطية والحريات في مواجهة إيديولوجية شمولية أخرى تجعل من الإرهاب سلاح الدمار الشامل لديها.
ولمواجهة التطرف الأعمى لأسامة بن لادن، الموجَه بالدرجة الأولى ضد المسلمين الذين لا يعتنقون مفهوم ‘الجهاد’ لديه، ثم، في المقام الثاني، ضد من يسميهم ‘الصهاينة والصليبيين’، تبنى الرئيس الأمريكي السابق و’براكينه’ تطرفاً ضاداً لا يشمل مجموعات تنظيم ‘القاعدة’ السديمي لوحدها، بل كذلك شركاءه المزعومين، صدام حسين وإيران آيات الله، المضمنين في ‘محور الشر’ الغارق في المذهبية والترميق. التمييز الضروري بين المسلم والإسلاموي والجهادي تلاشى وتبخر على يد المبشرين عبر التلفاز والقساوسة العسكريين المتنكرين في زي مستشارين سياسيين. لقد قُدمت خدمة جليلة لصدام الحضارات، بين حضارة الدول الديموقراطية المنضوية تحت ‘الحلف الأطلسي’ وحضارة الإسلام، بين حضارة فِرق التدخل السريع دفاعا عن الحرية وحضارة القوى الظلامية والقمعية. هذا الطرح لم يكن ليفضي إلى شيء آخر غير الكارثة التي نعاني من عواقبها اليوم.
هكذا كنا، منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، شهوداً على حربين فتاكتين: الأولى حظيت بدعم من المنتظم الدولي ولكن أسيء الإعداد لها وخوضها، وهي التي تدور رحاها حالياً في أفغانستان؛ والثانية، حرب العراق، التي كانت نتاج الجشع وسلسلة من الزوائف الملبوسة بشعور قومي لتزيين الواجهة، ولن تستطيع الاستحقاقات السياسية الهزيلة المجنية منها لفائدة سكان خاضعين لاستبداد ليس لا أفضل وأسوأ من الاستبدادات القائمة في أغلب البلدان العربية تبرير التدمير الذي ألحقته ببنى العراق التحتية، والمواجهة التي أحدثتها بين مكوناته العرقية-الدينية الثلاثة (دون أن ننسى مضايقة المسيحيين منذ زمن بعيد) والعدد الهائل من الضحايا (بمن فيها الأمريكية). وقد صاحبت الحربين آليات دعائية ضخمة تخلط الأمور بعضها ببعض وتحكم على الكل اعتماداً على الجزء/ البعض. إن تنوع الوقائع والثقافات والتقاليد الدينية الموجودة في العالم الإسلامي لثرية ومعقدة بنفس المستوى الموجود في العالم المسيحي، لكن لا شيء من ذلك همّ ‘البنتاغون’ أو ‘البيت الأبيض’. ما يخدم المصالح المرتبطة بالطاقة (النفط) والإستراتيجية الأحادية الجانب المرسومة لتعزيز وضع أقوى دولة على وجه الأرض تحول، كما كان يحصل إبان الاستعمار الأوروبي، إلى ‘مهمة تحضيرية’ (نسبة إلى الحضارة). ويبين الفشل الذريع لهذا الادعاء إلى أي حدّ كانوا مخطئين.
وإذا تم النظر إلى مختلف المعتقدات والنظم الدينية في الفضاء الآسيوي، كالكونفوشيوسية والبرهمانية والبوذية وغيرها من بعيد، بعين الطيبوبة أو التساهل، فقد ظل الإسلام، كما أشار إلى ذلك في حينه المؤرخ التونسي الكبير هشام جعيط، يجسد عقيدة قريبة وغير قابلة للاستيعاب، وذات هاجس توسعي يقلق بالنا ومرآة تنعكس فيها ذواتنا. لقد كانت هناك فترات سلام بالفعل، أو على الأقل فترات توازن، بين هاتين القطعتين المتكونتين من أقمشة متعددة الألوان والمسميتين بالمسيحية والإسلام، غير أن الذكريات السائدة في مخيلتي الجانبين هي ذكريات الغزوات والانتصارات والهزائم والحروب الصليبية والمعارك الجهادية. هذا التاريخ الطويل والمضطرب المشترك بيننا، المليء بالتقلبات والنزاعات، انتهى قبل ما يزيد على قرن من الزمن بالانتصار الكامل للقوى الأوروبية: سقوط الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة واحتلال الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، من مضيق جبل طارق إلى تركيا.
كانت الدولة العلمانية التي أنشأها مصطفى أتاتورك في تركيا وثورة عبد الكريم الخطابي في الريف (بالمغرب)، الثورة التي يجدر التذكير بأنها قامت على الشرعية الدولية الجديدة التي استعرض معالمها الرئيس الأمريكي ويلسون في النقاط الأربع عشرة الشهيرة عند نهاية الحرب العالمية الأولى ولكن تم سحقها من طرف الجيشين، الإسباني بقيادة فرانكو والفرنسي بقيادة الماريشال بيتان، إشارة واضحة إلى أن مرحلة تاريخية جديدة تلوح في الأفق. وبعد ثلاثة عقود من ذلك، بينت الأحداث بأنهما كانا على صواب.
كل هذا يبدو اليوم بعيداً وراءنا، لكن علينا العودة إلى الماضي لفهم الحاضر وعدم تكرار الأخطاء التي ارتكبناها في السابق. علينا في يوم من الأيام أن نفسر لماذا وكيف أن الحركات التحررية من الاستعمار في العالم العربي، من المغرب إلى العراق، والتي كانت في الأصل علمانية وذات تطلعات ديمقراطية، وقعت الواحدة تلو الأخرى بين أيدي الطغاة، أو تحت وطأة الدينوقراطية (نسبة إلى الدين) لدرجة أنه بات من الصعب تمييزها عن السلالات الجمهورية التي أنشئت منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي (العشرين) في دول مثل سورية وليبيا ومصر وتونس والجزائر. وبينما تحولت خطابة الوحدة العربية إلى نكتة (يكفي استحضار العرض الذي قدمَته خلال الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة)، فإن العودة إلى الدين، سواء في الحياة العامة أو الخاصة، تكشف عن عجز الشعوب وعدم اكتراثها بالسياسة وذلك على حساب القيم الديمقراطية وحقوق المرأة. سأعود إلى هذه الأمور لاحقاً.
لقد أشرتُ إلى اندثار إرث شخصيات كالتي قادت حركات الاستقلال العربية – القومية منها والعلمانية والديمقراطية-: المهدي بن بركة من المغرب والحاج مسالي وفرحات عباس وبن خدة ومحمد بوضياف من الجزائر والحبيب بورقيبة من تونس، ومؤسسي حزب ‘البعث’ السوري والعراقي، دون أن نغفل الدستوريّين المصريين من بداية الحماية التاريخية إلى غاية سقوط الملكية وانتصار جمال عبد الناصر. هذه جميعها شخصيات وحركات عرفت الاضطهاد على يد المُحضِرين (من الحضارة) الأوروبيين المزعومين أولا، ثم على يد المَلكيات أو الحُسُم (ج. حُسام) الموالية لمصالح هؤلاء في وقت لاحق.
هكذا نجد أن الإصلاحيين والمنشقين عن الشيوعية السوفييتية تلقوا الدعم المعنوي والمادي من ‘الغرب’ أثناء الحرب الباردة، في حين أن الدول العربية تم كسحها أمام لامبالاتها أو بتواطؤ غير مجيد منها. لقد غلبت المصالح الاقتصادية والإستراتيجية لكل من إنكلترا وفرنسا ثم، في وقت لاحق، الولايات المتحدة الأمريكية، القيم التي كانت تتشدق بالدفاع عنها خارج حدودها. فكانت النتيجة كارثية، وهذا ما تثبته الإحصاءات الخاصة بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي في العالم العربي-الإسلامي. ولا بأس أن نذكر أيضاً في هذا السياق الانقلاب الذي أعِد ضد السياسي الديموقراطي في إيران، مصدق، لتجرؤه على تأميم شركات النفط الغربية، وذلك بهدف إعادة الشاه إلى عرش إيران. والآن أود أن أقتبس إحدى تلك الإحصاءات، التي قرأتها قبل بعض الوقت وقد تحتاج إلى تحيين؛ إنها إحصاءات تشمل مجموع المجال الإسلامي:
‘في العالم الإسلامي، تبلغ قيمة استهلاك الطاقة للفرد الواحد 3700 دولار، مقارنة مع 28000 دولار في العالم المتقدم. ويعادل الناتج الداخلي الخام (الإجمالي) للدول الإسلامية مجتمعة الناتج الداخلي لفرنسا بمفردها. والناتج الداخلي الخام (الإجمالي) للدول العربية مجتمعة هو أقل حجماً منه في إسبانيا لوحدها. كما أن سبعة وأربعين في المئة من المسلمين أميون، لا يستطيعون القراءة والكتابة ، ولم يلتحقوا أبداً بالمدرسة. وعليه، هناك أزمة علم ومعرفة. واللغة العربية هي لغة ما يقرب من ثلاثمئة مليون شخص، لكن الكتب المنشورة سنويا باللغة اليونانية، التي لا يتحدث بها سوى خمسة عشر مليون نسمة، تفوق تلك المنشورة باللغة العربية. كما أنه لا توجد أكثر من خمسمئة جامعة في العالم الإسلامي في الوقت الذي تتوفر فيه الولايات المتحدة الأمريكية وحدها على خمسة آلاف جامعة، وقس على ذلك.’
مثل هذا العرض المقتضب للحقائق لا يحتاج إلى تفسير أو توضيح. إن اختلال التوازن الصارخ بين أوروبا والبلدان العربية-الإسلامية لا يرجع فقط إلى أسباب دينية، كما لا يمكن تفسيره بالاستشهاد بآيات من القرآن الكريم مبررة للعنف، بل إلى أسباب اجتماعية وسياسية وثقافية ملبوسة بعباءة الكتاب المقدس؛ وهي أسباب يجب علينا تحليلها بكل عناية لنركز بشكل أفضل على نوعية العلاقة معها في المستقبل. لا ينبغي تحميل أنفسنا اللوم كله. فمسؤوليات الشعوب العربية الإسلامية هي في نفس خطورة وحِدة مسؤولياتنا. إن السلطة الاجتماعية المتزايدة للقوى المحافظة والتقليدية المتشبثة بتفسير جامد لنصوص الوحي القرآني وبالدفاع عن قوانين وأعراف تعود إلى عهد غابر، خاصة فيما يتعلق بوضع المرأة، إنما هي نتيجة الإحباط المراكَم طوال عقود من الزمن إزاء فساد النخب الحاكمة والديكتاتوريات التي ترسخ نفسها في الحكم. فالانتخابات المهزلة التي تتكرر في معظم الدول العربية لا يمكنها أن تكون جداراً لمنع انتشار التيار الإسلاموي. بل العكس هو الصحيح: إنها تشجعه وتجعل منه بديلا.
إن الديمقراطية، التي تقترن لدى العديدين بالصفقات التجارية المربحة للدول الغربية مع بترومَلكيات الخليج وبالأثرياء والأمراء الذين يستعرضون ثرواتهم في الدار البيضاء والقاهرة وبيروت وماربيا بشكل مخل بالآداب قد فقدت قوة الجذب التي كانت لها في الماضي لاستقطاب الجماهير الفقيرة والأمية، التي يغلق عليها أيضاً صنبور الهجرة. مع ظهور النفط في باطن الأرض أو في المجال البحري لمرزبة معينة، تختفي بأعجوبة مشكلة انتهاك حقوق الإنسان التي تطرحها الديمقراطيات الغربية لدى هيئة الأمم المتحدة. مثل هذا النفاق، كالإدانة بالكلام فقط للاحتلال الإسرائيلي المتواصل للأراضي الفلسطينية، له ثمن: تشوه سمعة تلك الديموقراطيات الغربية في عيون الشعوب المسلمة وتعزيز التطرف. غير أن ميزان القوى بين السلطة القمعية بدرجة أو بأخرى والمجتمع المدني المنهك يختلف من دولة إلى أخرى: من الغياب شبه التام في بعض الدول إلى النضال العسير لفئات في وضع أقلية لكنها مكافحة في دول أخرى من أجل قيم مدنية شبيهة بالتي لدينا، بعيدة عن الدين ولكن دون أن تكون معارضة له. هذه العلاقة الوثيقة ليست في المغرب نفسها، بل في مصر؛ وفي دولة علمانية مثل تركيا كما في بلد مثل جمهورية إيران الإسلامية، الشديدة التعقيد من جهة والغنى والتناقض الفكريان من جهة أخرى.
في مقابلة لي خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003 مع زعيم المعارضة بإسبانيا آنئذ الاشتراكي خوسيه لويس رودريغيث ثاباطيرو، قبل أول زيارة له إلى المغرب، شرحتُ له وجهة نظري فيما يخص اليقينية المذهبية لكل من الرئيس الأمريكي جورج بوش (الإبن) ورئيس الحكومة الإسبانية خوسيه ماريا أثنار، وأثرها على حوض البحر الأبيض المتوسط. قلت إن ضرورة وجود علاقات جيدة مع البلدين اللذين يشكلان نقطة الاتصال بالنسبة للاتحاد الأوروبي مع العالم الإسلامي، أي مع جارنا في الجنوب (المغرب) ومع تركيا، يجب أن تكون على رأس الأولويات ، ومَن غاب عنه هذا غاب عنه كل شيء. لهذا السبب، حاججتُ من أجل انضمام أنقرة إلى ما يطلق عليه البعض ‘النادي المسيحي’، رغم ما يعنيه ذلك من عقبات كبرى، داخلية وخارجية، ومن أجل إقامة روابط متميزة مع المغرب، الذي من شأن أيّ زعزعة لاستقراره أو تقهقر يصيبه أن يكون أسوأ ما يمكن أن يحدث بالنسبة لبلدان الضفة الشمالية من المتوسط، بدءاً ببلدنا (إسبانيا).
وفيما يلي عرض سريع لبعض الشروط اللازمة مقابل الحصول على ذلك الدعم: تحقيق التقدم في دمقرطة نظام الحكم وحرية الصحافة واحترام الأقليات العرقية والدينية والمساواة القانونية للمرأة مع الرجل. والمطالبة بهذه الأشياء لا تعني فرضاً لقيمنا، باعتبار أن هذه الأخيرة لديها صلاحية عالمية ولو أن تبنيها يفترض اصطداماً مع العادات القبلية والمحظورات التي يستدعي الأمر بعض الوقت للتغلب عليها، كما حدث في إسبانيا في القرن الماضي (العشرين). إن مثال تركيا اليوم يدل على أن الديمقراطية والإسلام ليسا متناقضين. فمثلما كانت هناك ولا تزال أحزاب ديموقراطية-مسيحية (أوروبية)، وجب اعتبار الإسلام المعتدل الذي يتبناه رجب أردوغان وعبد الله غول بمثابة أداة فعالة لتحقيق التقدم والتحديث في تركيا، بحيث يوفق بين ممارسة المعتقدات الدينية وولاء للتقاليد الدينية ومجتمع مفتوح على دينامية العالم وتتوسع فيه دائرة الحريات عبر سلسلة من الإجراءات التي تجعل تركيا تتوافق مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. إن محاكمة الكاتبين (التركيين) أورهان باموك ونديم غورسل بتهمة القذف في حق ‘الهوية التركية’ ومؤسس العقيدة الإسلامية لا تندرج ضمن الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي وينبغي شجبها. وكما قال غورسل مؤخراً على صفحات صحيفة ‘لوموند’، إن تراجع الهوية الأوروبية، وخاصة في فرنسا وألمانيا، يمثل خطوة إلى الوراء بالنظر إلى أوروبا متعددة اللغات والثقافات تستطيع بفضل وزنها السياسي والاقتصادي مضاهاة ليس فقط الولايات المتحدة الأمريكية، بل أيضا الدول الكبرى الناشئة مثل الصين والهند.
وإلا بماذا نفسر التناقض الذي يجعل من إسطنبول العاصمة الثقافية المقبلة لأوروبا في عام 2010 في حين يتم رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بسبب أوهام ومخاوف ديموغرافية من جراء غزو إسلاموي مزعوم؟
إن ‘تحالف الحضارات’ الذي يرعاه رئيسا حكومتي تركيا وإسبانيا ، والذي أفضل أن نسميه ‘تحالف القيم المشتركة’ بين الدول الأوروبية وتلك البلدان الموجودة على رأس العالم الإسلامي من حيث التنمية والحرية والديمقراطية هذا ليس ريح بطن ولا فعلا ملائكياً كما يزعم منتقدوه، بل خياراً برغماتياً حظي بتأييد باراك حسين أوباما في الخطاب الذي ألقاه بإسطنبول في السادس من نيسان (أبريل) الماضي، حيث صرح بكل قوة ووضوح، وفي تناقض حاد مع اللغة العدوانية التي كان يستعملها سلفه (جورج بوش الإبن)، بأن بلاده ‘ليست ولن تكون أبداً في حالة حرب ضد الاسلام’؛ ثم بالأخص، في خطاب الرابع من حزيران (يونيو) الذي ألقاه في جامعة القاهرة (الإسلامية)، حيث قال الرئيس الأميركي الجديد وبصدق وبدهية غير معهودين على لسان رئيس أمريكي: ‘من الواجب علي أن أكافح الصور النمطية عن الإسلام أينما وُجدَت…[...]؛ الفلسطينيون يعانون يومياً من الإذلال، كبيراً كان أو صغيراً ، المصاحِب للاحتلال [...] إن وضع الشعب الفلسطيني وضع لا يمكن تحمله.’ ولم تفت الرئيس في مداخلته الإشارة إلى احترام حقوق المرأة وعلى رأسها التعليم، وكذا إلى ‘حكومة تتسم بالشفافية ، ولا تنهب أموال الشعب؛ وإلى حرية الاختيار واحترام الأقليات [المارونية والقبطية]؛ حكومة من الشعب لخدمة الشعب: وهذه جميعها قيم عالمية وليست حصراً من الأمة الأمريكية’. ترى ماذا كان رد فعل المتطرفين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وملوك النفط في الخليج ورؤساء السلالات الجمهورية الحاكمة من طينة القذافي أو مبارك؟ إن الأحزاب والجماعات السياسية التي تطالب بحرية الرأي، على غرار ملايين الرجال والنساء الذين يتعرضون لهمجية بعض العادات القبلية في المملكة العربية السعودية أو إيران أو باكستان، يستحقون منا كل الدعم. في هذه الحالة، يجب أن لا نلتزم بالصمت ونخفي الرأس في الرمل بدعوى أننا نتصرف بحكمة.
لكن ليس كل شيء قاتماً في لوحة كوكبنا المعولم. إن تراجع القيم الديموقراطية في ‘دار الاسلام’ ليس أمراً لا رجعة فيه. الإصلاحيون موجودون وصوتهم مسموع: أعرف هذا شخصياً وقد تحدثتُ إلى البعض منهم في كل من إيران والشرق الأوسط والبلدان المغاربية. إنهم ديمقراطيون ومسلمون في نفس الوقت، وبذلك يمثلون نموذجاً حياً على بطلان فكرة ‘صدام الحضارات’، حيث يطالبون بالحقوق المنصوص عليها في الميثاق المؤسس لهيئة الأمم المتحدة ويشجعون الشراكات التي يكون فيها للمرأة دور فاعل. هؤلاء الرجال والنساء هم الذين يسعون إلى تحالف أو تفاهم مع الذين يشاطرونهم قيمهم، دون أن يثبط عزيمتهم عداء أو جمود أبناء وطنهم. أمام لغة الحرب على الإرهاب والتصريحات النارية التي يطلقها تنظيم ‘القاعدة’ ولاحركية الحكومات المعنية لغرض في نفسها، ينتظر هؤلاء (الإصلاحيون) بكل ثقة تحول السياسة الأوروبية والأمريكية. وبينما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية أن تجد لنفسها مخرجاً من مأزق العراق وإيجاد نقطة التقاء صعبة المنال بين السنة والشيعة والأكراد من شأنها الحفاظ على الإنجازات المدنية المزرية في العراق منذ عقود من الزمن والتوصل إلى إنشاء دولة قابلة للحياة في أفغانستان، على أن تفعل ذلك دون التضحية بنصف سكانه، أي النساء، على النحو الذي يطالب به الرئيس حميد كارزاي، تتوجه كل الأنظار إلى المقيم الجديد (باراك أوباما) في ‘البيت الابيض’. لا ينبغي توقع المعجزات لأنها غير موجودة. ولكن نهاية التحالف غير المشروط مع إسرائيل ، والكارثي على المدى المتوسط بالنسبة إلى واشنطن وتل أبيب، وسياسة متوافق حولها مع أوروبا من أجل العودة إلى الشرعية الدولية، أي إلى حدود 1967 ، واليد الممدودة إلى المسلمين انطلاقاً من الاقتناع بأن القوة وحدها لا تستطيع حل المشكلات ولا تشكل البديل المناسب عن التطرف، ستكون خطوات مشجعة في الاتجاه الصحيح. إن البحث عن مجال للتلاقي، عن قيم تجمع بين الناس، يعزز فكرة الحوار على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل للثقافات والتقاليد كلما كانت هذه قابلة للاحترام.
خلافاً لما يدعيه الأصوليون الدينيون أو القوميون، فإن الحضارات المختلفة الموجودة في العالم ليست لا موحَدة ولا ثابتة، بل هي، على العكس، نتاج تبادلات وتناضحات ولدتها وأخصبتها الاتصالات والاقتراضات واختلاط السداة والبذور. ولعل إسبانيا خير مثال على ذلك: مجموع من العناصر الإغريقية اليونانية والمسيحية والبيزنقوطية والعربية واليهودية أسفرت عنه هجنة أدبية وفنية فريدة من نوعها. وسأردد هنا الاستنتاج الذي توصلتُ إليه منذ زمن بعيد: الثقافة، سواء الإسبانية أو الفرنسية أو الكاطلانية أو غيرها، إنما هي (نتيجة) مجموع التأثيرات التي تلقتها طوال تاريخها. أما مصطلح ‘الهوية الخالصة’ الذي أسمعه هنا وهناك فإنه يدعوني إما للضحك وإما للتخوف، وذلك تبعاً لطبيعة الظرف والسياق.
ختاماً، أعود إلى ما افتتحت به كلامي؛ إلى ‘غرابة’ و’غربة’ الفضاءين الذهنيين لهذا الزوجيّ الذي يزعمون أنه غير قابل للاختزال: الإسلام/ الغرب. لننفكَّ منهما ونعيدهما إلى طبيعتهما: فضاءين طبيعيين يسكنهما أشخاص مثلنا. لنمد الجسور بين ‘الشمال’ و’الجنوب’، بين ‘الشرق’ و’الغرب’. سوف نفوز جميعاً في النهاية بفضل التعارف فيما بيننا. وبذلك، ستسود القيم المشتركة على الاختلافات التي ستثرينا إن نحن قدّرناها حق قدرها. وفي نهاية المطاف، ستكون أسمى الحضارات هي تلك التي تعتبر نفسها مؤلفة من مجموع جميع الحضارات.
خوان غويتيصولو