لعل ما يلفت النظر في كتابات العائدين هو إقدام قسم منهم على الإدلاء بشهادته حول العودة، وهي عودة بدت لبعض الكتاب عودة ثقيلة غير مرغوب فيها، ولكن لا بد منها. وإذا كنا لاحظنا هذا، وأنا آتي على ما كتبه رشاد أبو شاور في "رائحة التمر حنة"، فإن من تابع المقابلات التي أجريت مع محمود درويش لا بد قرأ عن عدم استعجاله بالعودة، وعن إلحاح بعض أصدقاء الشاعر عليه بضرورة العودة، فلا مبرر له للاستمرار بالإقامة في المنفى. وإذا كان درويش عاد واستقر في رام الله، فإن هناك من عاد للزيارة فقط، وسرعان ما عاد إلى المنفى، ومن هؤلاء الكاتب فيصل حوراني الذي أصدر في 70 ق20 العديد من الروايات، ومنها "بير الشوم" و"المحاصرون"، وقد حفلتا باهتمام دارسي الرواية الفلسطينية وتجربة حزيران فيها، رغم أنهما لم تحققا لفيصل شهرة روائية بحيث تجعلانه علماً من أعلام الرواية الفلسطينية، وسيكتب فيصل حوراني عن تجربة عودته كتاباً عنوانه "الحنين، حكاية عودة" ـ شهادة ـ (2004)، وسيهدي كتابه هذا إلى ابنته ليلى ـ صاحبة رواية "بوح" ـ "بأمل أن يجيء وقت نتمتع فيه بحق العودة".
وسيمر فيصل، في أثناء العودة، عبر الجسر، جسر أريحا، بالتجربة نفسها التي مرّ بها من سبقه من العائدين: مريد البرغوثي وخليل السواحري وفاروق وادي ومحمود شقير وأيضاً محمود درويش وغسان زقطان، وسيأتي على معاناته وسيكتب، كما كتبوا، عنها، ولكنه سيواصل طريقه من الجسر ـ أريحا إلى غزة، وسيعبر عبر معبر بيت حنون/ ايرز وسيعاني ثانية، وهنا سيتشابه معه في وصف معاناة المعبر، الروائي ربعي المدهون "السيدة من تل أبيب"، مع فارق أن وليد دهمان بطل السيدة جاء عبر مطار اللد، لا عبر الجسر.
في الفصل رقم 3 من كتاب الحوراني نتوقف أمام ما سبق، فيبدي رأيه فيما يرى ويعاني، وأول هذه المعاناة الوقوف على الجسر، حتى إذا ما اجتازه رأى أريحا التي كان زارها في العام 1956، حين كان طالباً في المدارس السورية، وستمر أربعون سنة حتى يرى أريحا ثانية، وسيفجع بما رأى. إنه هنا يتشابه في كتابته مع ما كتبه رشاد أبو شاور، علماً بأن الأخير عرف أريحا ومخيماتها جيداً، وغادرها إثر حزيران 1967، وعاد ليزورها في 1996 تقريباً، "أريحا بلدة أطفأ طول الإهمال ألقها الذي تحتفظ ذاكرتي ببريقه... كانت (مخيماتها) تعجّ بالحيوية وبالنشاط السياسي. خلت من سكانها وصارت دورها أطلالاً. (ص49). وربما تذكر المرء هنا رواية (ثيودور هرتسل) "ارض قديمة ـ جديدة" (1902)، فحين زار بطلها القدس أول مرة رآها خربة، وحين زارها ثانية، بعد سيطرة الحركة الصهيونية عليها بعشرين عاماً، رآها مزدهرة. دول تنشأ على أنقاض مدن وبلدات.
وإذا كانت الرواية الصهيونية تركز على أن فلسطين كانت أرضاً مهملة ومستنقعات، وأن الصهيونية هي من أحيتها، وأخذت ـ أي الصهيونية ـ تفاخر بإنجازاتها، فإن الرواية الفلسطينية تقول العكس. لاحظنا هذا في رواية غسان كنفان "عائد إلى حيفا" (1969) وفي "متشائل" اميل حبيبي (1974) وفي نصوص أخرى "دروب جميلة" (2007) لأكرم هنية، وسنلاحظه هنا في شهادة فيصل حوراني أيضاً:
"كنا نعبر خط الهدنة القديم، هذا الذي روّج الإسرائيليون من بين تسميات عديدة أطلقت عليه تسمية الخط الأخضر، فكأنهم تقصدوا النكاية بضحاياهم. وهنا، في المدى المعمور بالطرق المريحة والأبنية الفاخرة والحقول المشعة بالرواء، هنا أيضاً ضقت برؤية ما حل بوطني.." (ص51). لكأن قوله: فكأنهم تقصدوا النكاية بضحاياهم" هي من بقايا قراءاته لرواية كنفاني "عائد إلى حيفا". إن سعيد. س في الرواية يرد على زوجته صفية التي أعجبت بما رأته حين زارت حيفا بعد 1967، يرد قائلاً: "إنك لا ترينها. إنها يُرونها لك، لكي يقولوا لنا: تفضلوا انظروا. إننا أحسن منكم بكثير".
وإذا كانت المستوطنات تشع ضوءاً، وإذا كان المستوطنون جعلوها جنة لهم، فهي في نظر فيصل سموم، وهنا يتذكر المرء اميل حبيبي ومحمود درويش. ذهب الأول إلى أن الأيدي العربية الفلسطينية هي التي عبدت الطرق وزرعت الأرض، فيما لم ينخدع محمود درويش بالطرق المسفلتة ومصنع الألبان الحديث، كما كتب فيه "طللية البروة":
"ويقاطع الصحفي أغنيتي الخفيّة: هل
ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع
الألبان ذاك؟ أقول: كلا. لا
أرى إلاّ الغزالة في الشباك.
يقول: والطرق الحديثة هل تراها فوق
أنقاض البيوت؟ أقول: كلاّ. لا
أراها، لا أرى إلاّ الحديقة تحتها،
وأرى خيوط العنكبوت".
وسيقف فيصل، بعينيه، على أطلال قريته المسمية: على حجارة مدرسته ومحطة القطارات، وحانوت سرّيس البقال الذي كان يعد أشهى الفلافل، وسيحزنه هذا، وسيطلب من السائق ان يسرع أكثر، بعد أن كان طلب منه أن يبطئ السير حتى يرى قريته وما حل بها:
"بودي أن تسرع".
ومع أن السائق أطلق لسيارته العنان، فإن أوجاعي لم تخف، فذاكرتي تختزن أسماء المواقع التي توالت وتطفح بذكرياتي فيها ومعلوماتي عنها وعن ما حل بها على يد غاصبها". (ص52/53).
وسيصدم فيصل بعودته حتى إنه يتصل بأهله في القطاع ويطلب منهم ألاّ يأتي لاستقباله سوى واحد من أفراد عائلته، لا غير، فالعودة هذه ليست العودة المتمناة، ولشدّ ما انتقد أولئك العائدين الذين تفاخروا بعودتهم وبعدد مستقبليهم:
"ليجيء شخص واحد منكم لاصطحابي، واحد فقط، لا أريد احتفالاً، وأنا أنذركم: إن جاء أكثر من واحد فسأرجع إلى المكان الذي جئت منه." (ص53).
لقد رأى فيصل حوراني الوطن وقد خرّبه الاحتلال، وحظر تطوره وإن بقيت جذور عجز عن اقتلاعها. وسيلتقي بأمه بعد أربعين سنة من الفراق لم يرها إلاّ مرات قليلة فيها، حين كانت هي تغادر غزة إلى العالم العربي، مثله مثل مريد البرغوثي، ومثلهما ربعي المدهون أيضاً.
وإذا كان درويش كتب عن غزة إنها مدينة البأس والبؤس، فإن فيصل لم ير فيها أفضل مما رآه محمود درويش. وهكذا تتشابه نصوص أدب العائدين في محاورها الأساس.
عادل الأسطة
2015-08-02
وسيمر فيصل، في أثناء العودة، عبر الجسر، جسر أريحا، بالتجربة نفسها التي مرّ بها من سبقه من العائدين: مريد البرغوثي وخليل السواحري وفاروق وادي ومحمود شقير وأيضاً محمود درويش وغسان زقطان، وسيأتي على معاناته وسيكتب، كما كتبوا، عنها، ولكنه سيواصل طريقه من الجسر ـ أريحا إلى غزة، وسيعبر عبر معبر بيت حنون/ ايرز وسيعاني ثانية، وهنا سيتشابه معه في وصف معاناة المعبر، الروائي ربعي المدهون "السيدة من تل أبيب"، مع فارق أن وليد دهمان بطل السيدة جاء عبر مطار اللد، لا عبر الجسر.
في الفصل رقم 3 من كتاب الحوراني نتوقف أمام ما سبق، فيبدي رأيه فيما يرى ويعاني، وأول هذه المعاناة الوقوف على الجسر، حتى إذا ما اجتازه رأى أريحا التي كان زارها في العام 1956، حين كان طالباً في المدارس السورية، وستمر أربعون سنة حتى يرى أريحا ثانية، وسيفجع بما رأى. إنه هنا يتشابه في كتابته مع ما كتبه رشاد أبو شاور، علماً بأن الأخير عرف أريحا ومخيماتها جيداً، وغادرها إثر حزيران 1967، وعاد ليزورها في 1996 تقريباً، "أريحا بلدة أطفأ طول الإهمال ألقها الذي تحتفظ ذاكرتي ببريقه... كانت (مخيماتها) تعجّ بالحيوية وبالنشاط السياسي. خلت من سكانها وصارت دورها أطلالاً. (ص49). وربما تذكر المرء هنا رواية (ثيودور هرتسل) "ارض قديمة ـ جديدة" (1902)، فحين زار بطلها القدس أول مرة رآها خربة، وحين زارها ثانية، بعد سيطرة الحركة الصهيونية عليها بعشرين عاماً، رآها مزدهرة. دول تنشأ على أنقاض مدن وبلدات.
وإذا كانت الرواية الصهيونية تركز على أن فلسطين كانت أرضاً مهملة ومستنقعات، وأن الصهيونية هي من أحيتها، وأخذت ـ أي الصهيونية ـ تفاخر بإنجازاتها، فإن الرواية الفلسطينية تقول العكس. لاحظنا هذا في رواية غسان كنفان "عائد إلى حيفا" (1969) وفي "متشائل" اميل حبيبي (1974) وفي نصوص أخرى "دروب جميلة" (2007) لأكرم هنية، وسنلاحظه هنا في شهادة فيصل حوراني أيضاً:
"كنا نعبر خط الهدنة القديم، هذا الذي روّج الإسرائيليون من بين تسميات عديدة أطلقت عليه تسمية الخط الأخضر، فكأنهم تقصدوا النكاية بضحاياهم. وهنا، في المدى المعمور بالطرق المريحة والأبنية الفاخرة والحقول المشعة بالرواء، هنا أيضاً ضقت برؤية ما حل بوطني.." (ص51). لكأن قوله: فكأنهم تقصدوا النكاية بضحاياهم" هي من بقايا قراءاته لرواية كنفاني "عائد إلى حيفا". إن سعيد. س في الرواية يرد على زوجته صفية التي أعجبت بما رأته حين زارت حيفا بعد 1967، يرد قائلاً: "إنك لا ترينها. إنها يُرونها لك، لكي يقولوا لنا: تفضلوا انظروا. إننا أحسن منكم بكثير".
وإذا كانت المستوطنات تشع ضوءاً، وإذا كان المستوطنون جعلوها جنة لهم، فهي في نظر فيصل سموم، وهنا يتذكر المرء اميل حبيبي ومحمود درويش. ذهب الأول إلى أن الأيدي العربية الفلسطينية هي التي عبدت الطرق وزرعت الأرض، فيما لم ينخدع محمود درويش بالطرق المسفلتة ومصنع الألبان الحديث، كما كتب فيه "طللية البروة":
"ويقاطع الصحفي أغنيتي الخفيّة: هل
ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع
الألبان ذاك؟ أقول: كلا. لا
أرى إلاّ الغزالة في الشباك.
يقول: والطرق الحديثة هل تراها فوق
أنقاض البيوت؟ أقول: كلاّ. لا
أراها، لا أرى إلاّ الحديقة تحتها،
وأرى خيوط العنكبوت".
وسيقف فيصل، بعينيه، على أطلال قريته المسمية: على حجارة مدرسته ومحطة القطارات، وحانوت سرّيس البقال الذي كان يعد أشهى الفلافل، وسيحزنه هذا، وسيطلب من السائق ان يسرع أكثر، بعد أن كان طلب منه أن يبطئ السير حتى يرى قريته وما حل بها:
"بودي أن تسرع".
ومع أن السائق أطلق لسيارته العنان، فإن أوجاعي لم تخف، فذاكرتي تختزن أسماء المواقع التي توالت وتطفح بذكرياتي فيها ومعلوماتي عنها وعن ما حل بها على يد غاصبها". (ص52/53).
وسيصدم فيصل بعودته حتى إنه يتصل بأهله في القطاع ويطلب منهم ألاّ يأتي لاستقباله سوى واحد من أفراد عائلته، لا غير، فالعودة هذه ليست العودة المتمناة، ولشدّ ما انتقد أولئك العائدين الذين تفاخروا بعودتهم وبعدد مستقبليهم:
"ليجيء شخص واحد منكم لاصطحابي، واحد فقط، لا أريد احتفالاً، وأنا أنذركم: إن جاء أكثر من واحد فسأرجع إلى المكان الذي جئت منه." (ص53).
لقد رأى فيصل حوراني الوطن وقد خرّبه الاحتلال، وحظر تطوره وإن بقيت جذور عجز عن اقتلاعها. وسيلتقي بأمه بعد أربعين سنة من الفراق لم يرها إلاّ مرات قليلة فيها، حين كانت هي تغادر غزة إلى العالم العربي، مثله مثل مريد البرغوثي، ومثلهما ربعي المدهون أيضاً.
وإذا كان درويش كتب عن غزة إنها مدينة البأس والبؤس، فإن فيصل لم ير فيها أفضل مما رآه محمود درويش. وهكذا تتشابه نصوص أدب العائدين في محاورها الأساس.
عادل الأسطة
2015-08-02