قبل خمس سنوات، جئت المدينة الصغيرة القابعة بين صمتين: صمت البحر وصمت الصحراء، قبل خمس سنوات سكنت هذا البيت القريب من العمل، مئة خطوة فقط تفصلني عن بوابة المؤسسة التي تبدو قلعة نسيها التاريخ.
بين بوابتين تتحرك أيامي، وعبر مئة خطوة تنبت الحكايات، صباحا أتخلص من الأحلام العالقة بجدار القلب، وفي طريق العودة أتخلص من عنصرية المحيطين وأصداء ثرثرة المتعالمين.
مئة خطوة في شارع يخلو من مظاهر الطبيعة، أقاوم صهد الشمس مسرعا للاحتماء بالأشجار الوحيدة المحيطة بالبيت، أتنفس الأمل حين أصل إليها ، أتوقف قليلا قبل الدخول معبئا الروح برائحة الأوراق الخضراء.
الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلان
لم أستطع يوما فهم طبيعة الأشجار وأنواعها ولكني تآلفت معها، وحين أعود لمقعدي اليومي في الشرفة أكاد ألامس أوراق الشجرة الأقرب مسترجعا علاقتي التاريخية بالأشجار في طفولتي، وفي المدن التي عايشتها والحدائق التي مررت بها، و مستعيدا حلم أمي المختزل في دعائها الدائم أن تظلني شجرة لا تجف، حول روحي أغصانها تلف.
الشجرة القريبة التي أقضي معها نصف يومي بدأ الحوار بيننا صامتا، قبل أن يتحول إلى مساحة من التفاهم المشترك: أدخل الشرفة فتميل فروعها نحوي، تعاند الريح مقتربة، أنام فاترك لها النوافذ مفتوحة لنتبادل الأحلام، وفي الصباح تحرك فروعها لتخلص غرفتي من بقايا الأحلام المجهضة وقد تراكمت حول سريري، أغيب فتنكمش على نفسها محملة بالعتاب.
في اليوم الأخير من الشهر أصحو فأجدها وقد اصطبغت باللون الأحمر، ثلاثة أيام أو أربعة قبل أن تأخذ وضعا صالحا لظهور وردتها الشهرية، وردة بيضاء ناعمة، تتفتح فجأة، تنشر رائحتها النادرة في المكان، خمسة أيام تعيشها الوردة، قبل أن تختفي في اليوم السادس، بعدها تصبح الشجرة أكثر تألقا.
الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلان
فكرت مرة أن التقط صورة لوردتها النادرة لكن استشعاري رفضها أعادني آسفا (رأيت أوراقها تنضح غضبا وخيل لي إنها تكاد تغادر المكان)
دورة كونية تتكرر، دون توقف وفي مواعيد ثابتة، تقترب العصافير من الشجرة، يملأ صوتها المكان، يتغير وجه الحياة في المدينة، تصبح صالحة للجمال، وجديرة بالسعادة، وتتواتر الأخبار بارتفاع مستوى المعيشة ونمو الاقتصاد وتحسن الأحوال النفسية لسكان المدينة.
منذ أيام عدت من سفر طويل، كنت مرهقا بما أحمله من أعباء أخذتني أمور الحياة بقدر أوقف الحوار بيننا، لم أدر كم من الوقت مر قبل أن أتنبه لما يحدث، خرجت الشجرة عن قانونها، فور ظهور الوردة التفت حولها الأغصان حتى اختفت تماما، خمدت الرائحة وضلت العصافير، وتوالت الأحداث.
ضمرت الشجرة، تيبست أعضائي، فقدت حاسة الشم، بدت المدينة جافة، هشة، فاقدة للإحساس بالحياة، ولم أكن نائما وأنا أتابع خبرا كونيا راحت وسائل الإعلام تتناقله في فتور: الكرة الأرضية في طريقها إلى الفناء.
د. مصطفى الضبع -
* من المجموعة القصصية ”جامع الأحلام الميتة" الصادرة عن دار ميتابوك للنشر والتوزيع 2022
بين بوابتين تتحرك أيامي، وعبر مئة خطوة تنبت الحكايات، صباحا أتخلص من الأحلام العالقة بجدار القلب، وفي طريق العودة أتخلص من عنصرية المحيطين وأصداء ثرثرة المتعالمين.
مئة خطوة في شارع يخلو من مظاهر الطبيعة، أقاوم صهد الشمس مسرعا للاحتماء بالأشجار الوحيدة المحيطة بالبيت، أتنفس الأمل حين أصل إليها ، أتوقف قليلا قبل الدخول معبئا الروح برائحة الأوراق الخضراء.
الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلان
لم أستطع يوما فهم طبيعة الأشجار وأنواعها ولكني تآلفت معها، وحين أعود لمقعدي اليومي في الشرفة أكاد ألامس أوراق الشجرة الأقرب مسترجعا علاقتي التاريخية بالأشجار في طفولتي، وفي المدن التي عايشتها والحدائق التي مررت بها، و مستعيدا حلم أمي المختزل في دعائها الدائم أن تظلني شجرة لا تجف، حول روحي أغصانها تلف.
الشجرة القريبة التي أقضي معها نصف يومي بدأ الحوار بيننا صامتا، قبل أن يتحول إلى مساحة من التفاهم المشترك: أدخل الشرفة فتميل فروعها نحوي، تعاند الريح مقتربة، أنام فاترك لها النوافذ مفتوحة لنتبادل الأحلام، وفي الصباح تحرك فروعها لتخلص غرفتي من بقايا الأحلام المجهضة وقد تراكمت حول سريري، أغيب فتنكمش على نفسها محملة بالعتاب.
في اليوم الأخير من الشهر أصحو فأجدها وقد اصطبغت باللون الأحمر، ثلاثة أيام أو أربعة قبل أن تأخذ وضعا صالحا لظهور وردتها الشهرية، وردة بيضاء ناعمة، تتفتح فجأة، تنشر رائحتها النادرة في المكان، خمسة أيام تعيشها الوردة، قبل أن تختفي في اليوم السادس، بعدها تصبح الشجرة أكثر تألقا.
الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلان
فكرت مرة أن التقط صورة لوردتها النادرة لكن استشعاري رفضها أعادني آسفا (رأيت أوراقها تنضح غضبا وخيل لي إنها تكاد تغادر المكان)
دورة كونية تتكرر، دون توقف وفي مواعيد ثابتة، تقترب العصافير من الشجرة، يملأ صوتها المكان، يتغير وجه الحياة في المدينة، تصبح صالحة للجمال، وجديرة بالسعادة، وتتواتر الأخبار بارتفاع مستوى المعيشة ونمو الاقتصاد وتحسن الأحوال النفسية لسكان المدينة.
منذ أيام عدت من سفر طويل، كنت مرهقا بما أحمله من أعباء أخذتني أمور الحياة بقدر أوقف الحوار بيننا، لم أدر كم من الوقت مر قبل أن أتنبه لما يحدث، خرجت الشجرة عن قانونها، فور ظهور الوردة التفت حولها الأغصان حتى اختفت تماما، خمدت الرائحة وضلت العصافير، وتوالت الأحداث.
ضمرت الشجرة، تيبست أعضائي، فقدت حاسة الشم، بدت المدينة جافة، هشة، فاقدة للإحساس بالحياة، ولم أكن نائما وأنا أتابع خبرا كونيا راحت وسائل الإعلام تتناقله في فتور: الكرة الأرضية في طريقها إلى الفناء.
د. مصطفى الضبع -
* من المجموعة القصصية ”جامع الأحلام الميتة" الصادرة عن دار ميتابوك للنشر والتوزيع 2022