قاسم حداد
مايو 1978
(إذا فشلت هنا في تفسير الشعر،
أكون قد حققت أجمل نجاحاتي)
1
أين يبدأ الشعر وأين ينتهي؟
هل يمكن معرفة ذلك؟
لكن أيضا هل يمكن أن نعرف حدود الأفق، أين يبدأ الأفق وأين ينتهي.
أنت ترى الأفق هناك، تمشي إليه وتمشي ولكنك لا تصل. إنه أفق، والأفق لا يبدأ ولا ينتهي. انه أفق فحسب,
وهكذا الشعر. يقال بأن الشعر قد بدأ مع الإنسان وأكاد أشك في ذلك. ولكنني أخشى أن أقع في الفهم المثالي. أفهم ،مثالياً من نافذة: ( في البدء كانت الكلمة).
لأن الشعر الذي أعنيه هو الفعالية/ وليست الكلمة الواقفة لفي المطلق.
أقول أشك في بدئية الشعر مع الإنسان. ولكن الأكيد أن النثر قد جاء بعد الشعر. الشعر أولاً، وبعده جاء النثر وكل ما هو ليس شعراً هو نثر. وضمن النثر يتكون نقد الشعر. والقارئ/ كل قارئ هو مشروع ناقد، وفي القارئ تستطيع أن تعرف هل استمر الشعر هنا أم توقف/ هل تمكن القارئ أن يصير شعراً من خلال قراءته؟ ومن هذه الشرفة تلمس الإمكانية المتوفرة لدى القارئ ليصير مشروعاً نقدياً، وأحيانا كثيرة من حيث لا يدري. وعندي، أفضل النقد الذي يأتي من حيث لا يدري القارئ. لأن الحساسية الشعرية أمراً لا يمكن تفسيره. ولكن يمكن اكتشافه فقط. أحياناً كثيرة يتوقف الشعر قليلاً عند الشاعر لكي يبدأ النثر.
2
في الرقص/ بين الرقصة والرقصة، يأخذ الراقص قليلا من الراحة الداخلية- الجسدية. عند الشاعر تتحول هذه الراحة الى فعالية نثرية، يحاور فيها الشاعر ذاته + تجربته/ وتتفاوت مساحة هذه الفعالية النثرية بين الشاعر والآخر في قدرتها على المحاكمة. عادة تكون هذه المحاكمة حوارا داخلياً في نفس الشاعر، تتحول فيها التجربة السابقة/ التي تم انجازها الى نار تضيء ما هو آت. هذه الفعالية من الحميمية بحيث يحافظ الشاعر على سريتها، وعدم كشفها للقارئ، أما مكابرة عند الكثيرين، أو رغبة في إبعاد القارئ عن عالم معقد قد لا ينجح الشاعر في التعبير عنه. وأحيانا كثيرة تكون هذه الفعالية النثرية (النقدية) لا تدور بخلد العددي من الشعراء. ويمكننا اكتشاف ذلك من إنتاجهم.
3
الشاعر الذي لا يرى في شعره إلا الجوانب الايجابية، يكون بائساً ويستحق الرثاء. والشاعر الذي لا يعترف بنقاط الضعف المتوفرة في أشعاره، يكون متمتعاً بقدر لا باس به من الغباء.
4
الحديث عن الشعر يكون محفوفاً بالخطر، وأن يتحدث الشاعر (عن) شعره، يكون الأمر أكثر خطورة. لكن الأمر يختلف إذا كان التوجه لمحاورة التجربة الشعرية وليس لتفسير الشعر. هنا ينبغي أن نوضح الأصوات التي ستشارك في هذه المحاورة.
مثل هذه الفعالية النثرية كانت تحدث بالنسبة لي ذاتياً، حوارا داخليا حميما ليس بين مرحلة شعرية "فنية" وأخرى فحسب، بل أيضا بين كتابة القصيدة وقبل كتابة القصيدة التالية.
هذه الفعالية تشاركني فيها أصوات عدة، يمكنني اعتبارها العناصر الأساسية لكل عملية نقدية، يمكن أن يكتشف الشاعر خلالها طريقه بوضوح.
هذه الأصوات- العناصر، هي:-
التجربة الشعرية- ذاتاً
التجربة الشعرية موضوعاً
القارئ.
وحين أوفق في محاورة هذه الأصوات، تكون العملية النقدية اكتشافاً وإضاءة لتجربتي، وحين أفشل، ترتبك قصيدتي القادمة. ولا أكتب شعرا، فأسقط القصيدة المرتبكة من اعتباري، أفتح حوارا جديداً.
5
الآن،
للمرة الأولى، أحول هذه الفعالية النثرية (النقدية) الى الخارج. أترك الآخرين في هذه العملية : مع الحفاظ –قدر الإمكان- على حميمية الحوار، خصوصيته وحرارته. بمعنى تفادي المهادنة مع الأصوات – العناصر الثلاثة التي ستشارك في هذه الفعالية.
وهنا، إذا كانت هذه التجربة جديدة بالنسبة للقارئ مرة واحدة، فإنها جديدة بالنسبة لي ألف مرة، لأنني في مثل هذه العملية النقدية- الشعرية، أخوض اكتشافات جديدة لا اصل إليها إلا عن طريق الحوار. لذلك فإنني هنا لأكون مكتشفاً وكاشفاً في ذات اللحظة. وأهمية هذه الاكتشافات إنها لا تكون في أغلب الأحيان في صالح التجربة الشعرية (موضوع الحوار)، لأن التوجه الرئيسي في هكذا حوار هو الإمساك بسلبيات التجربة. هذا هو أحد الهواجس التي تشغل بال الشاعر، ولأن الشاعر إذا جاز له التحدث عن تجربته، فلكي يثبت أنه قادر على ممارسة النقد الموضوعي لتجربته. ويقول: لقد فشلت هنا، لا لكي يقول: لقد أبدعت هناك. فمثل هكذا موقف أما م الذات، يجعل الشاعر ألها صغيراً في نظر نفسه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وعندها يتحول الشاعر الى دجال لطيف. ويكف عن كونه فناناً.
الهاجس الثاني الذي يرافقني في مثل هذه العملية، هو هاجس إضاءة التجربة الشعرية فنياً + موضوعيا+ إنسانيا. أمام القارئ باعتباره صوتاً شرساً يشترك في الحوار، ويطرح أسئلته الجوهرية المشروعة.
6
"الحب اللامتناهي سيتصاعد في نفسي، وسأذهب بعيداً ، بعيداً جداً، مثل بوهيمي عبر الطبيعة، سعيداً، كما لو مع امرأة."
رامبو
7
سأهتم هنا بالتجربة الشعرية التي تتحدد في الفترة ما بين صيف 1975 حتى كتابة هذه السطور. بمعنى أنني سأكتب عن تجربتي الشعرية في السجن، لعدة أسباب أهمها:
- اعتقادي بأن هذه الفترة بما أفرزته من إنتاج تمثل مرحلة فنية (شبه) متكاملة.
- كون هذه الفترة – التجربة قد تميزت بدرجة من التفرد في الملامح الخاصة والمغايرة للمراحل الفنية السابقة (بغض النظر عن كون هذا التفرد سلباً أو إيجابا ).
- شعوري بأن كتابة الشعر في السجن تجربة مهمة في حد ذاتها، وجدير بالشاعر أن يحاورها من حيث هي تجربة إنسانية عميقة ودقيقة في نفس الوقت.
- كون هذه التجربة – القصائد "الإنتاج" قد جعلت العديد من الأسئلة تطرح بأشكال مختلفة ومتفاوتة من قبل الأصدقاء في السجن. هذه الأسئلة التي يمثل معظمها إضاءات لجوانب مهمة (وأكاد أقول خطيرة) في تجربتي الشعرية عموماً.
- شعوري الحاد بأني إذا لم أبدأ مبكراً في محاكمة تجربتي، سأرتكب خطيئة الشعر وأضعف أمام ضغط الكلمة وأكتب القصائد فأضيف بذلك –(ربما)- إدانات أكثر.
8
(غيّر الصوت إيقاعه في دمائي. تغيرت)
كانت هذه الكلمات الأخيرة في آخر قصيدة كتبتها قبل الاعتقال، وكان ذلك في مارس 75 وهي قصيدة " الدم الثاني". وبعفوية الشعر المدهشة جاءت هذه القصيدة ختاماً احتفالياً لمرحلة فنية / موضوعية أعتقد بنضوجها الجنيني، ذلك النضوج الذي يشير الى نهاية موجة حين تصل لخط الساحل من جهة، ويشير في ذات اللحظة الى بداية رحلة الموجة القادمة من أفق البحر، وليس أمام الشاعر عندها سوى أن يحاول احتضان الموجة القادمة. فإذا فشل مات، وإذا نجح ولد من جديد، في "الدم الثاني" حياة ذاتية وموضوعية مختصرة في صورة قصيدة. قصيدة من قصائد التجربة، وعندي، غالباً ما تكون قصيدة التجربة أكثر قوة ونجاحاً من قصيدة الموضوع . في "الدم الثاني" تلتقي خيوط الرموز المحورية في تلك المرحلة، لتشكل شبكة من العلاقات اللغوية التي تنتمي لحرارة تجربة تحمل طموحاً في التعبير يتناسب مع طموح الحياة. وإذا كان للشاعر قصيدة واحدة مهمة في كل مرحلة من مراحل حياته، فان "الدم الثاني" في تقديري، هي القصيدة التي يمكن قراءة تجربتي من خلالها بصورة لا تتوفر -كاملة- في القصائد الأخرى لتلك المرحلة. وكأن كلمات القصيدة الأخيرة تشير الى برزخ خطير يقف في الشاعر.
9
... وكان برزخاً جهنمياً بالنسبة لي، فبعد تلك القصيدة، توقفت عن كتابة الشعر فترة ليست قصيرة، شعرت في هذه الفترة كما لو كنت عصفوراً يكاد ينسى عادة الطيران. وكنت أحياناً أعتقد بأنني لن أكتب شعراً الى الأبد. ومثل هذا الشعور بالنسبة للشاعر يمثل عذاباً دائماً يشبه الموت. وفيما كنت أعد قصائد ديوان " الدم الثاني" للطبع كان شعوري مريراً، وكأن طبع المجموعة إعلانا عن وفاتي كشاعر. وقد لا يكتشف القارئ في المجموعة سبباً لهذا الشعور، ولكن كلما طالت فترة توقف الشعر عندي، صار الشك في قدرتي على الكتابة يقترب من حدود اليقين. وأن لا أكتب شعراً يعني أنني أصير جثة تمشي، أتحول مخلوقاً بلا لسان. وحين دخلت السجن صارت هذه المعاناة تتضخم وحاجتي للشعر أخذت تكبر، وكنت أحترق انتظاراً، ولكن الشعر لا يجيء.
ومنذ صيف 75 حتى شتائه كنت أفقد القدرة على الكلام. وكمحاولات اليائس قفزت لكي أطير، ولكنني فشلت. أذكر تجربتين حاولت فيهما الكتابة، ولكن قبل أن أنتهي تغلبت على نفسي ومزقت الأوراق،
لم يستطع العصفور التحليق.
يبدو أنه نسي الطيران بالفعل. وكان الأصدقاء حين يسألونني عما إذا كان لدي شيئاً جديداً، يساهمون مساهمة فعالة في العذاب الذي أحمله أربعا وعشرين ساعة في اليوم. وفي أكتوبر كتبت ( لغو للطفولة) و كان (محمد) الذي جاء الى هذا العالم وأنا في السجن هو الذي قذف بي في هوة الشعر، تلفت حولي كمن يريد أن يقول للعالم: انظروا إنني ما زلت قادرا على كتابة الشعر. وليست فترة قصيرة التي امتدت من مارس 75 الى أكتوبر 75، ليس بمقياس الزمن، ولكن بدرجة العذاب الذي عشته انتظارا على باب الشعر، شحاذا يسكن البرد والغربة والتشرد. وربما في نوفمبر كتبت القصيدة الثانية (قصيدة حب).
10
لقد أثارت (قصيدة حب) جدلاً لذيذاً بين وبين بعض الأصدقاء ساعتها. ولم تكن ملاحظات الأصدقاء خالية كلها من الصحة، وكنت أعتقد بأنني أستعيد توازني، بعد فترة المرارة، ولأن القصيدة كانت (قصيدة موضوع) فإنها تحمل قدراً لا بأس به من نقاط الضعف الفنية التي ساهمت الى حد بعيد في ارتباك البناء الموضوعي في القصيدة. فبدا لبعض الأصدقاء إنني أتهم وطناً بلا وطنيته، وحين كنت أحاكم تفسخاً يرفع رايته في أحداقنا وأشير الى (البلدوزر) الرجعي الزاحف من طرف الخريطة الى الطرف الآخر.
كنت أقول في القصيدة عن: (هناك سياسيٌ بايع إسرائيل صديقاً للعرب المقتولين). وأقول عن الذين : (شالوا أرض لبنان من الأرض، وخلوا نهر الدم (من بيروت الى صنين). وعن الجاهلي القادم من صحراء الجزيرة بسيوفه السوداء. كان ذلك في نوفمبر 75. ورأينا بعد ذلك (البلدوزر) يمشط الخريطة جيداً. ولم يشفع (لقصيدة حب) استشرافها لما حدث بعد ذلك التاريخ، لأن النثر يظل نثراً ما لم يرق الى درجة الشعر، فناً وبناءاً. وتظل (قصيدة الموضوع) حاملة نقاط ضعفها ما لم تنصهر وتصير (قصيدة تجربة). وعندي أن (قصيدة الموضوع) ظلت ترافق تجربتي الشعرية منذ بداية علاقتي بالشعر حتى (قصيدة حب).
11
من الوجهة النقدية، أرى ضرورة إيجاز ما أعنيه (بقصيدة الموضوع) و (قصيدة التجربة)، والفرق بينهما.
قصيدة الموضوع: هي القصيدة التي يغلب عليها طابع (الرصد) الموضوعي لظاهرة أو ظاهرات مادية في الحياة. ويكون الشاعر في هذه القصيدة جزءا صغيراً، ودوره يتحدد في تسليط الضوء الساخن (متقلصاً) في مسافة شاسعة تفصله عن المعاناة المباشرة الذاتية. بمعنى أن الشاعر جاء لكتابة القصيدة (عن) الموضوع الفلاني، وكلما اتسعت المسافة بين الذات والموضوع في القصيدة، كلما اقتربت القصيدة درجة من الفشل أو نقاط الضعف في أفضل الأحوال. وحين تبدو الذات في القصيدة غائبة تصير القصيدة قصيدة موضوع.
قصيدة التجربة: هي القصيدة التي لا يكتبها الشاعر (عن) الموضوع الفلاني، ولكنها قصيدة لا يستعد لها الشاعر، تباغته، كما لغم ينفجر من حيث لا يدري الشاعر، وهي القصيدة التي ليس بوسع الشاعر أن لا يكتبها، لأنه بدون هذه القصيدة يكف عن كونه شاعراً، لأنها الشعر الحقيقي في حياته. قصيدة التجربة هنا هي الذات والموضع منصهران في بناء فني واحد. الى درجة أنك لا تستطيع الفصل – بالمسطرة- بين حدود الذات والموضوع في القصيدة.
الفرق بين قصيدة الموضوع وقصيدة التجربة إذن، هو أن الشاعر في الأولى يكتب (عن) الحياة، وفي الثانية (يكتب) الحياة,
إن مثل هذه (الرؤية النقدية) أعتقد أنها ليست مكتملة بسبب أنها اجتهاد مني فرضته طبيعة المسؤولية الذاتية في النقد لكتابتي، والمستقبل كفيل بتطوير هذه الرؤية وتنقيتها، لتكون واضحة الملامح من حيث هي مقياس نقدي ممكن.
أعتقد (الآن) أن نماذج مثل "الحجاج يقدم أوراق اعتماده" + "حبيبتي الخروج من الدهشة" + "صلاة الخوف" – تشير (بشكل متفاوت) لقصيدة الموضوع البارزة في تجربتي السابقة، ومثل هذه الرؤية النقدية لم تكن متوفرة في السابق، وإلا فان عدداً من القصائد لنأخذ طريقها للنشر في مجموعة شعرية جديدة. ولكنني أعتبر مثل تلك الظاهرة ينبغي أن تتوقف عند "قصيدة حب"، القصيدة التي تمثل ذروة النماذج في قصائد الموضوع و أسوأها في نفس الوقت. لكن هذا (القرار) من الشاعر، الى أي حد يكون ساري المفعول، ومتى يبدأ؟
12
بعد قصيدتيّ شتاء 75، بدأت بشيء من الحياء والتردد أدخل في محاكمة الموجة الجديدة القادمة من أفق البحر. أعرف أن العودة الى كتابة الشعر عرس جديد. حسناً، ولكن هل بعد ذلك العذاب المرير تأتي الثمرة بارتباك واضح كما لو كنت أمسك القلم للمرة الأولى؟
كان العصفور منتوف الجناح، يحلق بصعوبة.
وطبعت مجموعتي الثالثة "الدم الثاني" وأنا في السجن،وحين وصلت إلي نسخة كانت كفيلة بأن تجعلني أقف بصرامة أكبر أمام القصيدتين الجديدتين. فقد تسنى لي بشكل أفضل أن استعيد تجربتي الشعرية التي قلت في ختام آخر قصائدها: (غيّر الصوت إيقاعه في دمائي، تغيّرتُ).
وسألت نفسي: هل تغيرت فنياً في المحاولات الجديدة؟
وإشفاقا على تلك المحاولات – كما يبدو- أجّلت الإجابة على هذا السؤال الجارح. قلت : لا بأس بعد السجن سيكون بإمكان الشاعر أن ينظر لأشعاره بهدوء أكثر، وكان الأمر مهادنة مؤقتة.
13
وبدأت رحلة عذاب جديدة.
لأن القلق حول نجاح أو فشل محاولة الشتاء الشعرية كان رفيقا شقياً لي. تحولت الى بحث مجنون عن طريق للخروج من الحصار الذي أعيشه، وعدت الى انطباع عميق بأن الشعر ودعني الى غير رجعة، وهذه المرة كنت أجبن من أن أمسك القلم لأكتب محاولة أمزقها قبل النهاية. ولأن الشتاء بالنسبة لي المناخ الرائع الذي كتبت فيه سابقاً أجمل قصائدي، فان فشل محاولة شتاء 75، وانتهاء الشتاء بدون أن اكتب شيئاً مهماً، جعلني ألجأ الى الاحتراق الداخلي على أمل أن يؤدي هذا الاحتراق الداخلي الى تحرك الى الأمام.
وامتدت المرحلة حوالي ستة أشهر، حيث بدأت في محاولة كتابة قصة قصيرة، فوجدت نفسي أنجز شيئاً جديدا بالنسبة لي. ليست قصة قصيرة، ليست قصيدة، ولا هو مسرح، لكنه كل هذه الأشياء في بناء روائي مبتكر، لم استطع تسميته ألا (مشروع رواية)، اعتبرها بعض الأصدقاء تجربة ناجحة، وكانت معظم الانطباعات التي تلمستها كانت مشجعة، ولكن مثل هذا الإعجاب جدير بأن يشبع غرور الشاعر، ولكن ضميره الفني يظل ذلك الهدف الذي لا يطال.
14
(وطن في حالة الصلب)،
تلك التجربة الفنية المفاجأة - بالنسبة لي- أوقعني في مأزق خطر لم أكن أتوقعه. فإذا كانت – الرواية- تجربة تعبيرية ناجحة من حيث هي أسلوب جديد بالنسبة لي، فإنها في ذات الوقت زادتني رعباً خشية من تسرب ماء الشعر من ببين أصابعي نهائياً. وداهمني شعور كما لو كانت – الرواية- هي العزف الجنائزي على قدرتي الشعرية. وخيل لي في وقت من الأوقات أنني أقف أمام مفترق طرق، الأمر الذي خلق عندي ارتباكاً جديداً، فإذا كان فقد الشاعر جناحه الشعري مسالة مرعبة، فإن الدخول في إقليم الرواية لا يقل رعباً أبداً. الرواية بالنسبة للشاعر ليس تحليقا، إنها قفز في الهواء لمسافات بعيدة، وأحيانا عالية فقط.
15
بعد فترة التوقف الطويلة، كانت محاول كتابة القصة القصيرة الدبوس الذي ثقب البالون المتحفز، وحيث انفجر المرجل، جاء التعبير في شكل روائي غير متوقع، لغته شعر، وبناؤه نثر.
إذا وضعنا في الاعتبار فشل محاولة شتاء 75 الشعرية، فإن مايو 76 تزيد فترة الانقطاع عن عام كامل، لذلك فان الفرصة للتعبير عن المعاناة المخزونة كانت مواتية حيث انفتح الصمام للقصة القصيرة، ففاض البركان بشكل عفوي وعشوائي الى درجة ما، فجاء شعراً حيناً ومسرحاً حيناً ورواية في بعض الأحيان، وحوارا أيضا، ولم يكن بإمكاني السيطرة على الفيضان إلا في حدود.
كنت ساعتها كمن يبحث عن لسان، ولأن قصائد الشتاء فشلت، فان هاجس اللغة الجديدة المجهولة كان يرافق قلقي. فاعتقدتُ أن هذا الذي يتفجر كالشيطان بين يدي هو لغتي الجيدة.
من الوجهة النقدية، فان أي كاتب – شاعر يملك اللغة والتجربة الأدبية، ومعرفة لا باس بها في الرواية، يستطيع لأن يكتب مثل ما كتبته، مع بعض التفاوت. وإذا كانت هذه التجربة أساسية بالنسبة لسواي، فإنها بالنسبة لي تمثل عذابا جديداً، لأن الشعر هو الأصل عندي.
16
في المناخ الفني الذي فرضته تجربة الرواية على ذهني، بدأت فكرة لكتابة محاولة رواية أخرى تحت عنوان ( الفقد)، لم أبدأ فيها. وفي حمأة الانفعال فقدت الرغبة في كتابة (الفقد)، لأن الشعر جمرة الدم، لا يطفئها سوى الموت.
17
لكن متى يأتي الشعر؟
إن هاجس التطور الذي يحمله الشاعر يمثل القيد الموضوعي الذي يحافظ عليه الشاعر نفسه طوال الوقت. فإذا لم يحمل الإنتاج الجديد إشارة الى التطور فمن الصعب أن يقبله القارئ الذي يضع له الشاعر ألف حساب، فما بالك إذا كان الشاعر نفسه عبارة عن سياف على استعداد دوماً لجلد أية قصيدة، ليست ضعيفة فحسب، ولكن أيضا إذا كانت تراوح في مكان سابقتها.
في مثل هذا المناخ الشعري كنت أضع نفسي باستمرار، وكانت قصيدة "الدم الثاني" هي الحصانة الرادعة التي كنت أحملها معي وأعيد دراستها، لئلا اقبل أية قصيدة لا تحمل جديداً ، قياساً لهذه القصيدة. واعرف في نفسي أنني ما لم أكتب شيئاً ينقلني الى أحضان موجة الأفق الجديدة، فإنني لن اقبل نفسي. وكلما طالت فترة الغياب، صار الشوق لذيذاً وساخناً،
لكن متى يأتي الشعر؟
أسأل نفسي وأضع رأسي على كتف الكلمة.
18
إن الظروف غير المواتية للحياة، هي الظروف المواتية للشعر.
بالطبع هذه الحقيقة ليست مطلقة، ولكنني أطرحها هنا كتجربة ذاتية
هل يمكن ذلك؟
تبدو المعادلة معقدة نوعاً ما. أو هي في أحسن الأحوال مجانية الهدف. وإلا ما معنى أن يتعذب الإنسان لكي يكتب الشعر؟
لكن الذي أعنيه بالضبط هو أن الشاعر لا يكتب شعرا حقيقياً إلا في الحياة الصعبة. وكلما كانت معاناة الشاعر قاسية كانت أشعاره أقدر على التوهج.
بالنسبة لي فان الدخول في المعاناة الجديدة في شكل السجن الصحراوي إنقاذا لي بالدرجة الأولى، فطوال فترة الاعتقال في جزيرة (جده) كنت أتحول الى مرجل ملتهب يحتاج الى هزة صغيرة تحوله انفجارا، وليس أقدر من الزنازين لتفجر اللغم الأول.
وسأعتقد بأن مارس 77 هو البداية الحقيقية للمرحلة الفنية الموضوعية الجديدة، بمعنى أن فترة الانقطاع عن كتابة الشعر تكون قد امتدت إذن من مارس 75 الى مارس 77، وكل ما كتب خلال العامين، أما أنه محاولات فاشلة، كمحاولتي شتاء 75، أو أنه قفزٌ في الهواء وتعبير مرتبك في رافد غير مألوف، كبانوراما "وطن في حالة الصلب".
19
تغيير ظروف الاعتقال خلق مناخاً نفسيا وحياتياً غير عادي بالنسبة للجميع. وبالنسبة للشاعر فان المسألة تأخذ طابعاً دقيقاً، فإما أن يحول هذه المعاناة الى طاقة فنية وأدبية يتسلح بها ويهدم الواقع ويبني داخل الإنسان عالما صلبا، أو أن يكف عن كونه شاعراً فيتغلب عليه الواقع، ويفوّت بذلك أيضا أخصب اللحظات لولادة الشعر، ولكن الشعر يأتي في الوقت المناسب دوماً من وجهة نظر الشعر وليس الشاعر. ويبدو أن ظلام إحدى ليالي مارس الباردة، كان وقتاً مناسباً من وجهة نظر الشعر، وفي الزنزانة الخشبية – المترين في مترين- اتسعت الأرجاء في ذلك الليل الضيق.
20
(نسمع صوتك سيدتي يختصر الوقت).
إنها الخطوة الأولى لإعادة التوازن، ومحاولة لكسر حصارات عدة يعانيها الإنسان في تلك اللحظات. وينكسر حصار خاص يعانيه الشاعر في ذات اللحظة، وذلك هو غياب الشعر.
وجاء إيقاع القصيدة هادئاً كالخروج من حلم والدخول في حلم،
وأسأل: هل صدفة أن يكون الصوت محوراً في القصيدة، بعد أن كان قد ( غيّر الصوت إيقاعه في دمائي) في "الدم الثاني"؟
وفي داخلي فرحت بولادة هذه القصيدة كما عصفور ينجح في العبور من غصن الى آخر في الشجرة.. للمرة الأولى. ولكن يدي كانت على قلبي وأنا أرقب الأصدقاء وهم يقرأنني، فقد غبت طويلاً عن القارئ، لكن..../
وأنا أعالج جرح القصيدة الأولى، جاءت القصيدة الثانية...(ولقد ذكرتك، آه من جرح يطيب ومن جراح لا تداويها الحروب، وأنت جرحي).
الشعر يهجم ويباغت، وينتصر، ويفلت زمامه من بين يديّ. وحين لبيت صوت الفارس العبسي القصيدة الثانية، كادت القافية أن تلبسني، فهربت. بالرغم من أن جمالا تقليدياً بدأ في مدخل القصيدة، إلا أنني اضعف .. في تلك اللحظات من حرف الباء.
في التراث العربي مواقف رومانسية للفارس، حاولت في هذه القصيدة أن أضيء بها رؤية معاصرة لموقف إنساني جديد. ولكن فترة التوقف عند الشعر كان لها دور في جعلي مرتعشاُ وأنا أكتب من جديد. لذلك جاءت القصيدتان بعض الضعف الفني من الناحية البنائية، خاصة بالنسبة للقصيدة الثانية. ولكن من جهة أخرى عبرت القصيدتان عن توق في البحث عن لغة شعرية مغايرة للسابق، وتبقى مسالة: الى أي حد فشلت أو نجحت هنا مربوطة بالقادم....
..... ولكن قبل القادم، يمكنني القول أنه بالرغم من النكهة الجديدة التي حملتها القصيدتان و الإشارة الضمنية الصغيرة التي جاءت مع هذه النكهة الى الأفق، تظل مسألة عدم وضوح الرؤية الفنية في القصيدتين، ربما بسبب كون هذه المحاولة هي الخطوة الأولى نحو المرحلة الجديدة، إضافة الى الارتباك الذاتي في لحظة المواجهة مع الشعر بعد الغياب الطويل.
أقول، لم تكن المحاولة أكثر من إشارة، وهذه الإشارة لم تحدد الملامح الفنية التي يمكن أن تتميز بها المرحلة الجديدة. وعلى الصعيد الذاتي وضعتني هذه المحاولة في درجة من التحفز، انتظاراً لما أرهصت به التجربة، كيف يمكن احتضان الموجة القادمة من أفق البحر بحنان أكثر.. هذه هي المسألة.
21
قلق، كنت أضع يدي على قلبي وأنا أرقب الأصدقاء يقرأون الخطوة الأولى: (سيدتي نشتاق + وذكرتك).
هنا فعالية القارئ.
ربما يطرح سؤال عن كيفية التعامل مع هذه الفعالية في ظروف السجن غير الطبيعية؟
لا شك أن في هذه المسألة شيئ من التعقيد، ولكن في تقديري، - من تجربتي الذاتية – أن نماذج القراء بين الأصدقاء هنا، تمثل – الى حد كبير- التفاوت النسبي الذي يمكن أن نجده خارج السجن، أقول : الى حد كبير ليس غير.
وبناء عليه ينبغي أن يتمتع الشاعر بدرجة من الحساسية لكي يحسن التعامل مع فعالية القارئ المتفاوتة، والتي تصل أحياناً الى درجة من التشابك، بحيث يكتشف حتى في الموقف السلبي للقارئ جانباًَ ايجابياً.
هنا أقف إزاء فعالية القارئ –كالعادة- باحتمالات عديدة، ولكن بهاجس واحد: القارئ يمثل المتابعة الممكنة لكي تتحول القصيدة الى فعل في الحياة، ولكن في ذات اللحظة التي يمثل القارئ فيها هذه الأهمية، فان الشاعر ليس له أن يجعل القارئ – أي قارئ- المقياس الأخير والنهائي لنجاح أو فشل التجربة- القصيدة، لأن مثل هذه المقاييس توقع الشاعر في مأزق خطر، كأن يعتقد، مثلاً، بجودة قصيدة فاشلة، أو فشل قصيدة ناجحة، وعندها يضيع الشاعر كشخصية واضحة أمام تجاربه.
22
قال أحدهم: (هذا هو الشعر الذي "يجب" أن تكتبه).
وقال آخر: (لقد قلت ما كنت أحسه، أو ما كنت أريد قوله تماماً، وأنا بين أيدي الجلادين - وذكرتك).
وقال ثالث: (لقد أصبحتَ واضحاً الآن).
هذه نماذج من "الانطباع" الأولي و(المتأني) الذي على الشاعر أن يتعامل معها بهدوء، فالقارئ هو الناقد الشعبي الذي يطرح ملاحظاته (أو لا يطرحها أحياناً كثيرة) بعفوية، بود أو بعدائية، باضطراب أو بوضوح. وتأتي مسألة تنقية كل ذلك للوصول الى الإضاءة الجوهرية في الفعالية النقدية للقارئ.
من هذه الشرفة أستطيع أن أحاور القارئ الذي يقول (يجب) على الشاعر أن يكتب كذا. تبدو المسألة سهلة للبعض أن يفرض على الشاعر كما يأمر آلة الخدمة الاتوماتيكية بأن تعطيه زجاجة البيبسي كولا بعد أن يضع ف يكتفها القطعة النقدية المطلوبة.
(رأيت أحدهم يرفس إحدى الآلات لأنها تأخرت قليلا عن الدفع بالزجاجة المثلجة المطلوبة). وعندما يرفسني أحدهم في خاصرتي لأنني لم أكتب ما (يجب) عليّ كتابته، سأشعر بالرعب لأن القارئ يتعامل مع الشاعر كتعامله مع الآلة. ولن اغفر لقشرة الحضارة جريمتها البشعة. وبصيغة ما، كان هذا الرأي (البسيط) إلغاء تاماً لكل ما كتبته من شعر قبل قصيدتي مارس 77. لأن ما كتبته قبل الآن – حسب هذا القارئ- ما كان يجب أن أكتبه.
هذا هو المعنى الساذج للرأي البسيط. وإذا ما أخذ الشاعر ما يقوله هذا القارئ بحرفيته جامدة يكون قد ظلم نفسه وظلم القارئ ف ينفس الوقت، فالقارئ ليس ناقداً أدبياً منهجياً، لكنه ناقد شعبي، وهنا تكمن خطورة الأمر.
الرأي الآخر الذي قال (لقد أصبحتَ واضحاً الآن) جعلني أعود الى التأمل في الوضوح الذي يتحدث عنه. لم أكن غامضاً لكي أصير واضحاً الآن. ثم أن هاتين القصيدتين لا تمثلان أسلوبا واضحاً، هي ما زالتا معلقتين في هواء الأفق الجديد ولم تمسا أرض هذا الأفق. واللغة الجديدة لم تسلم نفسها للشاعر بعد. فهل يهجس بها القارئ مبكراً؟ لقد كان واضحاً أن ذلك القارئ كان يعني بالوضوح تلك المفردات المباشرة التي سطعت في القصيدتين بصورة لم يتوقعها مثل ذلك القارئ، كما أنني لم أكن قد تعمدتها في التجربة. ولكن أيضا أن أية مراجعة سريعة لقصائد قديمة سيجد ذلك القارئ مثل هذه المفردات كثيرة وأكثر مباشرة أيضا. المسألة هنا تأخذ طابع حرارة التجربة التي عايشها هذا القارئ لحظة بلحظة مع الشاعر، مما جعله يكتشف –مثلا- (أخذونا من سجن البحر...)و (فلنا أحلام سيدتي لا تمنعها الجدران )و(أمشي إليك وكل من يمشي الى عينيك يسمو).
وسيحتاج مثل هذا القارئ شجاعة أدبية ليعترف بقصوره الذاتي في القدرة على الاكتشاف، ما دام هو بحاجة لأن يخوض التجارب الحياتية التي يعيشها الشاعر في الواقع اليومي، فمثل هذه الإمكانية غير متيسرة لجمع القراء في العالم. لذلك فإنني لن استغرب إذا جاء مثل هذا القارئ –خارج السجن- وقال ببلاهة (ماذا تعني بقولك: وتأتي رائحة الحب إلينا فتزيد السجن حلاوة). لأنه لم يتمتع بعذوبة الحلم في ليالي الزنازين الخشبية الضيقة كقشرة البندق، الواسعة كالفضاء.
23
في المستشفى تسنى لي أن اقرأ قصيدتيّ (لغة للطفولة) و( قصيدة حب)، فاكتشفت كم كنت موغلا في الحذلقة، لقد كانت (قصيدة حب)نثراً، وكانت (لغة للطفولة) طموحاَ شعرياً ليس أكثر، وان مجرد اعتمادي القصيدتين وإدخالهما في حدود تجربتي الشعرية ، ونشرهما سيكون تشويهاً لتجربتي اللاحقة.
فأسقطت القصيدتين من اعتباري، وشطبت أيضا أحد الفصول في مشروع رواية (وطن في حالة الصلب) وأوقفت مشروعا لنشرها.
وشعرت براحة عظيمة حين تخلصت من عبء القصيدتين، فقد كان القلق يساورني طوال الوقت بشأن تلك المحاولة. ,اذكر حين أجلتُ الإجابة على سؤال حاسم بشأن هذه المحاولة، قلت أنها عملية مهادنة مؤقتة، فالمهادنة تعني عدم القناعة بالواقع، بل التأمل فيه. والناقد الذي سينظر في هاتين القصيدتين بعد انتهائه مباشرة من قراءة قصيدة "الدم الثاني" سيكون محقاً إذا ما اعتبرني شاعراً يعاني من انفصام الشخصية الفنية، ويتبرع لي بسرير في مستشفى الأمراض العصبية.
24
(أنا قابع في زنزانتي المظلمة
ولكن قلبي يخفق مع ابعد نجم في السماء)
هكذا تحدث ناظم حكمت، وهكذا تعلمت قلوبنا كيف تخفق مع نجوم السماء، مهما ابتعدت وتعايش العالم كما لو كانت موجودة في كل العالم.
هنا الشاعر يتوهج أكثر كلما حدق في حركة الحياة من حوله. هنا الشاعر لا يصير بحيرة نائمة ولا يأسن، لكنه يتحول نصلا ملتهباً ورهيفاً وغير قابل للانسجام مع الواقع.
كانت مسافة أشهر ثمانية جديدة من مارس 77 حتى ديسمبر 77، لم أكتب شيئاً خلالها، ولكن ذلك الشعور السابق بغياب الشعر لم يخالجني هذه المرة، بل أنني كنت أعيش مناخاً شعرياً غامراً طوال هذه الأشهر. واثق أكثر من أن مرجلا يلتهب هنا.
واعتبرت قصيدتيّ مارس 77 بمثابة (دخان البراكين) المتقطع الذي ينذر بقرب انفجار الأتون البركاني.
حركة الشعر داخلي كانت مثل سرّ الحب في قلب الفتاة العاشقة. لكن ما هو الوقود الذي يجعل هذا المرجل مشتعلاً؟ إنها هموم الإنسان الدائمة. وعذابات الشاعر التي لا تفسر، وأسئلة العذاب الشوكية المغروسة في كبد الشاعر، والتحديق في ما يحدث في العالم. ماذا يجري هنا وهناك وهنالك.
هنا: قيصر الجزيرة يغرس وتداً لخيمته في دماء أضاحي كثيرة. النفط الجاهلي يغطي سماءنا بعباءته ويستفرغ تراثاً وسخاً كاليأس. أطل في ابتسامة طفل رهن الاعتقال فأصير مستقبلاً.
هناك : يتسع الخندق الذي يحفره (البلدوزر) الأسود، تصير القبور على امتداد الأفق العربي، يدخل العرب تاريخ اللجوء. القتلة يتعلمون أسرع من المقتولين أو المرشحين للقتل. واسمع الوقت يشحذ أسلحته.
هنالك: تزدحم مائدة العالم بأنخاب كثيرة من دماء الفقراء. الفقراء الذين لم يموتوا بعد يعانون تخمة الجوع، وفيما تجري الأحداث بشكل دراماتيكي، يعمل الأغنياء على تأخير ذروة التراجيديا العالمية.
وهذا ليس كل شيئ، هناك أيضا المرض، الشعور المتوتر بالألم الذي تزخر به هذه المسافة، والألم بالنسبة للشاعر نزهة عجائبية نحو الموت، حيث يكون كل شيئ تجربة في حياة الشاعر. حتى الموت (في المستشفى كانت الغرفة المجاورة قد لفظت ثماني جثث من بينهم طفلة في الخامسة من عمرها، كلهم أكلت لحمهم النار، وحين أنصت قليلاً كنت أسمع صراعهم النهائي مع الموت). إنها تجربة تجعلني أعتقد بعدم عدالة الموت، وأن الموت ليس سوى حيوان مجنون لا يملك غير قرون وأقدام قوية. وأتأمل – ملتهباً- في الرفاق الذين استشهدوا وأسأل: هل يمكن أن يكونوا قد ماتوا حقاً؟
لست مخبولاً، ولكن شعوراً ينتابني بأني سألتقي بكل الشهداء حين أمشي في شوارع الوطن، وأنهم لم يذهبوا الى الأبد. وغريب هذا الموت غريب.
وهذا ليس كل شيئ، ففي هذه المسافة أيضا كانت استعادة قصيدتيّ مارس 77 والبحث فيها عن ضوء ينير الخطوة التالية، لقد كان فيهما كثير من الضوء.
25
دخان البراكين يعلن عن البركان، ولكنه ليس بركاناً، يأتي متقطعاً متفاوت التدفق. وهذا ما ينطبق على قصيدتي مارس 77، والبحث في هاتين القصيدتين من قبل الشاعر لاكتشاف ما يمكن أن تبشر به، يؤدي توضيح الرؤية الفنية عند الشاعر وجسد الإمكانية الشعرية التي قد تحملها هذه التجربة. وهل هذا الدخان صادق الإشارة أم أن البركان خامد وليس هناك سوى حمل كاذب؟؟
هذه المسالة قد تكفل بالإجابة عليها الإنتاج اللاحق، ولكن الإضاءة المهمة التي يمكن للشاعر أن يستشفها من سلبيات تجربته، تكمن في عدد لا يحصى من التفاصيل التي من المحتمل جداً أن لا يوافقه القارئ على وجهة النظر النقدية فيها. هنا جانب من معطيات المراجعات المتواصلة التي كنت أمارسها لدخان البراكين.
في (ولقد ذكرتك) يبدو لي جلياً كيف أن الفارس القديم قد تغلب – فنياً- على الفارس الجديد. فقاموس الشاعر القديم ومفرداته قد جاءا في بعض المواقع بدون الإشعاع الجديد. ولغة القصيدة حين استعارت هذه المفردات عجزت عن إضاءتها بنكهة معاصرة حادة. الأمر الذي جعل صوت الفارس الجديد بالكاد يبدو في مساحة أكبر من مساحة الصوت الذي يفترض أن يكون أداة فنية فحسب. ذلك هو صوت الشاعر- الفارس القديم. ولعل مدخل القصيدة التقليدي المتوشح بقافية غير واثقة – فنياً- ساهم في خلق مناخ ماضوي، مما اثر في ذهن أحد الأصدقاء، ودفعه ليقتر كلمة "الخطوب" بدل كلمة "الحروب" معتقداً بأفضليتها للسياق، في ( ومن جراح لا تداويها الحروب).
و فات صاحبنا أن المسألة ليست رفع كلمة ووضع أخرى، فبالإضافة الى كون كلمة (خطوب) غير مشعة فنياً، فإنها ستكون بالفعل مسماراً كبيراً في النعش التقليدي الذي يحتضن القصيدة المسكينة.
ومناخ الفارس القديم التقليدي كان ضاربا أوتاده في نقطة أخرى، وهي القافية التي تبرز وتختفي بخجل، لا يدل على تردد الشاعر في استخدام القافية فقط، ولكن يدل أيضاً عل عدم الاستعداد الفني لدي هذه القصيدة، لأن القصيدة التي تعتمد تجربة شعرية لشاعر قديم، ينبغي لها في أكثر الحالات أن تكسر الشكل الفني للتجربة القديمة، وتبني شكلا جديداً، ليس بالضرورة لأن ذلك الشكل عاجز عن التعبير، ولكن لكي لا يؤدي استدعاء التجربة الشعرية القديمة روحاً وجسداً- الى مأزق يكون فيه الشاعر الجديد باهت الصوت، مشوش الصورة، وبالإضافة الى قافية الباء التي اعترضت مدخل القصيدة، نرى التلاعب الساذج بالقافية في (بيني وبينك غابة الطعنات والقانون والقاضي/ ولقد تعلمت القتال على يديك، فلن تمر الخيل إلا فوق أنقاضي).
هنا يبدو الشاعر فارساً تقليدياً أولاً. ويبدو المقطع كأنه قادم لكي ينهي القصيدة ثانياً. ويفضح لنا كم هي انتقالات غير موفقة تلك التي حاول بها الشاعر ربط مقاطع القصيدة ثالثاً.
التدفق في القصيدة، إن كان قوياً موضوعياً فهو من المؤكد لم يكن متسقاً فنياً. وهذا واضح في عدة مواقع، مثل الانتقال من نهاية الشطر المذكور قبل قليل الى ( أيا امرأة تخيط ..)، والانتقال في المقدمة من ( .. فاخترعت الحلم كنتِ في دمي) الى (ولقد ذكرتك والرماح حديقة أزهو بها).
وهذا أدى الى بناء فني أقرب الى التفكك، ومن الممكن أن يعتقد القارئ الحصيف بأن القصيدة لم تتعرض لنظرة متأنية من الشاعر قبل أن يعتمدها. بحيث يزيل منها شوائب الولادة الأولى، لأن الطفل حين يأتي الى العالم في اللحظة الأولى لا يبدو جميلا كما هو بعد أن يتم تنظيفه وغسله وتخليصه من شوائب العالم الذي جاء منه تواً، وسيكون الاعتقاد مشروعاً من قبل القارئ.
أذكر هنا تجربة ممتثلة لهذه التجربة، حيث كانت قصيدة (سقوط البكائيات الواقفة) التي نشرت في مجموعة (خروج راس الحسين من المدن الخائنة)، والتي استخدمت فيها موقفاً مضاداً لدعوة امرؤ القيس التي قال ها في مدخل معلقته (قفا نبك) حيث استخدمت نفس بنية ذلك النص للقصيدة، وكانت خاتمة القصيدة الجيدة كلمة (قفا نضحك..). والفرق أن التجربة حسب تقديري أكثر نجاحا من هذه التجربة. ولقد ذكرتك). حيث أن بناء القصيدة الفني كان متناسباً مع الموقف الجديد الذي يطرحه الشاعر، ولم تسيطر روح الشاعر القديم على صوت الشاعر القديم، الأمر الذي لم يتوفر في التجربة الجديدة.
في (سيدتي نشتاق) سيطرت الموسيقى الهادئة الى درجة الرتابة، بحيث بدت إيقاعيا لا تناسب حرارة الانفعال العاطفي الذي تعبر عنه الكلمات، وحين لا يتناسب اللحن مع معاني الكلمات تعاني الأغنية من الخلل الأساسي. وأعتقد أن هذا قد حدث بالنسبة لهذه القصيدة.
اللعبة الشعرية مغرية، ولكنها ليست مأمونة في أغلب الأحيان، لذلك سيبدو هذا المقطع (فأنت أغاني العرس/ النجمة في اليأس) جميلا للوهلة الأولى بالنسبة للشاعر والقارئ أيضاً. ولكنه يشير الى ضعف الشاعر أمام إغراء اللعبة الشعرية. ومثل هذا المقطع يؤدي بالشاعر الى ما يمكن تسميته بالرقص المنفرد إذا صح التعبير. هذا النوع من الرقص يشط بالشاعر الى خارج القصيدة روحاً.
ولا تختلف هذه النظرة كثيرا عند المقطع (منعوا الحلم عهن الحالم.. الخ)وسيكون جميلا جداً لو أن الشاعر تخلص من ( أخذونا من سجن البحر الى سجن الصحراء) ليحقق:
التخلص من الزوائد التي جاءت في شكل تكرار لا يضيف عمقاً.
تفادي الوقوع في التقريرية والمباشرة اللتين تعاني منهما هذه التجربة.
تماسك أكثر في بنائية القصيدة..
ماذا يقول دخان البراكين عن اللغة الشعرية؟
26
(حين تتسع الرؤيا تضيق العبارة)
كم هي قادرة على التعبير هذه الكلمات التي قال (النفريّ) أنها تجسد العذاب الذي يحمله الشاعر معه طوال رحلة البحث عن لغة شعرية جديدة، كما يبحث الطفل عن الحلمة، وكما الجناح عن الريح.
إن اتساع الرؤية عند الشاعر هي التغلغل المتواصل في الواقع، والتنامي المكتشف لجذوة الأشياء، والسفر الدائم في تأجج النيران، وكلما توغل الشاعر في هذا السفر، بدت اللغة أضيق من المعاناة والمعاني. اللغوية فإذا اتكأ الشاعر على لغة شعرية واحدة، وركن إليها قانعاً فسوف يقول لكمات مكررة ويجتر القشور اللغوية ويعجز عن الوصول الى اللب. وستصاب محاولاته التعبيرية بالكساح. وإذا لم يهتم الشاعر بنفض الغبار التراثي عن لغته (ذلك الغبار الذي تفرزه اللغة ذاتها) تموت بطيئاً داخل البوتقة الشعرية التي يتقوقع فيها الشاعر كالحلزون الذي يولد ولا يلد.
تكبر معاناة الشاعر فيبحث عن الصوت القادر على حمل هذه المعاناة. (صوت بحجم الفم) على حد تعبير الشاعر شوقي بغدادي. والرؤيا هي المعاناة + الشاعر. إذا التقى الشاعر بلغته القادرة. يكون قد اتجه لتحقيق طموح الشعر منذ الأزل: إعادة تشكيل العالم بالشعر (يبني الكون ثانية). وإعادة خلق العالم طموحٌ لا يتحقق بل ضيقة.
لقد كان واضحا – بالنسبة لي على الأقل- أن لغة (دخان البراكين) لغة ضيقة الى حد ما، لغة لا تسعني. فهي تنتمي الى لغة القصائد القديمة بصورة أوب أخرى. وعلاقتها بالمستقبل يتمثل فقط في الإرهاصات التي تلمع قليلا في ثنايا المفردات الطموح الذي تحمله هذه الدفقات المرتعشة: كم هي صغيرة هذه الكأس/ فهِمتُ أبحث عن كأس تستوعبني/.
البحث عن لغة جديدة، وعلاقات لغوية جديدة، كان هاجساً من الهواجس التي رافقتني بالحاح في الفترة بين مارس وديسمبر 77. ويقيناً أن اللغة الشعرية الجديدة إذا كانت هماً وهاجساً وهياماً عند الشاعر، فانه قادر على التحول دائماً كطائر الفينيق، يطلع من رماد حرائقه، ينفض أجنحته ويحلق.
27
ماهي اللغة الشعرية؟
أجد من الضروري أن أقرب هذا المفهوم النقدي للقارئ لكي تتماسك الصلات بينه وبين فهم التجربة الشعرية لأي شاعر كان. قلت (أقرب) هذا المفهوم، لأن مثل هذه المحاولة جدير بالشاعر أن يقصر في الحديث عنها. لأنه جزء منها، بعكس الناقد الذي سيكون مهيئاً أكثر من الشاعر لمثل هذه المهمة.
المواد الأولية إلي تتكون منها اللغة الشعرية هي:
- حشد لا متناه من الأدوات الفنية، زائد الملكات الإبداعية التي يتمتع بها الشاعر، والي تُبسَّط كثيرا فتدعى (موهبة).
- أما الأدوات الفنية كثيرة ( وليس من أهمها): المفردة+علاقات المفردة بالأخرى+ الموسيقى+ الصورة+الرمز+ المعنى بكل درجات الظل فيه+ لب الكلمة وقشرتها+الأبجدية التي أرهقت منذ امرئ القيس حتى اليوم+ الريح والحجر والانتظار والألوان والتعب والضوء و التنهيد والأشرعة والناس والتراب و ...
كل شيئ ، كل شيئ. إنها كل العالم. الشاعر يحول العالم لغة باللغة، أو كما قال الشاعر الأمريكي أزرا باوند" الشعر هو اغتصاب العالم باللغة".
هذه اللغة الشعرية التي يبحث عنها الشاعر منذ الأزل، إنها العالم كله + الشاعر إبداعا. وإذا نحن تمكنا (بصعوبة) تسمية الأدوات الفنية للغة الشعرية، فإننا لن نصل حتى الى الفشل إذا حاولنا تسمية ذلك الشيء الغامض كالوردة، الذي يقال عنه (الموهبة المبدعة).
انه السر الغير قابل للتفسير.
28
"أنا الحامل عبء الكتابة
سأمجد الكتابة"
سان جون بيرس
29
مرة صرخ جان جون بيرس :" ضيقة هي المراكب"
فسألتُ النورس والبحار عن البحر
سألت، سألت ، سألت
فما جاوبني
وحين اتسع الكون، ضاقت كل لغات الحب بأشجاني.
فتيقنت بأن سان جو بيرس كان محقاً. وهمت أبحث عن لغة تستوعبين.
وكان الشعر صدرا واسعاً أضاعني زمناً. فحين كتبت (الوصية) تلذذت بشعور الطفل وهو يعثر على الحلمة.
وأعتقد بأني استعدت توازني الذي فقدته طوال الفترة السابقة، والذي فشلت في استعادته أيام (دخان البراكين) وجاء فرحي (بالوصية) مختلفاً عن فرحي (بدخان البراكين). أرح هناك كان غروراً، والفرح هنا جاء ضميرياً.
لكن (الوصية)، كيف ، ولماذا؟
غرابة العنوان جعلت عدداً من الأصدقاء يطرح أسئلة استغرابية. وأدرك تماماً أن عنوان القصيدة جاء غامضاً، لذلك كنت أقول بأنه عنوان مؤقت. ليس لأنه كذلك، ولكن لكي أتفادى شرح مسألة غير قادر على تفسيرها.
ليس هناك عنوان في العالم مناسب لهذه القصيدة غير هذا العنوان. انه مثل كعب (أخيل) في الأساطير الإغريقية. لن يموت (أخيل) إلا إذا استطاع المقاتل أن يصيب الكعب بسهمه. جزء صغير في الجسد لكنه قناة الحياة والموت.
كذلك (الوصية) بالنسبة للقصيدة. إذا أفرغنا كلمة الوصية من المفهوم السائد القائل بأن الوصية هي النص الذي يتركه الميت للأحياء، نستطيع أن نتجاوز المعاني السابقة للكلمات. وصعب جداً أن أوضح لماذا، وماذا تعني كلمة الوصية، ماعلاقتها بالقصيدة..الخ. فبالإضافة الى أنني غير مؤهل للتفسير هنا، فإنني حقيقة لا أستطيع التعبير عما أحسسته تجاه هذا الموضوع. فان هذه القصيدة تمثل حلقة وصل مهمة بين (الدم الثاني) كختام مرحلة مهمة، شعرية، شعورية، وبين ما جاء من قصائد بعد الوصية كمرحلة شعرية – شعورية جديدة.
وأخشى أنني سأقع في التبسيط الذي (يعقد) الأمر إذا أشرت بأن هذه القصيدة قد حملت (الوصية) من (الدم الثاني) وما تمثله جملة وتفصيلاً، فناً ومعنى، الى كل ما سوف يكتب بعد ذلك.. فناً ومعنى.
هل قلت شيئاً مفيداً.
يساورني بعض الشك في ذلك.
في (الوصية) قدر كبير من العذاب. لا أقرر ذلك، ولكنني أعانيه حتى الآن. ومن هذه القصيدة بالذات. لم أعاني عذاباً من قصيدة كما عنيت من (الوصية). ومحور أسباب العذاب هنا هي جملة وردت خلال القصيدة حمل معنى من أكثر المعاني تعقيداً في الوصية:
(سمعت العزف على قتلي .. من يقتلني).
كلمة (من يقتلني) هنا تحمل بحق معنى معذِباً، ومعذَباً أقرأها في ذات اللحظة. (من يقتلني). مازلت حائراً في حقيقة الصيغة النحوية التي أقرأها بها. هل هي صيغة السؤال، أم صيغة سؤال يحمل نكهة التحدي، أن أنها صيغة سؤال المتمني الذي يطلب كن يستنجد برصاصة الرحمة لكي تخلصه من عذاب حالة الاحتضار الطويلة، أم أنها تحمل صيغة غامضة لا اعرفها؟
لا اذكر بالضبط حالة لحظة الكتابة، كيف جاءت الصيغة وما هو مصدرها، ولذلك وقعت في الحيرة حين وصلت عندها وقت إعادة القراءة. فالجمل التي تأتي قبلها وبعدها ل تفسرها لي كثيرا، (والشمس صديقة أحزاني). تأتي بعدها ولكنها تزيد الأمر غموضاً.
وسيكون عذابي مضاعفاً إذا اقتنع القارئ بصيغة (سؤال التحدي) لهذه الجملة، ولكن القارئ الذي يكتشف شيئاً لم اكتشفه سيكون قد حقق فعالية عجز عنها الشاعر. وحين يعجز وينجح القارئ ستولد القصيدة من جديد. فأنا مع الشاعر الذي يطمح أن يكون لقصيدة من المعاني بعدد قرائها.
سبع مرات تكررت كلمة (كئيباً) في هذه القصيدة. وقصيدة في حجم (الوصية) كثير عليها هذا التكرار. أليس بإمكان الشاعر أن يخلق الكآبة كمناخ من خلال الصورة بدل أن يقرر ذلك سبع مرات؟
أسأل. ولكن بعد أن صارت القصيدة بعيدة عن متناولي. لأن تفادي مثل هذا التكرار لا يمكن حدوثه إلا في مستقبل القصائد الأخرى.
بالرغم من أن القافية واحدة طوال القصيدة، إلا أنه لم تبرز من حيث بنائها الإيقاعي قريبة من العلاقات الموسيقية للقصيدة التقليدية. وهذا البناء الإيقاعي جديد بالنسبة لي. فلم تتوحد القافية في قصيدة لي منذ (خروج رأس الحسين ....) حتى (الدم الثاني).
ولعل تجربة ( دخان البراكين) في لعبة القافية المرتبكة كانت الضوء الأول لما اتضح أكثر في (الوصية) ولما سوف يتأكد أيضاً في القصائد التالية.
(الوصية) تخلصت من أهم عيوب (دخان البراكين)، وهي المباشرة وتفكك البنية والارتباك الهارموني. أرجو أن يكون ذلك صحيحاً.
30
قال أفلاطون :(" إذا تغيرت الموسيقى اهتزت أركان المدينة".وقصيدة (كليم الماء) وضعتني في مواجهة تجربة جديد بالنسبة لي من الوجهة الفنية، فقد كانت القافية في هذه القصيدة إيقاعا متميزاً كفيلاً بأن يحدث خللا في أركان مدينتي الشعرية. فان القافية التي بدت تتململ منذ (دخان البراكين) استطاعت هنا أن تفرض نفسها بقوة، لكن بلطف وليس بوحشية. ولعل فعل الأمر في (تدفق لتفتح للشعر قافية وتموسق وزناً) لم يأت عفوياً ومن غير دلالة. لأن القافية بالفعل قد لعبت دوراً لا يستهان به في تفجير البركان الشعري الذي لحق (كليم الماء).
هاجس هذه القصيدة (مضموناً) كان يتحرك عندي منذ أيام (دخان البراكين)ولكنه وقتها كان قوياً فيما كنت ضعيفاً. فلم يتجاوز الهجس.
وإذا جاز للشاعر أن يسمي قصائده المحورية، فان (كليم الماء) تمثل محوراً من محاور المرحلة الشعرية الجديدة التي أعيشها، ويمكنها أن تقيم حواراً جيداً مع (الدم الثاني).
إن القافية بالنسبة للشاعر المعاصر منطقة مليئة بالمحاذير و الأخطار، أو هكذا يقال. وأذكر حين بدأت إحدى قصائدي القديمة جدا (أحبيني) ملتزما قافية النون، فشلت في أن اعبر بواسطة هذا السور، فاعتبرت أن العيب في القافية لأنها لا تستوعب ما أريد التعبير عنه. (كنت مغرورا صغيرا وقتها).
فواصلت القصيدة خارجا عن سور القافية الواحدة، وحتى الآن لا اشك بأن (القالب) الموروث عاجز عن حمل معاناة الإنسان الجديد. ولكن القافية ليست قالباً، إنها أداة من أدوات التعبير، ولأن تجربتي الصغيرة.. مازالت صغيرة، فهناك عدد كبير من الأدوات الفنية التي لم أستفد من فعاليتها، قديمة أم حديثة.
وقد قالت لي تجربة مظفر النواب: إن في القافية سطوعاً بإمكانك أن تكتشفه. وحملت هذه اللفتة بجدية، وهمت بالرقص الذي استطاعت القافية أن تخلقه في داخلي، ولكنني كنت خائفاً من المحاذير التي ترافق القافية. فالتعامل مع القافية يستدعي قدرة لتحويل هذا السور الى سوار، وسوار جميل أيضاً. فلم تخل (كليم الماء) من نقاط الضعف التي أدركتها مباشرة. فقلت: حسناً، انه اللقاء الأول مع قافية من هذا النوع، ولابد أن يشوبه بعض الارتعاش، ربما خجلاً، وربما مفاجأة، ولكنه ليس فشلا ذريعاً على كل حال.
31
إن الثغرة التي يشكو منها البناء الفني في قصيدة ( كليم الماء) تتركز في لحظة الانتقال من الصوت الأول الى الصوت الثاني، حيث يبرز صوت ثالث، لا أجد له الآن مبرراً فنياً قوياً، وإن كان المبرر الموضوعي لا يستدعي مثل هذا الصوت البارز، مثل النشاز الموسيقي في السيمفونية. الصوت الثالث هو:
( تفجر كالطلع صوت يكالم ماء التحول يا سيد الماء ها أننا قد سمعنا).
هذه الثغرة ليست مستعصية على التعديل، ولكن تعديلها يستدعي إضافة بناء شعري جديد يتمثل في:
أن تحذف هذه الجملة بكاملها.
تحويل الجزء الأول كصوت الى مقطع منفصل، وكذلك الجزء الثاني كصوت جديد.
- تصير القصيدة عبارة عن مقطعين، كل مقطع يمثل صوتاً مستقلا.
مثل هذا التعديل يظل في حدود الإمكان فقط.
إن جملاً مثل ( وليس يجير سماسرة الموت في ساعة الهجم حصن إذا ما وصلنا)، تحمل قدراً من المباشرة النثرية ما كان لهذه القصيدة أن تقع فيه لولا الانسياق وراء المعنى بدون صورة شعرية، والتردد في مواجهة تجربة القافية.
وهذه الجملة بالذات وقعت في تعثر لغوي لأنها تحمل بذرة الخلل أصلاً- تعرضت للتعديل في وقتها-، وأعتقد أن جملاً مباشرة وتقريرية أخرى يمكن العثور عليها إذا أمعنا النظر في القصيدة.
مازلت أجد أن جملة ( تكن نصف كونا) أجمل شعرياً من (كونٍ)، وتمسكي هنا بأن تكون (كونا) ليس ارتباطاً بالقافية، ولكن في مثل هذا الموقف ستفقد كلمة ( كون ) القدرة على الإضاءة والتوهج إذا ما وضعت في صيغة "الجر". أما (كونا) فأرى أنها تحمل سحراً شعرياً، ببنيتها الإيقاعية، لا أستطيع تفسيره. لكنه الجمال السري الذي يكمن في الشعر. وأعتقد أنني في حالة نشر القصيدة، ستظل كلمة (كونا) منصوبة بإطلاق، ومحاطة بهلالين، إشارة الى التحفظ اللغوي. وإلا فإنني سأموت وفي قلبي شيئ من (كونا).
في (كليم الماء) صارت الموسيقى رقصاً، أو هكذا حاولت، ولعل أهم ظاهرة إيقاعية في موسيقى (كليم الماء) هي الإيقاع الداخلي بين القوافي أو ما يمكن تسميته –تجاوزاً- "بالقافية الثانية"، مثل:
(كالجحيم الحميم) + (فيا أيها الماء يا راية في الطريق، ويا سيدا في الحريق+ بأوسمة لا تقاس. خل عنك النعاس).
هذه الإيقاعية بدت هنا باهتة، لا تكاد تبين، ولكنني أعتقد أنها ستتطور في القصائد اللاحقة، كما سنلاحظ، ويمكنني القول بأن هذه الظاهرة إفراز فني لتجربة القافية أساساً. لأن هيامي بالإيقاع يجعلني لا أملك الحماس لأي قصيدة تغيب عنها الموسيقى الواضحة والمناسبة. فإنني لا افرق بين الشعر والنثر سوى بالإيقاع.. بالموسيقى. والقصيدة عندي تولد إيقاعا قبل أن تبدأ رحلة الورق، أعني المعنى، وأكتشف الموسيقى على طريقة مايكوفسكي، حيث كان يأرجح ذراعيه وهو يسير ويكتشف إيقاعه أثناء المشي، لذلك تأتي القصيدة غناء ورقصاً في نفس اللحظة، ومرة قال بيتهوفن: "إن العالم موسيقى".
(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)، هذه هي الخلفية الموضوعية التي كتبت فيها (كليم الماء). ليست كمسلمة قرآنية، ولكن كمعنى حضاري، وبعد واقعي لمضمون القصيدة.
ترى هل نجحت في الاستفادة من هذا البعد؟
32
حين لمح جورج شحادة (الكاتب) كلمة الطفل تحاول أن تطير، همَّ لكي يفتح النافذة لها. أما أنا فقد فتحت الشعر لكي يطل الأطفال. وقلت : (هيئوا غبطة للطفولة).
وكان نجاحي في هذه القصيدة (كبيراً)، مثل نجاح من يحاول وصف الملائكة. !!؟
هل يمكن ذلك؟؟
كيف يمكن تحويل
الحلم الى كلمات؟
هذه هي المسألة. فان هذه القصيدة ولدت من الحلم أصلاً. لذلك جاءت أقرب الى "قصيدة الموضوع" منها الى "قصيدة التجربة". ولم تشفع لها الصور الشعرية المغزولة بغزارة. لأن الأطفال يظلون أكثر جمالا في الأحلام منهم في الكلمات.
المحذور الثاني الذي جعل القصيدة أقرب الى (الموضوع) منها الى (التجربة، أنها كانت أيضاً محاولة لا شعورية لتعويض الفشل الكبير الذي وقعت فيه قصيدة سابقة في شتاء 75، وهي قصيدة (لغة للطفولة). التي سبق الحديث عنها في مكان سابق. بالطبع لا يمكن المقارنة بين القصيدتين، ولكن (هيئوا غبطة للطفولة) في الوقت الذي طمحت لأن تحتضن أطفال العالم من خلال طفل الشاعر، فإنها ضعفت أمام السيل الجارف من الصور المتلاحقة، التي تصور الجو الخيالي المتصل بحلم الشاعر. وهذا أدى الى إطالة غير مستحبة، أو هي غير مناسبة لقصيدة من هذا النوع.
وللقافية في هذه القصيدة فعالية مختلفة عن فعاليتها في قصيدة ( كلم الماء). فهنا تنويع متفاوت القوافي، وأعتقد أن السيولة في غزل القافية بدت هنا أكثر وضوحاً من (كليم الماء)، والعناصر البنائية لهذه القصيدة أكثر غنى الى درجة أنها تصل الى نوع من الترف الفني في بعض المواقع، ربما كان هذا ناتج عن نقطة ضعف الشاعر أمام الإيقاع والاستسلام له، ومثل هذا الضعف كفيل أن يسبب للشاعر مآزق فنية في المستقبل.
هل كتبت هذه القصيدة للأطفال، أم عن الأطفال؟
هذا سؤال، رغم بساطته الظاهرة، إلا أنه دقيق ومهم، لأنه يشير الى مسألة فنية في صميم القصيدة، فالقارئ يلتقي بالصور البسيطة التي تناسب الأطفال حيناً، ويصادف في نفس الوقت بصور أقرب الى التركيب الذي لا يناسب الأطفال. ولأن المناخ الرئيسي للقصيدة مناخ طفليّ، فان القارئ يحار في مواجهة هذه الظاهرة.
وحين طرح أحد الأصدقاء سؤال بهذا المعنى، شعرت كم هو محرج موقف هذه القصيدة حين تواجه مثل هذا السؤال. وفي الحقيقة أنني لم أكتب هذه القصيدة للأطفال، ولكنني أيضا لم أكن قاصداً أن أكتب (عن) الأطفال. ولا أدري الى أي حد يمكنني الزعم بأنني كنت أكتب (كطفل).
33
فيما كنت أكتب القصيدة كانت تنفجر في داخلي قصيدة جديد. كان البركان يتصاعد مثل الحب اللامتناهي الذي تحدث عنه "رامبو". وكنت مذهولا لما يحدث لي. لم أكن معتاداً على هذا الأمر. عادة كنت بين القصيدة والأخرى أستغرق زمناً قد يصل الى عدة أشهر، أما هذه المرة فما يحدث لي كان غريباً جداً. كما لو أنني في تفجرات مستمرة. وقد خفت فعلا، خفت أن يغلبني الشعر ويصرعني من حيث لا ادري. كنت في أسوأ حالاتي الصحية من جهة، والشعر كان يضاعف إرهاقي الجسدي.
من الصعب أن يشعر الإنسان بأي الأمرين أفضل: أن يموت نائماً أن يقضي مستيقظاً. ولكن الشعر علمني أن الموت في اليقظة أكثر جمالا. لذلك سهرت ليال طويلة أصارع رفيقين لدودين هما الشعر والاعتلال البدني. لقد كان شيئ لا يحتمل ولا يصدق أيضا. وكنت في لحظات نادرة (أرى) بعض الكلمات تتوهج في ظلام الزنزانة، كما لو كنت في حلم.
وعادة الكتابة في الظلام الدامس تنمي لي قدرة داخلية على السبر والرؤية عند الشاعر، رؤية توشك أن تصير رؤيا.
قصيدة (التجليات) جاءت لكي تعبر عن عذابات الشاعر بأبعادها المتنوعة والمتداخلة، وكانت مرحلة مثقلة بالعذاب الفني في نفس الوقت.
34
القافية، مجدداً، هي نقطة ضعف قصيدة (تجليات العاشق). وهذا ما جعلني أتردد طويلاً قبل أن أكتبها. فهذه القصيدة الوحيدة التي لم أكتبها في تدفق واحد متواصل ومستمر. ولم تنجز في ليلة واحدة كما في القصائد الأخرى. بل احتاجت لليال عدة وأياماً أيضاً. وكنت خائفاً من أن تكون القافية قبراً جميلاً للقصيدة.
وهياماً باللام مرفوعاً، كما لو فتاة صاغها الخجل، قلت: ليكن. إنها القصيدة التي ستعلمني أشياء جديدة، وإذا لم اكتبها الآن ستظل تؤرقني. خاصة وأن التجربة التي ولدتها تختصر تاريخاً دامياً للشاعر والإنسان وصيغة الجمع.
حملت القصيدة سلبيات القافية الى حد لا يمكن أن احتماله (في حالة نشرها). ومن هذه السلبيات الوقوع في الإسهاب والزوائد التي لا تضيف الى المعنى عمقياً. ولكنها توفر قافية فقط. وهذا ينطبق – مثلاً- على ( ولا ميزانها في الحب يحتمل، ولا عشاقها لاموا ولا عذلوا). وجمل كثيرة على هذه الشاكلة يمكن اكتشافها بيسر. ولعل وحدة القافية طوال القصيدة أرهق البناء وهلهله كثيراً. وفوّت على الشاعر فرصة الحركة الحرة.
أما تقسيم القصيدة الى سبعة مقاطع ذات عناوين منفصلة، فهي محاولة لإعطاء التجربة آفاقا رمزية تتصل بالتجربة "الواقعية" التي يعيشها المتصوف. وكسر التصاعد الى الذروة الغيبية، بحيث تحولت الذروة الى فعالية مادية تتمثل في (الترجل) وأعتقد أن القصيدة ستأخذ جمالا مختلفاً فيما لو أن كل مقطع جاء في قافية مختلفة، بحيث تقترب القصيدة من بناء هارموني أكثر حيوية.
في مقطع (التجلي) لمحة مفتعلة بوضوح، تلك التي تبدأ بـ(تعال لنا وكن رباً.. الى .. سأمناه، لعل إلهنا الصنميّ يسأمنا ويرتحل).
فمثل هذه المعالجات لم تعد تملك البريق الفني والفكري الجديد. وليس جدير بالشعر أن يقع في هذا المحذور. فإذا كانت مثل هذه المعاني تطرب القارئ للوهلة الأولى، فإنها لا تمثل إبداعا شعرياً، ولكنها نثر خالص.
أقول، نثر خالص، لكي أوضح بأنه ليس كل ما يصاغ وزناً يمكن اعتباره شعراً. فالنثر في القصيدة هو المعنى الساذج الذي لا يحمل نكهة ونقاء وجمال الإبداع الشعري. وفي (تجليات) شيئ غير قليل من النثر.
قالت القصيدة في كلمتها الأولى حقيقة وقع فيها الشاعر بشكل أقرب الى السلبية. قالت ( الشعر إغراء يقيدني)، ولم أكن أحب القيود. ولكن قيود الشعر أساور حنان. تدلهت عشقا في حبها. لذلك أستحق ما ألاقيه من فشل بين الوقت والآخر.
كانت القصيدة تمريناً لغوياً مهماً. ففيما كنت أغزل الصور الجميلة، كنت أيضا أكتشف علاقات لغوية جديدة، تتفتح عفوياً حيناً، وقصداً حيناً آخر. لقد كانت هذه القصيدة بامتياز، قصيدة صور.
وفي (تجليات العاشق)، كثير من النحت والصناعة، لأن القافية كانت فارساً شجاعاً .. لكنه أعمى. وحين قال صديق لي بأن أقرأ القصيدة على الساحل، ثم أُلقي بها مباشرة في البحر، كان واضحاً أنه يعني بأن القصيدة لن تحسن العوم. وكان صادقاً بالفعل. وقد تذكرت (ايزامبار) الذي كان قد كتب عن إحدى قصائد (رامبو) :" وهكذا يا صديقي فانك ترى أن كل إنسان يستطيع أن يكتب سخفاً".
35
ربما يكتب الشاعر القصيدة وهو يهجس بأنها ربما كانت قصيدته الأخيرة. فيحاول أني قول فيها كلمته الأخيرة.
وبعد أن ينتهي منها، يشعر انه لم يتمكن من قول ما يريد، أو كل ما يريد بالذات. فيستعد لكتابة قصيدته التالية .. والتي ستكون الأخيرة أيضاً.. كما يبدو.
قصائد الشاعر محاولات فاشلة. هذا الفشل الذي سيدفعه في كل مرة لكتابة قصيدته التالية. ربما لن يكتب الشاعر قصيدته "الناجحة" إلا بموته. لكأنما موت الشاعر هي الإضاءة الساطعة لكل قصائده "الفاشلة". وموت الشاعر أيضاً هو المفتاح الوحيد لعدد كبير من الغوامض في شعره. والشعور الدائم لدى الشاعر بأن كل قصيدة يكتبها تحمل قدرا معينا من الفشل، هذا الشعور الغامض بدوره، هو الذي يدفعه لمحاولته التالية. وربما يبدع من جهة ويفشل من جهة أخرى. مثل هذه الأمور الحميمة التي تبدو للمرء هذيانية، هي إحدى أهم عناصر تكوين الإبداع الشعري المتجدد القادر على العطاء. فالشاعر كائن غير قنوع. ففي الشعر، القناعة كنز لا ينفع. فحين يعتقد الشاعر أنه كتب قصيدته الناجحة يكون قد فقد هاجس الطموح اللجوج الذي لا يهدأ. وبالتالي توقف عن الحلم.
36
قال لي سان جون بيرس: (لا تخف من رؤياك، فطمأنتني الدهشة، وأبقيت عين مفتوحة لهذه الخطوة العظيمة).
تداخلت في أفق الصعلوك المكابر "مالك ابن الريب" وكتبت قصيدة (الشهيد). كان حضور ابن الريب ملتهباً في روحي فيما كانت القصيدة تتخلق في الكتابة. وكنت من حقل العصافير قريب.
رؤياي النارية لم تعد تهتم في حالتي الصحية والاعتلال البدني المتواصل. ولكنها تفتح طريقاً للنور.
كان (مالكاً) يرثي نفسه في أهم وأجمل قصائده. ففتحت معه حواراً، وتفاهمنا بشكل جيد.
بناء القصيدة الفني يقوم على لحظة زمنية قصيرة جدا، هي ما بين الانثناء والانحناء ساعة الاحتضار. حيث يختصر في هذه اللحظة تاريخا تراجيدياً للمفر الذي هو في صيغة الجمع. وبقدر ما تكون القصيدة قد نجحت في تكثيف وتركيز التاريخ العريض في لحظة واحدة، تكون قد حققت نجاحا فنياً. سيبدو وضحاً هنا كم هي وثيقة العالة بين المضمون والشكل في العمل الفني، ويبدو أيضاً المعنى في المفهوم النقدي الذي يقول بأن المضمون هو الذي يخلق شكله الفني المناسب.
الصوتان في القصيدة يمثلان المعادلة الموضوعية الفنية في التجربة. ولا يقلل من أهمية الصوت الذي (يصغي) كونه لم يأخذ مساحة أكبر من " قال لي وانثنى/ قال وانحنى". لأن الصوتين أصليان في التجربة، وهما عبارة عن تنغيم إيقاعي في المعنى يطمحان في بناء فنية القصيدة من خلال علاقتهما الجدلية إنسانيا.
هنا، يتفجر الشهيد – كتجربة- صعلوكاً عصرياً لا يموت في الاستشهاد. ولكنه يمثل إشارة ساطعة لموت القاتل.
هنا، أيضاً، أيهما صوت الشاعر؟ أهو الصوت الأول أم الثاني؟
من الصعب الاقتناع بأن الشاعر "يصغي"، وكذلك واقياً نرى أن الشاعر لم يستشهد. والمسطرة لا تنفع في هذا الموقع للفصل بين الذات و الموضوع.
الى حد ما، يمكن الاقتناع هنا بأن أجمل رقصات البجعة هي الرقصة الدموية في لحظة الموت.
37
هيامي بتجربة (طرفة بن العبد) الإنسانية لا حدود لها، وعلاقتنا الرؤيوية قديمة. في عام 71 بدأت العلاقة بيننا تأخذ شكل الكتابة. وعام 73 صارت شعراً، حيث (تحولات..). وفي (اشراقات..) الجديدة تواصلت الرؤية. ولعل الشكل الذي أخذته القصيدة كان محاولة لموازاة اللحظة الواقعية التي يعيشها الشاعر وهو يفصد دمه، ويرقب القطرات تسيل فيأتي الشعر متفصداً على شكل مقاطع صغيرة، وكانت القطرة الأخيرة من الدم.. توازي (أو بالعكس) المقطع الصغير في ختام القصيدة (لا تثقوا بحياد الماء).
يبدو أن طرفة بن الوردة لم يزل قريبا مني فنياً، لذلك فانه لم يترك لي مجالا للتحديق من شرفة الأفق.
إنني أتبع نصيحة الشاعر المتصوف (النفري) الذي قال :" انس ما قرأت ، وأمحو ما كتبت". لكي لا اكرر نفسي، ولكي لا أهادن كلماتي. وأعتقد أنني سأنسى أخيراً كل شيئ .. وأكتب.
38
(زهرة الوقت)و (اشراقات) تنويع شعري على العزف الرئيسي للتجربة الفنية الراهنة. القافية هنا لم تضمحل تماماً، لكنها تنمو وتتبلور بشكل ما. وأستطيع القول أنه لولا تجربة القصائد الأخيرة، لما جاءت البنية الإيقاعية في هاتين القصيدتين بهذا الشكل.
فيما كنت استعد لتدوين هذه السطور، داهمني الوقت مزدهراً. ومازالت المسافة بيني وبين القصيدة الأخيرة قصيرة، قصيرة جداً.
(آه، ليس الموت يقتلني)،
أكثر من صديق قال: هذه الآه تتكرر في كل القصائد. لماذا؟
فعدت اقرأ القصائد مجدداً باحثاً عن هذه الآه. وسألت : هل تدل الآه دوماً على حدة (الألموت) : أي الألم / الموت؟
لا أعتقد ذلك، قلت.
أحياناً يطلق الإنسان الآه لذةً أو شوقاً عارماً أو دهشة، لذا أعتقد بأن الآه عندي تأخذ دلالات وأبعادً مختلفة.
واكتشفت فجأة أن (زهرة الوقت) خلت من الموت بكل درجات الظل فيه . أن هذا مدهش حقاً. عبرت لأحد الأصدقاء عن دهشتي لهذه الظاهرة، طالبا منه عونا لتفسيرها. لكنه كان يتسلح بقسوة محببة، فتحداني أن أقدم له - وحدي- توضيحاً لما يمكن أن تكون قد مارسته هذه القصيدة ضد الموت، فأخفقت. وفيما أنا اقرأ القصيدة لاحظت أنها تختلف عن القصائد الأخرى، ليس بغياب هاجس الموت فحسب، ولكن بمفردات وصور شعرية مغايرة الى حد ما.
هل هذه القصيدة هي جواب حواري للمعنى الذي جاء في قصيدة سابقة ( حلم ونافذة ورؤيا في الغموض، معجزات، آه كم من شاعر أضحى نبياً، إنما الملل)
هل جاء الشعر (مثل برق أو براق )
كي يقول: (اقرأ بسم هذا الوطن)
أقول : هل ..؟!
39
"سموني الغامض، وكان حديثي عن البحر.
سموني الغامض، وكنت أسكن البرق، والراحات الكبيرة الضاحكة تفتح لي دروب الحلم الذي لا يرتوي"
هكذا تكلم سان جون بيرس
وحين "يتهم الشاعر بالغموض لا تنتفخ أوداجه غروراً، كما يعتقد البعض. ولكنه يصرخ مع مايكوفسكي بضراوة المفؤود:
"ها قد بدأ الجنون".
هاجس الوصول الى القارئ يمثل هماً مستمرا بالنسبة للشاعر. لكنه لا يلجأ الى شرح القصيدة لفهم القارئ، لأن محاولة الشرح تشابه محاولة معرفة سر الوردة، تفكيك وريقات الوردة تفصل التويجات، تحلل البذور، وتعرف (بعض) السر. لكنك تفقد الورد وعطرها في نفس الوقت. لست أدعو الى الجمال شكلاً، ولكنني أطمح في الجمال فعالية.
الشعر فعالية الشاعر في الكون.
والقارئ فعالية القراءة والبحث.
قال أحد الأصدقاء: لماذا صرنا نفهم عليك الآن أكثر من السابق.
أين الخلل سابقاً، هل عندك أم عندنا.
بالطبع هذا الطرح يختلف عن ذلك الذي قال: هذا هو الشعر الذي يجب أن تكتبه. فالطرح الأول يحمل بذرة الحوار، والثاني يسير الى تعسف الأحكام المسبقة.
مرة أخرى، لا اقر الرأي الذي يقول بأنني أصبحت واضحاً الآن. لأنني لم أكن غامضاً لكي أصير واضحاً. كنت (أحاول) الوصول الى القارئ، والقارئ الذي يحاول الوصول الى الشاعر كان يفهمني. ربما لم يجد البعض الوقت لمثل هذه الفعالية المشتركة، لذلك تبدو القصيدة (غامضة) لأنها ليست سهلة ومتاحة للعابر المتسرع الطارئ. ولم أكن مؤهلاَ لكتابة القصيدة السهلة، لأن شيئا في الحياة لم يكن سهلاً، إلا التافه. وليست الحياة تافهة ولا الموت. رغم ذلك كنت أطمح في أن اصل إلى ابعد قارئ – لا أعرفه- بواسطة الشعر.
40
من الوجهة النقدية، يمكننا القول أن لكل مرحلة فنية رموزاً محورية تشكل العناصر الرئيسية للبناء الشعري الذي يشيده الشاعر في مجموعة من قصائده. بغض النظر عن درجة النجاح و الفشل الذي يتحقق فيها. أحياناً يستمر الرمز في مرحلة أخرى، ولكن في تبلور مناسب مع المرحلة الجديدة. بل أن بعض الشعراء يمكن تميزهم برموز معينة، تأخذ ملامحها المكتملة مع التطور الفني للشاعر، متحمل الى القارئ أبعاد التجربة التي يعبر عنها الشاعر.
(الماء) هو "الدم الثاني" الذي يجري في شرايين القصائد منذ نهاية مجموعة (الدم الثاني) حتى القصائد الأخيرة. ويمكن اعتبار "كليم الماء" الذروة التي وصل إليها الماء رمزياُ، لكن...
ماذا يعني الشاعر برمز (الماء)؟
هذا السؤال يطلب الكثير من الشاعر. ويتغافل كثيرا عن الإمكانيات المتوفرة عند القارئ، وكما قلنا في البداية .. أن القارئ مشروع جيد للفعالية. لذلك فإنني ليس بوسعي أن (أقول) نثراً، ولكنني يمكن أن أخلق حواراً أكون فيه صوتاً ثالثاً، وداخلياً في نفس الوقت، وأصوغ لقارئ، عن طريق العلاقات، قارئ من تحولات الماء. رمز (الماء) في مواقف مختلفة لكي أقرب (فقط) القارئ من تحولات الماء.
وقت الحلم الأول: " من منكم يأتي ويرج حياد الماء؟".
الدم الثاني:
"انه الليل الذي حولني غصناً من النوم الى الماء، فصار الماء نار" + "حولني العشق شيئاً من النار، شيئاً من الماء" + "فقد علمتني البلاد الغريبة إيقاعها، أخذت من يدي مائي الأول المستريب، وأعطتني ماءً لأسرارها" + "وقفت بين شفرة الحب وأول القراءة، كانت يدي صديقة العشاق، كنت الشجر الخجول، وكان مائي طفلة الحقول" + ماؤك الدموي تاريخي" + "قال للماء: غير رؤاك" + " قال للماء: ضيعت مني دماً في الهواء" + "قلت من ينقذ الماء من لونه" + "هي الآن مرتاحة في ضميري تراوح بين الدماء وبين المياه. تعالي دماً آخراً سوف يقرأه الأنبياء".
كليم الماء:
توضأ بالنفط كل الملوك، هو الآن ماءٌ لهم، فكن في دمانا دماً ثانياً، ولا تسه عنا" + "فيا أيها الماء يا راية في الطريق، ويا سيداً في الحريق" + "يا أيها الماء يا سيدي".
اشراقات طرفة بن الوردة:
"لا تثقوا بحياد الماء".
الآن، يغمر الماء الكون رمزاً، ويحييه واقعاً..و.../ معذرة، فان فكتور هيجو يعترضني صارخاً : (لا تكثر الإيضاح، تفسد روعة الفن).
41
الطفولة:
الأطفال هم النقاء الخالد في أشياء الكون، وهم أكثر نقاء من الماء.
42
الحلم:
يصير الحلم رمزاً لأنه الاختصار الأليف لطموحات الإنسان المقهور على امتداد التاريخ والأرض.
لكن ما هو الحلم؟
شيئ يقوله الشعر ولا يقوله النثر.
يتفاوت هذا الحلم وضوحاً وغموضاً في القصائد بناء على الشكل الذي يأتي به السياق، ويتعرف القارئ على ملامح الحلم الذي يذهب إليه الشاعر، من خلال موقع هذا الرمز في القصيدة. ليست هناك تفسيرات جاهزة للحلم – كرمز- في الشعر.
مثلاً:
(فالحلم الشاهق سيدنا). ويأتي في قصيدة أخرى: (فالحلم سلاح ألبسه. إذن فالحلم الذي هو سيدنا وسلاحنا في الوقت نفسه، لن يكون سوى ذلك الذي يقترب من المعنى العظيم في كلمة "لينين": (الحالمون بناة العالم)، وفي تأكيده أيضا: (ينبغي أن نحلم). ويكون الرمز في الشعر متوهجاً إذا عرفنا كم هو شمولي ودافئ هذا الحلم الثوري في قلوب المناضلين، ترى هل يمكن الشعر لولا الحلم؟
الحزن أيضا هو " خضرة اليأس" التي يطلع منها الأمل، والحلم في حياتنا حزين لأنه اكتشف الأسرار التي غفلت عنها العقول الساذجة. الحلم إذا كان حزيناً فهذا يعني أنه واقعي. وأحزاننا تكون حالمة، لأن الشعر هو تجاوز الحيرة التي يخلقها الحزن المجرد عند الإنسان. "والحزن سيدنا" أيضاً في (الدم الثاني). يرتبط الحزن بالحلم، فيتفجر الأمل.
قال لي صديق: لماذا أنت حزين الى هذا الحد، هل أنت يائس؟
فشعرت أن هناك من يحرضني على الانسجام مع الواقع. لأن من لا يحمل حزناً في قلبه لن يجيد اكتشاف الواقع. عندما طرح ذلك السؤال، تلفت باحثاُ عن حصان تشيكوف لأحكي له كآبتي، فهاهنا شخص لا يفهمني.
43
لا يستمد القارئ فعاليته من ثقافته فقط، ولكن بالدرجة الأولى من احترام الشاعر له. فالشاعر الذي يتعامل مع القارئ باعتباره غبياً يتوجب تعليمه عن طريق محو الأمية وإسقاط قدرته العقلية من الاعتبار وصفعه بالأدب المسطح، السطحي، بحجة "لكي يفهم القارئ"، أقول : هكذا سلوك من شأنه أن يجعل الشاعر يكتب أشياء كثيرة، غير أنها لن تكون شعرا على كل حال.
في المقابل فان القارئ مادان يمثل هاجساً بالنسبة للشاعر، إذن عليه أن يكون فعالية حقيقية، بأن يتحول الى حركة فعالة نحو الشاعر، أي أن يخرج من حدود الراحة واللامبالاة، ولا يتبجح بالقول أن الشاعر تأخر قليلاً عن الوصول إليه.
القارئ الذي يحملق في إصبع الشاعر فيما يشير الى الشمس، يكون قارئاً أحمقاً، كما حسب تعبير حكمة صينية قديمة. أما القارئ الذي يصير آلو توليد للطاقة، هو الذي يطمح الى تحويل الشعر الى طاقة فعالة في الواقع.
ها هنا مشروع شاعر، يطمح في مشروع ناقد، أي يطمح في قارئ فعال.
44
(دخان البراكين)،
سيكون هذا العنوان، الآن، مناسباً لقصيدتيّ مارس77. "سيدتي نشتاق+ ولقد ذكرتك".
45
قلت في البدء، أن الظروف غير المواتية للحياة هي ظروف مواتية للشعر. وأعتقد أن المسألة الآن قد اتضحت أكثر. فأذكر أن الأسهل في سجن البحر قد عجزت عن تفجير الشعر. أما ظروف سجن الصحراء الصعبة فقد أعطت شعرا غامراً، والطريف في الأمر أن بعض الأصدقاء قد لاحظ هذه الظاهرة، وعبر عنها بطرق مختلفة، لافتين أنني صرت في سجن الصحراء أكتب في تدفق أكبر من السابق.
لم أكن مغتبطاً بهذه الملاحظة، ولكنني كنت قلقاً لما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا التدفق.
كنت أ\في حمأة المرض، بجانب ظروف السجن، ولكنني كما لو أنني أتلذذ –بلا ماسوشية- لكون الشعر لا يتوقف. وكلما زاد وجعي توهجت في الكتابة. لذلك أعتقد بأن الظروف غير المواتية للحياة، على الأرجح ستكون مواتي للكتابة. وسأكون مجنوناً لطيفاً إذا قلت: بأنه ما دمت أكتب شعراً جديداً في العذاب، ربما من المستحسن أن أموت. ولأن كل قصيدة هي هزيمة للموت كلما اقترب، سأكون قادرا على مقاومة الموت.
46
يمكننا أن نستخلص هذه السياحة الشعرية- النقدية. بعض ما يمكن اعتباره الجوانب التي قد تميز هذه المرحلة الفنية عن غيرها، وتعطيها شيئاً من التفرد. مثل:
- القافية- وحدة القافية في أغلب قصائد هذه المرحلة.
- بروز الصورة الشعرية كأداة تتطور وتساعد في بلورة مفهوم البناء الفني للقصيدة.
- الإيقاع الثاني، أو ما يكمن تسميته، تجاوزاً، بالقافية الداخلية، التي خلقت هارمونية جديدة بالنسبة لتجربتي الشعرية.
- الشكل المختلف، والمغاير في كل قصيدة من قصائد هذه المرحلة. بحيث تبدو كل تجربة قد اتخذت بناية فنية تختلف، بوضوح، عن القصائد الأخرى.
- التدفق المتصل في فترة زمنية غير متقطعة شملت كل القصائد، وهذه من ملامح الغير مألوفة – كما سبق أن قلت-بالنسبة لي في تجربة الكتابة الشعرية.
بالطبع هذه الملامح عندما أشير إليها لا أهدف منها سوى التسجيل النقدي، فإطلاق حكم قيمة فني لمجمل ما كتبت سيظل فعلا ذاتياً يصعب الزعم بصوابيته عندما بتعلق الأمر بنقد الشعر من الوجهة التقنية، خصوصاً و أن ما أتكلم هي تجربة تظل غير مكتملة.
47
في الفترة ما بين ديسمبر77 الى ابريل 87، كتبت أكبر عدد من القصائد، قياساً لأي مرحلة زمنية تفصل بين القصيدة والأخرى. وكان قلقي الشديد الذي يؤرقني يتمثل في خوفي من هذا البركان المتفجر، حيث لم يكن بإمكاني إيقافه، فكل ما استطعت فعله هو أنني تخلصت من بعض المحاولات التي كانت تسهرني في بعض الليالي لفرط الأرق، فألجأ الى تمزيق الورق في الصباح.. وأتجاهل الأمر كلياً.
يرافقني طوال الفترة شعور بأن هذه القصيدة ستكون قصيدتي الأخيرة. حسناً،هذا ما يحدث لكل شاعر، كما قلنا. أعرف، ولكن أحياناً أكاد ألمس أطراف قوة غامضة تقف بجانبي، وتكتب القصائد معي. وهذا الشعور الغريب، اللذيذ، يذكرني بمايكوفسكي حين قال مرة في واحدة من أمسياته:" اشعر بأن هذه هي أحدى لياليّ الأخيرة".
وكان يعرف جيداً ماذا يقول.
بالطبع أنا بست مايكوفسكي، لكن المجهول بالنسبة للشاعر يعتبر حياة مكتنزة لفنه وفعاليته الإنسانية والشعرية. حيث يتحول المجهول الى طاقة أسطورية غامضة كالشغف والألق والأفق.
أذكر مقطعاً من المشاريع الشعرية التي مزقتها ذات الصباحات الغاضبة:
"سأقول لليل أستفق
وأقول للشمس استديري
وانطلق يا صوتي المصهور
واصهل واصطخب واصرخ
وكن كالطير في الأمواج
والبس تاجك الوهاج
واضرب في حدود الأرض
منتعلا بروق الرفض
ذب في الريح
قل للريح : لا تثقي
أنا عصفٌ
وذب في البحر
قل للبحر: يا موج الليالي السود خلي النوم
وانطلقي".
لكنني لم أترك للقصيدة مجالا للانطلاق,
48
أعرف كم هي مريرة هذه السياحة النقدية في التجربة الشعرية. وأعرف أنها مريرة أكثر مما تبدو هنا، أنني أشعر بقصوري في التعبير عما يعتمل داخلي. لقد قلت منذ البدء أنه عالم معقد، وقلت أنني سأحاول، وقلت أنه طريق محفوف بالمحاذير. لذلك أرجو أنني لن أتسبب في إفساد متعة البعض بالشعر. لأن هذا الموضوع ليس دراسة نقدية بالمعنى المألوف للنقد المنهجي، لكنه ضرب من الحوار الذاتي، المفكر به بصوت عال، ربما جاء هذا النص كما لو أنه شريحة مقتطعة من داخل الشاعر.
لقد تعودت على ممارسة مثل هذا الحوارات، لأننا كنا محرومين تقريباً من فعالية النقد الأدبي بالمعنى العميق للكلمة. نقد يتناول أشعارنا بالجرأة الموضوعية. وأستطيع القول بأنني منذ بدأت في نشر قصائدي كنت أتطلع الى القراءة النقدية الجريئة وأفرح بها. فغياب مذل الحوار النقدي الجريء أمر قد يهدد الشاعر بالموت أحياناً. لذلك تعودت على أن أحاول إنقاذ نفسي من الموت بفصد السموم من دمي ذاتيا بين فترة وأخرى، بعمليات صارمة قاسية، قد لا تمثل هذه السطور ألا نموذجاً مكتوباً منها.
كنت عازماً على دخول الحوار منفرداً مع التجربة، فقلت لنفسي: لماذا لا أشرك القارئ معي في هذا الحوار، لعل الأمر سيكون طريفاً ومشوقاً. وأن كنت لم أتخلص من الخشية، فرأي الشاعر في قصائده ليس بالضرورة سيعجب القراء أو يتفقون معه. فالجوانب التي تعجب القارئ من المتوقع أنها لن تعجب الشاعر، صاحب القصيدة. وهذا من شأنه أن يعرض البعض للارتباك، بل ويدفعه الى الشك أيضاً.
لكن لا باس في ذلك.
قلت: سأخوض التجربة، فربما خلقت جسراً جديداً بين القارئ والقصيدة والشاعر، سعياً نحو المزيد من الفعالية.
أنت كقارئ تعرف طريقاً نحو الشاعر، أما أنا فماذا أعرف من الطرق إليك؟
إذا كنت قد وقعت في قصور من حيث توضيح ما أريد، فذلك لأنني عاجز عن التعبير، وحين يكون قد فاتني شيئ فذلك يعني أنني أضيق من مساحة الشعر. وعندما أكون قد سهوت عن الإشارة الى نقطة من نقاط الضعف في قصيدتي، فإنما يدل ذلك على عدم أهليتي للقيام بدور الناقد.
49
الآن،
أعتقد بأنني بحاجة لأن أكتشف الصمت.
لقد أخبرني صديقي بأن الصمت طاقة لم تكتشف بعد. في حين أن مساحة الصمت بين التجربة الشعرية والأخرى تمثل صخباً بالغ العمق والفعالية.
لذلك فإنني أدخل في اكتشاف جماليات الصمت، وأقول مع "سان جون بيرس":
" خذيني أيتها اللذة في دروب كل بحر، في ارتعاشة كل نسيم، حيث تنشط اللحظة كعصفور يرتدي ثياب أجنحته .. سأمضي".
مايو 1978
(إذا فشلت هنا في تفسير الشعر،
أكون قد حققت أجمل نجاحاتي)
1
أين يبدأ الشعر وأين ينتهي؟
هل يمكن معرفة ذلك؟
لكن أيضا هل يمكن أن نعرف حدود الأفق، أين يبدأ الأفق وأين ينتهي.
أنت ترى الأفق هناك، تمشي إليه وتمشي ولكنك لا تصل. إنه أفق، والأفق لا يبدأ ولا ينتهي. انه أفق فحسب,
وهكذا الشعر. يقال بأن الشعر قد بدأ مع الإنسان وأكاد أشك في ذلك. ولكنني أخشى أن أقع في الفهم المثالي. أفهم ،مثالياً من نافذة: ( في البدء كانت الكلمة).
لأن الشعر الذي أعنيه هو الفعالية/ وليست الكلمة الواقفة لفي المطلق.
أقول أشك في بدئية الشعر مع الإنسان. ولكن الأكيد أن النثر قد جاء بعد الشعر. الشعر أولاً، وبعده جاء النثر وكل ما هو ليس شعراً هو نثر. وضمن النثر يتكون نقد الشعر. والقارئ/ كل قارئ هو مشروع ناقد، وفي القارئ تستطيع أن تعرف هل استمر الشعر هنا أم توقف/ هل تمكن القارئ أن يصير شعراً من خلال قراءته؟ ومن هذه الشرفة تلمس الإمكانية المتوفرة لدى القارئ ليصير مشروعاً نقدياً، وأحيانا كثيرة من حيث لا يدري. وعندي، أفضل النقد الذي يأتي من حيث لا يدري القارئ. لأن الحساسية الشعرية أمراً لا يمكن تفسيره. ولكن يمكن اكتشافه فقط. أحياناً كثيرة يتوقف الشعر قليلاً عند الشاعر لكي يبدأ النثر.
2
في الرقص/ بين الرقصة والرقصة، يأخذ الراقص قليلا من الراحة الداخلية- الجسدية. عند الشاعر تتحول هذه الراحة الى فعالية نثرية، يحاور فيها الشاعر ذاته + تجربته/ وتتفاوت مساحة هذه الفعالية النثرية بين الشاعر والآخر في قدرتها على المحاكمة. عادة تكون هذه المحاكمة حوارا داخلياً في نفس الشاعر، تتحول فيها التجربة السابقة/ التي تم انجازها الى نار تضيء ما هو آت. هذه الفعالية من الحميمية بحيث يحافظ الشاعر على سريتها، وعدم كشفها للقارئ، أما مكابرة عند الكثيرين، أو رغبة في إبعاد القارئ عن عالم معقد قد لا ينجح الشاعر في التعبير عنه. وأحيانا كثيرة تكون هذه الفعالية النثرية (النقدية) لا تدور بخلد العددي من الشعراء. ويمكننا اكتشاف ذلك من إنتاجهم.
3
الشاعر الذي لا يرى في شعره إلا الجوانب الايجابية، يكون بائساً ويستحق الرثاء. والشاعر الذي لا يعترف بنقاط الضعف المتوفرة في أشعاره، يكون متمتعاً بقدر لا باس به من الغباء.
4
الحديث عن الشعر يكون محفوفاً بالخطر، وأن يتحدث الشاعر (عن) شعره، يكون الأمر أكثر خطورة. لكن الأمر يختلف إذا كان التوجه لمحاورة التجربة الشعرية وليس لتفسير الشعر. هنا ينبغي أن نوضح الأصوات التي ستشارك في هذه المحاورة.
مثل هذه الفعالية النثرية كانت تحدث بالنسبة لي ذاتياً، حوارا داخليا حميما ليس بين مرحلة شعرية "فنية" وأخرى فحسب، بل أيضا بين كتابة القصيدة وقبل كتابة القصيدة التالية.
هذه الفعالية تشاركني فيها أصوات عدة، يمكنني اعتبارها العناصر الأساسية لكل عملية نقدية، يمكن أن يكتشف الشاعر خلالها طريقه بوضوح.
هذه الأصوات- العناصر، هي:-
التجربة الشعرية- ذاتاً
التجربة الشعرية موضوعاً
القارئ.
وحين أوفق في محاورة هذه الأصوات، تكون العملية النقدية اكتشافاً وإضاءة لتجربتي، وحين أفشل، ترتبك قصيدتي القادمة. ولا أكتب شعرا، فأسقط القصيدة المرتبكة من اعتباري، أفتح حوارا جديداً.
5
الآن،
للمرة الأولى، أحول هذه الفعالية النثرية (النقدية) الى الخارج. أترك الآخرين في هذه العملية : مع الحفاظ –قدر الإمكان- على حميمية الحوار، خصوصيته وحرارته. بمعنى تفادي المهادنة مع الأصوات – العناصر الثلاثة التي ستشارك في هذه الفعالية.
وهنا، إذا كانت هذه التجربة جديدة بالنسبة للقارئ مرة واحدة، فإنها جديدة بالنسبة لي ألف مرة، لأنني في مثل هذه العملية النقدية- الشعرية، أخوض اكتشافات جديدة لا اصل إليها إلا عن طريق الحوار. لذلك فإنني هنا لأكون مكتشفاً وكاشفاً في ذات اللحظة. وأهمية هذه الاكتشافات إنها لا تكون في أغلب الأحيان في صالح التجربة الشعرية (موضوع الحوار)، لأن التوجه الرئيسي في هكذا حوار هو الإمساك بسلبيات التجربة. هذا هو أحد الهواجس التي تشغل بال الشاعر، ولأن الشاعر إذا جاز له التحدث عن تجربته، فلكي يثبت أنه قادر على ممارسة النقد الموضوعي لتجربته. ويقول: لقد فشلت هنا، لا لكي يقول: لقد أبدعت هناك. فمثل هكذا موقف أما م الذات، يجعل الشاعر ألها صغيراً في نظر نفسه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وعندها يتحول الشاعر الى دجال لطيف. ويكف عن كونه فناناً.
الهاجس الثاني الذي يرافقني في مثل هذه العملية، هو هاجس إضاءة التجربة الشعرية فنياً + موضوعيا+ إنسانيا. أمام القارئ باعتباره صوتاً شرساً يشترك في الحوار، ويطرح أسئلته الجوهرية المشروعة.
6
"الحب اللامتناهي سيتصاعد في نفسي، وسأذهب بعيداً ، بعيداً جداً، مثل بوهيمي عبر الطبيعة، سعيداً، كما لو مع امرأة."
رامبو
7
سأهتم هنا بالتجربة الشعرية التي تتحدد في الفترة ما بين صيف 1975 حتى كتابة هذه السطور. بمعنى أنني سأكتب عن تجربتي الشعرية في السجن، لعدة أسباب أهمها:
- اعتقادي بأن هذه الفترة بما أفرزته من إنتاج تمثل مرحلة فنية (شبه) متكاملة.
- كون هذه الفترة – التجربة قد تميزت بدرجة من التفرد في الملامح الخاصة والمغايرة للمراحل الفنية السابقة (بغض النظر عن كون هذا التفرد سلباً أو إيجابا ).
- شعوري بأن كتابة الشعر في السجن تجربة مهمة في حد ذاتها، وجدير بالشاعر أن يحاورها من حيث هي تجربة إنسانية عميقة ودقيقة في نفس الوقت.
- كون هذه التجربة – القصائد "الإنتاج" قد جعلت العديد من الأسئلة تطرح بأشكال مختلفة ومتفاوتة من قبل الأصدقاء في السجن. هذه الأسئلة التي يمثل معظمها إضاءات لجوانب مهمة (وأكاد أقول خطيرة) في تجربتي الشعرية عموماً.
- شعوري الحاد بأني إذا لم أبدأ مبكراً في محاكمة تجربتي، سأرتكب خطيئة الشعر وأضعف أمام ضغط الكلمة وأكتب القصائد فأضيف بذلك –(ربما)- إدانات أكثر.
8
(غيّر الصوت إيقاعه في دمائي. تغيرت)
كانت هذه الكلمات الأخيرة في آخر قصيدة كتبتها قبل الاعتقال، وكان ذلك في مارس 75 وهي قصيدة " الدم الثاني". وبعفوية الشعر المدهشة جاءت هذه القصيدة ختاماً احتفالياً لمرحلة فنية / موضوعية أعتقد بنضوجها الجنيني، ذلك النضوج الذي يشير الى نهاية موجة حين تصل لخط الساحل من جهة، ويشير في ذات اللحظة الى بداية رحلة الموجة القادمة من أفق البحر، وليس أمام الشاعر عندها سوى أن يحاول احتضان الموجة القادمة. فإذا فشل مات، وإذا نجح ولد من جديد، في "الدم الثاني" حياة ذاتية وموضوعية مختصرة في صورة قصيدة. قصيدة من قصائد التجربة، وعندي، غالباً ما تكون قصيدة التجربة أكثر قوة ونجاحاً من قصيدة الموضوع . في "الدم الثاني" تلتقي خيوط الرموز المحورية في تلك المرحلة، لتشكل شبكة من العلاقات اللغوية التي تنتمي لحرارة تجربة تحمل طموحاً في التعبير يتناسب مع طموح الحياة. وإذا كان للشاعر قصيدة واحدة مهمة في كل مرحلة من مراحل حياته، فان "الدم الثاني" في تقديري، هي القصيدة التي يمكن قراءة تجربتي من خلالها بصورة لا تتوفر -كاملة- في القصائد الأخرى لتلك المرحلة. وكأن كلمات القصيدة الأخيرة تشير الى برزخ خطير يقف في الشاعر.
9
... وكان برزخاً جهنمياً بالنسبة لي، فبعد تلك القصيدة، توقفت عن كتابة الشعر فترة ليست قصيرة، شعرت في هذه الفترة كما لو كنت عصفوراً يكاد ينسى عادة الطيران. وكنت أحياناً أعتقد بأنني لن أكتب شعراً الى الأبد. ومثل هذا الشعور بالنسبة للشاعر يمثل عذاباً دائماً يشبه الموت. وفيما كنت أعد قصائد ديوان " الدم الثاني" للطبع كان شعوري مريراً، وكأن طبع المجموعة إعلانا عن وفاتي كشاعر. وقد لا يكتشف القارئ في المجموعة سبباً لهذا الشعور، ولكن كلما طالت فترة توقف الشعر عندي، صار الشك في قدرتي على الكتابة يقترب من حدود اليقين. وأن لا أكتب شعراً يعني أنني أصير جثة تمشي، أتحول مخلوقاً بلا لسان. وحين دخلت السجن صارت هذه المعاناة تتضخم وحاجتي للشعر أخذت تكبر، وكنت أحترق انتظاراً، ولكن الشعر لا يجيء.
ومنذ صيف 75 حتى شتائه كنت أفقد القدرة على الكلام. وكمحاولات اليائس قفزت لكي أطير، ولكنني فشلت. أذكر تجربتين حاولت فيهما الكتابة، ولكن قبل أن أنتهي تغلبت على نفسي ومزقت الأوراق،
لم يستطع العصفور التحليق.
يبدو أنه نسي الطيران بالفعل. وكان الأصدقاء حين يسألونني عما إذا كان لدي شيئاً جديداً، يساهمون مساهمة فعالة في العذاب الذي أحمله أربعا وعشرين ساعة في اليوم. وفي أكتوبر كتبت ( لغو للطفولة) و كان (محمد) الذي جاء الى هذا العالم وأنا في السجن هو الذي قذف بي في هوة الشعر، تلفت حولي كمن يريد أن يقول للعالم: انظروا إنني ما زلت قادرا على كتابة الشعر. وليست فترة قصيرة التي امتدت من مارس 75 الى أكتوبر 75، ليس بمقياس الزمن، ولكن بدرجة العذاب الذي عشته انتظارا على باب الشعر، شحاذا يسكن البرد والغربة والتشرد. وربما في نوفمبر كتبت القصيدة الثانية (قصيدة حب).
10
لقد أثارت (قصيدة حب) جدلاً لذيذاً بين وبين بعض الأصدقاء ساعتها. ولم تكن ملاحظات الأصدقاء خالية كلها من الصحة، وكنت أعتقد بأنني أستعيد توازني، بعد فترة المرارة، ولأن القصيدة كانت (قصيدة موضوع) فإنها تحمل قدراً لا بأس به من نقاط الضعف الفنية التي ساهمت الى حد بعيد في ارتباك البناء الموضوعي في القصيدة. فبدا لبعض الأصدقاء إنني أتهم وطناً بلا وطنيته، وحين كنت أحاكم تفسخاً يرفع رايته في أحداقنا وأشير الى (البلدوزر) الرجعي الزاحف من طرف الخريطة الى الطرف الآخر.
كنت أقول في القصيدة عن: (هناك سياسيٌ بايع إسرائيل صديقاً للعرب المقتولين). وأقول عن الذين : (شالوا أرض لبنان من الأرض، وخلوا نهر الدم (من بيروت الى صنين). وعن الجاهلي القادم من صحراء الجزيرة بسيوفه السوداء. كان ذلك في نوفمبر 75. ورأينا بعد ذلك (البلدوزر) يمشط الخريطة جيداً. ولم يشفع (لقصيدة حب) استشرافها لما حدث بعد ذلك التاريخ، لأن النثر يظل نثراً ما لم يرق الى درجة الشعر، فناً وبناءاً. وتظل (قصيدة الموضوع) حاملة نقاط ضعفها ما لم تنصهر وتصير (قصيدة تجربة). وعندي أن (قصيدة الموضوع) ظلت ترافق تجربتي الشعرية منذ بداية علاقتي بالشعر حتى (قصيدة حب).
11
من الوجهة النقدية، أرى ضرورة إيجاز ما أعنيه (بقصيدة الموضوع) و (قصيدة التجربة)، والفرق بينهما.
قصيدة الموضوع: هي القصيدة التي يغلب عليها طابع (الرصد) الموضوعي لظاهرة أو ظاهرات مادية في الحياة. ويكون الشاعر في هذه القصيدة جزءا صغيراً، ودوره يتحدد في تسليط الضوء الساخن (متقلصاً) في مسافة شاسعة تفصله عن المعاناة المباشرة الذاتية. بمعنى أن الشاعر جاء لكتابة القصيدة (عن) الموضوع الفلاني، وكلما اتسعت المسافة بين الذات والموضوع في القصيدة، كلما اقتربت القصيدة درجة من الفشل أو نقاط الضعف في أفضل الأحوال. وحين تبدو الذات في القصيدة غائبة تصير القصيدة قصيدة موضوع.
قصيدة التجربة: هي القصيدة التي لا يكتبها الشاعر (عن) الموضوع الفلاني، ولكنها قصيدة لا يستعد لها الشاعر، تباغته، كما لغم ينفجر من حيث لا يدري الشاعر، وهي القصيدة التي ليس بوسع الشاعر أن لا يكتبها، لأنه بدون هذه القصيدة يكف عن كونه شاعراً، لأنها الشعر الحقيقي في حياته. قصيدة التجربة هنا هي الذات والموضع منصهران في بناء فني واحد. الى درجة أنك لا تستطيع الفصل – بالمسطرة- بين حدود الذات والموضوع في القصيدة.
الفرق بين قصيدة الموضوع وقصيدة التجربة إذن، هو أن الشاعر في الأولى يكتب (عن) الحياة، وفي الثانية (يكتب) الحياة,
إن مثل هذه (الرؤية النقدية) أعتقد أنها ليست مكتملة بسبب أنها اجتهاد مني فرضته طبيعة المسؤولية الذاتية في النقد لكتابتي، والمستقبل كفيل بتطوير هذه الرؤية وتنقيتها، لتكون واضحة الملامح من حيث هي مقياس نقدي ممكن.
أعتقد (الآن) أن نماذج مثل "الحجاج يقدم أوراق اعتماده" + "حبيبتي الخروج من الدهشة" + "صلاة الخوف" – تشير (بشكل متفاوت) لقصيدة الموضوع البارزة في تجربتي السابقة، ومثل هذه الرؤية النقدية لم تكن متوفرة في السابق، وإلا فان عدداً من القصائد لنأخذ طريقها للنشر في مجموعة شعرية جديدة. ولكنني أعتبر مثل تلك الظاهرة ينبغي أن تتوقف عند "قصيدة حب"، القصيدة التي تمثل ذروة النماذج في قصائد الموضوع و أسوأها في نفس الوقت. لكن هذا (القرار) من الشاعر، الى أي حد يكون ساري المفعول، ومتى يبدأ؟
12
بعد قصيدتيّ شتاء 75، بدأت بشيء من الحياء والتردد أدخل في محاكمة الموجة الجديدة القادمة من أفق البحر. أعرف أن العودة الى كتابة الشعر عرس جديد. حسناً، ولكن هل بعد ذلك العذاب المرير تأتي الثمرة بارتباك واضح كما لو كنت أمسك القلم للمرة الأولى؟
كان العصفور منتوف الجناح، يحلق بصعوبة.
وطبعت مجموعتي الثالثة "الدم الثاني" وأنا في السجن،وحين وصلت إلي نسخة كانت كفيلة بأن تجعلني أقف بصرامة أكبر أمام القصيدتين الجديدتين. فقد تسنى لي بشكل أفضل أن استعيد تجربتي الشعرية التي قلت في ختام آخر قصائدها: (غيّر الصوت إيقاعه في دمائي، تغيّرتُ).
وسألت نفسي: هل تغيرت فنياً في المحاولات الجديدة؟
وإشفاقا على تلك المحاولات – كما يبدو- أجّلت الإجابة على هذا السؤال الجارح. قلت : لا بأس بعد السجن سيكون بإمكان الشاعر أن ينظر لأشعاره بهدوء أكثر، وكان الأمر مهادنة مؤقتة.
13
وبدأت رحلة عذاب جديدة.
لأن القلق حول نجاح أو فشل محاولة الشتاء الشعرية كان رفيقا شقياً لي. تحولت الى بحث مجنون عن طريق للخروج من الحصار الذي أعيشه، وعدت الى انطباع عميق بأن الشعر ودعني الى غير رجعة، وهذه المرة كنت أجبن من أن أمسك القلم لأكتب محاولة أمزقها قبل النهاية. ولأن الشتاء بالنسبة لي المناخ الرائع الذي كتبت فيه سابقاً أجمل قصائدي، فان فشل محاولة شتاء 75، وانتهاء الشتاء بدون أن اكتب شيئاً مهماً، جعلني ألجأ الى الاحتراق الداخلي على أمل أن يؤدي هذا الاحتراق الداخلي الى تحرك الى الأمام.
وامتدت المرحلة حوالي ستة أشهر، حيث بدأت في محاولة كتابة قصة قصيرة، فوجدت نفسي أنجز شيئاً جديدا بالنسبة لي. ليست قصة قصيرة، ليست قصيدة، ولا هو مسرح، لكنه كل هذه الأشياء في بناء روائي مبتكر، لم استطع تسميته ألا (مشروع رواية)، اعتبرها بعض الأصدقاء تجربة ناجحة، وكانت معظم الانطباعات التي تلمستها كانت مشجعة، ولكن مثل هذا الإعجاب جدير بأن يشبع غرور الشاعر، ولكن ضميره الفني يظل ذلك الهدف الذي لا يطال.
14
(وطن في حالة الصلب)،
تلك التجربة الفنية المفاجأة - بالنسبة لي- أوقعني في مأزق خطر لم أكن أتوقعه. فإذا كانت – الرواية- تجربة تعبيرية ناجحة من حيث هي أسلوب جديد بالنسبة لي، فإنها في ذات الوقت زادتني رعباً خشية من تسرب ماء الشعر من ببين أصابعي نهائياً. وداهمني شعور كما لو كانت – الرواية- هي العزف الجنائزي على قدرتي الشعرية. وخيل لي في وقت من الأوقات أنني أقف أمام مفترق طرق، الأمر الذي خلق عندي ارتباكاً جديداً، فإذا كان فقد الشاعر جناحه الشعري مسالة مرعبة، فإن الدخول في إقليم الرواية لا يقل رعباً أبداً. الرواية بالنسبة للشاعر ليس تحليقا، إنها قفز في الهواء لمسافات بعيدة، وأحيانا عالية فقط.
15
بعد فترة التوقف الطويلة، كانت محاول كتابة القصة القصيرة الدبوس الذي ثقب البالون المتحفز، وحيث انفجر المرجل، جاء التعبير في شكل روائي غير متوقع، لغته شعر، وبناؤه نثر.
إذا وضعنا في الاعتبار فشل محاولة شتاء 75 الشعرية، فإن مايو 76 تزيد فترة الانقطاع عن عام كامل، لذلك فان الفرصة للتعبير عن المعاناة المخزونة كانت مواتية حيث انفتح الصمام للقصة القصيرة، ففاض البركان بشكل عفوي وعشوائي الى درجة ما، فجاء شعراً حيناً ومسرحاً حيناً ورواية في بعض الأحيان، وحوارا أيضا، ولم يكن بإمكاني السيطرة على الفيضان إلا في حدود.
كنت ساعتها كمن يبحث عن لسان، ولأن قصائد الشتاء فشلت، فان هاجس اللغة الجديدة المجهولة كان يرافق قلقي. فاعتقدتُ أن هذا الذي يتفجر كالشيطان بين يدي هو لغتي الجيدة.
من الوجهة النقدية، فان أي كاتب – شاعر يملك اللغة والتجربة الأدبية، ومعرفة لا باس بها في الرواية، يستطيع لأن يكتب مثل ما كتبته، مع بعض التفاوت. وإذا كانت هذه التجربة أساسية بالنسبة لسواي، فإنها بالنسبة لي تمثل عذابا جديداً، لأن الشعر هو الأصل عندي.
16
في المناخ الفني الذي فرضته تجربة الرواية على ذهني، بدأت فكرة لكتابة محاولة رواية أخرى تحت عنوان ( الفقد)، لم أبدأ فيها. وفي حمأة الانفعال فقدت الرغبة في كتابة (الفقد)، لأن الشعر جمرة الدم، لا يطفئها سوى الموت.
17
لكن متى يأتي الشعر؟
إن هاجس التطور الذي يحمله الشاعر يمثل القيد الموضوعي الذي يحافظ عليه الشاعر نفسه طوال الوقت. فإذا لم يحمل الإنتاج الجديد إشارة الى التطور فمن الصعب أن يقبله القارئ الذي يضع له الشاعر ألف حساب، فما بالك إذا كان الشاعر نفسه عبارة عن سياف على استعداد دوماً لجلد أية قصيدة، ليست ضعيفة فحسب، ولكن أيضا إذا كانت تراوح في مكان سابقتها.
في مثل هذا المناخ الشعري كنت أضع نفسي باستمرار، وكانت قصيدة "الدم الثاني" هي الحصانة الرادعة التي كنت أحملها معي وأعيد دراستها، لئلا اقبل أية قصيدة لا تحمل جديداً ، قياساً لهذه القصيدة. واعرف في نفسي أنني ما لم أكتب شيئاً ينقلني الى أحضان موجة الأفق الجديدة، فإنني لن اقبل نفسي. وكلما طالت فترة الغياب، صار الشوق لذيذاً وساخناً،
لكن متى يأتي الشعر؟
أسأل نفسي وأضع رأسي على كتف الكلمة.
18
إن الظروف غير المواتية للحياة، هي الظروف المواتية للشعر.
بالطبع هذه الحقيقة ليست مطلقة، ولكنني أطرحها هنا كتجربة ذاتية
هل يمكن ذلك؟
تبدو المعادلة معقدة نوعاً ما. أو هي في أحسن الأحوال مجانية الهدف. وإلا ما معنى أن يتعذب الإنسان لكي يكتب الشعر؟
لكن الذي أعنيه بالضبط هو أن الشاعر لا يكتب شعرا حقيقياً إلا في الحياة الصعبة. وكلما كانت معاناة الشاعر قاسية كانت أشعاره أقدر على التوهج.
بالنسبة لي فان الدخول في المعاناة الجديدة في شكل السجن الصحراوي إنقاذا لي بالدرجة الأولى، فطوال فترة الاعتقال في جزيرة (جده) كنت أتحول الى مرجل ملتهب يحتاج الى هزة صغيرة تحوله انفجارا، وليس أقدر من الزنازين لتفجر اللغم الأول.
وسأعتقد بأن مارس 77 هو البداية الحقيقية للمرحلة الفنية الموضوعية الجديدة، بمعنى أن فترة الانقطاع عن كتابة الشعر تكون قد امتدت إذن من مارس 75 الى مارس 77، وكل ما كتب خلال العامين، أما أنه محاولات فاشلة، كمحاولتي شتاء 75، أو أنه قفزٌ في الهواء وتعبير مرتبك في رافد غير مألوف، كبانوراما "وطن في حالة الصلب".
19
تغيير ظروف الاعتقال خلق مناخاً نفسيا وحياتياً غير عادي بالنسبة للجميع. وبالنسبة للشاعر فان المسألة تأخذ طابعاً دقيقاً، فإما أن يحول هذه المعاناة الى طاقة فنية وأدبية يتسلح بها ويهدم الواقع ويبني داخل الإنسان عالما صلبا، أو أن يكف عن كونه شاعراً فيتغلب عليه الواقع، ويفوّت بذلك أيضا أخصب اللحظات لولادة الشعر، ولكن الشعر يأتي في الوقت المناسب دوماً من وجهة نظر الشعر وليس الشاعر. ويبدو أن ظلام إحدى ليالي مارس الباردة، كان وقتاً مناسباً من وجهة نظر الشعر، وفي الزنزانة الخشبية – المترين في مترين- اتسعت الأرجاء في ذلك الليل الضيق.
20
(نسمع صوتك سيدتي يختصر الوقت).
إنها الخطوة الأولى لإعادة التوازن، ومحاولة لكسر حصارات عدة يعانيها الإنسان في تلك اللحظات. وينكسر حصار خاص يعانيه الشاعر في ذات اللحظة، وذلك هو غياب الشعر.
وجاء إيقاع القصيدة هادئاً كالخروج من حلم والدخول في حلم،
وأسأل: هل صدفة أن يكون الصوت محوراً في القصيدة، بعد أن كان قد ( غيّر الصوت إيقاعه في دمائي) في "الدم الثاني"؟
وفي داخلي فرحت بولادة هذه القصيدة كما عصفور ينجح في العبور من غصن الى آخر في الشجرة.. للمرة الأولى. ولكن يدي كانت على قلبي وأنا أرقب الأصدقاء وهم يقرأنني، فقد غبت طويلاً عن القارئ، لكن..../
وأنا أعالج جرح القصيدة الأولى، جاءت القصيدة الثانية...(ولقد ذكرتك، آه من جرح يطيب ومن جراح لا تداويها الحروب، وأنت جرحي).
الشعر يهجم ويباغت، وينتصر، ويفلت زمامه من بين يديّ. وحين لبيت صوت الفارس العبسي القصيدة الثانية، كادت القافية أن تلبسني، فهربت. بالرغم من أن جمالا تقليدياً بدأ في مدخل القصيدة، إلا أنني اضعف .. في تلك اللحظات من حرف الباء.
في التراث العربي مواقف رومانسية للفارس، حاولت في هذه القصيدة أن أضيء بها رؤية معاصرة لموقف إنساني جديد. ولكن فترة التوقف عند الشعر كان لها دور في جعلي مرتعشاُ وأنا أكتب من جديد. لذلك جاءت القصيدتان بعض الضعف الفني من الناحية البنائية، خاصة بالنسبة للقصيدة الثانية. ولكن من جهة أخرى عبرت القصيدتان عن توق في البحث عن لغة شعرية مغايرة للسابق، وتبقى مسالة: الى أي حد فشلت أو نجحت هنا مربوطة بالقادم....
..... ولكن قبل القادم، يمكنني القول أنه بالرغم من النكهة الجديدة التي حملتها القصيدتان و الإشارة الضمنية الصغيرة التي جاءت مع هذه النكهة الى الأفق، تظل مسألة عدم وضوح الرؤية الفنية في القصيدتين، ربما بسبب كون هذه المحاولة هي الخطوة الأولى نحو المرحلة الجديدة، إضافة الى الارتباك الذاتي في لحظة المواجهة مع الشعر بعد الغياب الطويل.
أقول، لم تكن المحاولة أكثر من إشارة، وهذه الإشارة لم تحدد الملامح الفنية التي يمكن أن تتميز بها المرحلة الجديدة. وعلى الصعيد الذاتي وضعتني هذه المحاولة في درجة من التحفز، انتظاراً لما أرهصت به التجربة، كيف يمكن احتضان الموجة القادمة من أفق البحر بحنان أكثر.. هذه هي المسألة.
21
قلق، كنت أضع يدي على قلبي وأنا أرقب الأصدقاء يقرأون الخطوة الأولى: (سيدتي نشتاق + وذكرتك).
هنا فعالية القارئ.
ربما يطرح سؤال عن كيفية التعامل مع هذه الفعالية في ظروف السجن غير الطبيعية؟
لا شك أن في هذه المسألة شيئ من التعقيد، ولكن في تقديري، - من تجربتي الذاتية – أن نماذج القراء بين الأصدقاء هنا، تمثل – الى حد كبير- التفاوت النسبي الذي يمكن أن نجده خارج السجن، أقول : الى حد كبير ليس غير.
وبناء عليه ينبغي أن يتمتع الشاعر بدرجة من الحساسية لكي يحسن التعامل مع فعالية القارئ المتفاوتة، والتي تصل أحياناً الى درجة من التشابك، بحيث يكتشف حتى في الموقف السلبي للقارئ جانباًَ ايجابياً.
هنا أقف إزاء فعالية القارئ –كالعادة- باحتمالات عديدة، ولكن بهاجس واحد: القارئ يمثل المتابعة الممكنة لكي تتحول القصيدة الى فعل في الحياة، ولكن في ذات اللحظة التي يمثل القارئ فيها هذه الأهمية، فان الشاعر ليس له أن يجعل القارئ – أي قارئ- المقياس الأخير والنهائي لنجاح أو فشل التجربة- القصيدة، لأن مثل هذه المقاييس توقع الشاعر في مأزق خطر، كأن يعتقد، مثلاً، بجودة قصيدة فاشلة، أو فشل قصيدة ناجحة، وعندها يضيع الشاعر كشخصية واضحة أمام تجاربه.
22
قال أحدهم: (هذا هو الشعر الذي "يجب" أن تكتبه).
وقال آخر: (لقد قلت ما كنت أحسه، أو ما كنت أريد قوله تماماً، وأنا بين أيدي الجلادين - وذكرتك).
وقال ثالث: (لقد أصبحتَ واضحاً الآن).
هذه نماذج من "الانطباع" الأولي و(المتأني) الذي على الشاعر أن يتعامل معها بهدوء، فالقارئ هو الناقد الشعبي الذي يطرح ملاحظاته (أو لا يطرحها أحياناً كثيرة) بعفوية، بود أو بعدائية، باضطراب أو بوضوح. وتأتي مسألة تنقية كل ذلك للوصول الى الإضاءة الجوهرية في الفعالية النقدية للقارئ.
من هذه الشرفة أستطيع أن أحاور القارئ الذي يقول (يجب) على الشاعر أن يكتب كذا. تبدو المسألة سهلة للبعض أن يفرض على الشاعر كما يأمر آلة الخدمة الاتوماتيكية بأن تعطيه زجاجة البيبسي كولا بعد أن يضع ف يكتفها القطعة النقدية المطلوبة.
(رأيت أحدهم يرفس إحدى الآلات لأنها تأخرت قليلا عن الدفع بالزجاجة المثلجة المطلوبة). وعندما يرفسني أحدهم في خاصرتي لأنني لم أكتب ما (يجب) عليّ كتابته، سأشعر بالرعب لأن القارئ يتعامل مع الشاعر كتعامله مع الآلة. ولن اغفر لقشرة الحضارة جريمتها البشعة. وبصيغة ما، كان هذا الرأي (البسيط) إلغاء تاماً لكل ما كتبته من شعر قبل قصيدتي مارس 77. لأن ما كتبته قبل الآن – حسب هذا القارئ- ما كان يجب أن أكتبه.
هذا هو المعنى الساذج للرأي البسيط. وإذا ما أخذ الشاعر ما يقوله هذا القارئ بحرفيته جامدة يكون قد ظلم نفسه وظلم القارئ ف ينفس الوقت، فالقارئ ليس ناقداً أدبياً منهجياً، لكنه ناقد شعبي، وهنا تكمن خطورة الأمر.
الرأي الآخر الذي قال (لقد أصبحتَ واضحاً الآن) جعلني أعود الى التأمل في الوضوح الذي يتحدث عنه. لم أكن غامضاً لكي أصير واضحاً الآن. ثم أن هاتين القصيدتين لا تمثلان أسلوبا واضحاً، هي ما زالتا معلقتين في هواء الأفق الجديد ولم تمسا أرض هذا الأفق. واللغة الجديدة لم تسلم نفسها للشاعر بعد. فهل يهجس بها القارئ مبكراً؟ لقد كان واضحاً أن ذلك القارئ كان يعني بالوضوح تلك المفردات المباشرة التي سطعت في القصيدتين بصورة لم يتوقعها مثل ذلك القارئ، كما أنني لم أكن قد تعمدتها في التجربة. ولكن أيضا أن أية مراجعة سريعة لقصائد قديمة سيجد ذلك القارئ مثل هذه المفردات كثيرة وأكثر مباشرة أيضا. المسألة هنا تأخذ طابع حرارة التجربة التي عايشها هذا القارئ لحظة بلحظة مع الشاعر، مما جعله يكتشف –مثلا- (أخذونا من سجن البحر...)و (فلنا أحلام سيدتي لا تمنعها الجدران )و(أمشي إليك وكل من يمشي الى عينيك يسمو).
وسيحتاج مثل هذا القارئ شجاعة أدبية ليعترف بقصوره الذاتي في القدرة على الاكتشاف، ما دام هو بحاجة لأن يخوض التجارب الحياتية التي يعيشها الشاعر في الواقع اليومي، فمثل هذه الإمكانية غير متيسرة لجمع القراء في العالم. لذلك فإنني لن استغرب إذا جاء مثل هذا القارئ –خارج السجن- وقال ببلاهة (ماذا تعني بقولك: وتأتي رائحة الحب إلينا فتزيد السجن حلاوة). لأنه لم يتمتع بعذوبة الحلم في ليالي الزنازين الخشبية الضيقة كقشرة البندق، الواسعة كالفضاء.
23
في المستشفى تسنى لي أن اقرأ قصيدتيّ (لغة للطفولة) و( قصيدة حب)، فاكتشفت كم كنت موغلا في الحذلقة، لقد كانت (قصيدة حب)نثراً، وكانت (لغة للطفولة) طموحاَ شعرياً ليس أكثر، وان مجرد اعتمادي القصيدتين وإدخالهما في حدود تجربتي الشعرية ، ونشرهما سيكون تشويهاً لتجربتي اللاحقة.
فأسقطت القصيدتين من اعتباري، وشطبت أيضا أحد الفصول في مشروع رواية (وطن في حالة الصلب) وأوقفت مشروعا لنشرها.
وشعرت براحة عظيمة حين تخلصت من عبء القصيدتين، فقد كان القلق يساورني طوال الوقت بشأن تلك المحاولة. ,اذكر حين أجلتُ الإجابة على سؤال حاسم بشأن هذه المحاولة، قلت أنها عملية مهادنة مؤقتة، فالمهادنة تعني عدم القناعة بالواقع، بل التأمل فيه. والناقد الذي سينظر في هاتين القصيدتين بعد انتهائه مباشرة من قراءة قصيدة "الدم الثاني" سيكون محقاً إذا ما اعتبرني شاعراً يعاني من انفصام الشخصية الفنية، ويتبرع لي بسرير في مستشفى الأمراض العصبية.
24
(أنا قابع في زنزانتي المظلمة
ولكن قلبي يخفق مع ابعد نجم في السماء)
هكذا تحدث ناظم حكمت، وهكذا تعلمت قلوبنا كيف تخفق مع نجوم السماء، مهما ابتعدت وتعايش العالم كما لو كانت موجودة في كل العالم.
هنا الشاعر يتوهج أكثر كلما حدق في حركة الحياة من حوله. هنا الشاعر لا يصير بحيرة نائمة ولا يأسن، لكنه يتحول نصلا ملتهباً ورهيفاً وغير قابل للانسجام مع الواقع.
كانت مسافة أشهر ثمانية جديدة من مارس 77 حتى ديسمبر 77، لم أكتب شيئاً خلالها، ولكن ذلك الشعور السابق بغياب الشعر لم يخالجني هذه المرة، بل أنني كنت أعيش مناخاً شعرياً غامراً طوال هذه الأشهر. واثق أكثر من أن مرجلا يلتهب هنا.
واعتبرت قصيدتيّ مارس 77 بمثابة (دخان البراكين) المتقطع الذي ينذر بقرب انفجار الأتون البركاني.
حركة الشعر داخلي كانت مثل سرّ الحب في قلب الفتاة العاشقة. لكن ما هو الوقود الذي يجعل هذا المرجل مشتعلاً؟ إنها هموم الإنسان الدائمة. وعذابات الشاعر التي لا تفسر، وأسئلة العذاب الشوكية المغروسة في كبد الشاعر، والتحديق في ما يحدث في العالم. ماذا يجري هنا وهناك وهنالك.
هنا: قيصر الجزيرة يغرس وتداً لخيمته في دماء أضاحي كثيرة. النفط الجاهلي يغطي سماءنا بعباءته ويستفرغ تراثاً وسخاً كاليأس. أطل في ابتسامة طفل رهن الاعتقال فأصير مستقبلاً.
هناك : يتسع الخندق الذي يحفره (البلدوزر) الأسود، تصير القبور على امتداد الأفق العربي، يدخل العرب تاريخ اللجوء. القتلة يتعلمون أسرع من المقتولين أو المرشحين للقتل. واسمع الوقت يشحذ أسلحته.
هنالك: تزدحم مائدة العالم بأنخاب كثيرة من دماء الفقراء. الفقراء الذين لم يموتوا بعد يعانون تخمة الجوع، وفيما تجري الأحداث بشكل دراماتيكي، يعمل الأغنياء على تأخير ذروة التراجيديا العالمية.
وهذا ليس كل شيئ، هناك أيضا المرض، الشعور المتوتر بالألم الذي تزخر به هذه المسافة، والألم بالنسبة للشاعر نزهة عجائبية نحو الموت، حيث يكون كل شيئ تجربة في حياة الشاعر. حتى الموت (في المستشفى كانت الغرفة المجاورة قد لفظت ثماني جثث من بينهم طفلة في الخامسة من عمرها، كلهم أكلت لحمهم النار، وحين أنصت قليلاً كنت أسمع صراعهم النهائي مع الموت). إنها تجربة تجعلني أعتقد بعدم عدالة الموت، وأن الموت ليس سوى حيوان مجنون لا يملك غير قرون وأقدام قوية. وأتأمل – ملتهباً- في الرفاق الذين استشهدوا وأسأل: هل يمكن أن يكونوا قد ماتوا حقاً؟
لست مخبولاً، ولكن شعوراً ينتابني بأني سألتقي بكل الشهداء حين أمشي في شوارع الوطن، وأنهم لم يذهبوا الى الأبد. وغريب هذا الموت غريب.
وهذا ليس كل شيئ، ففي هذه المسافة أيضا كانت استعادة قصيدتيّ مارس 77 والبحث فيها عن ضوء ينير الخطوة التالية، لقد كان فيهما كثير من الضوء.
25
دخان البراكين يعلن عن البركان، ولكنه ليس بركاناً، يأتي متقطعاً متفاوت التدفق. وهذا ما ينطبق على قصيدتي مارس 77، والبحث في هاتين القصيدتين من قبل الشاعر لاكتشاف ما يمكن أن تبشر به، يؤدي توضيح الرؤية الفنية عند الشاعر وجسد الإمكانية الشعرية التي قد تحملها هذه التجربة. وهل هذا الدخان صادق الإشارة أم أن البركان خامد وليس هناك سوى حمل كاذب؟؟
هذه المسالة قد تكفل بالإجابة عليها الإنتاج اللاحق، ولكن الإضاءة المهمة التي يمكن للشاعر أن يستشفها من سلبيات تجربته، تكمن في عدد لا يحصى من التفاصيل التي من المحتمل جداً أن لا يوافقه القارئ على وجهة النظر النقدية فيها. هنا جانب من معطيات المراجعات المتواصلة التي كنت أمارسها لدخان البراكين.
في (ولقد ذكرتك) يبدو لي جلياً كيف أن الفارس القديم قد تغلب – فنياً- على الفارس الجديد. فقاموس الشاعر القديم ومفرداته قد جاءا في بعض المواقع بدون الإشعاع الجديد. ولغة القصيدة حين استعارت هذه المفردات عجزت عن إضاءتها بنكهة معاصرة حادة. الأمر الذي جعل صوت الفارس الجديد بالكاد يبدو في مساحة أكبر من مساحة الصوت الذي يفترض أن يكون أداة فنية فحسب. ذلك هو صوت الشاعر- الفارس القديم. ولعل مدخل القصيدة التقليدي المتوشح بقافية غير واثقة – فنياً- ساهم في خلق مناخ ماضوي، مما اثر في ذهن أحد الأصدقاء، ودفعه ليقتر كلمة "الخطوب" بدل كلمة "الحروب" معتقداً بأفضليتها للسياق، في ( ومن جراح لا تداويها الحروب).
و فات صاحبنا أن المسألة ليست رفع كلمة ووضع أخرى، فبالإضافة الى كون كلمة (خطوب) غير مشعة فنياً، فإنها ستكون بالفعل مسماراً كبيراً في النعش التقليدي الذي يحتضن القصيدة المسكينة.
ومناخ الفارس القديم التقليدي كان ضاربا أوتاده في نقطة أخرى، وهي القافية التي تبرز وتختفي بخجل، لا يدل على تردد الشاعر في استخدام القافية فقط، ولكن يدل أيضاً عل عدم الاستعداد الفني لدي هذه القصيدة، لأن القصيدة التي تعتمد تجربة شعرية لشاعر قديم، ينبغي لها في أكثر الحالات أن تكسر الشكل الفني للتجربة القديمة، وتبني شكلا جديداً، ليس بالضرورة لأن ذلك الشكل عاجز عن التعبير، ولكن لكي لا يؤدي استدعاء التجربة الشعرية القديمة روحاً وجسداً- الى مأزق يكون فيه الشاعر الجديد باهت الصوت، مشوش الصورة، وبالإضافة الى قافية الباء التي اعترضت مدخل القصيدة، نرى التلاعب الساذج بالقافية في (بيني وبينك غابة الطعنات والقانون والقاضي/ ولقد تعلمت القتال على يديك، فلن تمر الخيل إلا فوق أنقاضي).
هنا يبدو الشاعر فارساً تقليدياً أولاً. ويبدو المقطع كأنه قادم لكي ينهي القصيدة ثانياً. ويفضح لنا كم هي انتقالات غير موفقة تلك التي حاول بها الشاعر ربط مقاطع القصيدة ثالثاً.
التدفق في القصيدة، إن كان قوياً موضوعياً فهو من المؤكد لم يكن متسقاً فنياً. وهذا واضح في عدة مواقع، مثل الانتقال من نهاية الشطر المذكور قبل قليل الى ( أيا امرأة تخيط ..)، والانتقال في المقدمة من ( .. فاخترعت الحلم كنتِ في دمي) الى (ولقد ذكرتك والرماح حديقة أزهو بها).
وهذا أدى الى بناء فني أقرب الى التفكك، ومن الممكن أن يعتقد القارئ الحصيف بأن القصيدة لم تتعرض لنظرة متأنية من الشاعر قبل أن يعتمدها. بحيث يزيل منها شوائب الولادة الأولى، لأن الطفل حين يأتي الى العالم في اللحظة الأولى لا يبدو جميلا كما هو بعد أن يتم تنظيفه وغسله وتخليصه من شوائب العالم الذي جاء منه تواً، وسيكون الاعتقاد مشروعاً من قبل القارئ.
أذكر هنا تجربة ممتثلة لهذه التجربة، حيث كانت قصيدة (سقوط البكائيات الواقفة) التي نشرت في مجموعة (خروج راس الحسين من المدن الخائنة)، والتي استخدمت فيها موقفاً مضاداً لدعوة امرؤ القيس التي قال ها في مدخل معلقته (قفا نبك) حيث استخدمت نفس بنية ذلك النص للقصيدة، وكانت خاتمة القصيدة الجيدة كلمة (قفا نضحك..). والفرق أن التجربة حسب تقديري أكثر نجاحا من هذه التجربة. ولقد ذكرتك). حيث أن بناء القصيدة الفني كان متناسباً مع الموقف الجديد الذي يطرحه الشاعر، ولم تسيطر روح الشاعر القديم على صوت الشاعر القديم، الأمر الذي لم يتوفر في التجربة الجديدة.
في (سيدتي نشتاق) سيطرت الموسيقى الهادئة الى درجة الرتابة، بحيث بدت إيقاعيا لا تناسب حرارة الانفعال العاطفي الذي تعبر عنه الكلمات، وحين لا يتناسب اللحن مع معاني الكلمات تعاني الأغنية من الخلل الأساسي. وأعتقد أن هذا قد حدث بالنسبة لهذه القصيدة.
اللعبة الشعرية مغرية، ولكنها ليست مأمونة في أغلب الأحيان، لذلك سيبدو هذا المقطع (فأنت أغاني العرس/ النجمة في اليأس) جميلا للوهلة الأولى بالنسبة للشاعر والقارئ أيضاً. ولكنه يشير الى ضعف الشاعر أمام إغراء اللعبة الشعرية. ومثل هذا المقطع يؤدي بالشاعر الى ما يمكن تسميته بالرقص المنفرد إذا صح التعبير. هذا النوع من الرقص يشط بالشاعر الى خارج القصيدة روحاً.
ولا تختلف هذه النظرة كثيرا عند المقطع (منعوا الحلم عهن الحالم.. الخ)وسيكون جميلا جداً لو أن الشاعر تخلص من ( أخذونا من سجن البحر الى سجن الصحراء) ليحقق:
التخلص من الزوائد التي جاءت في شكل تكرار لا يضيف عمقاً.
تفادي الوقوع في التقريرية والمباشرة اللتين تعاني منهما هذه التجربة.
تماسك أكثر في بنائية القصيدة..
ماذا يقول دخان البراكين عن اللغة الشعرية؟
26
(حين تتسع الرؤيا تضيق العبارة)
كم هي قادرة على التعبير هذه الكلمات التي قال (النفريّ) أنها تجسد العذاب الذي يحمله الشاعر معه طوال رحلة البحث عن لغة شعرية جديدة، كما يبحث الطفل عن الحلمة، وكما الجناح عن الريح.
إن اتساع الرؤية عند الشاعر هي التغلغل المتواصل في الواقع، والتنامي المكتشف لجذوة الأشياء، والسفر الدائم في تأجج النيران، وكلما توغل الشاعر في هذا السفر، بدت اللغة أضيق من المعاناة والمعاني. اللغوية فإذا اتكأ الشاعر على لغة شعرية واحدة، وركن إليها قانعاً فسوف يقول لكمات مكررة ويجتر القشور اللغوية ويعجز عن الوصول الى اللب. وستصاب محاولاته التعبيرية بالكساح. وإذا لم يهتم الشاعر بنفض الغبار التراثي عن لغته (ذلك الغبار الذي تفرزه اللغة ذاتها) تموت بطيئاً داخل البوتقة الشعرية التي يتقوقع فيها الشاعر كالحلزون الذي يولد ولا يلد.
تكبر معاناة الشاعر فيبحث عن الصوت القادر على حمل هذه المعاناة. (صوت بحجم الفم) على حد تعبير الشاعر شوقي بغدادي. والرؤيا هي المعاناة + الشاعر. إذا التقى الشاعر بلغته القادرة. يكون قد اتجه لتحقيق طموح الشعر منذ الأزل: إعادة تشكيل العالم بالشعر (يبني الكون ثانية). وإعادة خلق العالم طموحٌ لا يتحقق بل ضيقة.
لقد كان واضحا – بالنسبة لي على الأقل- أن لغة (دخان البراكين) لغة ضيقة الى حد ما، لغة لا تسعني. فهي تنتمي الى لغة القصائد القديمة بصورة أوب أخرى. وعلاقتها بالمستقبل يتمثل فقط في الإرهاصات التي تلمع قليلا في ثنايا المفردات الطموح الذي تحمله هذه الدفقات المرتعشة: كم هي صغيرة هذه الكأس/ فهِمتُ أبحث عن كأس تستوعبني/.
البحث عن لغة جديدة، وعلاقات لغوية جديدة، كان هاجساً من الهواجس التي رافقتني بالحاح في الفترة بين مارس وديسمبر 77. ويقيناً أن اللغة الشعرية الجديدة إذا كانت هماً وهاجساً وهياماً عند الشاعر، فانه قادر على التحول دائماً كطائر الفينيق، يطلع من رماد حرائقه، ينفض أجنحته ويحلق.
27
ماهي اللغة الشعرية؟
أجد من الضروري أن أقرب هذا المفهوم النقدي للقارئ لكي تتماسك الصلات بينه وبين فهم التجربة الشعرية لأي شاعر كان. قلت (أقرب) هذا المفهوم، لأن مثل هذه المحاولة جدير بالشاعر أن يقصر في الحديث عنها. لأنه جزء منها، بعكس الناقد الذي سيكون مهيئاً أكثر من الشاعر لمثل هذه المهمة.
المواد الأولية إلي تتكون منها اللغة الشعرية هي:
- حشد لا متناه من الأدوات الفنية، زائد الملكات الإبداعية التي يتمتع بها الشاعر، والي تُبسَّط كثيرا فتدعى (موهبة).
- أما الأدوات الفنية كثيرة ( وليس من أهمها): المفردة+علاقات المفردة بالأخرى+ الموسيقى+ الصورة+الرمز+ المعنى بكل درجات الظل فيه+ لب الكلمة وقشرتها+الأبجدية التي أرهقت منذ امرئ القيس حتى اليوم+ الريح والحجر والانتظار والألوان والتعب والضوء و التنهيد والأشرعة والناس والتراب و ...
كل شيئ ، كل شيئ. إنها كل العالم. الشاعر يحول العالم لغة باللغة، أو كما قال الشاعر الأمريكي أزرا باوند" الشعر هو اغتصاب العالم باللغة".
هذه اللغة الشعرية التي يبحث عنها الشاعر منذ الأزل، إنها العالم كله + الشاعر إبداعا. وإذا نحن تمكنا (بصعوبة) تسمية الأدوات الفنية للغة الشعرية، فإننا لن نصل حتى الى الفشل إذا حاولنا تسمية ذلك الشيء الغامض كالوردة، الذي يقال عنه (الموهبة المبدعة).
انه السر الغير قابل للتفسير.
28
"أنا الحامل عبء الكتابة
سأمجد الكتابة"
سان جون بيرس
29
مرة صرخ جان جون بيرس :" ضيقة هي المراكب"
فسألتُ النورس والبحار عن البحر
سألت، سألت ، سألت
فما جاوبني
وحين اتسع الكون، ضاقت كل لغات الحب بأشجاني.
فتيقنت بأن سان جو بيرس كان محقاً. وهمت أبحث عن لغة تستوعبين.
وكان الشعر صدرا واسعاً أضاعني زمناً. فحين كتبت (الوصية) تلذذت بشعور الطفل وهو يعثر على الحلمة.
وأعتقد بأني استعدت توازني الذي فقدته طوال الفترة السابقة، والذي فشلت في استعادته أيام (دخان البراكين) وجاء فرحي (بالوصية) مختلفاً عن فرحي (بدخان البراكين). أرح هناك كان غروراً، والفرح هنا جاء ضميرياً.
لكن (الوصية)، كيف ، ولماذا؟
غرابة العنوان جعلت عدداً من الأصدقاء يطرح أسئلة استغرابية. وأدرك تماماً أن عنوان القصيدة جاء غامضاً، لذلك كنت أقول بأنه عنوان مؤقت. ليس لأنه كذلك، ولكن لكي أتفادى شرح مسألة غير قادر على تفسيرها.
ليس هناك عنوان في العالم مناسب لهذه القصيدة غير هذا العنوان. انه مثل كعب (أخيل) في الأساطير الإغريقية. لن يموت (أخيل) إلا إذا استطاع المقاتل أن يصيب الكعب بسهمه. جزء صغير في الجسد لكنه قناة الحياة والموت.
كذلك (الوصية) بالنسبة للقصيدة. إذا أفرغنا كلمة الوصية من المفهوم السائد القائل بأن الوصية هي النص الذي يتركه الميت للأحياء، نستطيع أن نتجاوز المعاني السابقة للكلمات. وصعب جداً أن أوضح لماذا، وماذا تعني كلمة الوصية، ماعلاقتها بالقصيدة..الخ. فبالإضافة الى أنني غير مؤهل للتفسير هنا، فإنني حقيقة لا أستطيع التعبير عما أحسسته تجاه هذا الموضوع. فان هذه القصيدة تمثل حلقة وصل مهمة بين (الدم الثاني) كختام مرحلة مهمة، شعرية، شعورية، وبين ما جاء من قصائد بعد الوصية كمرحلة شعرية – شعورية جديدة.
وأخشى أنني سأقع في التبسيط الذي (يعقد) الأمر إذا أشرت بأن هذه القصيدة قد حملت (الوصية) من (الدم الثاني) وما تمثله جملة وتفصيلاً، فناً ومعنى، الى كل ما سوف يكتب بعد ذلك.. فناً ومعنى.
هل قلت شيئاً مفيداً.
يساورني بعض الشك في ذلك.
في (الوصية) قدر كبير من العذاب. لا أقرر ذلك، ولكنني أعانيه حتى الآن. ومن هذه القصيدة بالذات. لم أعاني عذاباً من قصيدة كما عنيت من (الوصية). ومحور أسباب العذاب هنا هي جملة وردت خلال القصيدة حمل معنى من أكثر المعاني تعقيداً في الوصية:
(سمعت العزف على قتلي .. من يقتلني).
كلمة (من يقتلني) هنا تحمل بحق معنى معذِباً، ومعذَباً أقرأها في ذات اللحظة. (من يقتلني). مازلت حائراً في حقيقة الصيغة النحوية التي أقرأها بها. هل هي صيغة السؤال، أم صيغة سؤال يحمل نكهة التحدي، أن أنها صيغة سؤال المتمني الذي يطلب كن يستنجد برصاصة الرحمة لكي تخلصه من عذاب حالة الاحتضار الطويلة، أم أنها تحمل صيغة غامضة لا اعرفها؟
لا اذكر بالضبط حالة لحظة الكتابة، كيف جاءت الصيغة وما هو مصدرها، ولذلك وقعت في الحيرة حين وصلت عندها وقت إعادة القراءة. فالجمل التي تأتي قبلها وبعدها ل تفسرها لي كثيرا، (والشمس صديقة أحزاني). تأتي بعدها ولكنها تزيد الأمر غموضاً.
وسيكون عذابي مضاعفاً إذا اقتنع القارئ بصيغة (سؤال التحدي) لهذه الجملة، ولكن القارئ الذي يكتشف شيئاً لم اكتشفه سيكون قد حقق فعالية عجز عنها الشاعر. وحين يعجز وينجح القارئ ستولد القصيدة من جديد. فأنا مع الشاعر الذي يطمح أن يكون لقصيدة من المعاني بعدد قرائها.
سبع مرات تكررت كلمة (كئيباً) في هذه القصيدة. وقصيدة في حجم (الوصية) كثير عليها هذا التكرار. أليس بإمكان الشاعر أن يخلق الكآبة كمناخ من خلال الصورة بدل أن يقرر ذلك سبع مرات؟
أسأل. ولكن بعد أن صارت القصيدة بعيدة عن متناولي. لأن تفادي مثل هذا التكرار لا يمكن حدوثه إلا في مستقبل القصائد الأخرى.
بالرغم من أن القافية واحدة طوال القصيدة، إلا أنه لم تبرز من حيث بنائها الإيقاعي قريبة من العلاقات الموسيقية للقصيدة التقليدية. وهذا البناء الإيقاعي جديد بالنسبة لي. فلم تتوحد القافية في قصيدة لي منذ (خروج رأس الحسين ....) حتى (الدم الثاني).
ولعل تجربة ( دخان البراكين) في لعبة القافية المرتبكة كانت الضوء الأول لما اتضح أكثر في (الوصية) ولما سوف يتأكد أيضاً في القصائد التالية.
(الوصية) تخلصت من أهم عيوب (دخان البراكين)، وهي المباشرة وتفكك البنية والارتباك الهارموني. أرجو أن يكون ذلك صحيحاً.
30
قال أفلاطون :(" إذا تغيرت الموسيقى اهتزت أركان المدينة".وقصيدة (كليم الماء) وضعتني في مواجهة تجربة جديد بالنسبة لي من الوجهة الفنية، فقد كانت القافية في هذه القصيدة إيقاعا متميزاً كفيلاً بأن يحدث خللا في أركان مدينتي الشعرية. فان القافية التي بدت تتململ منذ (دخان البراكين) استطاعت هنا أن تفرض نفسها بقوة، لكن بلطف وليس بوحشية. ولعل فعل الأمر في (تدفق لتفتح للشعر قافية وتموسق وزناً) لم يأت عفوياً ومن غير دلالة. لأن القافية بالفعل قد لعبت دوراً لا يستهان به في تفجير البركان الشعري الذي لحق (كليم الماء).
هاجس هذه القصيدة (مضموناً) كان يتحرك عندي منذ أيام (دخان البراكين)ولكنه وقتها كان قوياً فيما كنت ضعيفاً. فلم يتجاوز الهجس.
وإذا جاز للشاعر أن يسمي قصائده المحورية، فان (كليم الماء) تمثل محوراً من محاور المرحلة الشعرية الجديدة التي أعيشها، ويمكنها أن تقيم حواراً جيداً مع (الدم الثاني).
إن القافية بالنسبة للشاعر المعاصر منطقة مليئة بالمحاذير و الأخطار، أو هكذا يقال. وأذكر حين بدأت إحدى قصائدي القديمة جدا (أحبيني) ملتزما قافية النون، فشلت في أن اعبر بواسطة هذا السور، فاعتبرت أن العيب في القافية لأنها لا تستوعب ما أريد التعبير عنه. (كنت مغرورا صغيرا وقتها).
فواصلت القصيدة خارجا عن سور القافية الواحدة، وحتى الآن لا اشك بأن (القالب) الموروث عاجز عن حمل معاناة الإنسان الجديد. ولكن القافية ليست قالباً، إنها أداة من أدوات التعبير، ولأن تجربتي الصغيرة.. مازالت صغيرة، فهناك عدد كبير من الأدوات الفنية التي لم أستفد من فعاليتها، قديمة أم حديثة.
وقد قالت لي تجربة مظفر النواب: إن في القافية سطوعاً بإمكانك أن تكتشفه. وحملت هذه اللفتة بجدية، وهمت بالرقص الذي استطاعت القافية أن تخلقه في داخلي، ولكنني كنت خائفاً من المحاذير التي ترافق القافية. فالتعامل مع القافية يستدعي قدرة لتحويل هذا السور الى سوار، وسوار جميل أيضاً. فلم تخل (كليم الماء) من نقاط الضعف التي أدركتها مباشرة. فقلت: حسناً، انه اللقاء الأول مع قافية من هذا النوع، ولابد أن يشوبه بعض الارتعاش، ربما خجلاً، وربما مفاجأة، ولكنه ليس فشلا ذريعاً على كل حال.
31
إن الثغرة التي يشكو منها البناء الفني في قصيدة ( كليم الماء) تتركز في لحظة الانتقال من الصوت الأول الى الصوت الثاني، حيث يبرز صوت ثالث، لا أجد له الآن مبرراً فنياً قوياً، وإن كان المبرر الموضوعي لا يستدعي مثل هذا الصوت البارز، مثل النشاز الموسيقي في السيمفونية. الصوت الثالث هو:
( تفجر كالطلع صوت يكالم ماء التحول يا سيد الماء ها أننا قد سمعنا).
هذه الثغرة ليست مستعصية على التعديل، ولكن تعديلها يستدعي إضافة بناء شعري جديد يتمثل في:
أن تحذف هذه الجملة بكاملها.
تحويل الجزء الأول كصوت الى مقطع منفصل، وكذلك الجزء الثاني كصوت جديد.
- تصير القصيدة عبارة عن مقطعين، كل مقطع يمثل صوتاً مستقلا.
مثل هذا التعديل يظل في حدود الإمكان فقط.
إن جملاً مثل ( وليس يجير سماسرة الموت في ساعة الهجم حصن إذا ما وصلنا)، تحمل قدراً من المباشرة النثرية ما كان لهذه القصيدة أن تقع فيه لولا الانسياق وراء المعنى بدون صورة شعرية، والتردد في مواجهة تجربة القافية.
وهذه الجملة بالذات وقعت في تعثر لغوي لأنها تحمل بذرة الخلل أصلاً- تعرضت للتعديل في وقتها-، وأعتقد أن جملاً مباشرة وتقريرية أخرى يمكن العثور عليها إذا أمعنا النظر في القصيدة.
مازلت أجد أن جملة ( تكن نصف كونا) أجمل شعرياً من (كونٍ)، وتمسكي هنا بأن تكون (كونا) ليس ارتباطاً بالقافية، ولكن في مثل هذا الموقف ستفقد كلمة ( كون ) القدرة على الإضاءة والتوهج إذا ما وضعت في صيغة "الجر". أما (كونا) فأرى أنها تحمل سحراً شعرياً، ببنيتها الإيقاعية، لا أستطيع تفسيره. لكنه الجمال السري الذي يكمن في الشعر. وأعتقد أنني في حالة نشر القصيدة، ستظل كلمة (كونا) منصوبة بإطلاق، ومحاطة بهلالين، إشارة الى التحفظ اللغوي. وإلا فإنني سأموت وفي قلبي شيئ من (كونا).
في (كليم الماء) صارت الموسيقى رقصاً، أو هكذا حاولت، ولعل أهم ظاهرة إيقاعية في موسيقى (كليم الماء) هي الإيقاع الداخلي بين القوافي أو ما يمكن تسميته –تجاوزاً- "بالقافية الثانية"، مثل:
(كالجحيم الحميم) + (فيا أيها الماء يا راية في الطريق، ويا سيدا في الحريق+ بأوسمة لا تقاس. خل عنك النعاس).
هذه الإيقاعية بدت هنا باهتة، لا تكاد تبين، ولكنني أعتقد أنها ستتطور في القصائد اللاحقة، كما سنلاحظ، ويمكنني القول بأن هذه الظاهرة إفراز فني لتجربة القافية أساساً. لأن هيامي بالإيقاع يجعلني لا أملك الحماس لأي قصيدة تغيب عنها الموسيقى الواضحة والمناسبة. فإنني لا افرق بين الشعر والنثر سوى بالإيقاع.. بالموسيقى. والقصيدة عندي تولد إيقاعا قبل أن تبدأ رحلة الورق، أعني المعنى، وأكتشف الموسيقى على طريقة مايكوفسكي، حيث كان يأرجح ذراعيه وهو يسير ويكتشف إيقاعه أثناء المشي، لذلك تأتي القصيدة غناء ورقصاً في نفس اللحظة، ومرة قال بيتهوفن: "إن العالم موسيقى".
(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)، هذه هي الخلفية الموضوعية التي كتبت فيها (كليم الماء). ليست كمسلمة قرآنية، ولكن كمعنى حضاري، وبعد واقعي لمضمون القصيدة.
ترى هل نجحت في الاستفادة من هذا البعد؟
32
حين لمح جورج شحادة (الكاتب) كلمة الطفل تحاول أن تطير، همَّ لكي يفتح النافذة لها. أما أنا فقد فتحت الشعر لكي يطل الأطفال. وقلت : (هيئوا غبطة للطفولة).
وكان نجاحي في هذه القصيدة (كبيراً)، مثل نجاح من يحاول وصف الملائكة. !!؟
هل يمكن ذلك؟؟
كيف يمكن تحويل
الحلم الى كلمات؟
هذه هي المسألة. فان هذه القصيدة ولدت من الحلم أصلاً. لذلك جاءت أقرب الى "قصيدة الموضوع" منها الى "قصيدة التجربة". ولم تشفع لها الصور الشعرية المغزولة بغزارة. لأن الأطفال يظلون أكثر جمالا في الأحلام منهم في الكلمات.
المحذور الثاني الذي جعل القصيدة أقرب الى (الموضوع) منها الى (التجربة، أنها كانت أيضاً محاولة لا شعورية لتعويض الفشل الكبير الذي وقعت فيه قصيدة سابقة في شتاء 75، وهي قصيدة (لغة للطفولة). التي سبق الحديث عنها في مكان سابق. بالطبع لا يمكن المقارنة بين القصيدتين، ولكن (هيئوا غبطة للطفولة) في الوقت الذي طمحت لأن تحتضن أطفال العالم من خلال طفل الشاعر، فإنها ضعفت أمام السيل الجارف من الصور المتلاحقة، التي تصور الجو الخيالي المتصل بحلم الشاعر. وهذا أدى الى إطالة غير مستحبة، أو هي غير مناسبة لقصيدة من هذا النوع.
وللقافية في هذه القصيدة فعالية مختلفة عن فعاليتها في قصيدة ( كلم الماء). فهنا تنويع متفاوت القوافي، وأعتقد أن السيولة في غزل القافية بدت هنا أكثر وضوحاً من (كليم الماء)، والعناصر البنائية لهذه القصيدة أكثر غنى الى درجة أنها تصل الى نوع من الترف الفني في بعض المواقع، ربما كان هذا ناتج عن نقطة ضعف الشاعر أمام الإيقاع والاستسلام له، ومثل هذا الضعف كفيل أن يسبب للشاعر مآزق فنية في المستقبل.
هل كتبت هذه القصيدة للأطفال، أم عن الأطفال؟
هذا سؤال، رغم بساطته الظاهرة، إلا أنه دقيق ومهم، لأنه يشير الى مسألة فنية في صميم القصيدة، فالقارئ يلتقي بالصور البسيطة التي تناسب الأطفال حيناً، ويصادف في نفس الوقت بصور أقرب الى التركيب الذي لا يناسب الأطفال. ولأن المناخ الرئيسي للقصيدة مناخ طفليّ، فان القارئ يحار في مواجهة هذه الظاهرة.
وحين طرح أحد الأصدقاء سؤال بهذا المعنى، شعرت كم هو محرج موقف هذه القصيدة حين تواجه مثل هذا السؤال. وفي الحقيقة أنني لم أكتب هذه القصيدة للأطفال، ولكنني أيضا لم أكن قاصداً أن أكتب (عن) الأطفال. ولا أدري الى أي حد يمكنني الزعم بأنني كنت أكتب (كطفل).
33
فيما كنت أكتب القصيدة كانت تنفجر في داخلي قصيدة جديد. كان البركان يتصاعد مثل الحب اللامتناهي الذي تحدث عنه "رامبو". وكنت مذهولا لما يحدث لي. لم أكن معتاداً على هذا الأمر. عادة كنت بين القصيدة والأخرى أستغرق زمناً قد يصل الى عدة أشهر، أما هذه المرة فما يحدث لي كان غريباً جداً. كما لو أنني في تفجرات مستمرة. وقد خفت فعلا، خفت أن يغلبني الشعر ويصرعني من حيث لا ادري. كنت في أسوأ حالاتي الصحية من جهة، والشعر كان يضاعف إرهاقي الجسدي.
من الصعب أن يشعر الإنسان بأي الأمرين أفضل: أن يموت نائماً أن يقضي مستيقظاً. ولكن الشعر علمني أن الموت في اليقظة أكثر جمالا. لذلك سهرت ليال طويلة أصارع رفيقين لدودين هما الشعر والاعتلال البدني. لقد كان شيئ لا يحتمل ولا يصدق أيضا. وكنت في لحظات نادرة (أرى) بعض الكلمات تتوهج في ظلام الزنزانة، كما لو كنت في حلم.
وعادة الكتابة في الظلام الدامس تنمي لي قدرة داخلية على السبر والرؤية عند الشاعر، رؤية توشك أن تصير رؤيا.
قصيدة (التجليات) جاءت لكي تعبر عن عذابات الشاعر بأبعادها المتنوعة والمتداخلة، وكانت مرحلة مثقلة بالعذاب الفني في نفس الوقت.
34
القافية، مجدداً، هي نقطة ضعف قصيدة (تجليات العاشق). وهذا ما جعلني أتردد طويلاً قبل أن أكتبها. فهذه القصيدة الوحيدة التي لم أكتبها في تدفق واحد متواصل ومستمر. ولم تنجز في ليلة واحدة كما في القصائد الأخرى. بل احتاجت لليال عدة وأياماً أيضاً. وكنت خائفاً من أن تكون القافية قبراً جميلاً للقصيدة.
وهياماً باللام مرفوعاً، كما لو فتاة صاغها الخجل، قلت: ليكن. إنها القصيدة التي ستعلمني أشياء جديدة، وإذا لم اكتبها الآن ستظل تؤرقني. خاصة وأن التجربة التي ولدتها تختصر تاريخاً دامياً للشاعر والإنسان وصيغة الجمع.
حملت القصيدة سلبيات القافية الى حد لا يمكن أن احتماله (في حالة نشرها). ومن هذه السلبيات الوقوع في الإسهاب والزوائد التي لا تضيف الى المعنى عمقياً. ولكنها توفر قافية فقط. وهذا ينطبق – مثلاً- على ( ولا ميزانها في الحب يحتمل، ولا عشاقها لاموا ولا عذلوا). وجمل كثيرة على هذه الشاكلة يمكن اكتشافها بيسر. ولعل وحدة القافية طوال القصيدة أرهق البناء وهلهله كثيراً. وفوّت على الشاعر فرصة الحركة الحرة.
أما تقسيم القصيدة الى سبعة مقاطع ذات عناوين منفصلة، فهي محاولة لإعطاء التجربة آفاقا رمزية تتصل بالتجربة "الواقعية" التي يعيشها المتصوف. وكسر التصاعد الى الذروة الغيبية، بحيث تحولت الذروة الى فعالية مادية تتمثل في (الترجل) وأعتقد أن القصيدة ستأخذ جمالا مختلفاً فيما لو أن كل مقطع جاء في قافية مختلفة، بحيث تقترب القصيدة من بناء هارموني أكثر حيوية.
في مقطع (التجلي) لمحة مفتعلة بوضوح، تلك التي تبدأ بـ(تعال لنا وكن رباً.. الى .. سأمناه، لعل إلهنا الصنميّ يسأمنا ويرتحل).
فمثل هذه المعالجات لم تعد تملك البريق الفني والفكري الجديد. وليس جدير بالشعر أن يقع في هذا المحذور. فإذا كانت مثل هذه المعاني تطرب القارئ للوهلة الأولى، فإنها لا تمثل إبداعا شعرياً، ولكنها نثر خالص.
أقول، نثر خالص، لكي أوضح بأنه ليس كل ما يصاغ وزناً يمكن اعتباره شعراً. فالنثر في القصيدة هو المعنى الساذج الذي لا يحمل نكهة ونقاء وجمال الإبداع الشعري. وفي (تجليات) شيئ غير قليل من النثر.
قالت القصيدة في كلمتها الأولى حقيقة وقع فيها الشاعر بشكل أقرب الى السلبية. قالت ( الشعر إغراء يقيدني)، ولم أكن أحب القيود. ولكن قيود الشعر أساور حنان. تدلهت عشقا في حبها. لذلك أستحق ما ألاقيه من فشل بين الوقت والآخر.
كانت القصيدة تمريناً لغوياً مهماً. ففيما كنت أغزل الصور الجميلة، كنت أيضا أكتشف علاقات لغوية جديدة، تتفتح عفوياً حيناً، وقصداً حيناً آخر. لقد كانت هذه القصيدة بامتياز، قصيدة صور.
وفي (تجليات العاشق)، كثير من النحت والصناعة، لأن القافية كانت فارساً شجاعاً .. لكنه أعمى. وحين قال صديق لي بأن أقرأ القصيدة على الساحل، ثم أُلقي بها مباشرة في البحر، كان واضحاً أنه يعني بأن القصيدة لن تحسن العوم. وكان صادقاً بالفعل. وقد تذكرت (ايزامبار) الذي كان قد كتب عن إحدى قصائد (رامبو) :" وهكذا يا صديقي فانك ترى أن كل إنسان يستطيع أن يكتب سخفاً".
35
ربما يكتب الشاعر القصيدة وهو يهجس بأنها ربما كانت قصيدته الأخيرة. فيحاول أني قول فيها كلمته الأخيرة.
وبعد أن ينتهي منها، يشعر انه لم يتمكن من قول ما يريد، أو كل ما يريد بالذات. فيستعد لكتابة قصيدته التالية .. والتي ستكون الأخيرة أيضاً.. كما يبدو.
قصائد الشاعر محاولات فاشلة. هذا الفشل الذي سيدفعه في كل مرة لكتابة قصيدته التالية. ربما لن يكتب الشاعر قصيدته "الناجحة" إلا بموته. لكأنما موت الشاعر هي الإضاءة الساطعة لكل قصائده "الفاشلة". وموت الشاعر أيضاً هو المفتاح الوحيد لعدد كبير من الغوامض في شعره. والشعور الدائم لدى الشاعر بأن كل قصيدة يكتبها تحمل قدرا معينا من الفشل، هذا الشعور الغامض بدوره، هو الذي يدفعه لمحاولته التالية. وربما يبدع من جهة ويفشل من جهة أخرى. مثل هذه الأمور الحميمة التي تبدو للمرء هذيانية، هي إحدى أهم عناصر تكوين الإبداع الشعري المتجدد القادر على العطاء. فالشاعر كائن غير قنوع. ففي الشعر، القناعة كنز لا ينفع. فحين يعتقد الشاعر أنه كتب قصيدته الناجحة يكون قد فقد هاجس الطموح اللجوج الذي لا يهدأ. وبالتالي توقف عن الحلم.
36
قال لي سان جون بيرس: (لا تخف من رؤياك، فطمأنتني الدهشة، وأبقيت عين مفتوحة لهذه الخطوة العظيمة).
تداخلت في أفق الصعلوك المكابر "مالك ابن الريب" وكتبت قصيدة (الشهيد). كان حضور ابن الريب ملتهباً في روحي فيما كانت القصيدة تتخلق في الكتابة. وكنت من حقل العصافير قريب.
رؤياي النارية لم تعد تهتم في حالتي الصحية والاعتلال البدني المتواصل. ولكنها تفتح طريقاً للنور.
كان (مالكاً) يرثي نفسه في أهم وأجمل قصائده. ففتحت معه حواراً، وتفاهمنا بشكل جيد.
بناء القصيدة الفني يقوم على لحظة زمنية قصيرة جدا، هي ما بين الانثناء والانحناء ساعة الاحتضار. حيث يختصر في هذه اللحظة تاريخا تراجيدياً للمفر الذي هو في صيغة الجمع. وبقدر ما تكون القصيدة قد نجحت في تكثيف وتركيز التاريخ العريض في لحظة واحدة، تكون قد حققت نجاحا فنياً. سيبدو وضحاً هنا كم هي وثيقة العالة بين المضمون والشكل في العمل الفني، ويبدو أيضاً المعنى في المفهوم النقدي الذي يقول بأن المضمون هو الذي يخلق شكله الفني المناسب.
الصوتان في القصيدة يمثلان المعادلة الموضوعية الفنية في التجربة. ولا يقلل من أهمية الصوت الذي (يصغي) كونه لم يأخذ مساحة أكبر من " قال لي وانثنى/ قال وانحنى". لأن الصوتين أصليان في التجربة، وهما عبارة عن تنغيم إيقاعي في المعنى يطمحان في بناء فنية القصيدة من خلال علاقتهما الجدلية إنسانيا.
هنا، يتفجر الشهيد – كتجربة- صعلوكاً عصرياً لا يموت في الاستشهاد. ولكنه يمثل إشارة ساطعة لموت القاتل.
هنا، أيضاً، أيهما صوت الشاعر؟ أهو الصوت الأول أم الثاني؟
من الصعب الاقتناع بأن الشاعر "يصغي"، وكذلك واقياً نرى أن الشاعر لم يستشهد. والمسطرة لا تنفع في هذا الموقع للفصل بين الذات و الموضوع.
الى حد ما، يمكن الاقتناع هنا بأن أجمل رقصات البجعة هي الرقصة الدموية في لحظة الموت.
37
هيامي بتجربة (طرفة بن العبد) الإنسانية لا حدود لها، وعلاقتنا الرؤيوية قديمة. في عام 71 بدأت العلاقة بيننا تأخذ شكل الكتابة. وعام 73 صارت شعراً، حيث (تحولات..). وفي (اشراقات..) الجديدة تواصلت الرؤية. ولعل الشكل الذي أخذته القصيدة كان محاولة لموازاة اللحظة الواقعية التي يعيشها الشاعر وهو يفصد دمه، ويرقب القطرات تسيل فيأتي الشعر متفصداً على شكل مقاطع صغيرة، وكانت القطرة الأخيرة من الدم.. توازي (أو بالعكس) المقطع الصغير في ختام القصيدة (لا تثقوا بحياد الماء).
يبدو أن طرفة بن الوردة لم يزل قريبا مني فنياً، لذلك فانه لم يترك لي مجالا للتحديق من شرفة الأفق.
إنني أتبع نصيحة الشاعر المتصوف (النفري) الذي قال :" انس ما قرأت ، وأمحو ما كتبت". لكي لا اكرر نفسي، ولكي لا أهادن كلماتي. وأعتقد أنني سأنسى أخيراً كل شيئ .. وأكتب.
38
(زهرة الوقت)و (اشراقات) تنويع شعري على العزف الرئيسي للتجربة الفنية الراهنة. القافية هنا لم تضمحل تماماً، لكنها تنمو وتتبلور بشكل ما. وأستطيع القول أنه لولا تجربة القصائد الأخيرة، لما جاءت البنية الإيقاعية في هاتين القصيدتين بهذا الشكل.
فيما كنت استعد لتدوين هذه السطور، داهمني الوقت مزدهراً. ومازالت المسافة بيني وبين القصيدة الأخيرة قصيرة، قصيرة جداً.
(آه، ليس الموت يقتلني)،
أكثر من صديق قال: هذه الآه تتكرر في كل القصائد. لماذا؟
فعدت اقرأ القصائد مجدداً باحثاً عن هذه الآه. وسألت : هل تدل الآه دوماً على حدة (الألموت) : أي الألم / الموت؟
لا أعتقد ذلك، قلت.
أحياناً يطلق الإنسان الآه لذةً أو شوقاً عارماً أو دهشة، لذا أعتقد بأن الآه عندي تأخذ دلالات وأبعادً مختلفة.
واكتشفت فجأة أن (زهرة الوقت) خلت من الموت بكل درجات الظل فيه . أن هذا مدهش حقاً. عبرت لأحد الأصدقاء عن دهشتي لهذه الظاهرة، طالبا منه عونا لتفسيرها. لكنه كان يتسلح بقسوة محببة، فتحداني أن أقدم له - وحدي- توضيحاً لما يمكن أن تكون قد مارسته هذه القصيدة ضد الموت، فأخفقت. وفيما أنا اقرأ القصيدة لاحظت أنها تختلف عن القصائد الأخرى، ليس بغياب هاجس الموت فحسب، ولكن بمفردات وصور شعرية مغايرة الى حد ما.
هل هذه القصيدة هي جواب حواري للمعنى الذي جاء في قصيدة سابقة ( حلم ونافذة ورؤيا في الغموض، معجزات، آه كم من شاعر أضحى نبياً، إنما الملل)
هل جاء الشعر (مثل برق أو براق )
كي يقول: (اقرأ بسم هذا الوطن)
أقول : هل ..؟!
39
"سموني الغامض، وكان حديثي عن البحر.
سموني الغامض، وكنت أسكن البرق، والراحات الكبيرة الضاحكة تفتح لي دروب الحلم الذي لا يرتوي"
هكذا تكلم سان جون بيرس
وحين "يتهم الشاعر بالغموض لا تنتفخ أوداجه غروراً، كما يعتقد البعض. ولكنه يصرخ مع مايكوفسكي بضراوة المفؤود:
"ها قد بدأ الجنون".
هاجس الوصول الى القارئ يمثل هماً مستمرا بالنسبة للشاعر. لكنه لا يلجأ الى شرح القصيدة لفهم القارئ، لأن محاولة الشرح تشابه محاولة معرفة سر الوردة، تفكيك وريقات الوردة تفصل التويجات، تحلل البذور، وتعرف (بعض) السر. لكنك تفقد الورد وعطرها في نفس الوقت. لست أدعو الى الجمال شكلاً، ولكنني أطمح في الجمال فعالية.
الشعر فعالية الشاعر في الكون.
والقارئ فعالية القراءة والبحث.
قال أحد الأصدقاء: لماذا صرنا نفهم عليك الآن أكثر من السابق.
أين الخلل سابقاً، هل عندك أم عندنا.
بالطبع هذا الطرح يختلف عن ذلك الذي قال: هذا هو الشعر الذي يجب أن تكتبه. فالطرح الأول يحمل بذرة الحوار، والثاني يسير الى تعسف الأحكام المسبقة.
مرة أخرى، لا اقر الرأي الذي يقول بأنني أصبحت واضحاً الآن. لأنني لم أكن غامضاً لكي أصير واضحاً. كنت (أحاول) الوصول الى القارئ، والقارئ الذي يحاول الوصول الى الشاعر كان يفهمني. ربما لم يجد البعض الوقت لمثل هذه الفعالية المشتركة، لذلك تبدو القصيدة (غامضة) لأنها ليست سهلة ومتاحة للعابر المتسرع الطارئ. ولم أكن مؤهلاَ لكتابة القصيدة السهلة، لأن شيئا في الحياة لم يكن سهلاً، إلا التافه. وليست الحياة تافهة ولا الموت. رغم ذلك كنت أطمح في أن اصل إلى ابعد قارئ – لا أعرفه- بواسطة الشعر.
40
من الوجهة النقدية، يمكننا القول أن لكل مرحلة فنية رموزاً محورية تشكل العناصر الرئيسية للبناء الشعري الذي يشيده الشاعر في مجموعة من قصائده. بغض النظر عن درجة النجاح و الفشل الذي يتحقق فيها. أحياناً يستمر الرمز في مرحلة أخرى، ولكن في تبلور مناسب مع المرحلة الجديدة. بل أن بعض الشعراء يمكن تميزهم برموز معينة، تأخذ ملامحها المكتملة مع التطور الفني للشاعر، متحمل الى القارئ أبعاد التجربة التي يعبر عنها الشاعر.
(الماء) هو "الدم الثاني" الذي يجري في شرايين القصائد منذ نهاية مجموعة (الدم الثاني) حتى القصائد الأخيرة. ويمكن اعتبار "كليم الماء" الذروة التي وصل إليها الماء رمزياُ، لكن...
ماذا يعني الشاعر برمز (الماء)؟
هذا السؤال يطلب الكثير من الشاعر. ويتغافل كثيرا عن الإمكانيات المتوفرة عند القارئ، وكما قلنا في البداية .. أن القارئ مشروع جيد للفعالية. لذلك فإنني ليس بوسعي أن (أقول) نثراً، ولكنني يمكن أن أخلق حواراً أكون فيه صوتاً ثالثاً، وداخلياً في نفس الوقت، وأصوغ لقارئ، عن طريق العلاقات، قارئ من تحولات الماء. رمز (الماء) في مواقف مختلفة لكي أقرب (فقط) القارئ من تحولات الماء.
وقت الحلم الأول: " من منكم يأتي ويرج حياد الماء؟".
الدم الثاني:
"انه الليل الذي حولني غصناً من النوم الى الماء، فصار الماء نار" + "حولني العشق شيئاً من النار، شيئاً من الماء" + "فقد علمتني البلاد الغريبة إيقاعها، أخذت من يدي مائي الأول المستريب، وأعطتني ماءً لأسرارها" + "وقفت بين شفرة الحب وأول القراءة، كانت يدي صديقة العشاق، كنت الشجر الخجول، وكان مائي طفلة الحقول" + ماؤك الدموي تاريخي" + "قال للماء: غير رؤاك" + " قال للماء: ضيعت مني دماً في الهواء" + "قلت من ينقذ الماء من لونه" + "هي الآن مرتاحة في ضميري تراوح بين الدماء وبين المياه. تعالي دماً آخراً سوف يقرأه الأنبياء".
كليم الماء:
توضأ بالنفط كل الملوك، هو الآن ماءٌ لهم، فكن في دمانا دماً ثانياً، ولا تسه عنا" + "فيا أيها الماء يا راية في الطريق، ويا سيداً في الحريق" + "يا أيها الماء يا سيدي".
اشراقات طرفة بن الوردة:
"لا تثقوا بحياد الماء".
الآن، يغمر الماء الكون رمزاً، ويحييه واقعاً..و.../ معذرة، فان فكتور هيجو يعترضني صارخاً : (لا تكثر الإيضاح، تفسد روعة الفن).
41
الطفولة:
الأطفال هم النقاء الخالد في أشياء الكون، وهم أكثر نقاء من الماء.
42
الحلم:
يصير الحلم رمزاً لأنه الاختصار الأليف لطموحات الإنسان المقهور على امتداد التاريخ والأرض.
لكن ما هو الحلم؟
شيئ يقوله الشعر ولا يقوله النثر.
يتفاوت هذا الحلم وضوحاً وغموضاً في القصائد بناء على الشكل الذي يأتي به السياق، ويتعرف القارئ على ملامح الحلم الذي يذهب إليه الشاعر، من خلال موقع هذا الرمز في القصيدة. ليست هناك تفسيرات جاهزة للحلم – كرمز- في الشعر.
مثلاً:
(فالحلم الشاهق سيدنا). ويأتي في قصيدة أخرى: (فالحلم سلاح ألبسه. إذن فالحلم الذي هو سيدنا وسلاحنا في الوقت نفسه، لن يكون سوى ذلك الذي يقترب من المعنى العظيم في كلمة "لينين": (الحالمون بناة العالم)، وفي تأكيده أيضا: (ينبغي أن نحلم). ويكون الرمز في الشعر متوهجاً إذا عرفنا كم هو شمولي ودافئ هذا الحلم الثوري في قلوب المناضلين، ترى هل يمكن الشعر لولا الحلم؟
الحزن أيضا هو " خضرة اليأس" التي يطلع منها الأمل، والحلم في حياتنا حزين لأنه اكتشف الأسرار التي غفلت عنها العقول الساذجة. الحلم إذا كان حزيناً فهذا يعني أنه واقعي. وأحزاننا تكون حالمة، لأن الشعر هو تجاوز الحيرة التي يخلقها الحزن المجرد عند الإنسان. "والحزن سيدنا" أيضاً في (الدم الثاني). يرتبط الحزن بالحلم، فيتفجر الأمل.
قال لي صديق: لماذا أنت حزين الى هذا الحد، هل أنت يائس؟
فشعرت أن هناك من يحرضني على الانسجام مع الواقع. لأن من لا يحمل حزناً في قلبه لن يجيد اكتشاف الواقع. عندما طرح ذلك السؤال، تلفت باحثاُ عن حصان تشيكوف لأحكي له كآبتي، فهاهنا شخص لا يفهمني.
43
لا يستمد القارئ فعاليته من ثقافته فقط، ولكن بالدرجة الأولى من احترام الشاعر له. فالشاعر الذي يتعامل مع القارئ باعتباره غبياً يتوجب تعليمه عن طريق محو الأمية وإسقاط قدرته العقلية من الاعتبار وصفعه بالأدب المسطح، السطحي، بحجة "لكي يفهم القارئ"، أقول : هكذا سلوك من شأنه أن يجعل الشاعر يكتب أشياء كثيرة، غير أنها لن تكون شعرا على كل حال.
في المقابل فان القارئ مادان يمثل هاجساً بالنسبة للشاعر، إذن عليه أن يكون فعالية حقيقية، بأن يتحول الى حركة فعالة نحو الشاعر، أي أن يخرج من حدود الراحة واللامبالاة، ولا يتبجح بالقول أن الشاعر تأخر قليلاً عن الوصول إليه.
القارئ الذي يحملق في إصبع الشاعر فيما يشير الى الشمس، يكون قارئاً أحمقاً، كما حسب تعبير حكمة صينية قديمة. أما القارئ الذي يصير آلو توليد للطاقة، هو الذي يطمح الى تحويل الشعر الى طاقة فعالة في الواقع.
ها هنا مشروع شاعر، يطمح في مشروع ناقد، أي يطمح في قارئ فعال.
44
(دخان البراكين)،
سيكون هذا العنوان، الآن، مناسباً لقصيدتيّ مارس77. "سيدتي نشتاق+ ولقد ذكرتك".
45
قلت في البدء، أن الظروف غير المواتية للحياة هي ظروف مواتية للشعر. وأعتقد أن المسألة الآن قد اتضحت أكثر. فأذكر أن الأسهل في سجن البحر قد عجزت عن تفجير الشعر. أما ظروف سجن الصحراء الصعبة فقد أعطت شعرا غامراً، والطريف في الأمر أن بعض الأصدقاء قد لاحظ هذه الظاهرة، وعبر عنها بطرق مختلفة، لافتين أنني صرت في سجن الصحراء أكتب في تدفق أكبر من السابق.
لم أكن مغتبطاً بهذه الملاحظة، ولكنني كنت قلقاً لما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا التدفق.
كنت أ\في حمأة المرض، بجانب ظروف السجن، ولكنني كما لو أنني أتلذذ –بلا ماسوشية- لكون الشعر لا يتوقف. وكلما زاد وجعي توهجت في الكتابة. لذلك أعتقد بأن الظروف غير المواتية للحياة، على الأرجح ستكون مواتي للكتابة. وسأكون مجنوناً لطيفاً إذا قلت: بأنه ما دمت أكتب شعراً جديداً في العذاب، ربما من المستحسن أن أموت. ولأن كل قصيدة هي هزيمة للموت كلما اقترب، سأكون قادرا على مقاومة الموت.
46
يمكننا أن نستخلص هذه السياحة الشعرية- النقدية. بعض ما يمكن اعتباره الجوانب التي قد تميز هذه المرحلة الفنية عن غيرها، وتعطيها شيئاً من التفرد. مثل:
- القافية- وحدة القافية في أغلب قصائد هذه المرحلة.
- بروز الصورة الشعرية كأداة تتطور وتساعد في بلورة مفهوم البناء الفني للقصيدة.
- الإيقاع الثاني، أو ما يكمن تسميته، تجاوزاً، بالقافية الداخلية، التي خلقت هارمونية جديدة بالنسبة لتجربتي الشعرية.
- الشكل المختلف، والمغاير في كل قصيدة من قصائد هذه المرحلة. بحيث تبدو كل تجربة قد اتخذت بناية فنية تختلف، بوضوح، عن القصائد الأخرى.
- التدفق المتصل في فترة زمنية غير متقطعة شملت كل القصائد، وهذه من ملامح الغير مألوفة – كما سبق أن قلت-بالنسبة لي في تجربة الكتابة الشعرية.
بالطبع هذه الملامح عندما أشير إليها لا أهدف منها سوى التسجيل النقدي، فإطلاق حكم قيمة فني لمجمل ما كتبت سيظل فعلا ذاتياً يصعب الزعم بصوابيته عندما بتعلق الأمر بنقد الشعر من الوجهة التقنية، خصوصاً و أن ما أتكلم هي تجربة تظل غير مكتملة.
47
في الفترة ما بين ديسمبر77 الى ابريل 87، كتبت أكبر عدد من القصائد، قياساً لأي مرحلة زمنية تفصل بين القصيدة والأخرى. وكان قلقي الشديد الذي يؤرقني يتمثل في خوفي من هذا البركان المتفجر، حيث لم يكن بإمكاني إيقافه، فكل ما استطعت فعله هو أنني تخلصت من بعض المحاولات التي كانت تسهرني في بعض الليالي لفرط الأرق، فألجأ الى تمزيق الورق في الصباح.. وأتجاهل الأمر كلياً.
يرافقني طوال الفترة شعور بأن هذه القصيدة ستكون قصيدتي الأخيرة. حسناً،هذا ما يحدث لكل شاعر، كما قلنا. أعرف، ولكن أحياناً أكاد ألمس أطراف قوة غامضة تقف بجانبي، وتكتب القصائد معي. وهذا الشعور الغريب، اللذيذ، يذكرني بمايكوفسكي حين قال مرة في واحدة من أمسياته:" اشعر بأن هذه هي أحدى لياليّ الأخيرة".
وكان يعرف جيداً ماذا يقول.
بالطبع أنا بست مايكوفسكي، لكن المجهول بالنسبة للشاعر يعتبر حياة مكتنزة لفنه وفعاليته الإنسانية والشعرية. حيث يتحول المجهول الى طاقة أسطورية غامضة كالشغف والألق والأفق.
أذكر مقطعاً من المشاريع الشعرية التي مزقتها ذات الصباحات الغاضبة:
"سأقول لليل أستفق
وأقول للشمس استديري
وانطلق يا صوتي المصهور
واصهل واصطخب واصرخ
وكن كالطير في الأمواج
والبس تاجك الوهاج
واضرب في حدود الأرض
منتعلا بروق الرفض
ذب في الريح
قل للريح : لا تثقي
أنا عصفٌ
وذب في البحر
قل للبحر: يا موج الليالي السود خلي النوم
وانطلقي".
لكنني لم أترك للقصيدة مجالا للانطلاق,
48
أعرف كم هي مريرة هذه السياحة النقدية في التجربة الشعرية. وأعرف أنها مريرة أكثر مما تبدو هنا، أنني أشعر بقصوري في التعبير عما يعتمل داخلي. لقد قلت منذ البدء أنه عالم معقد، وقلت أنني سأحاول، وقلت أنه طريق محفوف بالمحاذير. لذلك أرجو أنني لن أتسبب في إفساد متعة البعض بالشعر. لأن هذا الموضوع ليس دراسة نقدية بالمعنى المألوف للنقد المنهجي، لكنه ضرب من الحوار الذاتي، المفكر به بصوت عال، ربما جاء هذا النص كما لو أنه شريحة مقتطعة من داخل الشاعر.
لقد تعودت على ممارسة مثل هذا الحوارات، لأننا كنا محرومين تقريباً من فعالية النقد الأدبي بالمعنى العميق للكلمة. نقد يتناول أشعارنا بالجرأة الموضوعية. وأستطيع القول بأنني منذ بدأت في نشر قصائدي كنت أتطلع الى القراءة النقدية الجريئة وأفرح بها. فغياب مذل الحوار النقدي الجريء أمر قد يهدد الشاعر بالموت أحياناً. لذلك تعودت على أن أحاول إنقاذ نفسي من الموت بفصد السموم من دمي ذاتيا بين فترة وأخرى، بعمليات صارمة قاسية، قد لا تمثل هذه السطور ألا نموذجاً مكتوباً منها.
كنت عازماً على دخول الحوار منفرداً مع التجربة، فقلت لنفسي: لماذا لا أشرك القارئ معي في هذا الحوار، لعل الأمر سيكون طريفاً ومشوقاً. وأن كنت لم أتخلص من الخشية، فرأي الشاعر في قصائده ليس بالضرورة سيعجب القراء أو يتفقون معه. فالجوانب التي تعجب القارئ من المتوقع أنها لن تعجب الشاعر، صاحب القصيدة. وهذا من شأنه أن يعرض البعض للارتباك، بل ويدفعه الى الشك أيضاً.
لكن لا باس في ذلك.
قلت: سأخوض التجربة، فربما خلقت جسراً جديداً بين القارئ والقصيدة والشاعر، سعياً نحو المزيد من الفعالية.
أنت كقارئ تعرف طريقاً نحو الشاعر، أما أنا فماذا أعرف من الطرق إليك؟
إذا كنت قد وقعت في قصور من حيث توضيح ما أريد، فذلك لأنني عاجز عن التعبير، وحين يكون قد فاتني شيئ فذلك يعني أنني أضيق من مساحة الشعر. وعندما أكون قد سهوت عن الإشارة الى نقطة من نقاط الضعف في قصيدتي، فإنما يدل ذلك على عدم أهليتي للقيام بدور الناقد.
49
الآن،
أعتقد بأنني بحاجة لأن أكتشف الصمت.
لقد أخبرني صديقي بأن الصمت طاقة لم تكتشف بعد. في حين أن مساحة الصمت بين التجربة الشعرية والأخرى تمثل صخباً بالغ العمق والفعالية.
لذلك فإنني أدخل في اكتشاف جماليات الصمت، وأقول مع "سان جون بيرس":
" خذيني أيتها اللذة في دروب كل بحر، في ارتعاشة كل نسيم، حيث تنشط اللحظة كعصفور يرتدي ثياب أجنحته .. سأمضي".