لو سألت قراء الشعر العربي والمصغين إليه بصوت شعرائه عما يحفظونه من أشعار الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب (توفي في ٢٠ / ٥ / ٢٠٢٢) لكرر أكثرهم مقاطع من هجائه الأنظمة العربية وسطره «القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ووقفتم تسترقون السمع إلى أصوات بكارتها». إن عبارات مثل «أولاد القحبة» و»ما أوسخنا! ما أوسخنا! ما أوسخنا! لا أستثني أحداً» تكاد تختصر شعر الشاعر كله، وقليلون هم الذين قرؤوا قصائد أخرى له في موضوعات أخرى، وكنت في بداية حياتي ألتفت إلى الجانب السياسي في أشعاره ولم أركز على خمرياته أو رباعياته الفلسفية إلا بعد ذلك بعقدين من الزمن.
عندما قرأت قصيدته «بحار البحارين» لاحظت في بدايتها أن الشاعر نفسه يعرف أن كثيرين من قرائه يختصرونه في موضوع الهجاء ويختصرون لغته في عبارات بذيئة «يخجل منها المعجم» «يؤدي الجمل الربانية في الشعر بمفردة يخجل منها المعجم»، وأنه أراد أن يدحض مزاعم هؤلاء، وقد عاد لاحقاً في قصائد أخرى ليعزز هذا الدحض، فقال في إحدى أمسياته «هذي القصائد لم تكتب لمناسبة.. كتبت لدهر من الحزن والتحدي - لا خوف أن يطول ما دمنا ننبض... والأفضلون يحملون السلاح...
اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية... بعضكم سيقول بذيئة. لا بأس! أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه!؟» وهو ما كان قاله في «بحار البحارين» «ماذا أعمل؟ إن أشد بذاءات العالم يزداد تألقها فوق الحاكم».
ولو سألت هؤلاء القراء إن كانوا قرؤوا رباعيات الشاعر أو خمرياته أو بعض قصائده في عتاب المدن أو الاعتذار لها، كدمشق مثلاً، أو حتى إن كانوا قرؤوا قصيدته الأولى بالعربية الفصيحة «قراءة في دفتر المطر» لأجابوا بالنفي. ربما يختلف جمهور الشعر العراقي الذي أصغى إلى مظفر يقرأ قصائده التي كتبها بالعامية وظهرت في ديوانه «للريل وحمد»، فهؤلاء يعرفون للشاعر قصائد الحب والغزل واللوعة والحنين، ولعلني لست مخطئاً.
لمظفر النواب قصائد في موضوعات أخرى غير الموضوع السياسي نادراً ما تكررت على لسان كثيرين ممن يكررون اسمه وأسطره الشعرية السابقة، واللافت أنني أنا الذي بدأت علاقته بشعر الشاعر السياسي ما عدت أقرأ قصائده السياسية إلا عندما أريد أن اقتبس منها لغرض كتابة مقال، أما أن أقرأها بشغف وإعجاب كما كنت أفعل قبل عقود فقليلاً ما يحدث، على الرغم من أن الواقع العربي يزداد قتامة وسوداوية وبؤساً و... و.... إن القصائد التي أقرأها الآن بشغف وإعجاب وأعود إليها هي قصائد العتاب أو الاعتذار أو الخمريات أو القصائد ذات الروح الفلسفية أو أبيات الحكمة، وقد تمزج القصيدة الواحدة بين أكثر من غرض، فتعاتب وتعتذر وتتغنى بالخمر ولا تخلو من حكمة.
وأنا أقرأ رباعيات النواب أتذكر رباعيات الخيام، وأنا أقرأ خمرياته أيضاً أشعر أنني أقرأ خمريات الشعر العربي القديم، وكذلك اعتذارياته وعتابه.
ثمة أربع قصائد غالباً ما أقرأها بمتعة هي «باللون الرمادي» و»عتاب» و»رباعيات» و»المسلخ الدولي: باب بوابة الأبجدية». إنها قصائد تحفل بالصور الشعرية وتغلب عليها لغة البوح التي لم تكن تظهر في قصائد الشاعر السياسية ذات النغمة الخطابية والنزعة الشعارية.
في «رباعيات» تقرأ ما تكرره غالباً، فغالباً ما تمر بتجارب شبيهة ينصحك فيها بعض الناس بالصلاة والصوم وهؤلاء لا يعرفون من الدين إلا العبادات والشعائر، في حين تكون ممارساتهم أبعد ما يكون عما يدعو إليه الدين:
«ما لبعض الناس يرميني بسكري في هواك
وهو سكران عمارات يسميها رضاك
يا ابن جيبين حراماً، إنني أسكر
كي أحتمل الدنيا التي فيها أراك».
حقاً من يعرف النواب من خلال أسطره السابقة؟
وفي «عتاب» تقرأ :
«أعاتب يا دمشق بفيض دمعي حزينا لم أجد شدو الشحارير القدامى
ندامى الأمس.. هل في الدوح أنتم؟ أم الوطن الكبير غدا ظلاما؟
وكان العهد إن دجت الليالي نهب إلى بنادقنا احتكاما
طربتكم وكان الصبح كأسي وأطربكم على الليل التزاما
وما مدت لغير الشعب والكاسات كفي، وإن مدوا بغيرهما السلاما».
و
«سلام يا ندامى الأمس، إني محال أن أفرط بالندامى».
وعن وفائه وتكرار تغنيه بهذه الصفة حدث ولا حرج.
أما اعتذاريته لمدينة دمشق في قصيدته «باللون الرمادي» فقد بدأها بقوله:
« دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي يقودني شبح مضنى إلى شبح
ضيعت منك طريقاً كنت أعرفه سكران مغمضة عيني من الطفح».
وعلى غرار «أبو نواس» الذي أراد أن يتداوى من الخمر بالداء نفسه «وداوني بالتي كانت هي الداء» نجد مظفراً يقول:
«لقد سكرت من الدنيا ويوقظني ما كان من عنب فيها ومن بلح».
تنتهي قصيدة «باللون الرمادي» بالبيتين:
«تهر خلفي كلاب الليل ناهشة أطراف ثوبي على عظم من المنح
ضحكت منها ومني، فهي يقتلها سعارها، وأنا يغتالني فرحي».
إنهما بيتان شعريان يفيضان بالحكمة، فقد تمر بتجربة مشابهة لتجربة الأنا المتكلمة في البيتين وستجد نفسك لحظتها تكررهما كما لو أنهما نص من كتاب مقدس.
ربما ما يحتاج إلى توسع في الكتابة هو تغني مظفر النواب بسمة الوفاء، وهو تغنٍ يقول لنا إنه يحفر في روحه عميقاً.
عادل الأسطة
2022-05-29
عندما قرأت قصيدته «بحار البحارين» لاحظت في بدايتها أن الشاعر نفسه يعرف أن كثيرين من قرائه يختصرونه في موضوع الهجاء ويختصرون لغته في عبارات بذيئة «يخجل منها المعجم» «يؤدي الجمل الربانية في الشعر بمفردة يخجل منها المعجم»، وأنه أراد أن يدحض مزاعم هؤلاء، وقد عاد لاحقاً في قصائد أخرى ليعزز هذا الدحض، فقال في إحدى أمسياته «هذي القصائد لم تكتب لمناسبة.. كتبت لدهر من الحزن والتحدي - لا خوف أن يطول ما دمنا ننبض... والأفضلون يحملون السلاح...
اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية... بعضكم سيقول بذيئة. لا بأس! أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه!؟» وهو ما كان قاله في «بحار البحارين» «ماذا أعمل؟ إن أشد بذاءات العالم يزداد تألقها فوق الحاكم».
ولو سألت هؤلاء القراء إن كانوا قرؤوا رباعيات الشاعر أو خمرياته أو بعض قصائده في عتاب المدن أو الاعتذار لها، كدمشق مثلاً، أو حتى إن كانوا قرؤوا قصيدته الأولى بالعربية الفصيحة «قراءة في دفتر المطر» لأجابوا بالنفي. ربما يختلف جمهور الشعر العراقي الذي أصغى إلى مظفر يقرأ قصائده التي كتبها بالعامية وظهرت في ديوانه «للريل وحمد»، فهؤلاء يعرفون للشاعر قصائد الحب والغزل واللوعة والحنين، ولعلني لست مخطئاً.
لمظفر النواب قصائد في موضوعات أخرى غير الموضوع السياسي نادراً ما تكررت على لسان كثيرين ممن يكررون اسمه وأسطره الشعرية السابقة، واللافت أنني أنا الذي بدأت علاقته بشعر الشاعر السياسي ما عدت أقرأ قصائده السياسية إلا عندما أريد أن اقتبس منها لغرض كتابة مقال، أما أن أقرأها بشغف وإعجاب كما كنت أفعل قبل عقود فقليلاً ما يحدث، على الرغم من أن الواقع العربي يزداد قتامة وسوداوية وبؤساً و... و.... إن القصائد التي أقرأها الآن بشغف وإعجاب وأعود إليها هي قصائد العتاب أو الاعتذار أو الخمريات أو القصائد ذات الروح الفلسفية أو أبيات الحكمة، وقد تمزج القصيدة الواحدة بين أكثر من غرض، فتعاتب وتعتذر وتتغنى بالخمر ولا تخلو من حكمة.
وأنا أقرأ رباعيات النواب أتذكر رباعيات الخيام، وأنا أقرأ خمرياته أيضاً أشعر أنني أقرأ خمريات الشعر العربي القديم، وكذلك اعتذارياته وعتابه.
ثمة أربع قصائد غالباً ما أقرأها بمتعة هي «باللون الرمادي» و»عتاب» و»رباعيات» و»المسلخ الدولي: باب بوابة الأبجدية». إنها قصائد تحفل بالصور الشعرية وتغلب عليها لغة البوح التي لم تكن تظهر في قصائد الشاعر السياسية ذات النغمة الخطابية والنزعة الشعارية.
في «رباعيات» تقرأ ما تكرره غالباً، فغالباً ما تمر بتجارب شبيهة ينصحك فيها بعض الناس بالصلاة والصوم وهؤلاء لا يعرفون من الدين إلا العبادات والشعائر، في حين تكون ممارساتهم أبعد ما يكون عما يدعو إليه الدين:
«ما لبعض الناس يرميني بسكري في هواك
وهو سكران عمارات يسميها رضاك
يا ابن جيبين حراماً، إنني أسكر
كي أحتمل الدنيا التي فيها أراك».
حقاً من يعرف النواب من خلال أسطره السابقة؟
وفي «عتاب» تقرأ :
«أعاتب يا دمشق بفيض دمعي حزينا لم أجد شدو الشحارير القدامى
ندامى الأمس.. هل في الدوح أنتم؟ أم الوطن الكبير غدا ظلاما؟
وكان العهد إن دجت الليالي نهب إلى بنادقنا احتكاما
طربتكم وكان الصبح كأسي وأطربكم على الليل التزاما
وما مدت لغير الشعب والكاسات كفي، وإن مدوا بغيرهما السلاما».
و
«سلام يا ندامى الأمس، إني محال أن أفرط بالندامى».
وعن وفائه وتكرار تغنيه بهذه الصفة حدث ولا حرج.
أما اعتذاريته لمدينة دمشق في قصيدته «باللون الرمادي» فقد بدأها بقوله:
« دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي يقودني شبح مضنى إلى شبح
ضيعت منك طريقاً كنت أعرفه سكران مغمضة عيني من الطفح».
وعلى غرار «أبو نواس» الذي أراد أن يتداوى من الخمر بالداء نفسه «وداوني بالتي كانت هي الداء» نجد مظفراً يقول:
«لقد سكرت من الدنيا ويوقظني ما كان من عنب فيها ومن بلح».
تنتهي قصيدة «باللون الرمادي» بالبيتين:
«تهر خلفي كلاب الليل ناهشة أطراف ثوبي على عظم من المنح
ضحكت منها ومني، فهي يقتلها سعارها، وأنا يغتالني فرحي».
إنهما بيتان شعريان يفيضان بالحكمة، فقد تمر بتجربة مشابهة لتجربة الأنا المتكلمة في البيتين وستجد نفسك لحظتها تكررهما كما لو أنهما نص من كتاب مقدس.
ربما ما يحتاج إلى توسع في الكتابة هو تغني مظفر النواب بسمة الوفاء، وهو تغنٍ يقول لنا إنه يحفر في روحه عميقاً.
عادل الأسطة
2022-05-29