المقدمة:
تعد مدرسة الديوان من أهم المدارس النقدية في العصر الحديث، والانطلاقة الحقيقية لحركة التجديد في الشعر العربي؛ لما صاحبها من عنوان نقدي، ورؤية واضحة لمفهوم جديد في الأدب. (1) وهي جزء من تيار عام نشأ في بدايات عصر النهضة العربية، وهو التيار الرومانسي ورائده مطران خليل مطران (1872-1949). (2) ومؤسسو هذه المدرسة هم عباس محمود العقاد (1889-1964م) و (إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م) و (عبد الرحمن شكري 1886-1958م)، وأحيانا يطلق على هؤلاء الثلاثة (الجيل الجديد) وهم تأثروا بمطران ثم بقراءتهم في الأدب الانكليزي والفرنسي(3). وقد كانت بداية انطلاقة هذه المدرسة مع إصدار ديوان عبد الرحمن شكري (ضوء الفجر) عام 1909م، الذي اتضحت ملامح التجديد فيه " فلفت شكري الأنظار إليه، ونال كثيراً من التقدير، حتى بايعه شاعر النيل حافظ إبراهيم على الريادة بقوله:
لقد بايعت قبل الناس شكرى وزكيت الشهادة باعترافي. (4)
ثم تبعه المازني بإصدار ديوانه الأول سنة 1913م، وأخيراً ظهر الديوان الأول للعقاد (يقظة الصباح) سنة 1916م.
وعرفت بمدرسة الديوان نسبة إلى أهم إسهام نقدي قدمته وهو (كتاب الديوان) الذي ألفه العقاد والمازني عام 1921م، فكان شعلة الانطلاقة النقدية، وخطوة كبيرة في مؤلفاتهم، (5) مع الإشارة إلى أن العقاد بدأ إسهاماته النقدية التجديدية عام 1907 من خلال مقالاته في جريدة الدستور.
والديوانيون هم أول من أحدثوا ثقباً في جدار الكلاسيكية العربية، وتطلعوا إلى بناء مدرسة حديثة في معنى الأدب وغاياته، وقد كان توجههم رومانتيكياً، ومدرستهم ليست مقلدة للأدب الانكليزي بل مستفيدة منه مهتدية بضيائه. أما أهداف المدرسة كما يوضحها العقاد فقد قاومت فكرتين كبيرتين هما: فكرة القومية في الأدب العربي وطريقة فهمها على نحو شكلي ضيق، وفكرة الاشتراكية التي يصفها العقاد بالعقم، لأنها تحرم على الأدب أن يكتب حرفاً لا ينتمي إلى لقمة الخبز، أو إلى تسجيل حرب الطبقات ونظم الحياة. وقد كانت الثورة النقدية التي قام بها هؤلاء الثلاثة تتصف بصفتين:
الأولى: إنها ثورة جاءت في وقتها، فقد كانت المدرسة الكلاسيكية المحدثة ترسخ مفهوماً في الشعر، لو ترك بغير معارضة لضرب بجذوره بعيداً، بحيث يغدو الوصول إلى الحداثة مطلباً في غاية الصعوبة.
والثانية: كانت ثورة هؤلاء الثلاثة واضحة، فقد كان التنظير الهاديء عن الشعر الذي قدمه مطران لا يقاس بشيء إلى جانب التحرر العنيف من الآراء المتحجرة، التي كانت تسيطر على الشعر كما عبرت عنه كتاباتهم النقدية.(6)
المبحث الأول: الدعوة إلى التجديد (الجانب النظري)
أولاً: أسس المدرسة وآراؤها في الأدب والنقد
لقد قدمت مدرسة الديوان النقد في صورة متطورة، من خلال ما أسهم به روادها من نظريات نقدية مهمة، (7).ويتحدد مفهوم جماعة الديوان للنقد من خلال تعريف العقاد له بأنه "هو التمييز، والتمييز لا يكون الا مزية، والبيئة نفسها تعلمنا سننها في النقد والانتقاء، حين تفضي عن كل ما تشابه، وتشرع في تخليد كل مزية تنجم في نوع من الأنواع..." ومن الواضح أن العقاد حدد طريقة وموضوع وهدف النقد، فهدف النقد حدده بالمزية، لأنه عمل أدبي هادف، وليس محض تمييز بين جيد الكلام ورديئه كما في المفهوم القديم، فكما أن الطبيعة تمنح فرصة الحياة لأجود أنواعها، فالنقد يختار أفضل وأجود الأعمال الأدبية ويخلدها.
لقد " وقفت مدرسة الديوان منذ نشأتها بوجه القصيدة العربية التقليدية في الشكل، والمضمون، والبناء، واللغة، بسبب أن روادها رغبوا في نماذج الشعر الغربي الذي ترك هذه القيود، فتحررت منها واتجهت نحو الذات والوجدان"، وأعلنت عن مفاهيمها العامة حول القصيدة الحداثية من خلال:
الشكل: ثارت على نظام القصيدة الطويلة ذات النسق الواحد، وتوجهت نحو شعر المقطوعات، وشعر التوشيح، وشعر تعدد الاصوات، كما ثار أصحابها على نظام القافية الواحدة، فنوعوا وألغوا احياناً.
البناء: هذه المدرسة قد رفضت التفكك الذي يجعل القصيدة مجموعة مبددة لا تربطها وحدة معنوية صحيحة، فنادت بالوحدة العضوية، وأن القصيدة عندهم كالجسم الحي يقوم كل عضو من أعضائه بوظيفته الخاصة التي لا يمكن الاستغناء عنه أبداً.
المضمون: تمرد رواد هذه المدرسة على ضيق المعاني ، ومحدودية إطارها، ووقفوا أمام استخدام الشعر في بيان الموضوعات التاريخية، كما رفضوا شعر المناسبات، ودعوا إلى الجوهرية والخيال، وعبروا عن إنسانية الشعر لا لسانيته.
اللغة: ثار أعضاؤها على ما يسمى لغة الشعر أو القاموس الشعري، ونادوا باستخدام معجم آخر، يستعمل في المجتمع والحياة، ليقرب العمل الشعري من حركة العصر وتأمل الفكر وإثارة الوجدان.(8).
وفي رؤية العقاد النقدية إتجاه متطور ومهم في النقد الأدبي، بل هو مقياس جديد لم تعهده العصور السابقة (9). فالشعر - موضوع النقد الأول في ذلك العصر- كانت رؤية العقاد له أنه يقاس بمقاييس ثلاثة (التجربة الإنسانية، الشعر تعبير عن ذات الشاعر ووجدانه، القصيدة الشعرية بنية حية، وليست أجزاء متناثرة.
ويرى العقاد في الجزء الثاني من كتاب الديوان أن عيوب الشعراء في عصره أربعة :" التفكك والإحالة والتقليد والولوع بالأعراض دون الجواهر – وهذه العيوب هي التي صيرتهم أبعد عن الشعر الحقيقي الرفيع، المترجم عن النفس الإنسانية في أصدق علاقاتها بالطبيعة والحياة والخلود".(10)، " فأما التفكك فهو أن تكون القصيدة مجموعاً مبدداً من أبيات متفرقة لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن والقافية، وليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة". (11) و " أما الإحالة فهي فساد المعنى، وهي ضروب، فمنها الاعتساف والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه. و"أما التقليد فأظهره تكرار المألوف من القوالب اللفظية والمعاني، وأيسره على المقلد الاقتباس المفيد والسرقة"(12). وأما الولع بالأعراض دون الجواهر فهو ضرب من العبث يمثل له العقاد بالعلم (الراية) فيقول:" للعَلَم جوهر وعرض، فأما الجوهر فهو ما يرمز إليه من مجد الأمة وحوزتها...وأما العرض فهو نسيجه ولونه خاصة وليس لها قيمة فيما ترفع الأعلام لأجله". (13)
ويصنف العقاد الحكمة في الشعر إلى ضربين، الأول: حكمة صادقة " غير قاصرة على إيراد الحقيقة المسلم بها، وإنما هي الحقيقة كما تبصرها الفطرة الخصيبة، والفطنة النافذة واللسان البليغ، والضرب الثاني: " حكمة مبتذلة أو مغشوشة معتملة، أشرفها ما كان من قبيل تحصيل حاصل، كمن يحفر الآبار للناس على شاطيء النهر الغزير". (14)
كما أن للعقاد آراء في مختلف المفاهيم الشعرية ومن ذلك:
التجربة الشعرية: يقول العقاد :" إن المحك الذي لا يخطيء في نقد الشعر هو إرجاعه الى مصدره، فإن كان لا يرجع الى مصدر أعمق من الحواس، فذلك هو شعر القشور والطلاء" ، فهو يدعو إلى أن تكون القصيدة معاناة شخصية وشعورية، عاشها الشاعر فلا تحمل أي أثر من التقليد.
التشبيه الحقيقي: يرى العقاد أن الشاعر الحقيقي هو من يشعر بجوهر الأشياء، وليس من يعددها ويحصي ألوانها، وأشكالها، وهو يكشف عن حقيقة الأشياء، وصلتها بالحياة وصلة الحياة بها.
الانسجام الأفقي- العمودي أو الوحدة العضوية: وهي التي تجعل القصيدة كجسم حي يقوم كل عضو من اعضائه بوظيفته الخاصة.
الطبع والصنعة: نادى بأن يتحرر الأدب من الصناعة اللفظية المملة، والمتكلفة، وأن يكون المعنى المنبعث من الروح هو الذي ينبغي أن يهتم به الأديب والشاعر.
صدق الوجدان: وهو أن يكون الشعر ترجمان النفس، والوجدان، والعاطفة مع الخيال المجنح.
الوزن والقافية: قد حرض العقاد ومعه نقاد الديوان على التحرر من الوزن، والقافية والتخلص منهما في التعابير وعدم الالتزام بهما في تعدية المعاني، حتى لا يكونا كغل على أعناق معانيهم وتعابيرهم. (15)
ومن زاوية نظر رومانسية، حدد العقاد الشعر بقوله:" التعبير الجميل عن الشعور الصادق" ،وتابعه زميلاه، فالشعور عندهم هو الاتصال الوثيق بالحياة والإحساس بها، جزئياتها وكلياتها، آلامها وآمالها، أشكالها المادية والروحية على السواء، وهو عندهم ليس شعوراً ذاتياً محضاً، بل هو شعور إنساني عام يتكيف في نفس الشاعر، ومعنى هذا أنها لم تدع الى الانكماش والذاتية، بل دعت إلى أن لا يقول الشاعر شعراً في موضوع الا إذا شعر به شعوراً صادقاً وعميقاً، فإذا فقد الشاعر هذا الصدق في التعبير نتيجة لفقدان الإحساس الصادق، عجز عن تأدية رسالته المنتظرة منه، فالشعر أساسه الشعور والقدرة على نقل ذلك الشعور إلى المتلقي. وسر نجاح الشعر برأي العقاد هو شحنه بالعاطفة القوية حتى يسمو الشعر إلى منزلة عالية ويقع في نفس القاريء، والمازني هو الآخر تطرق لمفهوم الشعر، فهو يربطه بالعواطف وما يختلج في أعماق الإنسان، فيستكن بداخله حتى يجد المخرج الذي يكون متنفساً يزيح عنه كل همومه وأحزانه التي أرقته. وها هو يقول:
وما الشعر الا صرخة طال حبسها
يرن صداها في القلوب الكواتمِ
ويرى شكري أن الشعر كشف للحقيقة، وأن حلاوة الشعر كما يقول ليست قلباً للحقائق، وإنما إقامة الحقائق المقلوبة، كما يرى أن المعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه، وليست التشبيهات الفاسدة والمغالطات السقيمة، وبشكل عام فإن الشعر الجيد عند أصحاب هذه المدرسة هو ما كان تأثيره على الناس أبلغ ، وما كانت استثارته لكوامنها أكبر، ودلالته على نفسية منشئه أعظم، وكل ما يؤدي إلى ذلك يمكن أن يسوقنا إلى مفهوم الشعر.(16)
ولجماعة الديوان رأي في اللغة الأدبية فهم يعتبرون الألفاظ لا قيمة لها في ذاتها، وإن قيمتها إنما تكمن فيما ترمز إليه من معان، وقددعا شكري إلى نبذ الألفاظ الغريبة واستعمال المألوف منها، والعبارة التي تحتوي على ألفاظ غريبة، تكون برأيه أقل متانة وجمالا، عكس العبارة السهلة المألوفة. ويرفض شكري تقسيم بعض الألفاظ إلى شريفة ووضيعة التي يقصدون بها ما ابتذلت من كثرة الاستعمال، ويصف ذلك بالتعسف، بل المعنى هو الذي يحدد ما إذا كانت الكلمات وضيعة أو شريفة، وقد تابعه زميلاه فيما قرر. (17)
ثانياً: ممارساتها النقدية من خلال كتاب الديوان
في نقد الشعر
لقد مارس العقاد والمازني النقد، واجدين فيه مجالاً واسعاً لاستعراض آرائهما النقدية، وتطبيق المقاييس التي استقرت عندهما، من خلال ثقافتهما التراثية واطلاعاتهم الغربية، وقد تجلى ذلك واضحاً في كتابهما النقدي الأول (الديوان)، ومن ذلك تناوُل العقاد قصيدة شوقي في رثاء السياسي المصري (محمد فريد) التي يقول فيها:
كل حي على المنية غاد
تتوالى الركاب والموت حادي
ذهب الأولون قرناً فقرناً
لم يدم حاضر ولم يبق بادِ
هل ترى منهم وتسمع عنهم غير باقي مآثر وأيادِ
وأخضعها إلى معاير الصدق، وقياس ما فيها من عناصر فنية كالعاطفة وعمق الفلسفة، موازناً إياها مع قصيدة المعري في فلسفة الحياة والموت والتي مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وتعرض العقاد لما بدا في قصيدة شوقي من روح التشاؤم والسخط على الحياة، ووصفه باللغو والكذب، فشرح كيف أن هذه المعاني كانت طبيعية في قصيدة المعري لأنها صورة لحياته، وأن شوقي غير صادق، وهو غير قادر على النظم في فلسفة الحياة والموت، وعاب عليه عدم قدرته على ربط شعره بعاطفته، وإذا كان قد رفض معاني شوقي، فقد اعترف له بمزية في ألفاظه، متهما إياه بالتلاعب والاحتيال على قرائه من خلال مرونة لغته. (18).
لكننا حين نتابع طبيعة أسلوب العقاد النقدي في (الديوان)، ولا سيما في الجزء الأول منه، نجد أن أسلوبه النقدي (في مواطن عديدة) لا ينسجم بتاتاً مع دعوته لتجديد الأدب بشكل عام، إذ لا يعدو النقد الأدبي أن يكون فناً من فنون الأدب يخضع هو الآخر لتيار الحداثة. فهو لم يعتمد النظرة الإجمالية المنصفة، وكذلك لم يراعِ التسلسل الزمني للنهضة الأدبية التي كان يجب أن تمر بالدور الإحيائي، ثم تنتقل على يديه أو يدي غيره للمرحلة التالية دون انتقاص من أعمال السابقين، فنجده يشتم ويسب وينتقص، ويفتش عن عيب في قصيدة ما، ليجعله حجة على الشاعر.
يقول العقاد في توطئة الديوان: " فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا أهون الهينات"(19). وهذا هجوم وليس نقداً. ثم يسجع سجع الكهان في كتابه (الذي يدعو فيه إلى ثورة حداثية) إذ يقول واصفاً شهرة شوقي:"شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قولة الحق ضن الشحيح، وتطوى دفائن أسرارها ودسائسها على الضريح". (20)
وفي لهجة تهديد ووعيد لا علاقة لها بمناهج النقد الأدبي يقول العقاد:" وعلى نفسها جنت بُراقش، فنحن نكتب هذه الفصول لنظهر لشوقي ومن على شاكلته عجز حياتهم، ووهن أسلحتهم، ونضطرهم إلى العدول عن أساليبهم المستهجنة ...ونقول لشوقي إن سنة الله لم تجر بأن يقوض الغابر المستقبل، ولكنها قد تجري بأن يقوض الحاضر الغابر ... فلا شفى الله نفسه من غيضها، ولا أبرد عليها وغرة قيضها". (21)
فها هو يقول حول مطلع قصيدة (رثاء فريد) :" تعود إلى هذه القصيدة أيها القاريء فلا ترى فيها مما لم تسمعه من أفواه المكدين والشحاذين الا كل ما هو أخس من بضاعتهم ... إذ ينادون في الأزقة والسبل:( دنيا غرور كلها فان، الذي عند الله باق...) ، تلك أقوال الشحاذين وهذه أقوال أمير الشعراء:
كل حيٍّ على المنية غادٍ تتوالى الركابُ والموتُ حادي (22)
بل يذهب العقاد إلى أبعد من ذلك في انحرافه عن جادة النقد الحداثي، إذ يحقر ويهين جمهور شوقي ومعجبيه، إذ يقول:" ومن نظر إلى عشرة ممسوخين في بقعة واحدة فاشمأزت نفسه من رؤية عاهاتهم ومقاذرهم، خليق أن يدرك اشمئزازنا حين ننظر فنرى حولنا العشرات والمئات من ذوي العاهات النفسية البارزة، يستحسنون مثل هذا الشعر على غثاثته وعواره، بل هو لا يروقهم الا لما فيه من غثاثة وعوار – خلائق كل ما نستطيع أن نعلل بهذا الاعوجاج في طبائعها وأذواقها أنها تَلِفتْ لفرط ما أخلدت إلى الكسل والضعة ...". (23)
ثم يعرج على قصيدة شوقي ( في استقبال الوفد) داعياً القاريء أن يجعل نفسه مكان شاعر غربي يزور مصر فيسمع قول شوقي في القصيدة :
إثنِ عَنانَ القلبِ واسلَمْ به
من ربربِ الرملِ ومن سربهِ
فيوضح أحدهم للشاعر الغربي أنه يقصد النساء الجميلات، حيث تشبه العرب عيونهن بعيون الظباء، ومن ثم كانت المرأة ظبياً. فيقول الشاعر الغربي :" حسن تشبيهكم هذا، ولكني لا أدري لمَ ينقل شاعركم رمال الصحراء مع العيون الكحلاء، ولم تكون شوارع مصر تلولا إن كان لا بد أن تكون حسانها ظباء ووعولاً؟؟".(24). وفي الحقيقة إن استلهام روح المدارس الأدبية الحديثة في الغرب لا يكون بهذه الطريقة التي تزدري تراثنا، وتجعل من الشاعر الغربي وهو في بيته رقيباً علينا، نكتب ما يعجبه، ونترك ما يأنف منه.
وفي نقد المازني لعبد الرحمن شكري نجد ذات الأسلوب البعيد عن النقد الموضوعي، إذ يقول تحت العنوان الفرعي (صنم الألاعيب) في الجزء الأول من الديوان:" شكري صنم ولا كالأصنام، ألقت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل اليم – صنم تتمثل فيه سخرية الله المرة وتهكم (أرستفانيز السماء) مبدع الكائنات المضحكة ورازقها القدرة على جعل مصابها فكاهة الناس وسلوانهم (25) ... ويخيل إلينا أن شكري على كثرة الشكوى في شعره من الخمول، وحقده على إغفاله الناس أمره كما هو ظاهر من قوله:
قد طال نظميَ للأشعارِ مقتدراً
والقوم في غفلة عني وعن شاني
هذي المعاني تناجيهم فمالهمُ
لا ينصتون بأفهامٍ وأذهان
لا نقول أن شكري مجنون، فنحن أرفق به من أن نصدمه، وأعرف بحاله وبأمراض العقل من أن نهيجه إلى الخبال بالإيحاء والتذكير والإلحاح، ولكننا نقول أن ذهنه متجه أبداً إلى هذا الخاطر – خاطر الجنون - ... وأنه حتى في طعامه يتوخى ما يظن أو يقال له أنه يكفل اتقاء هذه النكبة، أو يساعد على المقاومة كالسمك والبيض والمخ ...". (26)
وإذا كان النقد هو بيان مواطن القوة والضعف، ومدى مطابقة النص للمعايير الأدبية العامة والخاصة، وأن الموضوعية أهم أسسه، فهذا يعني أن العقاد لم يمارس النقد، بل الهجوم والانتقام، إذ ذهب يفتش جاهداً في نصوص شوقي للعثور على زلة أو ضعف فإنه بذلك لم يمارس (النقد)، بل مارس (الانتقاد) الذي هو في الاصطلاح الشائع تشخيص مواطن الخلل فقط.
لكننا نلاحظ أن العقاد في الجزء الثاني يحاول التخفيف من حدة لهجته، والتحول من أسلوب الهجاء الحاد إلى النقد من خلال تطبيق المعايير التي يراها للقصيدة الحديثة، بعد أن اعترض عليه العديد من الأشخاص كما يصرح بذلك في هذا الجزء الثاني، فحين يستعرض قصيدة شوقي في رثاء مصطفى كامل، يعرضها على معاييره ومنها (التفكك)، ووفق هذا المعيار تكون هذه القصيدة (كومة رمل) كيفما قلبتها تبقى كما هي ، معللاً ذلك بأننا يمكن أن " نأتي هنا على القصيدة كما رتبها قائلها، ثم نعيدها على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول، ليقرأها القاريء المرتاب، ويلمس الفرق بين ما يصح أن يسمى قصيدة من الشعر، وبين أبيات مشتتة لا روح لها ولا سياق ولا شعور، ينتظمها ويؤلف بينها".(27)
والعقاد هنا لم يقل الا الصواب، فشوقي شاعر إحيائي، وهذه هي إحدى سمات القصيدة العربية القديمة، وكان يكفي العقاد بدل أن يضيع وقته ويشغل الناس بإثبات كلاسيكية شوقي – التي لا ينكرها الرجل بل يفتخر بها- أن يقتصر على القول أن القصيدة الكلاسيكية لم تعد مقبولة، وأن على الشعراء أن يستلهموا روح العصر، ويواكبوا الحداثة.
إن " العقاد كناقد نراه لا يخرج عن دائرة النقاد القدامى في تطبيق نقده للسرقة الشعرية، مستعملاً مقياسي (الحسن الممدوح، والقبيح المذموم)، فينتقد أحمد شوقي في رثاء الأميرة (فاطمة) متهماً إياه بالسرقة القبيحة والتي كان النقاد القدامى يأخذونها مأخذ العيب في الشعر. يقول شوقي:
فاطمة من يولد يمت
المهد جسر المقبرة
ويقف العقاد عند لفظي (جسر المقبرة) منتقداً إياه وأن معناه مسروق من كثيرين من الشعراء، يقول أبو العتاهية:
قد عبروا الدنيا إلى غيرها
فإنما الدنيا لهم معبر
ويزيد العقاد توضيح نقده في سرقة أحمد شوقي، فيقول :" سرقة وشوهة كعادته، لأنه جعل المرء يخرج من المهد إلى المقبرة (28).
في نقد النثر
في توطئته للجزء الثاني الذي يتصدى فيه المازني لنقد نثر المنفلوطي، نجد توطئته مسجعة، وأسلوبه خليط من المقامات والحكايات القديمة، على الرغم من أن الدعوة إلى الحداثة يفترض أن تنعكس على نثره سواء أكان السياق نوعاً أدبياً كالقصة، أو نقدياً كهذه التوطئة التي يقول فيها:" يظهر الدعي فيستولي على الميدان، ويخر الناس له سجداً إلى الأذقان، ويباهون به الأمم والأزمان ..."(29). ثم يبدأ المازني - جرياً على أسلوب العقاد في نقده لشوقي – بالتشنيع بما أورده العقاد من سيرة حياته. كتب المازني:" وما للقراء ولأجدادك الذين لم تزدنا بهم علماً فيشفع لك ما أفدت في سماجة ما كتبت، ولقد قرأنا لجيته شاعر الألمان الضخم كتاباً في تاريح حياته يقع في أكثر من ستمئة صفحة، ولا نذكر أنه أورد اسم أبيه حتى ولا في سياقة الحديث ..."(30)
ومع أن المازني كان مصيباً في نقده، لكنه يستمر في خلطه بالسخرية تارة، والانتقاص من شخص الكاتب تارة أخرى، لكنه بشكل عام يقف على مواطن الخلل في الأساليب بطريقة منهجية تعتمد معايير واضحة، ومن ذلك رصده للتكرار الذي يطبع أسلوب المنفلوطي في كتابه (العبرات) إذ يقول:" كل لفظة يمكن الاستغناء عنها قاتلة للكاتب، فإن العالم أغنى في باب الأدب من أن يحتمل هذا الحشو ... وقد عددنا إلى الآن (يقصد في كتاب العبرات) 572 مفعولاً مطلقاً ولا ندري إلى أي رقم يرتفع العدد إذا استقصينا ...ولعل القاريء لاحظ فيما أوردنا من الأمثلة كثرة النعوت والأحوال كقوله " خرجت منه – يعني المنزل – شريداً طريداً حائراً ملتاعاً ..." (31)
المبحث الثاني
نظرة في نتاجات مدرسة الديوان (الجانب التطبيقي)
تميز شعر جماعة الديوان بالعنصر الذاتي، فهو شعر يعبر عن مشاعرهم الشخصية وأفكارهم، وعن محاولة أصيلة لتجنب انغماس شاعر الكلاسيكية المحدثة في الحدث العام، وفي أطر الحياة الخارجية، وقد كان إدخال هؤلاء الشعراء للعنصر العاطفي الذاتي إلى الشعر أهم إنجازاتهم الشعرية، فقد انتقل بالشعر خطوة أخرى نحو الوصول إلى التجربة الذاتية (32) التي عبر عنها شكري بقوله:
الا يا طائر الفردو
س إن الشعر وجدانُ
وفي شدوك شعر النفـ
س لا زور وبهتانُ
" وقد سلك رواد هذا الاتجاه مسلك مدرستهم، فجاؤا معبرين عن تجاربهم الباطنة، مهتمين بمظاهر الجمال والطبيعة، مائلين إلى الأصالة والتجديد، متحررين من كل القيود التي يرون أنها مانعة لهم (33).
"وعندما يقف الباحث أمام دواوين أصحاب الديوان، يرى أن الشاعر اعتمد على الوجدان والذات للتعبير عن العواطف المرهقة والدقيقة، وشكري رائدهم في هذا.
وفى كتابه (النقد والنقاد المعاصرون) يقول د.مندور: إن شكرى هو شاعرالاستبطان الذاتى، ورائد التجديد الشعرى الذى جمع فى شعره بين التيارين (العاطفى الشاكى المتمرد) الذى انفرد به المازنى، و(الفكرى العقلانى) الذى انفرد به العقاد، لافتا إلى أن كلا من صاحبيه كأنه أخذ منه التيار الذى تميز به، وهى إيماءة دالة على ريادته وسبقه. وكما يقول فاروق شوشة فى مقدمته لديوانه : " كان شكرى رائدا...فى طليعة المبادرين إلى تحرير الشعر من الأغراض القديمة... فافتنّ فى أوزانه... كما كان له الفضل فى أن يكون أول من يثور على القافية...أما عن الأسلوب اللغوى فلشكرى طريقته الخاصة فى النظم والتعبير. وكان شكرى ذا نفس تميل إلى العزلة، لكنها عزلة المفكر المتفلسف المولع باستقصاء أبعاد النفس وأحوالها، ولعله لذلك أطلق عليه شوشة وصف (شاعر النفس الإنسانية)". (34).
ومن شعر شكري الذي اتضح فيه هذا التيار قصيدته (حلم بالبعث) يتحدث شكري فيها عن فكرة البعث، وما فيه من فزع وهول، ويتخذ من ذلك وسيلة لتصوير إحساسه بثقل الحياة وعبء العيش، حتى ليتمنى الموت الأبدي، ويكره البعث الذي يعود به إلى الحياة من جديد؛ وذلك لما يتصوره في العودة إلى الحياة من تكرار لما فيها من آثام العيش، وسخافات الناس، فيقول شكري في قصيدته التي اتخذ لها صورة الحكاية التي تقع أحداثها في حلم:
رأيت في النوم أني رهن مظلمة
من المقابر ميْتاً حوله رمم
ناءٍ عن الناس لا صوتٌ فيزعجني
ولا طموح ولا حلم ولا كلم
مطهر من عيوب العيش قاطبة
فليس يطرقني هم ولا ألم
ولست أشقى لأمر لست أعرفه
ولست أسعى لعيش شأنه العدم
فلا بكاء ولا ضحك ولا أمل
ولا ضمير ولا يأس ولا ندم (35)
وقد حاول شكري التخلص من قيود القافية التي تجبر الشاعر أحياناً على قول ما لا يريد قوله، فكتب قصائد منها (نابليون والساحر المصري)، و(واقعة أبقير)، و(الجنة والخراب)، و(عتاب الملك حجر)، ومعظم هذه القصائد من الشعر القصصي، وطبيعة هذا الشعر أحوج إلى القافية المرسلة، مع الحفاظ على الإيقاع بتوحد الوزن في القصيدة. (36)
"لكن القليل جدا من شعر شكري نجح بأن يترجم المقولات النقدية المثالية حول الشعر التي تبناها شكري نفسه في كتاباته النقدية، فلم ينجح شعره بأن يتغلغل عميقاً في أرجاء الروح ويعبر عن تناقضاتها الروحية والعاطفية، فأغلب شعره بقي على مستوى قريب من السطحية، وينبغي الإشارة إلى أن شكري في أعماله الإبداعية النثرية وعلى وجه التحديد في كتابيه (الاعتراف) و (مذكرات ابليس)، قد نجح في التعبير، والتصوير المتفجر بطريقة لم يحققها في الشعر، وفي محاولة لتفسير هذا التناقض في هذا المجال بين شعره وبين أعماله الإبداعية في النثر، نقول: إن هذا التناقض ذو مغزى، وهو دليل واضح على ما تم تأشيره في بداية الحديث عن مدرسة الديوان، وهو أن الأدوات الشعرية لم تكن ذات مرونة كافية في أيدي شعراء ذلك الزمن، فلم يستطيعوا توظيفها على أفضل سبيل، فقد كان شكري يتبع النمط التقليدي العربي في التعبير عن موضوعات الشعر الرومانسي، كما ان قدرته على التأمل الداخلي هي أيضا محدودة، أما في التعبير عن التجربة الشخصية فقد كان نادرا ما يبلغ الصدق العاطفي الحقيقي. كما ان شكري يلجأ في اغلب شعره إلى مواضيع تقليدية، ويَشيع في شعره شيءٌ من التفاهة والميوعة العاطفية إلى جانب ضعف التركيب وسقم العبارة أحيانا، وهو كثيرا ما يستعمل مفردات غريبة وعبارات غير شعرية لا يمكن تفسيرها إلا بأنه كان يحاول جهده - من دون نجاح - أن يحدث تغييرا في الاستعمال التقليدي للغة .(37)
وقد ولج شكري في شعر المدح والرثاء وغيرها من المضامين القديمة، والأساليب الكلاسيكية مبتعداً عن شعر النفس والوجدان، ومن نماذج ذلك قوله:
لعمرك ما أدري أتلك أزاهر مفتحة أم قد رأيت الأمانيا؟
هو نظير قول معن ابن أوس:
لعمرك ما ادري وأني لأوجل على أينا تغدو المنية أولُ
ويقول شكري:
غداً يكثر الباكون حولي وحولكم وما الناس الا هالك وحزين
وهو نظير قول عمر بن أبي ربيعة:
غداً يكثر الباكون منا ومنكم وتزداد داري من دياركم بعدا
أما شعر العقاد فيتضح الاتجاه الجديد في شعره من خلال العديد من قصائده، ففي قصيدة (أمنا الأرض) متنوعة القافية، يتحدث العقاد عن الحياة، ويوضح أن فيها استمراراً يذوب معه الأمس في اليوم، ويبقى الأب في الابن، وفي هذا يقول:
أسائل أمنا الأرضا
سؤال الطفل للأم
فتخبرني بما أفضى
إلى إدراكه علمي
جزاها الله من أم
إذا ما أنجبت تئدُ
تغذى الجسم بالجسم
وتأكل لحم ما تلد
أقاموا أمس وانصـرفوا
فليس لفلهم شَمْلُ
فأين نفوس من سلفوا
وأين يكون من يتلو (38)
وفي قصيدة له يصور فيها تجربة الظمأ الروحي، والسأم النفسي، والحيرة العقلية، واليقظة الشعورية، والعجز عن نيل السعادة أو السلو عنها:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا
عذب المدام ولا الأنداء ترويني
حيران حيران لا نجم السماء ولا
معالم الأرض في الغماء تهديني
يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا
ويني ولا سمر السمار يلهيني
غصان غصان لا الأوجاع تبليني
ولا الكوارث والأشجان تبكيني
وهذه القصيدة تعد بحق من أروع قصائد العقاد، فهي نفثة من نفثاته، وعصارة حبه، ومرآة وضاءة لنفسه الرقيقة الحزينة القلقة. إنه ظمآن حيران يقظان، إنه غصان أسوان حزين، يستعمل الشعر للتخفيف عن آلامه وأحزانه، ولكن الشعر لا يطفئ أواره كما تطفئ الدموع أحزان المحبين، إنه يعيش وحيداً في هذه الحياة لا يجد قلباً يسعده ولا خلا يأسوه، إنه يتمنى أن تنتهي حياته وأن يمحوه الموت من الوجود لتفنى حسراته وأناته، وهكذا نجد العقاد يصور خوالجه وفيها من رنات الأحزان ما يسترق القلوب ويستجلب المدامع.(39)
غير أن القضايا التي التزمها رواد هذه المدرسة لا يمكن اعتبار انها ذاتية بحتة، وهي أقرب إلى التقليد منها إلى التجديد، فنرى أن أصحاب الديوان أنشدوا الشعر في المدح والرثاء والهجاء والغزل على منوال القدماء، فالعقاد الذي أنكر شعر المناسبات نظم شعرا على نفس المنوال، ففي قصيدة تحمل عنوان (غيث الصحراء) يمدح الملك فاروق، وتظهر فيها الأساليب القديمة:
فاروق في البيداء يصحبها
تيهوا بني البيداء وافتخروا
رفعوا الخيام على السحاب
فلا أسس تطاولها ولا جدر
في طالع الأيام مرتقب
ولسابغ الأنعام مدخر
صلح الزمان لكم بمقدمه
وازدانت الآصال والبكر
وإذا أمعنا النظر في القصيدة وجدنا أن أسلوبها تقليدي، وكذلك في تعبيرها وشكلها ومضمونها، ونظائرها كثيرة في ديوانه.
وفي مجال التشبيه يتحدث عن التشبيه الحقيقي ولكنه يخالف في مثل هذه الأبيات:
الماء فاض على الجنادل والسواحل والجسور
خلجانه تنساب كالحياة ما بين الصخور
متسابقات كالسوابق في مجال مستدير
وأما الغزل فنراه فيه صادقا مرة، وفاتر العاطفة أقرب إلى الغزل التقليدي مرة أخرى، فينشد في يوم الموعد:
يا يوم موعدها البعيد الا ترى
شوقي اليك وما أُشاق لمغنم
أسرع بأجنحة السماء جميعها
إن لم يطعك جناح هذي الانجم
ودع الشموس تدور في داراتها
وتخطها قبل الأوان المبرم
ولكن العقاد يبقى من الشعراء المجددين في الشعر العربي، وهو من أئمة المجددين في كتابة التراجم أيضاً، ترتكز الطريقة التي ارتضاها في تحليل سير الأعلام في الغوص والتنقيب في أعماق السير وإبراز العناصر ذات الخطر التي تكمن في ثناياها، واستخلاص جوهر الحياة من خلال الموازنة الدقيقة والاستقراء العميق، وهو نوع من التراجم كان يعوز الأدب العربي ليواكب الأدب العالمي في تطوره، بعد أن لبثت كتابة السير عندنا لا تعدوا نطاق السرد التاريخي وتدوين الأحداث.(40)
أما شعر المازني فقد صبغ أيظاً بصبغة الحداثة، وكان لحديث النفس والوجدان حضوراً في شعره، ومن ذلك قوله في قصيدة يعبر بها عن مأساة الضيق بالحياة وعدم احتمالها، نتيجة لفرط الإحساس، وخيبة الآمال، وتحدي الأحداث المستمر:
تراغمني الأحداث حتى كأنني
وُجدت على كره من الحدثان
فلا هي تُصْمي القلب مني إذا رمت
ولا ترعوي يوماً عن الشنآن
* * *
أبيت كأن القلب كهفٌ مهدم
برأسٍ منيف فيه للريح ملعب
أو اني في بحر الحوادث صخرة
تناطحها الأمواج وهي تَقلب (41)
وبالرغم من نفسه الحداثي وتنويعه في القافية، نجده أحياناً يحطم ما دعا اليه من آراء نقدية ويمدح سعد زغلول في تحية البطل:
قد نفضوا عنهم غبار القرون
فانظر أما تعرفهم يا ظعين؟
كيف وقد ضحيت من أجلهم
أو كدت بالنفس التي لا تهون
والمازني يقول أن الشعر هو تعبير عن الذات والوجدان، لكنه لا يستطيع أن يفر من التقليد، وعندما ننظرإلى أشعاره نجد فيها الكثير من الصيغ الشعرية القديمة، والمعاني التي استخدمها القدماء، فينشد النابغة مثلا:
تطاول حتى قلت ليس بمنتهٍ
وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
ويقول المازني:
تحدر حتى قلت ليس بمنتهٍ
وأقصر حتى قلت جفت مصادره
ويقول أبو نؤاس:
طوى الموت ما بيني وبين محمد
وليس لما تطوي المنية ناشر
ويقول المازني:
طوى الدهر ما بيني وبينك من هوى
وليس لما يطوي زمانك ناشر
وهكذا خرجت جماعة الديوان من تطبيق نظرياتها لكنه لم يكن خروجا كاملاً، إذ حقق أدباء الديوان العديد من آرائهم في نتاجاتهم الأدبية، وكانت تلك الآراء ومعها المحاولات التطبيقية قد ساهمت في تغيير مسيرة الأدب والشعر. (42)
الخاتمة:
لقد فتحت جماعة الديوان في الأدب والنقد فتحاً جديداً، فيه حرية الأديب واستقلاليته، وأعطت للشعر مفهوماً جديداً يصبغه الوجدان، والتعبير الصادق عن النفس، وشؤون الحياة، فكانت لهم بطاقة تعريف في الشعر العربي الحديث، وأثبتوا أن التأثر بالثقافة الغربية ليس تقليداً، وإنما هو إبداع متميز، فكانوا شعراء ونقاد عصرهم حقاً. وطور الديوانيون مفاهيم معروفة بما يلائم ثقافتهم الجديدة، كالوحدة العضوية، والوزن والقافية، والطبع والذوق، وأضافوا دلالات جديدة للمفاهيم بما يناسب عصرهم، فلم يعد للبيت وحدة مستقلة في القصيدة، بل يجب أن تكون القصيدة كلا متكاملاً لتنقل تجربة وشعور صاحبها. إن لهذه الجماعة الأثر الكبير في الحركات التجديدية التي تلتها، وخطوة كبيرة في مجال النقد العربي الحديث، إذ أفسحت مجالاً للنقاد من بعدهم، حيث وسعت دائرة النقد، وتلك ذروة الإبداع. (43)
بيد أن توجه شعراء كالعقاد والمازني وشكري إلى النقد، يدفع إلى السطح قضية (الشاعر الناقد) التي تجرنا " الى السؤال عن قدرة الشاعر ان يكون موضوعيا في إصدار أحكامه، أو إمكانيته على تخطي نموذجه الشعري الى عوالم أكثر رحابة. لعل إعتراف ت.س. إليوت في نهاية مطافه التنظيري بأن الشاعر الناقد هو من يدافع عن نوع شعره، من أكثر الاقوال دلالة على المهمة التي تبقى ناقصة ومترددة بين النقد الذي يتطلب موقفا موضوعيا، وبين رغبة الشاعر في تكريس نوع شعره، وذائقته، وحساسيته، وتعميمها، وتزيينها الى القاريء الذي يستهدف غوايته. ولم يبق في ذاكرة الادب الكثير من شعر الشعراء النقاد من مدرسة الديوان، ويصح هذا التصور على شعر جبرا ابراهيم جبرا لاحقا، ويوسف الخال، وسلمى الخضراء الجيوسي، وحتى محمد بنيس. وان صحت المقولة التي تؤكد ان النقاد هم الفاشلون في ميادين الابداع التي يكتبون عنها، فالشعر العربي يكاد ينفرد في مرحلة معينة بهذا العيب".(44).
الهوامش:
راوية سعودي، التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق من خلال كتاب الديوان في الأدب والنقد، رسالة ماجستير، جامعة محمد بوضياف 2015، ، المقدمة أ.
د. الهادي أمحمد محمد السلوقي، تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، من أبحاث المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية، الإمارات، 2013، ص13
نجم الدين الحاج عبد الصفا، الشعر العربي والاتجاهات الجديدة في عصر النهضة الادبية، دراسة، ص13-14.
عبد الرحمن شكرى..المجـدد المظلـوم !/موقع جريدة الأهرام)كتب:مصطفى عبدالوارث
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ، المقدمة أ
المصدر السابق ص7-8
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق ص7.
جماعة الديوان التقدم الادبي ص6
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، ص7
الديوان ص129
الديوان ص130
الديوان ص148
الديوان ص152
الديوان ص 157
سيد سليمان سادات شكور، جماعة الديوان، التقدم الأدبي والنقدي في القرن العشرين، مجلة إضاءات نقدية،السنة الأولى، العدد الثاني 2011،ص7.
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص 24-28
المصدر السابق ص52.
المصدر السابق ص65-66
الديوان ص5.
الديوان ص5 .
الديوان ص10.
الديوان ص14
الديوان ص23
الديوان ص38
لعله استقاها من الخرافات الإغريقية القديمة، وفيها كلمة لا تنسجم والمعتقدات الإسلامية وهي (سخرية الله).
الديوان ص59-65
الديوان ص132
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، ص12
الديوان ص77 .
الديوان ص82.
الديوان ص106.
للديوان ص30
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، ص13
مصطفى عبدالوارث، عبد الرحمن شكرى..المجـدد المظلـوم !، بحث منشور في موقع جريدة الأهرام2014 .
حركة التجديد عند مدرسة الديوان/ د .عبير عبد الصادق محمد بدوي/مجموعة محاضرات ص12-13
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص50
سعد علي المرشدي، جماعة الديوان - عبد الرحمن شكري، مقالة، الموقع الإلكتروني لجامعة بابل،العراق.
حركة التجديد عند مدرسة الديوان، ص12
حركة التجديد عند مدرسة الديوان،ص15
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص19
حركة التجديد عند مدرسة الديوان، ص14-15
التقدم الادبي جماعة الديوان، التقدم الأدبي والنقدي في القرن العشرين،ص6-9.
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص 100-101
من مقالة للناقدة العراقية فاطمة المحسن بعنوان الشاعر الناقد القاعدة والاستثناء
المصادر:
عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني، الديوان في الأدب والنقد ،دار الشعب،القاهرة، ط4.
راوية سعودي، التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق من خلال كتاب الديوان في الأدب والنقد، رسالة ماجستير، جامعة محمد بوضياف 2015.
د. الهادي أمحمد محمد السلوقي، تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، من أبحاث المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية، الإمارات، 2013.
سيد سليمان سادات شكور، جماعة الديوان، التقدم الأدبي والنقدي في القرن العشرين، مجلة إضاءات نقدية،السنة الأولى، العدد الثاني 2011.
نجم الدين الحاج عبد الصفا، الشعر العربي والاتجاهات الجديدة في عصر النهضة الادبية، دراسة.
مصطفى عبدالوارث، عبد الرحمن شكرى..المجـدد المظلـوم!، بحث منشور في موقع جريدة الأهرام2014 .
د . عبير عبد الصادق محمد بدوي،حركة التجديد عند مدرسة الديوان، مجموعة محاضرات منشورة على الإنترنت.
فاطمة المحسن، مقالة بعنوان (الشاعر الناقد القاعدة والاستثناء)،منتديات ستار تايمز 2012.
سعد علي المرشدي، جماعة الديوان - عبد الرحمن شكري، مقالة، الموقع الإلكتروني لجامعة بابل، العراق.
تعد مدرسة الديوان من أهم المدارس النقدية في العصر الحديث، والانطلاقة الحقيقية لحركة التجديد في الشعر العربي؛ لما صاحبها من عنوان نقدي، ورؤية واضحة لمفهوم جديد في الأدب. (1) وهي جزء من تيار عام نشأ في بدايات عصر النهضة العربية، وهو التيار الرومانسي ورائده مطران خليل مطران (1872-1949). (2) ومؤسسو هذه المدرسة هم عباس محمود العقاد (1889-1964م) و (إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م) و (عبد الرحمن شكري 1886-1958م)، وأحيانا يطلق على هؤلاء الثلاثة (الجيل الجديد) وهم تأثروا بمطران ثم بقراءتهم في الأدب الانكليزي والفرنسي(3). وقد كانت بداية انطلاقة هذه المدرسة مع إصدار ديوان عبد الرحمن شكري (ضوء الفجر) عام 1909م، الذي اتضحت ملامح التجديد فيه " فلفت شكري الأنظار إليه، ونال كثيراً من التقدير، حتى بايعه شاعر النيل حافظ إبراهيم على الريادة بقوله:
لقد بايعت قبل الناس شكرى وزكيت الشهادة باعترافي. (4)
ثم تبعه المازني بإصدار ديوانه الأول سنة 1913م، وأخيراً ظهر الديوان الأول للعقاد (يقظة الصباح) سنة 1916م.
وعرفت بمدرسة الديوان نسبة إلى أهم إسهام نقدي قدمته وهو (كتاب الديوان) الذي ألفه العقاد والمازني عام 1921م، فكان شعلة الانطلاقة النقدية، وخطوة كبيرة في مؤلفاتهم، (5) مع الإشارة إلى أن العقاد بدأ إسهاماته النقدية التجديدية عام 1907 من خلال مقالاته في جريدة الدستور.
والديوانيون هم أول من أحدثوا ثقباً في جدار الكلاسيكية العربية، وتطلعوا إلى بناء مدرسة حديثة في معنى الأدب وغاياته، وقد كان توجههم رومانتيكياً، ومدرستهم ليست مقلدة للأدب الانكليزي بل مستفيدة منه مهتدية بضيائه. أما أهداف المدرسة كما يوضحها العقاد فقد قاومت فكرتين كبيرتين هما: فكرة القومية في الأدب العربي وطريقة فهمها على نحو شكلي ضيق، وفكرة الاشتراكية التي يصفها العقاد بالعقم، لأنها تحرم على الأدب أن يكتب حرفاً لا ينتمي إلى لقمة الخبز، أو إلى تسجيل حرب الطبقات ونظم الحياة. وقد كانت الثورة النقدية التي قام بها هؤلاء الثلاثة تتصف بصفتين:
الأولى: إنها ثورة جاءت في وقتها، فقد كانت المدرسة الكلاسيكية المحدثة ترسخ مفهوماً في الشعر، لو ترك بغير معارضة لضرب بجذوره بعيداً، بحيث يغدو الوصول إلى الحداثة مطلباً في غاية الصعوبة.
والثانية: كانت ثورة هؤلاء الثلاثة واضحة، فقد كان التنظير الهاديء عن الشعر الذي قدمه مطران لا يقاس بشيء إلى جانب التحرر العنيف من الآراء المتحجرة، التي كانت تسيطر على الشعر كما عبرت عنه كتاباتهم النقدية.(6)
المبحث الأول: الدعوة إلى التجديد (الجانب النظري)
أولاً: أسس المدرسة وآراؤها في الأدب والنقد
لقد قدمت مدرسة الديوان النقد في صورة متطورة، من خلال ما أسهم به روادها من نظريات نقدية مهمة، (7).ويتحدد مفهوم جماعة الديوان للنقد من خلال تعريف العقاد له بأنه "هو التمييز، والتمييز لا يكون الا مزية، والبيئة نفسها تعلمنا سننها في النقد والانتقاء، حين تفضي عن كل ما تشابه، وتشرع في تخليد كل مزية تنجم في نوع من الأنواع..." ومن الواضح أن العقاد حدد طريقة وموضوع وهدف النقد، فهدف النقد حدده بالمزية، لأنه عمل أدبي هادف، وليس محض تمييز بين جيد الكلام ورديئه كما في المفهوم القديم، فكما أن الطبيعة تمنح فرصة الحياة لأجود أنواعها، فالنقد يختار أفضل وأجود الأعمال الأدبية ويخلدها.
لقد " وقفت مدرسة الديوان منذ نشأتها بوجه القصيدة العربية التقليدية في الشكل، والمضمون، والبناء، واللغة، بسبب أن روادها رغبوا في نماذج الشعر الغربي الذي ترك هذه القيود، فتحررت منها واتجهت نحو الذات والوجدان"، وأعلنت عن مفاهيمها العامة حول القصيدة الحداثية من خلال:
الشكل: ثارت على نظام القصيدة الطويلة ذات النسق الواحد، وتوجهت نحو شعر المقطوعات، وشعر التوشيح، وشعر تعدد الاصوات، كما ثار أصحابها على نظام القافية الواحدة، فنوعوا وألغوا احياناً.
البناء: هذه المدرسة قد رفضت التفكك الذي يجعل القصيدة مجموعة مبددة لا تربطها وحدة معنوية صحيحة، فنادت بالوحدة العضوية، وأن القصيدة عندهم كالجسم الحي يقوم كل عضو من أعضائه بوظيفته الخاصة التي لا يمكن الاستغناء عنه أبداً.
المضمون: تمرد رواد هذه المدرسة على ضيق المعاني ، ومحدودية إطارها، ووقفوا أمام استخدام الشعر في بيان الموضوعات التاريخية، كما رفضوا شعر المناسبات، ودعوا إلى الجوهرية والخيال، وعبروا عن إنسانية الشعر لا لسانيته.
اللغة: ثار أعضاؤها على ما يسمى لغة الشعر أو القاموس الشعري، ونادوا باستخدام معجم آخر، يستعمل في المجتمع والحياة، ليقرب العمل الشعري من حركة العصر وتأمل الفكر وإثارة الوجدان.(8).
وفي رؤية العقاد النقدية إتجاه متطور ومهم في النقد الأدبي، بل هو مقياس جديد لم تعهده العصور السابقة (9). فالشعر - موضوع النقد الأول في ذلك العصر- كانت رؤية العقاد له أنه يقاس بمقاييس ثلاثة (التجربة الإنسانية، الشعر تعبير عن ذات الشاعر ووجدانه، القصيدة الشعرية بنية حية، وليست أجزاء متناثرة.
ويرى العقاد في الجزء الثاني من كتاب الديوان أن عيوب الشعراء في عصره أربعة :" التفكك والإحالة والتقليد والولوع بالأعراض دون الجواهر – وهذه العيوب هي التي صيرتهم أبعد عن الشعر الحقيقي الرفيع، المترجم عن النفس الإنسانية في أصدق علاقاتها بالطبيعة والحياة والخلود".(10)، " فأما التفكك فهو أن تكون القصيدة مجموعاً مبدداً من أبيات متفرقة لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن والقافية، وليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة". (11) و " أما الإحالة فهي فساد المعنى، وهي ضروب، فمنها الاعتساف والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه. و"أما التقليد فأظهره تكرار المألوف من القوالب اللفظية والمعاني، وأيسره على المقلد الاقتباس المفيد والسرقة"(12). وأما الولع بالأعراض دون الجواهر فهو ضرب من العبث يمثل له العقاد بالعلم (الراية) فيقول:" للعَلَم جوهر وعرض، فأما الجوهر فهو ما يرمز إليه من مجد الأمة وحوزتها...وأما العرض فهو نسيجه ولونه خاصة وليس لها قيمة فيما ترفع الأعلام لأجله". (13)
ويصنف العقاد الحكمة في الشعر إلى ضربين، الأول: حكمة صادقة " غير قاصرة على إيراد الحقيقة المسلم بها، وإنما هي الحقيقة كما تبصرها الفطرة الخصيبة، والفطنة النافذة واللسان البليغ، والضرب الثاني: " حكمة مبتذلة أو مغشوشة معتملة، أشرفها ما كان من قبيل تحصيل حاصل، كمن يحفر الآبار للناس على شاطيء النهر الغزير". (14)
كما أن للعقاد آراء في مختلف المفاهيم الشعرية ومن ذلك:
التجربة الشعرية: يقول العقاد :" إن المحك الذي لا يخطيء في نقد الشعر هو إرجاعه الى مصدره، فإن كان لا يرجع الى مصدر أعمق من الحواس، فذلك هو شعر القشور والطلاء" ، فهو يدعو إلى أن تكون القصيدة معاناة شخصية وشعورية، عاشها الشاعر فلا تحمل أي أثر من التقليد.
التشبيه الحقيقي: يرى العقاد أن الشاعر الحقيقي هو من يشعر بجوهر الأشياء، وليس من يعددها ويحصي ألوانها، وأشكالها، وهو يكشف عن حقيقة الأشياء، وصلتها بالحياة وصلة الحياة بها.
الانسجام الأفقي- العمودي أو الوحدة العضوية: وهي التي تجعل القصيدة كجسم حي يقوم كل عضو من اعضائه بوظيفته الخاصة.
الطبع والصنعة: نادى بأن يتحرر الأدب من الصناعة اللفظية المملة، والمتكلفة، وأن يكون المعنى المنبعث من الروح هو الذي ينبغي أن يهتم به الأديب والشاعر.
صدق الوجدان: وهو أن يكون الشعر ترجمان النفس، والوجدان، والعاطفة مع الخيال المجنح.
الوزن والقافية: قد حرض العقاد ومعه نقاد الديوان على التحرر من الوزن، والقافية والتخلص منهما في التعابير وعدم الالتزام بهما في تعدية المعاني، حتى لا يكونا كغل على أعناق معانيهم وتعابيرهم. (15)
ومن زاوية نظر رومانسية، حدد العقاد الشعر بقوله:" التعبير الجميل عن الشعور الصادق" ،وتابعه زميلاه، فالشعور عندهم هو الاتصال الوثيق بالحياة والإحساس بها، جزئياتها وكلياتها، آلامها وآمالها، أشكالها المادية والروحية على السواء، وهو عندهم ليس شعوراً ذاتياً محضاً، بل هو شعور إنساني عام يتكيف في نفس الشاعر، ومعنى هذا أنها لم تدع الى الانكماش والذاتية، بل دعت إلى أن لا يقول الشاعر شعراً في موضوع الا إذا شعر به شعوراً صادقاً وعميقاً، فإذا فقد الشاعر هذا الصدق في التعبير نتيجة لفقدان الإحساس الصادق، عجز عن تأدية رسالته المنتظرة منه، فالشعر أساسه الشعور والقدرة على نقل ذلك الشعور إلى المتلقي. وسر نجاح الشعر برأي العقاد هو شحنه بالعاطفة القوية حتى يسمو الشعر إلى منزلة عالية ويقع في نفس القاريء، والمازني هو الآخر تطرق لمفهوم الشعر، فهو يربطه بالعواطف وما يختلج في أعماق الإنسان، فيستكن بداخله حتى يجد المخرج الذي يكون متنفساً يزيح عنه كل همومه وأحزانه التي أرقته. وها هو يقول:
وما الشعر الا صرخة طال حبسها
يرن صداها في القلوب الكواتمِ
ويرى شكري أن الشعر كشف للحقيقة، وأن حلاوة الشعر كما يقول ليست قلباً للحقائق، وإنما إقامة الحقائق المقلوبة، كما يرى أن المعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه، وليست التشبيهات الفاسدة والمغالطات السقيمة، وبشكل عام فإن الشعر الجيد عند أصحاب هذه المدرسة هو ما كان تأثيره على الناس أبلغ ، وما كانت استثارته لكوامنها أكبر، ودلالته على نفسية منشئه أعظم، وكل ما يؤدي إلى ذلك يمكن أن يسوقنا إلى مفهوم الشعر.(16)
ولجماعة الديوان رأي في اللغة الأدبية فهم يعتبرون الألفاظ لا قيمة لها في ذاتها، وإن قيمتها إنما تكمن فيما ترمز إليه من معان، وقددعا شكري إلى نبذ الألفاظ الغريبة واستعمال المألوف منها، والعبارة التي تحتوي على ألفاظ غريبة، تكون برأيه أقل متانة وجمالا، عكس العبارة السهلة المألوفة. ويرفض شكري تقسيم بعض الألفاظ إلى شريفة ووضيعة التي يقصدون بها ما ابتذلت من كثرة الاستعمال، ويصف ذلك بالتعسف، بل المعنى هو الذي يحدد ما إذا كانت الكلمات وضيعة أو شريفة، وقد تابعه زميلاه فيما قرر. (17)
ثانياً: ممارساتها النقدية من خلال كتاب الديوان
في نقد الشعر
لقد مارس العقاد والمازني النقد، واجدين فيه مجالاً واسعاً لاستعراض آرائهما النقدية، وتطبيق المقاييس التي استقرت عندهما، من خلال ثقافتهما التراثية واطلاعاتهم الغربية، وقد تجلى ذلك واضحاً في كتابهما النقدي الأول (الديوان)، ومن ذلك تناوُل العقاد قصيدة شوقي في رثاء السياسي المصري (محمد فريد) التي يقول فيها:
كل حي على المنية غاد
تتوالى الركاب والموت حادي
ذهب الأولون قرناً فقرناً
لم يدم حاضر ولم يبق بادِ
هل ترى منهم وتسمع عنهم غير باقي مآثر وأيادِ
وأخضعها إلى معاير الصدق، وقياس ما فيها من عناصر فنية كالعاطفة وعمق الفلسفة، موازناً إياها مع قصيدة المعري في فلسفة الحياة والموت والتي مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وتعرض العقاد لما بدا في قصيدة شوقي من روح التشاؤم والسخط على الحياة، ووصفه باللغو والكذب، فشرح كيف أن هذه المعاني كانت طبيعية في قصيدة المعري لأنها صورة لحياته، وأن شوقي غير صادق، وهو غير قادر على النظم في فلسفة الحياة والموت، وعاب عليه عدم قدرته على ربط شعره بعاطفته، وإذا كان قد رفض معاني شوقي، فقد اعترف له بمزية في ألفاظه، متهما إياه بالتلاعب والاحتيال على قرائه من خلال مرونة لغته. (18).
لكننا حين نتابع طبيعة أسلوب العقاد النقدي في (الديوان)، ولا سيما في الجزء الأول منه، نجد أن أسلوبه النقدي (في مواطن عديدة) لا ينسجم بتاتاً مع دعوته لتجديد الأدب بشكل عام، إذ لا يعدو النقد الأدبي أن يكون فناً من فنون الأدب يخضع هو الآخر لتيار الحداثة. فهو لم يعتمد النظرة الإجمالية المنصفة، وكذلك لم يراعِ التسلسل الزمني للنهضة الأدبية التي كان يجب أن تمر بالدور الإحيائي، ثم تنتقل على يديه أو يدي غيره للمرحلة التالية دون انتقاص من أعمال السابقين، فنجده يشتم ويسب وينتقص، ويفتش عن عيب في قصيدة ما، ليجعله حجة على الشاعر.
يقول العقاد في توطئة الديوان: " فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا أهون الهينات"(19). وهذا هجوم وليس نقداً. ثم يسجع سجع الكهان في كتابه (الذي يدعو فيه إلى ثورة حداثية) إذ يقول واصفاً شهرة شوقي:"شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قولة الحق ضن الشحيح، وتطوى دفائن أسرارها ودسائسها على الضريح". (20)
وفي لهجة تهديد ووعيد لا علاقة لها بمناهج النقد الأدبي يقول العقاد:" وعلى نفسها جنت بُراقش، فنحن نكتب هذه الفصول لنظهر لشوقي ومن على شاكلته عجز حياتهم، ووهن أسلحتهم، ونضطرهم إلى العدول عن أساليبهم المستهجنة ...ونقول لشوقي إن سنة الله لم تجر بأن يقوض الغابر المستقبل، ولكنها قد تجري بأن يقوض الحاضر الغابر ... فلا شفى الله نفسه من غيضها، ولا أبرد عليها وغرة قيضها". (21)
فها هو يقول حول مطلع قصيدة (رثاء فريد) :" تعود إلى هذه القصيدة أيها القاريء فلا ترى فيها مما لم تسمعه من أفواه المكدين والشحاذين الا كل ما هو أخس من بضاعتهم ... إذ ينادون في الأزقة والسبل:( دنيا غرور كلها فان، الذي عند الله باق...) ، تلك أقوال الشحاذين وهذه أقوال أمير الشعراء:
كل حيٍّ على المنية غادٍ تتوالى الركابُ والموتُ حادي (22)
بل يذهب العقاد إلى أبعد من ذلك في انحرافه عن جادة النقد الحداثي، إذ يحقر ويهين جمهور شوقي ومعجبيه، إذ يقول:" ومن نظر إلى عشرة ممسوخين في بقعة واحدة فاشمأزت نفسه من رؤية عاهاتهم ومقاذرهم، خليق أن يدرك اشمئزازنا حين ننظر فنرى حولنا العشرات والمئات من ذوي العاهات النفسية البارزة، يستحسنون مثل هذا الشعر على غثاثته وعواره، بل هو لا يروقهم الا لما فيه من غثاثة وعوار – خلائق كل ما نستطيع أن نعلل بهذا الاعوجاج في طبائعها وأذواقها أنها تَلِفتْ لفرط ما أخلدت إلى الكسل والضعة ...". (23)
ثم يعرج على قصيدة شوقي ( في استقبال الوفد) داعياً القاريء أن يجعل نفسه مكان شاعر غربي يزور مصر فيسمع قول شوقي في القصيدة :
إثنِ عَنانَ القلبِ واسلَمْ به
من ربربِ الرملِ ومن سربهِ
فيوضح أحدهم للشاعر الغربي أنه يقصد النساء الجميلات، حيث تشبه العرب عيونهن بعيون الظباء، ومن ثم كانت المرأة ظبياً. فيقول الشاعر الغربي :" حسن تشبيهكم هذا، ولكني لا أدري لمَ ينقل شاعركم رمال الصحراء مع العيون الكحلاء، ولم تكون شوارع مصر تلولا إن كان لا بد أن تكون حسانها ظباء ووعولاً؟؟".(24). وفي الحقيقة إن استلهام روح المدارس الأدبية الحديثة في الغرب لا يكون بهذه الطريقة التي تزدري تراثنا، وتجعل من الشاعر الغربي وهو في بيته رقيباً علينا، نكتب ما يعجبه، ونترك ما يأنف منه.
وفي نقد المازني لعبد الرحمن شكري نجد ذات الأسلوب البعيد عن النقد الموضوعي، إذ يقول تحت العنوان الفرعي (صنم الألاعيب) في الجزء الأول من الديوان:" شكري صنم ولا كالأصنام، ألقت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل اليم – صنم تتمثل فيه سخرية الله المرة وتهكم (أرستفانيز السماء) مبدع الكائنات المضحكة ورازقها القدرة على جعل مصابها فكاهة الناس وسلوانهم (25) ... ويخيل إلينا أن شكري على كثرة الشكوى في شعره من الخمول، وحقده على إغفاله الناس أمره كما هو ظاهر من قوله:
قد طال نظميَ للأشعارِ مقتدراً
والقوم في غفلة عني وعن شاني
هذي المعاني تناجيهم فمالهمُ
لا ينصتون بأفهامٍ وأذهان
لا نقول أن شكري مجنون، فنحن أرفق به من أن نصدمه، وأعرف بحاله وبأمراض العقل من أن نهيجه إلى الخبال بالإيحاء والتذكير والإلحاح، ولكننا نقول أن ذهنه متجه أبداً إلى هذا الخاطر – خاطر الجنون - ... وأنه حتى في طعامه يتوخى ما يظن أو يقال له أنه يكفل اتقاء هذه النكبة، أو يساعد على المقاومة كالسمك والبيض والمخ ...". (26)
وإذا كان النقد هو بيان مواطن القوة والضعف، ومدى مطابقة النص للمعايير الأدبية العامة والخاصة، وأن الموضوعية أهم أسسه، فهذا يعني أن العقاد لم يمارس النقد، بل الهجوم والانتقام، إذ ذهب يفتش جاهداً في نصوص شوقي للعثور على زلة أو ضعف فإنه بذلك لم يمارس (النقد)، بل مارس (الانتقاد) الذي هو في الاصطلاح الشائع تشخيص مواطن الخلل فقط.
لكننا نلاحظ أن العقاد في الجزء الثاني يحاول التخفيف من حدة لهجته، والتحول من أسلوب الهجاء الحاد إلى النقد من خلال تطبيق المعايير التي يراها للقصيدة الحديثة، بعد أن اعترض عليه العديد من الأشخاص كما يصرح بذلك في هذا الجزء الثاني، فحين يستعرض قصيدة شوقي في رثاء مصطفى كامل، يعرضها على معاييره ومنها (التفكك)، ووفق هذا المعيار تكون هذه القصيدة (كومة رمل) كيفما قلبتها تبقى كما هي ، معللاً ذلك بأننا يمكن أن " نأتي هنا على القصيدة كما رتبها قائلها، ثم نعيدها على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول، ليقرأها القاريء المرتاب، ويلمس الفرق بين ما يصح أن يسمى قصيدة من الشعر، وبين أبيات مشتتة لا روح لها ولا سياق ولا شعور، ينتظمها ويؤلف بينها".(27)
والعقاد هنا لم يقل الا الصواب، فشوقي شاعر إحيائي، وهذه هي إحدى سمات القصيدة العربية القديمة، وكان يكفي العقاد بدل أن يضيع وقته ويشغل الناس بإثبات كلاسيكية شوقي – التي لا ينكرها الرجل بل يفتخر بها- أن يقتصر على القول أن القصيدة الكلاسيكية لم تعد مقبولة، وأن على الشعراء أن يستلهموا روح العصر، ويواكبوا الحداثة.
إن " العقاد كناقد نراه لا يخرج عن دائرة النقاد القدامى في تطبيق نقده للسرقة الشعرية، مستعملاً مقياسي (الحسن الممدوح، والقبيح المذموم)، فينتقد أحمد شوقي في رثاء الأميرة (فاطمة) متهماً إياه بالسرقة القبيحة والتي كان النقاد القدامى يأخذونها مأخذ العيب في الشعر. يقول شوقي:
فاطمة من يولد يمت
المهد جسر المقبرة
ويقف العقاد عند لفظي (جسر المقبرة) منتقداً إياه وأن معناه مسروق من كثيرين من الشعراء، يقول أبو العتاهية:
قد عبروا الدنيا إلى غيرها
فإنما الدنيا لهم معبر
ويزيد العقاد توضيح نقده في سرقة أحمد شوقي، فيقول :" سرقة وشوهة كعادته، لأنه جعل المرء يخرج من المهد إلى المقبرة (28).
في نقد النثر
في توطئته للجزء الثاني الذي يتصدى فيه المازني لنقد نثر المنفلوطي، نجد توطئته مسجعة، وأسلوبه خليط من المقامات والحكايات القديمة، على الرغم من أن الدعوة إلى الحداثة يفترض أن تنعكس على نثره سواء أكان السياق نوعاً أدبياً كالقصة، أو نقدياً كهذه التوطئة التي يقول فيها:" يظهر الدعي فيستولي على الميدان، ويخر الناس له سجداً إلى الأذقان، ويباهون به الأمم والأزمان ..."(29). ثم يبدأ المازني - جرياً على أسلوب العقاد في نقده لشوقي – بالتشنيع بما أورده العقاد من سيرة حياته. كتب المازني:" وما للقراء ولأجدادك الذين لم تزدنا بهم علماً فيشفع لك ما أفدت في سماجة ما كتبت، ولقد قرأنا لجيته شاعر الألمان الضخم كتاباً في تاريح حياته يقع في أكثر من ستمئة صفحة، ولا نذكر أنه أورد اسم أبيه حتى ولا في سياقة الحديث ..."(30)
ومع أن المازني كان مصيباً في نقده، لكنه يستمر في خلطه بالسخرية تارة، والانتقاص من شخص الكاتب تارة أخرى، لكنه بشكل عام يقف على مواطن الخلل في الأساليب بطريقة منهجية تعتمد معايير واضحة، ومن ذلك رصده للتكرار الذي يطبع أسلوب المنفلوطي في كتابه (العبرات) إذ يقول:" كل لفظة يمكن الاستغناء عنها قاتلة للكاتب، فإن العالم أغنى في باب الأدب من أن يحتمل هذا الحشو ... وقد عددنا إلى الآن (يقصد في كتاب العبرات) 572 مفعولاً مطلقاً ولا ندري إلى أي رقم يرتفع العدد إذا استقصينا ...ولعل القاريء لاحظ فيما أوردنا من الأمثلة كثرة النعوت والأحوال كقوله " خرجت منه – يعني المنزل – شريداً طريداً حائراً ملتاعاً ..." (31)
المبحث الثاني
نظرة في نتاجات مدرسة الديوان (الجانب التطبيقي)
تميز شعر جماعة الديوان بالعنصر الذاتي، فهو شعر يعبر عن مشاعرهم الشخصية وأفكارهم، وعن محاولة أصيلة لتجنب انغماس شاعر الكلاسيكية المحدثة في الحدث العام، وفي أطر الحياة الخارجية، وقد كان إدخال هؤلاء الشعراء للعنصر العاطفي الذاتي إلى الشعر أهم إنجازاتهم الشعرية، فقد انتقل بالشعر خطوة أخرى نحو الوصول إلى التجربة الذاتية (32) التي عبر عنها شكري بقوله:
الا يا طائر الفردو
س إن الشعر وجدانُ
وفي شدوك شعر النفـ
س لا زور وبهتانُ
" وقد سلك رواد هذا الاتجاه مسلك مدرستهم، فجاؤا معبرين عن تجاربهم الباطنة، مهتمين بمظاهر الجمال والطبيعة، مائلين إلى الأصالة والتجديد، متحررين من كل القيود التي يرون أنها مانعة لهم (33).
"وعندما يقف الباحث أمام دواوين أصحاب الديوان، يرى أن الشاعر اعتمد على الوجدان والذات للتعبير عن العواطف المرهقة والدقيقة، وشكري رائدهم في هذا.
وفى كتابه (النقد والنقاد المعاصرون) يقول د.مندور: إن شكرى هو شاعرالاستبطان الذاتى، ورائد التجديد الشعرى الذى جمع فى شعره بين التيارين (العاطفى الشاكى المتمرد) الذى انفرد به المازنى، و(الفكرى العقلانى) الذى انفرد به العقاد، لافتا إلى أن كلا من صاحبيه كأنه أخذ منه التيار الذى تميز به، وهى إيماءة دالة على ريادته وسبقه. وكما يقول فاروق شوشة فى مقدمته لديوانه : " كان شكرى رائدا...فى طليعة المبادرين إلى تحرير الشعر من الأغراض القديمة... فافتنّ فى أوزانه... كما كان له الفضل فى أن يكون أول من يثور على القافية...أما عن الأسلوب اللغوى فلشكرى طريقته الخاصة فى النظم والتعبير. وكان شكرى ذا نفس تميل إلى العزلة، لكنها عزلة المفكر المتفلسف المولع باستقصاء أبعاد النفس وأحوالها، ولعله لذلك أطلق عليه شوشة وصف (شاعر النفس الإنسانية)". (34).
ومن شعر شكري الذي اتضح فيه هذا التيار قصيدته (حلم بالبعث) يتحدث شكري فيها عن فكرة البعث، وما فيه من فزع وهول، ويتخذ من ذلك وسيلة لتصوير إحساسه بثقل الحياة وعبء العيش، حتى ليتمنى الموت الأبدي، ويكره البعث الذي يعود به إلى الحياة من جديد؛ وذلك لما يتصوره في العودة إلى الحياة من تكرار لما فيها من آثام العيش، وسخافات الناس، فيقول شكري في قصيدته التي اتخذ لها صورة الحكاية التي تقع أحداثها في حلم:
رأيت في النوم أني رهن مظلمة
من المقابر ميْتاً حوله رمم
ناءٍ عن الناس لا صوتٌ فيزعجني
ولا طموح ولا حلم ولا كلم
مطهر من عيوب العيش قاطبة
فليس يطرقني هم ولا ألم
ولست أشقى لأمر لست أعرفه
ولست أسعى لعيش شأنه العدم
فلا بكاء ولا ضحك ولا أمل
ولا ضمير ولا يأس ولا ندم (35)
وقد حاول شكري التخلص من قيود القافية التي تجبر الشاعر أحياناً على قول ما لا يريد قوله، فكتب قصائد منها (نابليون والساحر المصري)، و(واقعة أبقير)، و(الجنة والخراب)، و(عتاب الملك حجر)، ومعظم هذه القصائد من الشعر القصصي، وطبيعة هذا الشعر أحوج إلى القافية المرسلة، مع الحفاظ على الإيقاع بتوحد الوزن في القصيدة. (36)
"لكن القليل جدا من شعر شكري نجح بأن يترجم المقولات النقدية المثالية حول الشعر التي تبناها شكري نفسه في كتاباته النقدية، فلم ينجح شعره بأن يتغلغل عميقاً في أرجاء الروح ويعبر عن تناقضاتها الروحية والعاطفية، فأغلب شعره بقي على مستوى قريب من السطحية، وينبغي الإشارة إلى أن شكري في أعماله الإبداعية النثرية وعلى وجه التحديد في كتابيه (الاعتراف) و (مذكرات ابليس)، قد نجح في التعبير، والتصوير المتفجر بطريقة لم يحققها في الشعر، وفي محاولة لتفسير هذا التناقض في هذا المجال بين شعره وبين أعماله الإبداعية في النثر، نقول: إن هذا التناقض ذو مغزى، وهو دليل واضح على ما تم تأشيره في بداية الحديث عن مدرسة الديوان، وهو أن الأدوات الشعرية لم تكن ذات مرونة كافية في أيدي شعراء ذلك الزمن، فلم يستطيعوا توظيفها على أفضل سبيل، فقد كان شكري يتبع النمط التقليدي العربي في التعبير عن موضوعات الشعر الرومانسي، كما ان قدرته على التأمل الداخلي هي أيضا محدودة، أما في التعبير عن التجربة الشخصية فقد كان نادرا ما يبلغ الصدق العاطفي الحقيقي. كما ان شكري يلجأ في اغلب شعره إلى مواضيع تقليدية، ويَشيع في شعره شيءٌ من التفاهة والميوعة العاطفية إلى جانب ضعف التركيب وسقم العبارة أحيانا، وهو كثيرا ما يستعمل مفردات غريبة وعبارات غير شعرية لا يمكن تفسيرها إلا بأنه كان يحاول جهده - من دون نجاح - أن يحدث تغييرا في الاستعمال التقليدي للغة .(37)
وقد ولج شكري في شعر المدح والرثاء وغيرها من المضامين القديمة، والأساليب الكلاسيكية مبتعداً عن شعر النفس والوجدان، ومن نماذج ذلك قوله:
لعمرك ما أدري أتلك أزاهر مفتحة أم قد رأيت الأمانيا؟
هو نظير قول معن ابن أوس:
لعمرك ما ادري وأني لأوجل على أينا تغدو المنية أولُ
ويقول شكري:
غداً يكثر الباكون حولي وحولكم وما الناس الا هالك وحزين
وهو نظير قول عمر بن أبي ربيعة:
غداً يكثر الباكون منا ومنكم وتزداد داري من دياركم بعدا
أما شعر العقاد فيتضح الاتجاه الجديد في شعره من خلال العديد من قصائده، ففي قصيدة (أمنا الأرض) متنوعة القافية، يتحدث العقاد عن الحياة، ويوضح أن فيها استمراراً يذوب معه الأمس في اليوم، ويبقى الأب في الابن، وفي هذا يقول:
أسائل أمنا الأرضا
سؤال الطفل للأم
فتخبرني بما أفضى
إلى إدراكه علمي
جزاها الله من أم
إذا ما أنجبت تئدُ
تغذى الجسم بالجسم
وتأكل لحم ما تلد
أقاموا أمس وانصـرفوا
فليس لفلهم شَمْلُ
فأين نفوس من سلفوا
وأين يكون من يتلو (38)
وفي قصيدة له يصور فيها تجربة الظمأ الروحي، والسأم النفسي، والحيرة العقلية، واليقظة الشعورية، والعجز عن نيل السعادة أو السلو عنها:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا
عذب المدام ولا الأنداء ترويني
حيران حيران لا نجم السماء ولا
معالم الأرض في الغماء تهديني
يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا
ويني ولا سمر السمار يلهيني
غصان غصان لا الأوجاع تبليني
ولا الكوارث والأشجان تبكيني
وهذه القصيدة تعد بحق من أروع قصائد العقاد، فهي نفثة من نفثاته، وعصارة حبه، ومرآة وضاءة لنفسه الرقيقة الحزينة القلقة. إنه ظمآن حيران يقظان، إنه غصان أسوان حزين، يستعمل الشعر للتخفيف عن آلامه وأحزانه، ولكن الشعر لا يطفئ أواره كما تطفئ الدموع أحزان المحبين، إنه يعيش وحيداً في هذه الحياة لا يجد قلباً يسعده ولا خلا يأسوه، إنه يتمنى أن تنتهي حياته وأن يمحوه الموت من الوجود لتفنى حسراته وأناته، وهكذا نجد العقاد يصور خوالجه وفيها من رنات الأحزان ما يسترق القلوب ويستجلب المدامع.(39)
غير أن القضايا التي التزمها رواد هذه المدرسة لا يمكن اعتبار انها ذاتية بحتة، وهي أقرب إلى التقليد منها إلى التجديد، فنرى أن أصحاب الديوان أنشدوا الشعر في المدح والرثاء والهجاء والغزل على منوال القدماء، فالعقاد الذي أنكر شعر المناسبات نظم شعرا على نفس المنوال، ففي قصيدة تحمل عنوان (غيث الصحراء) يمدح الملك فاروق، وتظهر فيها الأساليب القديمة:
فاروق في البيداء يصحبها
تيهوا بني البيداء وافتخروا
رفعوا الخيام على السحاب
فلا أسس تطاولها ولا جدر
في طالع الأيام مرتقب
ولسابغ الأنعام مدخر
صلح الزمان لكم بمقدمه
وازدانت الآصال والبكر
وإذا أمعنا النظر في القصيدة وجدنا أن أسلوبها تقليدي، وكذلك في تعبيرها وشكلها ومضمونها، ونظائرها كثيرة في ديوانه.
وفي مجال التشبيه يتحدث عن التشبيه الحقيقي ولكنه يخالف في مثل هذه الأبيات:
الماء فاض على الجنادل والسواحل والجسور
خلجانه تنساب كالحياة ما بين الصخور
متسابقات كالسوابق في مجال مستدير
وأما الغزل فنراه فيه صادقا مرة، وفاتر العاطفة أقرب إلى الغزل التقليدي مرة أخرى، فينشد في يوم الموعد:
يا يوم موعدها البعيد الا ترى
شوقي اليك وما أُشاق لمغنم
أسرع بأجنحة السماء جميعها
إن لم يطعك جناح هذي الانجم
ودع الشموس تدور في داراتها
وتخطها قبل الأوان المبرم
ولكن العقاد يبقى من الشعراء المجددين في الشعر العربي، وهو من أئمة المجددين في كتابة التراجم أيضاً، ترتكز الطريقة التي ارتضاها في تحليل سير الأعلام في الغوص والتنقيب في أعماق السير وإبراز العناصر ذات الخطر التي تكمن في ثناياها، واستخلاص جوهر الحياة من خلال الموازنة الدقيقة والاستقراء العميق، وهو نوع من التراجم كان يعوز الأدب العربي ليواكب الأدب العالمي في تطوره، بعد أن لبثت كتابة السير عندنا لا تعدوا نطاق السرد التاريخي وتدوين الأحداث.(40)
أما شعر المازني فقد صبغ أيظاً بصبغة الحداثة، وكان لحديث النفس والوجدان حضوراً في شعره، ومن ذلك قوله في قصيدة يعبر بها عن مأساة الضيق بالحياة وعدم احتمالها، نتيجة لفرط الإحساس، وخيبة الآمال، وتحدي الأحداث المستمر:
تراغمني الأحداث حتى كأنني
وُجدت على كره من الحدثان
فلا هي تُصْمي القلب مني إذا رمت
ولا ترعوي يوماً عن الشنآن
* * *
أبيت كأن القلب كهفٌ مهدم
برأسٍ منيف فيه للريح ملعب
أو اني في بحر الحوادث صخرة
تناطحها الأمواج وهي تَقلب (41)
وبالرغم من نفسه الحداثي وتنويعه في القافية، نجده أحياناً يحطم ما دعا اليه من آراء نقدية ويمدح سعد زغلول في تحية البطل:
قد نفضوا عنهم غبار القرون
فانظر أما تعرفهم يا ظعين؟
كيف وقد ضحيت من أجلهم
أو كدت بالنفس التي لا تهون
والمازني يقول أن الشعر هو تعبير عن الذات والوجدان، لكنه لا يستطيع أن يفر من التقليد، وعندما ننظرإلى أشعاره نجد فيها الكثير من الصيغ الشعرية القديمة، والمعاني التي استخدمها القدماء، فينشد النابغة مثلا:
تطاول حتى قلت ليس بمنتهٍ
وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
ويقول المازني:
تحدر حتى قلت ليس بمنتهٍ
وأقصر حتى قلت جفت مصادره
ويقول أبو نؤاس:
طوى الموت ما بيني وبين محمد
وليس لما تطوي المنية ناشر
ويقول المازني:
طوى الدهر ما بيني وبينك من هوى
وليس لما يطوي زمانك ناشر
وهكذا خرجت جماعة الديوان من تطبيق نظرياتها لكنه لم يكن خروجا كاملاً، إذ حقق أدباء الديوان العديد من آرائهم في نتاجاتهم الأدبية، وكانت تلك الآراء ومعها المحاولات التطبيقية قد ساهمت في تغيير مسيرة الأدب والشعر. (42)
الخاتمة:
لقد فتحت جماعة الديوان في الأدب والنقد فتحاً جديداً، فيه حرية الأديب واستقلاليته، وأعطت للشعر مفهوماً جديداً يصبغه الوجدان، والتعبير الصادق عن النفس، وشؤون الحياة، فكانت لهم بطاقة تعريف في الشعر العربي الحديث، وأثبتوا أن التأثر بالثقافة الغربية ليس تقليداً، وإنما هو إبداع متميز، فكانوا شعراء ونقاد عصرهم حقاً. وطور الديوانيون مفاهيم معروفة بما يلائم ثقافتهم الجديدة، كالوحدة العضوية، والوزن والقافية، والطبع والذوق، وأضافوا دلالات جديدة للمفاهيم بما يناسب عصرهم، فلم يعد للبيت وحدة مستقلة في القصيدة، بل يجب أن تكون القصيدة كلا متكاملاً لتنقل تجربة وشعور صاحبها. إن لهذه الجماعة الأثر الكبير في الحركات التجديدية التي تلتها، وخطوة كبيرة في مجال النقد العربي الحديث، إذ أفسحت مجالاً للنقاد من بعدهم، حيث وسعت دائرة النقد، وتلك ذروة الإبداع. (43)
بيد أن توجه شعراء كالعقاد والمازني وشكري إلى النقد، يدفع إلى السطح قضية (الشاعر الناقد) التي تجرنا " الى السؤال عن قدرة الشاعر ان يكون موضوعيا في إصدار أحكامه، أو إمكانيته على تخطي نموذجه الشعري الى عوالم أكثر رحابة. لعل إعتراف ت.س. إليوت في نهاية مطافه التنظيري بأن الشاعر الناقد هو من يدافع عن نوع شعره، من أكثر الاقوال دلالة على المهمة التي تبقى ناقصة ومترددة بين النقد الذي يتطلب موقفا موضوعيا، وبين رغبة الشاعر في تكريس نوع شعره، وذائقته، وحساسيته، وتعميمها، وتزيينها الى القاريء الذي يستهدف غوايته. ولم يبق في ذاكرة الادب الكثير من شعر الشعراء النقاد من مدرسة الديوان، ويصح هذا التصور على شعر جبرا ابراهيم جبرا لاحقا، ويوسف الخال، وسلمى الخضراء الجيوسي، وحتى محمد بنيس. وان صحت المقولة التي تؤكد ان النقاد هم الفاشلون في ميادين الابداع التي يكتبون عنها، فالشعر العربي يكاد ينفرد في مرحلة معينة بهذا العيب".(44).
الهوامش:
راوية سعودي، التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق من خلال كتاب الديوان في الأدب والنقد، رسالة ماجستير، جامعة محمد بوضياف 2015، ، المقدمة أ.
د. الهادي أمحمد محمد السلوقي، تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، من أبحاث المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية، الإمارات، 2013، ص13
نجم الدين الحاج عبد الصفا، الشعر العربي والاتجاهات الجديدة في عصر النهضة الادبية، دراسة، ص13-14.
عبد الرحمن شكرى..المجـدد المظلـوم !/موقع جريدة الأهرام)كتب:مصطفى عبدالوارث
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ، المقدمة أ
المصدر السابق ص7-8
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق ص7.
جماعة الديوان التقدم الادبي ص6
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، ص7
الديوان ص129
الديوان ص130
الديوان ص148
الديوان ص152
الديوان ص 157
سيد سليمان سادات شكور، جماعة الديوان، التقدم الأدبي والنقدي في القرن العشرين، مجلة إضاءات نقدية،السنة الأولى، العدد الثاني 2011،ص7.
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص 24-28
المصدر السابق ص52.
المصدر السابق ص65-66
الديوان ص5.
الديوان ص5 .
الديوان ص10.
الديوان ص14
الديوان ص23
الديوان ص38
لعله استقاها من الخرافات الإغريقية القديمة، وفيها كلمة لا تنسجم والمعتقدات الإسلامية وهي (سخرية الله).
الديوان ص59-65
الديوان ص132
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، ص12
الديوان ص77 .
الديوان ص82.
الديوان ص106.
للديوان ص30
تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، ص13
مصطفى عبدالوارث، عبد الرحمن شكرى..المجـدد المظلـوم !، بحث منشور في موقع جريدة الأهرام2014 .
حركة التجديد عند مدرسة الديوان/ د .عبير عبد الصادق محمد بدوي/مجموعة محاضرات ص12-13
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص50
سعد علي المرشدي، جماعة الديوان - عبد الرحمن شكري، مقالة، الموقع الإلكتروني لجامعة بابل،العراق.
حركة التجديد عند مدرسة الديوان، ص12
حركة التجديد عند مدرسة الديوان،ص15
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص19
حركة التجديد عند مدرسة الديوان، ص14-15
التقدم الادبي جماعة الديوان، التقدم الأدبي والنقدي في القرن العشرين،ص6-9.
التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق ص 100-101
من مقالة للناقدة العراقية فاطمة المحسن بعنوان الشاعر الناقد القاعدة والاستثناء
المصادر:
عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني، الديوان في الأدب والنقد ،دار الشعب،القاهرة، ط4.
راوية سعودي، التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق من خلال كتاب الديوان في الأدب والنقد، رسالة ماجستير، جامعة محمد بوضياف 2015.
د. الهادي أمحمد محمد السلوقي، تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق، من أبحاث المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية، الإمارات، 2013.
سيد سليمان سادات شكور، جماعة الديوان، التقدم الأدبي والنقدي في القرن العشرين، مجلة إضاءات نقدية،السنة الأولى، العدد الثاني 2011.
نجم الدين الحاج عبد الصفا، الشعر العربي والاتجاهات الجديدة في عصر النهضة الادبية، دراسة.
مصطفى عبدالوارث، عبد الرحمن شكرى..المجـدد المظلـوم!، بحث منشور في موقع جريدة الأهرام2014 .
د . عبير عبد الصادق محمد بدوي،حركة التجديد عند مدرسة الديوان، مجموعة محاضرات منشورة على الإنترنت.
فاطمة المحسن، مقالة بعنوان (الشاعر الناقد القاعدة والاستثناء)،منتديات ستار تايمز 2012.
سعد علي المرشدي، جماعة الديوان - عبد الرحمن شكري، مقالة، الموقع الإلكتروني لجامعة بابل، العراق.