محمد محمود غدية - بائعة الورد

ثمة شمس تتسلل على إستحياء، ويوشك أن يملأ ضياؤها الشارع والفاترينات والبيوت، وبضعة أضواء خافته تضيع فى ظلال الناس والأرصفة،
تمر بائعة الورد الصغيرة أمام المقهى، فى خطواتها إضطراب وحيرة أشبة بقطرة مطر فارقت غيمتها،
فى جدائلها ورد يصعب مقاومة رائحته الذكية التى تسبقها، يعرفها زبائن المقهى، الكثير منهم من يتفائل أمام إبتسامتها التى لا تفارقها، عيناها مفعمتان بالطهر والنقاء، كلامها قليل رقيقة اللفظ، لا تطلب ثمن للورد، حياؤها يمنعها فيعطونها أكثر مما لو طلبت،
تحب ماتفعله، لأنها تساهم فى بهجة البعض، خاصة أصحاب القلوب المشرعة بالحب، ولأن الجميع يعرف حكايتها فقد أحبوها، وحيدة والديها، سارت بها مركب الحياة هادئة مطمئنة حتى إختطف الموت والدها، مما إضطرها للتوقف عن التعليم وبيع الورد،
فى مكان قريب من عمل الأم التى تعمل فى محل لصناعة الحلوى والفطائر،
كان ذلك اليوم جميلاً ورائحة الهواء فيه طازجة، كل الأشياء مكللة باللون الأخضر، حتى بدا أنه من المستحيل
ألا يستمتع المرء به،
على طاولة ركنية متوارية بالمقهى، جلست ثلاثينية، صفاء الكون كله يشع من عينيها ببهاء غريب، من ذلك النوع الذى يرسمه الفنانون فى لوحات القديسين،
تكابر ألا تدمع عيناها، يبدو أنه الحب الذى يشقي ويسعد !
إقتربت منها بائعة الورد تسبقها إبتسامتها الرقيقة الصافية، ألقت بوردة حمراء بين يدى الثلاثينية التى ما لبثت أن إحتضنتها مداعبة أوراقها الندية،
من لا يحركه الربيع وأزهاره لابد أن يكون فاسد المزاج، فتحت شنطتها لتعطى نقود للبائعة التى إختفت من أمامها وكأنها قبضت الثمن فى رسم الإبتسامة بوجه الثلاثينية، التى تذكرت أن أول هدية من حبيبها كانت وردة حمراء تماثل ما فى يدها،
ذكرى الحب أطرى النهارات وأزال خشونتها، وعاد وجهها الصباحى نضراً هادئاً كأنه لم تمر به عواصف أو أنواء،
لابد من مهاتفته والإعتذار إليه،
هى من أغضبته، وهى من ينبغي أن تصالحه،
تذكرت فطيرة العسل التى يعشقها حبيبها، والتى أعدتها الصانعة فى محل الحلوى بمهارة وإتقان،
مغلفة باإبتسامتها الحلوة، ولفرط سعادة الثلاثينية، أعطت البائعة مبلغاً يفوق ثمن فطيرة العسل بكثير وإنصرفت،
رائحة الشواء، تملئ غرفة الطعام، إنتظاراً لصغيرتها، التى عادت بسلال الورد فارغة،
حكت الصغيرة عن الثلاثينية، التى تشبه لوحات القديسين، والتى لم تتقاضى منها ثمن الورد،
لتضمها الأم قائلة : هى من إشترت منى فطيرة العسل
كانت تحمل وردتك الحمراء، وحب بحجم الكون،
أعطتني نقود كثيرة
إشتريت بها دجاج ولحم ، يكفى حاجتنا لأسبوع،
بفضل صنيعك الطيب،
ياوردتى الصغيرة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...