كرم الصباغ - جمل و جمال.. قصة

يلوح فوق السنام شامخا كجبل، يقود رفاقه عبر دروب الصحراء، جمله يسبق جمالهم. طويل العنق، أسمر الوجه، جلبابه أبيض فضفاض، قلبه قلب سبع، أو قل: في صدره مضغة من حديد، لا ينال التعب من عزمه شيئا، و لا يضنيه الجوع و حر الشمس الحارقة. من وقت إلى آخر تثور العواصف الرملية؛ فتتوقف القافلة، و ينيخ الرجال جمالهم، و يجثون على الرمل، و يلفون رءوسهم و وجوههم بأحرمة الصوف، و يدفنون رءوسهم في أبدان جمالهم التي تتحول في ذلك الوقت العصيب إلى مصدات، تروض طيش الرياح العاتية. و ما إن تكف العاصفة عن جموحها، و تهدأ بعد حين، حتى يكافئ كل جمال جمله بالسقاية و الإطعام. كان من عادة القافلة أن تتوقف، إذا حل الظلام؛ مخافة أهوال الليل، و تجنبا لمواجهة كائناته الظاهرة و الخفية. يحدد صالح، اتجاه الريح، و مكان نصب الخيمة؛ فيسارع الرجال إلى دق الأوتاد، و شد الحبال و فرد أكسية الشعر. بينما يقوم آخرون بإعداد ركية الجمر؛ لنشر الدفء و طرد الذئاب التي تفر عادة عند رؤية النار و ألسنة اللهب. يجلس الرجال يتسامرون، يطلقون النكات تارة، و يصدحون بأغنياتهم القديمة تارة أخرى؛ فتتدفق الضحكات الصافية من ثغورهم، و تكتسي وجوههم السمراء ببهجة تنسيهم شقاء اليوم المنصرم، و تنسيهم كذلك مشقة ما ينتظرهم في صباح اليوم التالي. ينام الجميع، و لكن صالحا -هذه الليلة- ظل مؤرقا لا ينام.
عجزت الأضواء الشاحبة التي أرسلتها النجوم عن تبديد عتمة الصحراء؛ فغمس صالح الفتيل في جرة الزيت، و أشعل مشعلا، أنار رقعة ضئيلة، لم تتجاوز عدة أمتار. لم يكن راغبا في النوم بالمرة؛ فدس براد الشاي في ركية الجمر، و أشعل سيجارته، و غرق في فيض خواطره. هو من سلالة رجال، رأوا الخوف مذمة؛ فامتهنوا ركوب الصحراء، و مع كثرة الرحلات، حفظوها شبرا شبرا، و صاروا خبيرين بدروبها و مسالكها كابرا عن كابر. كان معلمه الأول عمه الأكبر؛ فلما نهشته الذئاب، واصل أبوه تلقينه أسرار تلك الحرفة، و بعد سنوات، صار صالح آخر من تبقى من تلك السلالة. المتاهات جمة، و الشعاب وعرة، و القفار مسكونة، و لا أحد سواه يعلم مداخلها و مخارجها. في قلب الصحراء الشاسعة تناثرت بعض النجوع، و الواحات المأهولة بالسكان، كانت تلك البقاع هي مقصد التجار؛ إذ كانت متعطشة دائما إلى بضائعهم. و من غير صالح يستطيع الوصول إليها؟! و من غيره أدرى بما يحتاج إليه سكانها؟! و من غيره أدرى بطباع الأهالي و عاداتهم و مواسمهم؟! فلكل ميقات بضاعة رائجة، و لكل عروس قائمة طلبات، عليه أن يحضرها دونما تأخير. ما إن يراه سكان تلك الجهات، حتى يقبل كل منهم على شراء ما حمله التجار إليهم من بضائع شتى: توابل، أقمشة، أغذية، زيوت، عطور، معسل، سجائر، لوازم العرائس. كان التجار في المقابل يشترون التمور التي اشتهرت بها تلك النجوع و الواحات، و يعودون بها إلى النجع، حيث يبيعونها إلى أصحاب المستودعات، الذين يوزعونها بدورهم على تجار الوجه البحري بواسطة سيارات النقل.
كان صالح- فضلا عن كونه دليلا- تاجرا يتقاضى أرباح التجارة من ناحية، و يتقاضى أجرته كدليل من ناحية أخرى. و لما كانت القوافل لا تتحرك دون وجوده اضطر صالح إلى أن يتغيب عن بيته مدة تتجاوز الشهر، يعود بعدها مع التجار الغانمين السالمين؛ فيقضي مع أولاده ليلة أو ليلتين، و سرعان ما يتحرك مجددا مع قافلة أخرى.
لقد استقر في وجدانه أنه بات جزءا من تلك الصحراء، و أن لحمه بمرور الأيام امتزج برمالها، و أن صهد شمسها، و لفح هجيرها، باتا يجريان في عروقه، كما يجري الدم. أصبح صالح مضرب الأمثال، كل من سكن الصحراء سمع عنه، إن لم يكن رآه، و لما ابتلي السبع بقلب يحن و يشتاق، هفا صالح دائما إلى عياله و زوجته، و كثيرا ما كانوا يتراءون أمامه كما تتراءى أنهار الماء التي رسمها السراب على مرمى البصر. كانت الجمال هي وسيلة التنقل الأساسية في تلك الجهات، و كانت الرمال ناعمة، لا يأمن التجار شرها، و كانت المخاطر جمة، تحوم ليل نهار فوق رءوس أصحاب القوافل المسافرة، و أسفل أرجلهم. و لما كثرت الضحايا، هجر الرجال تلك التجارة، و لم يصمد منهم إلا القليل، كان صالح على رأس أولئك الصامدين دائما.
حاصرته الخواطر؛ فرنا إلى النجوم، و حلم للحظات؛ فرأى زوجته في أبهى صورة، قد اتخذت كامل زينتها، فما كان منه إلا أن طوقها بذراعيه، و ضمها إلى صدره؛ فأحرقه الشبق و الحنين، لكنه سرعان ما استفاق على صوت راح ينادي عليه: صالح... يا صالح... صالح. تلفت الجمال حوله، لكنه لم ير أحدا، عندئذ سرت القشعريرة في بدنه، و ملأت الهواجس قلبه؛ فهم بدخول الخيمة، لكنه أبصر، فجأة امرأة تقف بين يديه، امرأة فاق حسنها الحدود و الأوصاف، بائنة القد و المفاتن، ترتدي ثوبا ورديا مطرزا بالفضة اللامعة، تضوي في العتمة كشعلة لهب. صعق صالح، و راح يحملق بنظرات فزعة، بددتها المرأة بابتسامة عذبة، و مضت تدعوه بصوتها الناعم إلى عدم الخوف. و ما إن هدأ نبضه المتصاعد، حتى دنت منه، فتراجع إلى الوراء، و راح يستعيذ برب الجنة و الناس. لم تمهله المرأة الوقت الكافي لجمع شتات نفسه؛ فجذبته سريعا إلى حضنها جذبة عنيفة، و ما إن لامس وجهه المصفر نهديها، حتى ذهل عما حوله، و تحول إلى قطعة صلصال طرية، لهت بها رفيقته كيفما شاءت. و في الصباح، استيقظ الرجال؛ فوجدوه ممددا فوق الرمال، يغط في نوم عميق.
تحركت القافلة، و كان فوق جمله مشوشا؛ بدت دروب الصحراء متشابهة؛ فاختلطت عليه السبل. شعر بالحيرة، و لأول مرة منذ أن احترف تلك الحرفة الخطرة يجد نفسه عاجزا عن تحديد وجهته. راح ينظر في كل الاتجاهات؛ فأحس بأنه محاصر وسط بحر من الرمال، لا أول له، و لا آخر. و بعد لحظات عاود التحديق؛ فأبصر على مرمى البصر المرأة ذاتها، تلوح إليه بكلتا يديها، و تدعوه إلى أن يتبعها.
و كبرادة حديد انجذبت إلى مغناطيس، انجذب جمله إليها، و الجمال خلفه تسعى كما جرت العادة. لاحق الجمل المرأة، التي هرولت أمامه، و التي دعت صالحا إلى حث جمله على التقدم و الإسراع. و ما إن وصلت المرأة عند بقعة معينة، حتى توقفت، فجأة. و لما وصلت القافلة إليها، غاصت قوائم الجمال في الرمال الناعمة؛ فقفز الرجال من فوق الأسنمة، ملتمسين النحاة، و لكن أقدامهم غاصت بدورها في بحر الرمال المتحركة، كان صالح فوق سنام جمله، لا يزال ذاهلا، لا يستوعب عقله ما يدور حوله، و في لحظات معدودة ابتلعت الرمال الجائعة صيدها؛ فأخفت في جوفها أبدان الرجال و الجمال. عندئذ أطلقت المرأة ضحكات، رجت المكان، و ضربت بيدها رأس جمل صالح؛ فهوى بدوره إلى أسفل، و قبل أن تواريه الرمال تماما، أصدر رغاء، مزق قلب صاحبه، الذي مد بصره المشدوه؛ فرأى زوجته تتشح بالسواد، و رأى عياله ينتحبون؛ فلوح إليهم بانكسار، يليق بسبع، تحول اليوم إلى غريق مهزوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...