عبد الله البقالي - "ذكريات مريض - الجزء الثاني

رجل بلا خيارات

تصاعد حنيني مع تحسن حالتي لرؤية الأهل ومسارح الذكريات . عوالمي القديمة التي طالما تبرمت منها . استبدت بي الرغبة لرؤية الوجوه القديمة خصوصا وقد منحني الطبيب رخصة لمدة ثلاثة أسابيع مع وعد بالعودة في الوقت المحدد لاستكمال التحاليل. اندهش الطبيب حين ابلغته أني سأسافر الى فاس . قال لي : لا يمكن . أنت في وضع ليس على ما يرام كي تتحمل هذا السفر الطويل . ولم يدرك أني كنت على استعداد للذهاب لأخر الدنيا .لم اف بوعدي . ولم أعد للموعد . هو الطبع السيء نفسه الذي كان ومايزال متمكنا مني . ما أكاد استرد بعض عافيتي حتى أنسى كل شيء . ولست أتحمل مسؤولية ذلك لوحدي . الأمر نتاج تربية سيئة حين علمونا أن نخاف من الإبرٍة . وحين كان يخرسون احتجاجاتنا بالتهديد باستدعاء الطبيب .بعد سنوات تجدد المرض . بل تقوى أكثر من ذي قبل . كنت قبل ذلك قد نسيت كل شيء . الأطباء و المستشفيات و مواعيد الفحوص . إلا أن حبل الهروب سرعان ما يتضح أنه قصير مهما تمددت المهلة .استفقت ذات صباح على ألم لا يطاق . وحين دخلت بيت النظافة ، صعقت . كان الدم كثيفا ممتزجا بالبول . و لأن العادة السيئة فيما يخص الصحة كانت متمكنة مني ، فقد اعتبرت الأمر حالة عابرة .استمر النزيف لليوم الثاني ثم الثالث ، ثم بدا أن ليس له حدود . ومثل أي أسير ، فقد طاطأت رأسي أخيرا وذهبت لطبيب مختص .الطبيب انذهل و هو ينظر إلى الصور التي التقطت للأعضاء المريضة . الكلية اليمنى كانت مغلقة بسبب حصى كانت في طريق الخروج منها . و الكلية اليسرى مهددة بدورها بحصى غليظة وطويلة كانت تقترب من البوابة . وتخوف الطبيب كان سببه عدم معرفة متى انسدت الكلية . وما هو حال السائل المحاصر داخلها .قرر الطبيب أن العملية الجراحية ستجرى بعد أربعة أو خمسة أيام . بدأت استعد للعملية . عدت لبلدتي . ودون أن افصح عن أي شئ . زرت كل الاقارب و الامكنة التي كانت تعني لي أشياء معينة في حياتي . ولم أعرف ما إن كنت قد فعلت ذلك من باب وعيي أم بدافع الغريزة .صرت أعي أن اولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة وجها لوجه مع الموت ، كان يفكرون في أن يجعلوا مسار حياتهم أكثر طولا . استقظت قبل الفجر . صعدت سطح البيت . كان الظلام لا يزال ناشرا أجنحته . الجو كان منعشا بالبرودة و النجوم كانت ساطعة و في ضوئها توهج لم انتبه إليه من قبل . السماء كانت داكنة مشكلة من حلكة وزرقة قاتمة . اصغيت السمع لألتقط السكون الشامل الذي يقطعه أحيانا صراخ ديكة كان يجتاح الظلمة و المدى .سألت نفسي : لماذا لم انتبه من قبل لهذه الروعة ؟. ما هذا السر الكامن بين الحياة و المخاطر و الحواس ؟ وهل سيكتب لي أن ارى فيما بعد هذا المشهد الذي وجدته ككسوف يحدث مرة في العمر ؟ في الثامنة صباح كنت في المصحة . و بالرغم من أني كنت مرفوقا بزوجتي و اخرين ، فقد أحسست أني كنت لوحدي .حملت اوراقا كثيرة إضافة إلى كيس من الدم وبعض الأدوية . وطوال الوقت الفاصل عن موعد العملية لم أتحدث لأحد . كنت مأخوذا بعالم لا ينفتح إلا في أوقات استثنائية يجعلك خارج كل شئ . الزمن فيه يصير كبيت معار سرعان ما يأتي صاحبه ليبلغك حاجته إليه ، وأنه يتوجب عليك أن تفرغه . و الحياة شباك مثقوبة تحاول الايقاع بصيد بلا تجسيد . كل شئ يبدو لا يقبل الامتلاك . في الحادية عشر صباحا أتوا إلى غرفتي . أمرت بنزع الملابس و ارتداء أخرى . أنتبهت إلى وزرة كانت مفتوحة من الخلف . وجدت تلك الفتحة فظيعة . لبستها . وصرت أنتظر عودتهم . انتابتني الرغبة وتمن في أن لا يعودوا أبدا . و في الوقت نفسه كنت أتمنى لو اغمض عيني و أجد أن سنة انقضت عن تلك اللحظة . لا يهم إن كانت ستنتقص من العمر . فالعمر قد بدأت أجده ملوثا لا يستحق أن يعاش إن كان ممزوجا بالألم و المعانات .عادوا بعد ذلك يدفعون عربة . أمروني أن أركبها . وجدت الأمر مضحكا . لقد كنت متاكدا اني سأسبقهم إن تبارينا في العدو . لم أكن بذلك السوء الذي يقتضي أن أركب عربة . أفهمتهم ذلك ، لكنهم اصروا على أن الج غرفة العمليات راكبا عربة . لم يفهموا أني كنت أود في حال لو كانت تلك لحظاتي الأخيرة في الحياة أن اعيشها و أنا أمشي على رجلي . قلت لهم: طيب . تريدون أن نلعب . لنعلب . ها قد جلست . ادفعوا العربة اذن .في المصعد كان ظهري جهة الباب . كنت جامدا بلا حراك . الممرضة اعتقدت أني كنت ابكي . أمسكت رأسي فجأة بقوة و ادارت وجهي اتجاهها . انذهلت حين رأت وجهي الجامد وتحديقي الحاد في اللاشئ . ارتبكت . اعتذرت وساد الصمت .غرفة العمليات كانت بارة جدا . لم أحس بأية رهبة في البدء . كنت قد صممت على مواجهة قدري . وعلى الرغم من أني لم أشاهد غرفة عمليات من قبل ، فأنا أجزم أن أجهزتها قديمة جدا . شاشة لمراقبة خفقان القلب . و بعض الوسائل الأخرى . ومثلما يعم السكون قبل أي حدث تراجيدي . فقد تبدد السكينة فجأة بعبور سؤال لذهني : كم عدد الانفاس التي لفظت هنا ؟ كم عدد الذين دخلوا هنا أحياء ولم يخرجوا ؟ شعرت أن الموت يحلق في سمائي . في طفولتي كنت أتصوره على شكل طائر أسود كاسر . و أنه أعمى يسترشد بتوجيهات طائر أخر لا يغرد إلا في الليل . ومن ثم كان اعتقادي أن الناس لا يموتون إلا في الليل . في تلك اللحظة استنفرت غريزتي حين رأيت الطبيب يدخل الغرفة . لم اشك أنه الاحساس نفسه الذي تشعر به عنزة حين ترى ذئبا ....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...