رجل بلا خيارات
تصاعد حنيني مع تحسن حالتي لرؤية الأهل ومسارح الذكريات . عوالمي القديمة التي طالما تبرمت منها . استبدت بي الرغبة لرؤية الوجوه القديمة خصوصا وقد منحني الطبيب رخصة لمدة ثلاثة أسابيع مع وعد بالعودة في الوقت المحدد لاستكمال التحاليل. اندهش الطبيب حين ابلغته أني سأسافر الى فاس . قال لي : لا يمكن . أنت في وضع ليس على ما يرام كي تتحمل هذا السفر الطويل . ولم يدرك أني كنت على استعداد للذهاب لأخر الدنيا .لم اف بوعدي . ولم أعد للموعد . هو الطبع السيء نفسه الذي كان ومايزال متمكنا مني . ما أكاد استرد بعض عافيتي حتى أنسى كل شيء . ولست أتحمل مسؤولية ذلك لوحدي . الأمر نتاج تربية سيئة حين علمونا أن نخاف من الإبرٍة . وحين كان يخرسون احتجاجاتنا بالتهديد باستدعاء الطبيب .بعد سنوات تجدد المرض . بل تقوى أكثر من ذي قبل . كنت قبل ذلك قد نسيت كل شيء . الأطباء و المستشفيات و مواعيد الفحوص . إلا أن حبل الهروب سرعان ما يتضح أنه قصير مهما تمددت المهلة .استفقت ذات صباح على ألم لا يطاق . وحين دخلت بيت النظافة ، صعقت . كان الدم كثيفا ممتزجا بالبول . و لأن العادة السيئة فيما يخص الصحة كانت متمكنة مني ، فقد اعتبرت الأمر حالة عابرة .استمر النزيف لليوم الثاني ثم الثالث ، ثم بدا أن ليس له حدود . ومثل أي أسير ، فقد طاطأت رأسي أخيرا وذهبت لطبيب مختص .الطبيب انذهل و هو ينظر إلى الصور التي التقطت للأعضاء المريضة . الكلية اليمنى كانت مغلقة بسبب حصى كانت في طريق الخروج منها . و الكلية اليسرى مهددة بدورها بحصى غليظة وطويلة كانت تقترب من البوابة . وتخوف الطبيب كان سببه عدم معرفة متى انسدت الكلية . وما هو حال السائل المحاصر داخلها .قرر الطبيب أن العملية الجراحية ستجرى بعد أربعة أو خمسة أيام . بدأت استعد للعملية . عدت لبلدتي . ودون أن افصح عن أي شئ . زرت كل الاقارب و الامكنة التي كانت تعني لي أشياء معينة في حياتي . ولم أعرف ما إن كنت قد فعلت ذلك من باب وعيي أم بدافع الغريزة .صرت أعي أن اولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة وجها لوجه مع الموت ، كان يفكرون في أن يجعلوا مسار حياتهم أكثر طولا . استقظت قبل الفجر . صعدت سطح البيت . كان الظلام لا يزال ناشرا أجنحته . الجو كان منعشا بالبرودة و النجوم كانت ساطعة و في ضوئها توهج لم انتبه إليه من قبل . السماء كانت داكنة مشكلة من حلكة وزرقة قاتمة . اصغيت السمع لألتقط السكون الشامل الذي يقطعه أحيانا صراخ ديكة كان يجتاح الظلمة و المدى .سألت نفسي : لماذا لم انتبه من قبل لهذه الروعة ؟. ما هذا السر الكامن بين الحياة و المخاطر و الحواس ؟ وهل سيكتب لي أن ارى فيما بعد هذا المشهد الذي وجدته ككسوف يحدث مرة في العمر ؟ في الثامنة صباح كنت في المصحة . و بالرغم من أني كنت مرفوقا بزوجتي و اخرين ، فقد أحسست أني كنت لوحدي .حملت اوراقا كثيرة إضافة إلى كيس من الدم وبعض الأدوية . وطوال الوقت الفاصل عن موعد العملية لم أتحدث لأحد . كنت مأخوذا بعالم لا ينفتح إلا في أوقات استثنائية يجعلك خارج كل شئ . الزمن فيه يصير كبيت معار سرعان ما يأتي صاحبه ليبلغك حاجته إليه ، وأنه يتوجب عليك أن تفرغه . و الحياة شباك مثقوبة تحاول الايقاع بصيد بلا تجسيد . كل شئ يبدو لا يقبل الامتلاك . في الحادية عشر صباحا أتوا إلى غرفتي . أمرت بنزع الملابس و ارتداء أخرى . أنتبهت إلى وزرة كانت مفتوحة من الخلف . وجدت تلك الفتحة فظيعة . لبستها . وصرت أنتظر عودتهم . انتابتني الرغبة وتمن في أن لا يعودوا أبدا . و في الوقت نفسه كنت أتمنى لو اغمض عيني و أجد أن سنة انقضت عن تلك اللحظة . لا يهم إن كانت ستنتقص من العمر . فالعمر قد بدأت أجده ملوثا لا يستحق أن يعاش إن كان ممزوجا بالألم و المعانات .عادوا بعد ذلك يدفعون عربة . أمروني أن أركبها . وجدت الأمر مضحكا . لقد كنت متاكدا اني سأسبقهم إن تبارينا في العدو . لم أكن بذلك السوء الذي يقتضي أن أركب عربة . أفهمتهم ذلك ، لكنهم اصروا على أن الج غرفة العمليات راكبا عربة . لم يفهموا أني كنت أود في حال لو كانت تلك لحظاتي الأخيرة في الحياة أن اعيشها و أنا أمشي على رجلي . قلت لهم: طيب . تريدون أن نلعب . لنعلب . ها قد جلست . ادفعوا العربة اذن .في المصعد كان ظهري جهة الباب . كنت جامدا بلا حراك . الممرضة اعتقدت أني كنت ابكي . أمسكت رأسي فجأة بقوة و ادارت وجهي اتجاهها . انذهلت حين رأت وجهي الجامد وتحديقي الحاد في اللاشئ . ارتبكت . اعتذرت وساد الصمت .غرفة العمليات كانت بارة جدا . لم أحس بأية رهبة في البدء . كنت قد صممت على مواجهة قدري . وعلى الرغم من أني لم أشاهد غرفة عمليات من قبل ، فأنا أجزم أن أجهزتها قديمة جدا . شاشة لمراقبة خفقان القلب . و بعض الوسائل الأخرى . ومثلما يعم السكون قبل أي حدث تراجيدي . فقد تبدد السكينة فجأة بعبور سؤال لذهني : كم عدد الانفاس التي لفظت هنا ؟ كم عدد الذين دخلوا هنا أحياء ولم يخرجوا ؟ شعرت أن الموت يحلق في سمائي . في طفولتي كنت أتصوره على شكل طائر أسود كاسر . و أنه أعمى يسترشد بتوجيهات طائر أخر لا يغرد إلا في الليل . ومن ثم كان اعتقادي أن الناس لا يموتون إلا في الليل . في تلك اللحظة استنفرت غريزتي حين رأيت الطبيب يدخل الغرفة . لم اشك أنه الاحساس نفسه الذي تشعر به عنزة حين ترى ذئبا ....
تصاعد حنيني مع تحسن حالتي لرؤية الأهل ومسارح الذكريات . عوالمي القديمة التي طالما تبرمت منها . استبدت بي الرغبة لرؤية الوجوه القديمة خصوصا وقد منحني الطبيب رخصة لمدة ثلاثة أسابيع مع وعد بالعودة في الوقت المحدد لاستكمال التحاليل. اندهش الطبيب حين ابلغته أني سأسافر الى فاس . قال لي : لا يمكن . أنت في وضع ليس على ما يرام كي تتحمل هذا السفر الطويل . ولم يدرك أني كنت على استعداد للذهاب لأخر الدنيا .لم اف بوعدي . ولم أعد للموعد . هو الطبع السيء نفسه الذي كان ومايزال متمكنا مني . ما أكاد استرد بعض عافيتي حتى أنسى كل شيء . ولست أتحمل مسؤولية ذلك لوحدي . الأمر نتاج تربية سيئة حين علمونا أن نخاف من الإبرٍة . وحين كان يخرسون احتجاجاتنا بالتهديد باستدعاء الطبيب .بعد سنوات تجدد المرض . بل تقوى أكثر من ذي قبل . كنت قبل ذلك قد نسيت كل شيء . الأطباء و المستشفيات و مواعيد الفحوص . إلا أن حبل الهروب سرعان ما يتضح أنه قصير مهما تمددت المهلة .استفقت ذات صباح على ألم لا يطاق . وحين دخلت بيت النظافة ، صعقت . كان الدم كثيفا ممتزجا بالبول . و لأن العادة السيئة فيما يخص الصحة كانت متمكنة مني ، فقد اعتبرت الأمر حالة عابرة .استمر النزيف لليوم الثاني ثم الثالث ، ثم بدا أن ليس له حدود . ومثل أي أسير ، فقد طاطأت رأسي أخيرا وذهبت لطبيب مختص .الطبيب انذهل و هو ينظر إلى الصور التي التقطت للأعضاء المريضة . الكلية اليمنى كانت مغلقة بسبب حصى كانت في طريق الخروج منها . و الكلية اليسرى مهددة بدورها بحصى غليظة وطويلة كانت تقترب من البوابة . وتخوف الطبيب كان سببه عدم معرفة متى انسدت الكلية . وما هو حال السائل المحاصر داخلها .قرر الطبيب أن العملية الجراحية ستجرى بعد أربعة أو خمسة أيام . بدأت استعد للعملية . عدت لبلدتي . ودون أن افصح عن أي شئ . زرت كل الاقارب و الامكنة التي كانت تعني لي أشياء معينة في حياتي . ولم أعرف ما إن كنت قد فعلت ذلك من باب وعيي أم بدافع الغريزة .صرت أعي أن اولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة وجها لوجه مع الموت ، كان يفكرون في أن يجعلوا مسار حياتهم أكثر طولا . استقظت قبل الفجر . صعدت سطح البيت . كان الظلام لا يزال ناشرا أجنحته . الجو كان منعشا بالبرودة و النجوم كانت ساطعة و في ضوئها توهج لم انتبه إليه من قبل . السماء كانت داكنة مشكلة من حلكة وزرقة قاتمة . اصغيت السمع لألتقط السكون الشامل الذي يقطعه أحيانا صراخ ديكة كان يجتاح الظلمة و المدى .سألت نفسي : لماذا لم انتبه من قبل لهذه الروعة ؟. ما هذا السر الكامن بين الحياة و المخاطر و الحواس ؟ وهل سيكتب لي أن ارى فيما بعد هذا المشهد الذي وجدته ككسوف يحدث مرة في العمر ؟ في الثامنة صباح كنت في المصحة . و بالرغم من أني كنت مرفوقا بزوجتي و اخرين ، فقد أحسست أني كنت لوحدي .حملت اوراقا كثيرة إضافة إلى كيس من الدم وبعض الأدوية . وطوال الوقت الفاصل عن موعد العملية لم أتحدث لأحد . كنت مأخوذا بعالم لا ينفتح إلا في أوقات استثنائية يجعلك خارج كل شئ . الزمن فيه يصير كبيت معار سرعان ما يأتي صاحبه ليبلغك حاجته إليه ، وأنه يتوجب عليك أن تفرغه . و الحياة شباك مثقوبة تحاول الايقاع بصيد بلا تجسيد . كل شئ يبدو لا يقبل الامتلاك . في الحادية عشر صباحا أتوا إلى غرفتي . أمرت بنزع الملابس و ارتداء أخرى . أنتبهت إلى وزرة كانت مفتوحة من الخلف . وجدت تلك الفتحة فظيعة . لبستها . وصرت أنتظر عودتهم . انتابتني الرغبة وتمن في أن لا يعودوا أبدا . و في الوقت نفسه كنت أتمنى لو اغمض عيني و أجد أن سنة انقضت عن تلك اللحظة . لا يهم إن كانت ستنتقص من العمر . فالعمر قد بدأت أجده ملوثا لا يستحق أن يعاش إن كان ممزوجا بالألم و المعانات .عادوا بعد ذلك يدفعون عربة . أمروني أن أركبها . وجدت الأمر مضحكا . لقد كنت متاكدا اني سأسبقهم إن تبارينا في العدو . لم أكن بذلك السوء الذي يقتضي أن أركب عربة . أفهمتهم ذلك ، لكنهم اصروا على أن الج غرفة العمليات راكبا عربة . لم يفهموا أني كنت أود في حال لو كانت تلك لحظاتي الأخيرة في الحياة أن اعيشها و أنا أمشي على رجلي . قلت لهم: طيب . تريدون أن نلعب . لنعلب . ها قد جلست . ادفعوا العربة اذن .في المصعد كان ظهري جهة الباب . كنت جامدا بلا حراك . الممرضة اعتقدت أني كنت ابكي . أمسكت رأسي فجأة بقوة و ادارت وجهي اتجاهها . انذهلت حين رأت وجهي الجامد وتحديقي الحاد في اللاشئ . ارتبكت . اعتذرت وساد الصمت .غرفة العمليات كانت بارة جدا . لم أحس بأية رهبة في البدء . كنت قد صممت على مواجهة قدري . وعلى الرغم من أني لم أشاهد غرفة عمليات من قبل ، فأنا أجزم أن أجهزتها قديمة جدا . شاشة لمراقبة خفقان القلب . و بعض الوسائل الأخرى . ومثلما يعم السكون قبل أي حدث تراجيدي . فقد تبدد السكينة فجأة بعبور سؤال لذهني : كم عدد الانفاس التي لفظت هنا ؟ كم عدد الذين دخلوا هنا أحياء ولم يخرجوا ؟ شعرت أن الموت يحلق في سمائي . في طفولتي كنت أتصوره على شكل طائر أسود كاسر . و أنه أعمى يسترشد بتوجيهات طائر أخر لا يغرد إلا في الليل . ومن ثم كان اعتقادي أن الناس لا يموتون إلا في الليل . في تلك اللحظة استنفرت غريزتي حين رأيت الطبيب يدخل الغرفة . لم اشك أنه الاحساس نفسه الذي تشعر به عنزة حين ترى ذئبا ....