رحلوا، وتركوني أرجم نفسي وأرممها وحيداً في هذا المنزل ألمتهالك. هم لا يعرفون شيئا، وأنا هل أعرف أكثر مما يعرفون؟ أم أُشرّد نفسي بين ظلالي حلماً يتداعى أو زنبقة تتفتت؟ أمام المرآة أرى نفسي واضحاً لا تسبقني الخناجر ولا تمزقني الشظايا، لا تحميني الدروع ولا تضمدني السنابل. أمام المرآة أنا واضح مثل أمّي، غريب مثل أجدادي، موحش كالشجرة اليابسة. أمام المرآة عرفت نفسي بسيطاً كالمرأة المنسية بين حنين الصغار وهجران الكبار، متوحداً كحيوان لا يعرف جنسه، شديداً مثل نبي نبذ الناس تعاليمه فرحل صامتا يتعبد في البرية، أمام المرآة تتجدد كل الحكايات القديمة، تنتشر النساء رماداً، وكل من ماتوا يعاد إحيائهم ليموتوا ثانية أمامي. محاصر أنا بالقيامة وظلال الأنبياء، محكوم بولاة الله الصالحين وعبيده التائهين، مسافر من عهد الولادة إلى عصر التشرد والخيانة. أعرف إني آخر من يعود وأول من يرحل، آخر من ينتصر وأول من يهزم، فأذهب للصدى المنسي بين العناكب كي تناغم حاضري فأتصلب بصلابته. لست غاضباً لكي اقتل من أشاء، لست هادئاً لكي أحب من أشاء، ولست ساكناً لكي أعيش كما أشاء. لم أزل بعد صغيراً يطربني هديل الحمام. والآن، ثانية ترسمني المرآة واضحا بلا غموض وتحدد ملامحي، رجلا قطعت ساقه. وهذا كل شيء. لم ينتحر العالم من أجلي، لم تبك الصبايا، ولم تمزق النسوة ثيابهن من أجلي. كل شيء عاد كالسابق، لم يحدث ما يزلزل الأرض تحت قدمي، كل ما حدث إن ساقي اليسرى قد قطعت في الحرب وهذه قمة المأساة. لكن لماذا اسأل الآن محموما؟ لماذا التصلب والاستغراق بجمود الجدران والإنصات لصهيل الخيول الراكضة في البساتين الخضراء والتحديق الميت لاحتراق الفحم والأخشاب المنخورة؟ من علمنا البحث عن الأسباب، فكل ما حدث قد حدث منذ زمن مضى، وكل ما يحدث يحدث ونحن داخل الحدث، وكل ما سيحدث سيحدث رغما عني. فلماذا البحث عن سبب مادامت الأحداث دائمة الحدث. لماذا نحاصر أنفسنا بالخطيئة فنموت كالعناكب المتيبسة في الزوايا تحت السقف؟ لماذا ونحن لا نغير ما حدث.
مناف كاظم محسن
مناف كاظم محسن