"الحي أبقى من الميت"، لا دايم إلا وجه الله، بتلك العبارات تودع صالحة آخر ما تبقى لها من الأقارب على قيد الحياة وهي جدتها شام، تلك المرأة العجوز التي تجاوزت الثمانين من عمرها.
الجميع يواسيها، يدعو للجدة بالرحمة ويدعو لصالحة بصلاح الحال وزوال الهم.
تعود الفتاة وحيدة من المقابر بعد أن ودعت جدتها، تجلس في غرفتها تبكي بحرقة شديدة غيابها الأبدي، فهنا انقطع الوصال، وذهب آخر ما كان لها قبل أن تفقد والديها في حادث سير.
لماذا تركتني وحيدة ياالله؟
لا أحد لي، ذهبت آخر من كان لي، رحمتك يارب.
ترتدي صالحة ملابس جدتها شام، وتتوضأ لتصلي وتدعو الله لها بالرحمة وحسن رفقة الآخرة، لكنها لا يمكنها التوقف عن البكاء، لايمكنها أن تتخيل المنزل بدونها، كيف لها أن تجلسفي هذا المنزل القديم دون وجود تلك العجوز؟!
كيف لها تستيقظ دون أن تقبل يديها قبل الذهاب لعملها، ومن ينتظر عودتها حتى تقص عليها أحداث اليوم.
علاقة غير عادية، لم تكن فقط مجرد رباط بين فتاة وجدتها لأبيها، لكنها كانت كوالدتها وكأبيها وكأخيها وأختها وصديقتها، هي كل شيء بالنسبة لها، لاأحد على الأرض يستمع لها، لاأحد أحق بصحبتها سوى تلك العجوز.
كانت تعيش في جزء متطرف من القرية، لاأحد يأتيهم ولا يتركون منزلهم أبدًا، فقط تذهب صالحة لعملها في المدرسة، بينما جدتها تعد ما استطاعت من الطعام لها حتى عودتها لتكمل ما بدأته.
أقسما ألا يفترقا، وكلما حاول أحد زملائها التقرب منها بغرض الزواج، إلا وكان أول ماتصمم عليه هو جلوسها في منزل جدتها لتكون برفقتها حتى انتهاء الأجل، وغالبًا لم يكن ذلك يعجب الرجال، ولكن الأمرلم يعد يشغلها؛ فهي لا تشعر أنها بحاجة لأحد في حياتها، هي ممتلئة حتى الشبع أو ربما ظنت ذلك.
فلم تكن كغيرها من الفتيات يتمنين الزواج وإنجاب الأطفال، كانت تشعر أن تلاميذ المدرسة هم أبناؤها، تنتظر قصصهم اليومية ومشاغباتهم التي لا تنتهي.
لايشغلها شيء سوى تحضير دروسها التي تشرحها لطلابها، وتحضير الطعام لجدتها والاهتمام بها وبعلاجها، ودون ذلك لا يهم.
تذكرت لحظة قدوم دورتها الشهرية وحرجها الشديد من إخطار والدتها بالأمر والاستفسارعما يحدث لها، فذهبت مسرعة إلى جدتها لتخبرها بما أصابها، لتباركها الجدة وتعلمها أنها الآن صارت فتاة كبيرة عليها أن تحسب ألف حساب لتحركاتها وعلمتها كيفية الاهتمام بنفسها وتطهيرها بعد الانتهاء منها.
ربنا يصلح أحوالك يابنتي.
تنادي الجدة على زوجة ابنها لتخطرها بقدوم دورة ابنتها الشهرية، وعليها أن تغير معاملتها لها، وأن تكون أكثر عطفا عليها وتفهما لها ولا تتركها لخيالاتها وأوهامها.
صاحبيها يابنتي.
والله انتِ السبب يا أمي في خسارتها، الفتاة لا تسمع لي، ولا لوالدها، فقط تنفذ ما تقولينه أنتِ لا....
هذا الكلام غير الصحيح.
الفتاة تسمع من يعطف عليها، تهتم بمن يستمع إليها، تسرع إلى من يطمئنها، لا على من يفزعها ويأمرها طوال الوقت.
اكسر للبنت ضلع يطلعلها 24 ضلع.
والله انتِ من تحتاجي إلى كسر أضلعك.
لم تكن الجدة شام تحب زوجة ابنها لكنها كانت تعشق صالحة، كأنها هي من أنجبتها، وهي عزاؤها الوحيد من تلك الزيجة غير المرضية بالنسبة لها، فهي ترى ان ابنها كان أحق بزوجةأخرىتحبه وتقدره وليست مجرد امرأة.
ابنها كان مهندسا زراعيا هادئا جدا، عطوفا عليها، يحب الجميع، يقبل بكل الأشياء، لا يعترض على شيء، يحمد الله طوال الوقت، يسعى لإرضاء والدته بكل الطرق، فقد مات والده قبل أن يراه، ولم تفكر والدته في الزواج وهي لازالت في الثامنة عشرة من عمرها، فكيف لها أن تعيش كل هذا العمر دون رجل!
كيف تقضي حاجتها ! كيف تسيطر على رغبتها!
هي لم تسيطر على رغبتها فقط بل قتلتها، ووهبت نفسها لتربية ابنها، أقسمت على التضرع لله ليل نهار لحمايتها من الفتن ومن رغباتها، وسهرت الليالي على رعاية ابنها حتى صار رجلا يحترمه ويقدره الجميع، فكيف له أن يبتعد عنها أو أن يرفض لها رغبة أو طلبا، وهذا هو ماحدث في زواجه.
كانت تظن أن تلك الفتاة التي اختارتها لابنها هي من أفضل بنات القرية من وجهة نظرها، فهي مطيعة، هادئة، لم يتحدث عنها أحد بسوء، تقبل الجلوس مع زوجها ووالدته، وهو ما أسرع في إتمام الزيجة.
تبدأ المشكلات من الأسبوع الثاني من الزواج، حيث تلاحظ الأم أن ابنها بدا حزينا ليس كعادته، شارد الذهن، لا يأكل بشكل جيد، فتحدثت له بشكل مباشر لتسأله عن السبب.
لا شيء يا أمي، كل الأمور بخير.
لكنك لا تبدو كذلك.
أبدا هو فقط من الإجهاد.
إجهاد! ما بك ياابني أنت لازلت في إجازة الزواج فمن أين يأتي الإجهاد؟
لا شيء.
تصمت الأم الحنونة لكن لا تترك الأمر، فتنتظر خروج ابنها لصلاة الجمعة لتستفسر من زوجته عن السبب لتخبرها أن لاشيء.
هلاشتكى من لك شيء؟
لا.
إذا لا شيء.
ياابنتي ها ابني الوحيد الذي خرجت به من هذه الدنيا، بل ضحيت بكل الدنيا لأجله، فلا يمكنني ان أتحمل رؤيته هكذا.
وما ذنبي؟ قلت لك لم افعل شيء له.
أنا لا أتهمك بشيء، فقط أسألك.
اسأليه هو، فلا إجابة لدي.
إذا تحدثي إليه انتِ يا ابنتي، افهمي منه، ابني طيب جدا لا يستحق أن يكون هكذا تائها وحزينا.
إن شاء الله.
تذهب المراة إلى غرفتها، بينما تعد الأم إفطار يوم الجمعة، دائما ما يكون إفطارا مميزا يتناوله الثلاثة بعد صلاة الجمعة وعودة الشاب إلى المنزل.
يأتي الرجل ويجلس بين أمه وزوجته يتناول الطعام، لكن لا ينطق، ولا يتحدث لأحد بشيء، فتحاول الأم أن تسأله عن أخبار العامة وعن صلاة الجمعة ومن رآه ومن هنأه بالزواج.
يجيب الشاب إجابات مقتضبة، لا تشبع الأم، فهي في الحقيقة لا تريد أن تعرف شيئا، هي فقط تريده أن يتحدث ولا يستسلم لصمته.
تذهب الزوجة لإعداد الشاي، فتكمل حديثها مع ابنها وعن الزيارات التي جاءتها طيلة الأسبوع وعما فعله الأطفال بالمنزل، وكسر لوحة كانت غالية عليها جدا، ليفاجئها ابنها : كل شيء يمكن تعويضه يا أمي.
تلك الإجابة لم تكن تعتاد عليها الأم شام من ابنها، فهو دائما ما يطيب خاطرها، لتبسم : ربي يفرحني بأولادك.
أولادي! هكذا انتفض الابن وكأن ماسا كهربائيا قد لحق به.
نعم أبناؤك، ألا تحب الأبناء!
نعم نعم أحبهم يا أمي.
لم يمض على هذا الحديث أكثر من شهرين حتى جاء الخبر السار بأن زوجتة حامل.
تفرح الأم وتعلن الخبر لجيرانها، لكن لم يكن الابن على هذا القدر من سعادة أمه.
تمر الأيام مسرعة وتشعر الأم بأن شيئا ما يحدث لكن لا تفهمه، فقط شرود ابنها، لكن ربما بسبب المسئولية التي تنتظره، وهذا الطفل القادم في الطريق، ربما لإختلاف الشعور،فجاة تحول من الشاب المدلل إلى الزوج المسئول عن زوجة وأم، ربما مشاكل في عمله، ربما بسببكثرة طلبات زوجته، كلها احتمالات جائزة.
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه، آآآآه .. آآآآآآه صرخات شديدة ومتقطعة تصدرها الزوجة، لقد جاء موعد ولادتها.
ادفعي، هيا ادفعي، هيا.. أوشكت الرأس على الخروج.
تكتم الزوجة أنفاسها ثم تدفع مرة واحدة في صرخات مندفعة، لتخرج الرأس ويخرج باقي الجسد لتسريح المرأة وتخلد لتوها في النوم دون أن تعرف حتى جنس المولود.
"اللي يجيبه ربنا كويس"، هكذا قالت الأم شام بعد أن تأكدت من جنس الطفل .. إنها طفلة.
اتفضل ياابني سمي.
بسم الله الرحمن الرحيم .. صالحة.
أسميها صالحة ياأمي.
اسم رائع توكل على الله.. ربنا يصلحها ويصلح أحوالها، ويجعلها صلاح للبيت ياابني.
آميييين.
تأخذها الجدة وتؤذن في أذنيها وتكبروتشهد أن لا إله إلا الله.
تستيقط الزوجة، تأخذ الطفلة تتأكد من جنسها .. فتاة.
صالحة .. إنها صالحة ..هكذا يجيب الزوج مبتسما.
صااااااااااااااااالحة .. على البركة.
تخرج الزوجة ثديها لترضع تلك الصالحة، فيخرج الزوج ليبارك أمه، فيجدها تعد لها بعض من الشوربة تعويضا عما فقدته من دماء وبعض المشروبات تخفيفا لآلام الولادة.
ماذا تفعلين يا أمي؟
أعد الطعام لزوجتك، وأعددت لك طعامك الخاص يا ابني.
يقبل رأس والدته ويدها، الله يبارك عمرك ياأمي.
وعمرك ياابو صالحة.
الحمد لله على كل نعمه وعطاياه.
تكبر الفتاة أمام أعينهم، تقترب أكثر من جدتها وتبتعد عن والدتها، يتابع والدها هذه المشاعرفي صمت، سبحانك يالله تعطي من تشاء بغير حساب.
صالحة تعويضا عن مجهول، نبت طيب أضاف البهجة لتلك الأسرة الصامتة، وتلك الجدة الوحيدة والتي ليس لها من هذه الدنيا سوى ابنها.
اليوم المنزل صار به الجدة والابن والزوجة والطفلة التي كبرت وصارت في الثالثة عشرة من عمرها.
ياعمه شام .. ياعمة شام.
من الطارق؟ من ينادي؟
ياعمة شام؟ ياعمة شام؟
تفتح الجدة الباب، ما الأمر ياابني؟
أسرعي ياعمة .. ابنك في انتظارك؟
أين ياابني؟
هيا اسرعي؟ سنتحدث فيما بعد.
تذهب الام مسرعة تجد ابنها على فراش داخل أحد المستشفيات الحكومية بين الحياة والموت.
تصرخ الأم وتبكي بحرقة على ابنهاز
يفتح الابن عينيها: أنا بخير يا أمي .. أنا بخير .
الحمدلله الحمدلله.
رحمة الله على زوجتك ياابني.
علمت الأم بوفاة زوجة ابنها فور قدومها المستشفى، لكن حرقة قلبها على ابنها كان أشد من وفاة الزوجة.
بكى الرجل على وفاة زوجته وبكت معه الأم، فكيف لصالحة أن تحتمل الفراق، لكن كان عزاؤهم أن الطفلة أكثر ارتباطا بالجدة عن الأم.
الحالة حرجة جدا، جهاز التنفس بسرعة .. اسرعوا.
هيا .. هيا .
بوووووم .. بووووووم .
لا إله إلا الله .. البقاء لله .
لا .. لااااااااااااااااا .. ابني لم يمت .. لم يمت .. زوجته هي من ماتت.
تتألم الأم وتصرخ من الحزن وشدة الألم، فكيف لها أن تفقد ابنته وزوجها في يوم واحد .. رحمتك يا الله.
تبكي شام على الفقدان لكنها تتذكر صالحة التي لازالت في الفصل الدراسي، تترك المستشفى، تجري مسرعة على المدرسة، تدخل دون استئذان، تبحث عن صالحة .. تأخذها بين ذراعيها، تبكي، فتبكي الفتاة على بكائها دون أن تعلم السبب.
وحيدة ياابنتي مثل جدتك.
تأخذها من المدرسة دون أن تتحدث لأحد، لا ترى أحدا، هي ممسكة بيد الفتاة، تأخذها لطريق غيرطريق العودة للمنزل، تأخدها حيث الجثمان، تأخذها للقاء الأخير لتودع والديها.
تصعق الفتاة مما تسمع، لا تصدق، أبي وأمي في وقت واحد، تصمت ثم تبكي ثم تصمت ثم تصرخ، أبي وأمي ! كيف ياجدتي؟كيف؟
حادث سير يا ابنتي.
كيف؟ كيف ياجدتي؟
وأمي لماذا خرجت مع بي وإلى أين، هم لم يتركوا القرية منذ أكثر من عام، لماذا خطفهم الموت ياجدتي؟ الآن أنا يتيمة؟ وحيدة ! ليس لي أحد.
لك الله ياابنتي.. كل حياتي لك.
تبكي الفتاة حتى الدفن، تأخذها الجدة للمنزل بعد قراءة بعض من الآيات القرآنية بعد انصراف أهل القرية.
تحتضن الجدة ملابس ابنها،بينما ترتدي الفتاة ملابس والدتها، فيبكيانمعا إلى أن يناما حزنا وكمدا وقهرا.
يشتد الرباط بين الجدة شام والحفيدة صالحة، فتتقمص الجدة دور الأم، بينما قامت صالحة بدور الابن، لتعود الجدة كما كانت مع ابن واحد، ويعود المنزل هادئا بكليهما، وكأن شيئا لم يحدث، وكأن الله فعل كل شيء من أجل الجدة ليسخر له من يظل دائما معها.
تخرج الجدة في يوم من الأيام فور ذهاب صالحة لعملها، فتعود قبل مجئيها، فلا تشعر صالحة بذلك، لكن يفاجئها زميلها في اليوم الثاني برؤيته لجدتها في أحد الأسواق لتنفي صالحة هذا الخبر، فجدتها لا تغادر المنزل أبدا، لكنها تعود وتستفسرمن جدتها لتنفي ذلك الأمر، فإلى أي الأماكن تذهب!، فلم يعد لها أحد سوى صالحة.
ماتت الجدة وبقيت صالحة يتيمة لا أم ولا أب ولا جده، لا أحد، لها الله وحده، نامت في ثوب الجدة، لكنها استيقظت على صوت الأب!
صالحة صالحة .. ابنتي ياصالحة.
شعرت الفتاة بأنها تحلم، لكنها فوجئت بدقات متتالية على باب منزلها، لتفتح الباب فتجد رجلا لا تعرفه يقدم لها واجب العزاء
لا أحد هنا ياعم جدتي ماتت،تقولها باكية : لايمكن لرجل أن يدخل في غيابها.
لست غريبا .. انا والدك.
والدي.
نعم.
والدي !!
تلعثم الرجل، أقصد مثل والدك، فهو كان صديقي المقرب، وكان وصيته لي أن أكون بجوارك دائما.
لا تقتنع الفتاة بما يقول، لكن لا شيء يثير فضولها، مجرد شخص عابر تعاطف معها مثل بقية أهل القرية، لاشيء.
الجميع يتعاطف معها،تذهب لها صديقاتها المدرسات لإثنائه عن إجازتها وإقناعها بالعودة للعمل حتى تنسى مصابها، تقتنع على مضض، تعود لعملها، يتقرب منها زملاؤها، حتى التلاميذ يتعاطفون معها .. هي وحيدة بكل معنى الكلمة.
لاشيء يربت على قلبها، كل الأشياء تؤلمها، قلبها صار مجهدا جدا، فقدت رغبة الطعام ورغبة الحياة، لكن تبتسم لها الحياة ليدق الحب بابها بقدوم مدرس جديد للمدرسة فيعجب بها ويميل قلبها لتزورها السعادة مرةأخرىبعد مرور أكثر من عام على وفاة جدتها.
يعلم الرجل الذي شرع بزيارتها منذ فترة ليست بالقصيرة، وادعى أنه صديق والدها بأمر شروعها في الزواج من المدرس زميلها، فيثور الرجل ويرفض تلك الزيجة بشكل قاطع، فيذهب إليها ويحذرها من الزواج منه، بل يذهب أيضا إلى المدرس يحذره من الاقتراب من تلك الصالحة، دون أن يقدم مبررا لها لهذا الرفض، بينما أخبر الرجل بضرورة الابتعاد عنها وإلا فضحه بين أهل القرية.
يخشى الشاب من الرجل لكن لا يكترث لأمره ويصر على الزواج بها، والفتاة يشتد عنادها، فما شأن هذا الرجل بها؟ ولم يتدخل في حياتها؟، فهي بلا أب ولا أم ولا جدة.. وحيدة بائسة.
لا يمكنني التخلي، لا أستطيع أنا أحبها.
لا بل أنت تغشها، فأنت لست ممن يتزوجون، فهل تريد أن أسرد لها ماضيك الأسود وغرامياتك النسائية المتعددة؟
افعل ما تريد .. لن تصدقك .. سأتزوجها.
يصرخ الأب: لن يحدث، لن يتم هذا الزواج.
بلى سيتم.
يصفعه الرجل على وجهه ..كيف لك أن تتزوج ابنتي رغما عني؟
ابنتك!
نعم ابنتي
كيف فهي يتيمة الأبوين.. لا أحد لها؟
يصمتالرجل ثم يواصل حديثه، لقد ارتكبت أنا ووالدتها الله يرحمها خطأ وجرما صبرعليه زوجها المسكين، فلم يفضح أمرها، فكنت على علاقة بوالدة صالحة قبل زواجها، وعرفت بحملها لكن لم أكن لأتزوج امرأة ثانية، وما كان من تلك المرأة سوى أن تتزوج برجل مسكين قد لا ينتبه لحملها، لكنه عرف من أول ليلة وكشف أمرها، فالتزم الصمت والصبر على هذا المصاب، فلم تقربه السعادة ولم يقرب زوجته حتى مماته، فصار عزبا متزوجا ووالد بالإكراه.
صمت يخيم على المكان، لاشيء يمكن أن يقال، ماهذا الهراء، هل يعقل أن تكون تلك كذبة كبيرة ابتدعها هذا الأب؟ لكن كيف؟ ولماذا يختلق كل هذه الأكاذيب؟
وهل هي تعلم بما حدث مع والدتها؟
بالطبع لا .. كل الأمور طبيعية جدا بالنسبة لها.
وأنت كيف تأكدت من انها ابنتك؟ ربما تكون تلك المراة قد أجهضت نفسها؟
لم تستطع وبقي الحمل وجاءت صالحة.
كيف تأكدت؟
من جدتها العمة شام؟
كيف؟
جاءتني صباح يوم لتخبرني أن ابنها و زوجته قدتوفيا وهما في طريقهما لرؤيتي، فأراد ابنها أن يعيد الأمور لنصابها الصحيح بعد أن عرف من هو الشخص والد صالحة الحقيقي بعد كل هذه السنوات، لكنهما ماتا قبل الوصول في حادث سير، وأراد القدر أن يبقى الابن ساعة على قيد الحياة بعد الحادثة، وكأن روحه تنتظر رؤية والدته لتخبرها بكل شيء، لينزل النبأ كالصاعقة.
الأم التي تبكي كل شيء، تبكي السنوات الماضية والكذبة الكبيرة،وتبكي حزن ابنها كل هذه السنوات، وتبكي موته، وتبكي حزنا على ما ينتظر تلك المسكينة التي تستيقظ على نبأ سفر المدرس الجديد لإحدى الدول دون حتى أن يترك رسالة واحدة لها.
لا تحزن صالحة، ففقدت الكثيرين، ولم يبق متسع للحزن، "خد الشر وراح" هكذا قالت وابتسمت.
لاشيء يدهشها، هي تعلم أن حبها كان هربا من ظروفها.
لكن يبقى السؤال هل يعترف الأب بابنته؟ هل يخبرها بأنها لم تعد يتيمة؟ هل يخبرها بأنها لم تعد وحيدة في هذا العالم، والدها لايزال على قيد الحياة، ولها أخوة وأخوات؟
وهل تقبل كل هذا العبث؟
وكيف لها أن تتحمل أخطاء غيرها؟ وكيف ينظر لها المجتمع؟ وكيف تشعر حينما تتذكر الرجل الذي تربت في كنفه؟ وجدتها التي لم تعد جدتها؟
الجميع يواسيها، يدعو للجدة بالرحمة ويدعو لصالحة بصلاح الحال وزوال الهم.
تعود الفتاة وحيدة من المقابر بعد أن ودعت جدتها، تجلس في غرفتها تبكي بحرقة شديدة غيابها الأبدي، فهنا انقطع الوصال، وذهب آخر ما كان لها قبل أن تفقد والديها في حادث سير.
لماذا تركتني وحيدة ياالله؟
لا أحد لي، ذهبت آخر من كان لي، رحمتك يارب.
ترتدي صالحة ملابس جدتها شام، وتتوضأ لتصلي وتدعو الله لها بالرحمة وحسن رفقة الآخرة، لكنها لا يمكنها التوقف عن البكاء، لايمكنها أن تتخيل المنزل بدونها، كيف لها أن تجلسفي هذا المنزل القديم دون وجود تلك العجوز؟!
كيف لها تستيقظ دون أن تقبل يديها قبل الذهاب لعملها، ومن ينتظر عودتها حتى تقص عليها أحداث اليوم.
علاقة غير عادية، لم تكن فقط مجرد رباط بين فتاة وجدتها لأبيها، لكنها كانت كوالدتها وكأبيها وكأخيها وأختها وصديقتها، هي كل شيء بالنسبة لها، لاأحد على الأرض يستمع لها، لاأحد أحق بصحبتها سوى تلك العجوز.
كانت تعيش في جزء متطرف من القرية، لاأحد يأتيهم ولا يتركون منزلهم أبدًا، فقط تذهب صالحة لعملها في المدرسة، بينما جدتها تعد ما استطاعت من الطعام لها حتى عودتها لتكمل ما بدأته.
أقسما ألا يفترقا، وكلما حاول أحد زملائها التقرب منها بغرض الزواج، إلا وكان أول ماتصمم عليه هو جلوسها في منزل جدتها لتكون برفقتها حتى انتهاء الأجل، وغالبًا لم يكن ذلك يعجب الرجال، ولكن الأمرلم يعد يشغلها؛ فهي لا تشعر أنها بحاجة لأحد في حياتها، هي ممتلئة حتى الشبع أو ربما ظنت ذلك.
فلم تكن كغيرها من الفتيات يتمنين الزواج وإنجاب الأطفال، كانت تشعر أن تلاميذ المدرسة هم أبناؤها، تنتظر قصصهم اليومية ومشاغباتهم التي لا تنتهي.
لايشغلها شيء سوى تحضير دروسها التي تشرحها لطلابها، وتحضير الطعام لجدتها والاهتمام بها وبعلاجها، ودون ذلك لا يهم.
تذكرت لحظة قدوم دورتها الشهرية وحرجها الشديد من إخطار والدتها بالأمر والاستفسارعما يحدث لها، فذهبت مسرعة إلى جدتها لتخبرها بما أصابها، لتباركها الجدة وتعلمها أنها الآن صارت فتاة كبيرة عليها أن تحسب ألف حساب لتحركاتها وعلمتها كيفية الاهتمام بنفسها وتطهيرها بعد الانتهاء منها.
ربنا يصلح أحوالك يابنتي.
تنادي الجدة على زوجة ابنها لتخطرها بقدوم دورة ابنتها الشهرية، وعليها أن تغير معاملتها لها، وأن تكون أكثر عطفا عليها وتفهما لها ولا تتركها لخيالاتها وأوهامها.
صاحبيها يابنتي.
والله انتِ السبب يا أمي في خسارتها، الفتاة لا تسمع لي، ولا لوالدها، فقط تنفذ ما تقولينه أنتِ لا....
هذا الكلام غير الصحيح.
الفتاة تسمع من يعطف عليها، تهتم بمن يستمع إليها، تسرع إلى من يطمئنها، لا على من يفزعها ويأمرها طوال الوقت.
اكسر للبنت ضلع يطلعلها 24 ضلع.
والله انتِ من تحتاجي إلى كسر أضلعك.
لم تكن الجدة شام تحب زوجة ابنها لكنها كانت تعشق صالحة، كأنها هي من أنجبتها، وهي عزاؤها الوحيد من تلك الزيجة غير المرضية بالنسبة لها، فهي ترى ان ابنها كان أحق بزوجةأخرىتحبه وتقدره وليست مجرد امرأة.
ابنها كان مهندسا زراعيا هادئا جدا، عطوفا عليها، يحب الجميع، يقبل بكل الأشياء، لا يعترض على شيء، يحمد الله طوال الوقت، يسعى لإرضاء والدته بكل الطرق، فقد مات والده قبل أن يراه، ولم تفكر والدته في الزواج وهي لازالت في الثامنة عشرة من عمرها، فكيف لها أن تعيش كل هذا العمر دون رجل!
كيف تقضي حاجتها ! كيف تسيطر على رغبتها!
هي لم تسيطر على رغبتها فقط بل قتلتها، ووهبت نفسها لتربية ابنها، أقسمت على التضرع لله ليل نهار لحمايتها من الفتن ومن رغباتها، وسهرت الليالي على رعاية ابنها حتى صار رجلا يحترمه ويقدره الجميع، فكيف له أن يبتعد عنها أو أن يرفض لها رغبة أو طلبا، وهذا هو ماحدث في زواجه.
كانت تظن أن تلك الفتاة التي اختارتها لابنها هي من أفضل بنات القرية من وجهة نظرها، فهي مطيعة، هادئة، لم يتحدث عنها أحد بسوء، تقبل الجلوس مع زوجها ووالدته، وهو ما أسرع في إتمام الزيجة.
تبدأ المشكلات من الأسبوع الثاني من الزواج، حيث تلاحظ الأم أن ابنها بدا حزينا ليس كعادته، شارد الذهن، لا يأكل بشكل جيد، فتحدثت له بشكل مباشر لتسأله عن السبب.
لا شيء يا أمي، كل الأمور بخير.
لكنك لا تبدو كذلك.
أبدا هو فقط من الإجهاد.
إجهاد! ما بك ياابني أنت لازلت في إجازة الزواج فمن أين يأتي الإجهاد؟
لا شيء.
تصمت الأم الحنونة لكن لا تترك الأمر، فتنتظر خروج ابنها لصلاة الجمعة لتستفسر من زوجته عن السبب لتخبرها أن لاشيء.
هلاشتكى من لك شيء؟
لا.
إذا لا شيء.
ياابنتي ها ابني الوحيد الذي خرجت به من هذه الدنيا، بل ضحيت بكل الدنيا لأجله، فلا يمكنني ان أتحمل رؤيته هكذا.
وما ذنبي؟ قلت لك لم افعل شيء له.
أنا لا أتهمك بشيء، فقط أسألك.
اسأليه هو، فلا إجابة لدي.
إذا تحدثي إليه انتِ يا ابنتي، افهمي منه، ابني طيب جدا لا يستحق أن يكون هكذا تائها وحزينا.
إن شاء الله.
تذهب المراة إلى غرفتها، بينما تعد الأم إفطار يوم الجمعة، دائما ما يكون إفطارا مميزا يتناوله الثلاثة بعد صلاة الجمعة وعودة الشاب إلى المنزل.
يأتي الرجل ويجلس بين أمه وزوجته يتناول الطعام، لكن لا ينطق، ولا يتحدث لأحد بشيء، فتحاول الأم أن تسأله عن أخبار العامة وعن صلاة الجمعة ومن رآه ومن هنأه بالزواج.
يجيب الشاب إجابات مقتضبة، لا تشبع الأم، فهي في الحقيقة لا تريد أن تعرف شيئا، هي فقط تريده أن يتحدث ولا يستسلم لصمته.
تذهب الزوجة لإعداد الشاي، فتكمل حديثها مع ابنها وعن الزيارات التي جاءتها طيلة الأسبوع وعما فعله الأطفال بالمنزل، وكسر لوحة كانت غالية عليها جدا، ليفاجئها ابنها : كل شيء يمكن تعويضه يا أمي.
تلك الإجابة لم تكن تعتاد عليها الأم شام من ابنها، فهو دائما ما يطيب خاطرها، لتبسم : ربي يفرحني بأولادك.
أولادي! هكذا انتفض الابن وكأن ماسا كهربائيا قد لحق به.
نعم أبناؤك، ألا تحب الأبناء!
نعم نعم أحبهم يا أمي.
لم يمض على هذا الحديث أكثر من شهرين حتى جاء الخبر السار بأن زوجتة حامل.
تفرح الأم وتعلن الخبر لجيرانها، لكن لم يكن الابن على هذا القدر من سعادة أمه.
تمر الأيام مسرعة وتشعر الأم بأن شيئا ما يحدث لكن لا تفهمه، فقط شرود ابنها، لكن ربما بسبب المسئولية التي تنتظره، وهذا الطفل القادم في الطريق، ربما لإختلاف الشعور،فجاة تحول من الشاب المدلل إلى الزوج المسئول عن زوجة وأم، ربما مشاكل في عمله، ربما بسببكثرة طلبات زوجته، كلها احتمالات جائزة.
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه، آآآآه .. آآآآآآه صرخات شديدة ومتقطعة تصدرها الزوجة، لقد جاء موعد ولادتها.
ادفعي، هيا ادفعي، هيا.. أوشكت الرأس على الخروج.
تكتم الزوجة أنفاسها ثم تدفع مرة واحدة في صرخات مندفعة، لتخرج الرأس ويخرج باقي الجسد لتسريح المرأة وتخلد لتوها في النوم دون أن تعرف حتى جنس المولود.
"اللي يجيبه ربنا كويس"، هكذا قالت الأم شام بعد أن تأكدت من جنس الطفل .. إنها طفلة.
اتفضل ياابني سمي.
بسم الله الرحمن الرحيم .. صالحة.
أسميها صالحة ياأمي.
اسم رائع توكل على الله.. ربنا يصلحها ويصلح أحوالها، ويجعلها صلاح للبيت ياابني.
آميييين.
تأخذها الجدة وتؤذن في أذنيها وتكبروتشهد أن لا إله إلا الله.
تستيقط الزوجة، تأخذ الطفلة تتأكد من جنسها .. فتاة.
صالحة .. إنها صالحة ..هكذا يجيب الزوج مبتسما.
صااااااااااااااااالحة .. على البركة.
تخرج الزوجة ثديها لترضع تلك الصالحة، فيخرج الزوج ليبارك أمه، فيجدها تعد لها بعض من الشوربة تعويضا عما فقدته من دماء وبعض المشروبات تخفيفا لآلام الولادة.
ماذا تفعلين يا أمي؟
أعد الطعام لزوجتك، وأعددت لك طعامك الخاص يا ابني.
يقبل رأس والدته ويدها، الله يبارك عمرك ياأمي.
وعمرك ياابو صالحة.
الحمد لله على كل نعمه وعطاياه.
تكبر الفتاة أمام أعينهم، تقترب أكثر من جدتها وتبتعد عن والدتها، يتابع والدها هذه المشاعرفي صمت، سبحانك يالله تعطي من تشاء بغير حساب.
صالحة تعويضا عن مجهول، نبت طيب أضاف البهجة لتلك الأسرة الصامتة، وتلك الجدة الوحيدة والتي ليس لها من هذه الدنيا سوى ابنها.
اليوم المنزل صار به الجدة والابن والزوجة والطفلة التي كبرت وصارت في الثالثة عشرة من عمرها.
ياعمه شام .. ياعمة شام.
من الطارق؟ من ينادي؟
ياعمة شام؟ ياعمة شام؟
تفتح الجدة الباب، ما الأمر ياابني؟
أسرعي ياعمة .. ابنك في انتظارك؟
أين ياابني؟
هيا اسرعي؟ سنتحدث فيما بعد.
تذهب الام مسرعة تجد ابنها على فراش داخل أحد المستشفيات الحكومية بين الحياة والموت.
تصرخ الأم وتبكي بحرقة على ابنهاز
يفتح الابن عينيها: أنا بخير يا أمي .. أنا بخير .
الحمدلله الحمدلله.
رحمة الله على زوجتك ياابني.
علمت الأم بوفاة زوجة ابنها فور قدومها المستشفى، لكن حرقة قلبها على ابنها كان أشد من وفاة الزوجة.
بكى الرجل على وفاة زوجته وبكت معه الأم، فكيف لصالحة أن تحتمل الفراق، لكن كان عزاؤهم أن الطفلة أكثر ارتباطا بالجدة عن الأم.
الحالة حرجة جدا، جهاز التنفس بسرعة .. اسرعوا.
هيا .. هيا .
بوووووم .. بووووووم .
لا إله إلا الله .. البقاء لله .
لا .. لااااااااااااااااا .. ابني لم يمت .. لم يمت .. زوجته هي من ماتت.
تتألم الأم وتصرخ من الحزن وشدة الألم، فكيف لها أن تفقد ابنته وزوجها في يوم واحد .. رحمتك يا الله.
تبكي شام على الفقدان لكنها تتذكر صالحة التي لازالت في الفصل الدراسي، تترك المستشفى، تجري مسرعة على المدرسة، تدخل دون استئذان، تبحث عن صالحة .. تأخذها بين ذراعيها، تبكي، فتبكي الفتاة على بكائها دون أن تعلم السبب.
وحيدة ياابنتي مثل جدتك.
تأخذها من المدرسة دون أن تتحدث لأحد، لا ترى أحدا، هي ممسكة بيد الفتاة، تأخذها لطريق غيرطريق العودة للمنزل، تأخدها حيث الجثمان، تأخذها للقاء الأخير لتودع والديها.
تصعق الفتاة مما تسمع، لا تصدق، أبي وأمي في وقت واحد، تصمت ثم تبكي ثم تصمت ثم تصرخ، أبي وأمي ! كيف ياجدتي؟كيف؟
حادث سير يا ابنتي.
كيف؟ كيف ياجدتي؟
وأمي لماذا خرجت مع بي وإلى أين، هم لم يتركوا القرية منذ أكثر من عام، لماذا خطفهم الموت ياجدتي؟ الآن أنا يتيمة؟ وحيدة ! ليس لي أحد.
لك الله ياابنتي.. كل حياتي لك.
تبكي الفتاة حتى الدفن، تأخذها الجدة للمنزل بعد قراءة بعض من الآيات القرآنية بعد انصراف أهل القرية.
تحتضن الجدة ملابس ابنها،بينما ترتدي الفتاة ملابس والدتها، فيبكيانمعا إلى أن يناما حزنا وكمدا وقهرا.
يشتد الرباط بين الجدة شام والحفيدة صالحة، فتتقمص الجدة دور الأم، بينما قامت صالحة بدور الابن، لتعود الجدة كما كانت مع ابن واحد، ويعود المنزل هادئا بكليهما، وكأن شيئا لم يحدث، وكأن الله فعل كل شيء من أجل الجدة ليسخر له من يظل دائما معها.
تخرج الجدة في يوم من الأيام فور ذهاب صالحة لعملها، فتعود قبل مجئيها، فلا تشعر صالحة بذلك، لكن يفاجئها زميلها في اليوم الثاني برؤيته لجدتها في أحد الأسواق لتنفي صالحة هذا الخبر، فجدتها لا تغادر المنزل أبدا، لكنها تعود وتستفسرمن جدتها لتنفي ذلك الأمر، فإلى أي الأماكن تذهب!، فلم يعد لها أحد سوى صالحة.
ماتت الجدة وبقيت صالحة يتيمة لا أم ولا أب ولا جده، لا أحد، لها الله وحده، نامت في ثوب الجدة، لكنها استيقظت على صوت الأب!
صالحة صالحة .. ابنتي ياصالحة.
شعرت الفتاة بأنها تحلم، لكنها فوجئت بدقات متتالية على باب منزلها، لتفتح الباب فتجد رجلا لا تعرفه يقدم لها واجب العزاء
لا أحد هنا ياعم جدتي ماتت،تقولها باكية : لايمكن لرجل أن يدخل في غيابها.
لست غريبا .. انا والدك.
والدي.
نعم.
والدي !!
تلعثم الرجل، أقصد مثل والدك، فهو كان صديقي المقرب، وكان وصيته لي أن أكون بجوارك دائما.
لا تقتنع الفتاة بما يقول، لكن لا شيء يثير فضولها، مجرد شخص عابر تعاطف معها مثل بقية أهل القرية، لاشيء.
الجميع يتعاطف معها،تذهب لها صديقاتها المدرسات لإثنائه عن إجازتها وإقناعها بالعودة للعمل حتى تنسى مصابها، تقتنع على مضض، تعود لعملها، يتقرب منها زملاؤها، حتى التلاميذ يتعاطفون معها .. هي وحيدة بكل معنى الكلمة.
لاشيء يربت على قلبها، كل الأشياء تؤلمها، قلبها صار مجهدا جدا، فقدت رغبة الطعام ورغبة الحياة، لكن تبتسم لها الحياة ليدق الحب بابها بقدوم مدرس جديد للمدرسة فيعجب بها ويميل قلبها لتزورها السعادة مرةأخرىبعد مرور أكثر من عام على وفاة جدتها.
يعلم الرجل الذي شرع بزيارتها منذ فترة ليست بالقصيرة، وادعى أنه صديق والدها بأمر شروعها في الزواج من المدرس زميلها، فيثور الرجل ويرفض تلك الزيجة بشكل قاطع، فيذهب إليها ويحذرها من الزواج منه، بل يذهب أيضا إلى المدرس يحذره من الاقتراب من تلك الصالحة، دون أن يقدم مبررا لها لهذا الرفض، بينما أخبر الرجل بضرورة الابتعاد عنها وإلا فضحه بين أهل القرية.
يخشى الشاب من الرجل لكن لا يكترث لأمره ويصر على الزواج بها، والفتاة يشتد عنادها، فما شأن هذا الرجل بها؟ ولم يتدخل في حياتها؟، فهي بلا أب ولا أم ولا جدة.. وحيدة بائسة.
لا يمكنني التخلي، لا أستطيع أنا أحبها.
لا بل أنت تغشها، فأنت لست ممن يتزوجون، فهل تريد أن أسرد لها ماضيك الأسود وغرامياتك النسائية المتعددة؟
افعل ما تريد .. لن تصدقك .. سأتزوجها.
يصرخ الأب: لن يحدث، لن يتم هذا الزواج.
بلى سيتم.
يصفعه الرجل على وجهه ..كيف لك أن تتزوج ابنتي رغما عني؟
ابنتك!
نعم ابنتي
كيف فهي يتيمة الأبوين.. لا أحد لها؟
يصمتالرجل ثم يواصل حديثه، لقد ارتكبت أنا ووالدتها الله يرحمها خطأ وجرما صبرعليه زوجها المسكين، فلم يفضح أمرها، فكنت على علاقة بوالدة صالحة قبل زواجها، وعرفت بحملها لكن لم أكن لأتزوج امرأة ثانية، وما كان من تلك المرأة سوى أن تتزوج برجل مسكين قد لا ينتبه لحملها، لكنه عرف من أول ليلة وكشف أمرها، فالتزم الصمت والصبر على هذا المصاب، فلم تقربه السعادة ولم يقرب زوجته حتى مماته، فصار عزبا متزوجا ووالد بالإكراه.
صمت يخيم على المكان، لاشيء يمكن أن يقال، ماهذا الهراء، هل يعقل أن تكون تلك كذبة كبيرة ابتدعها هذا الأب؟ لكن كيف؟ ولماذا يختلق كل هذه الأكاذيب؟
وهل هي تعلم بما حدث مع والدتها؟
بالطبع لا .. كل الأمور طبيعية جدا بالنسبة لها.
وأنت كيف تأكدت من انها ابنتك؟ ربما تكون تلك المراة قد أجهضت نفسها؟
لم تستطع وبقي الحمل وجاءت صالحة.
كيف تأكدت؟
من جدتها العمة شام؟
كيف؟
جاءتني صباح يوم لتخبرني أن ابنها و زوجته قدتوفيا وهما في طريقهما لرؤيتي، فأراد ابنها أن يعيد الأمور لنصابها الصحيح بعد أن عرف من هو الشخص والد صالحة الحقيقي بعد كل هذه السنوات، لكنهما ماتا قبل الوصول في حادث سير، وأراد القدر أن يبقى الابن ساعة على قيد الحياة بعد الحادثة، وكأن روحه تنتظر رؤية والدته لتخبرها بكل شيء، لينزل النبأ كالصاعقة.
الأم التي تبكي كل شيء، تبكي السنوات الماضية والكذبة الكبيرة،وتبكي حزن ابنها كل هذه السنوات، وتبكي موته، وتبكي حزنا على ما ينتظر تلك المسكينة التي تستيقظ على نبأ سفر المدرس الجديد لإحدى الدول دون حتى أن يترك رسالة واحدة لها.
لا تحزن صالحة، ففقدت الكثيرين، ولم يبق متسع للحزن، "خد الشر وراح" هكذا قالت وابتسمت.
لاشيء يدهشها، هي تعلم أن حبها كان هربا من ظروفها.
لكن يبقى السؤال هل يعترف الأب بابنته؟ هل يخبرها بأنها لم تعد يتيمة؟ هل يخبرها بأنها لم تعد وحيدة في هذا العالم، والدها لايزال على قيد الحياة، ولها أخوة وأخوات؟
وهل تقبل كل هذا العبث؟
وكيف لها أن تتحمل أخطاء غيرها؟ وكيف ينظر لها المجتمع؟ وكيف تشعر حينما تتذكر الرجل الذي تربت في كنفه؟ وجدتها التي لم تعد جدتها؟