أعجبت بالمنفلوطي في بداية تكويني، أملا في تحسين لغتي وأسلوبي في كتابة الإنشاء. كما أعجبت بالمازني في مرحلة المراهقة، وقد بدأ الحرص على إبداء وجهة النظر الخاصة، وممارسة النقد. لكن الإعجاب الأخير لم يلغ الأول. لقد ظلت لكل منهما مكانة في ثقافتي.
مارس المنفلوطي تجربة خاصة في الكتابة الأدبية. واشتغل المازني برؤية نقدية مختلفة، فكان نقده للمنفلوطي، تعبيرا عن تجربة جديدة كانت وقتها قيد التشكل. لقد مرّ الآن أكثر من قرن من الزمان على إصدار «العبرات» (1915) كما مرّ قرن على صدور الديوان (1921) الذي ساهم فيه المازني بنقد المنفلوطي. فهل يمكننا إعادة قراءة العبرات قراءة جديدة؟ وماذا يمكننا أن نقول عن النقد «السردي» كما نسميه اليوم، الذي مارسه المازني على قصة اليتيم من العبرات، التي استأثرت باهتمام الناقد، وكرس لها حوالي ست عشرة صفحة؟
يبدأ المازني بتقديم فكرة مجملة عن «موضوع» القصة مبرزا أن اليتيم طلبت منه زوجة عمه الانتقال إلى منزل آخر من منازلها، لأن ابنتها التي كبرت معه مقبلة على الزواج. اسودت الدنيا في عيني الفتى، و»انسل من البيت ليلا، وآثر أن يسترشد، ثم سكن الغرفة العليا من المنزل المجاور لمنزل المنفلوطي». وبخصوص حالة اليتيم يؤكد الناقد أنه كان صحيح الجسم، وإذا «كان الأمر على خلاف ذلك، فالذنب للمنفلوطي الذي نسي أن يذكر لنا علله وأوصابه الجسدية». ينتقل الناقد بعد ذلك إلى تبرير موقف زوجة العم، التي لم تكن تدري بعشق اليتيم لابنتها، بل إن اليتيم نفسه «لم يكن يعلم ذلك ويدريه، ومصداق هذا قول الفتى، وهو يحدث المنفلوطي». ويخلص في ضوء هذه الملاحظات أن موضوع القصة تافه، وأن العشق الذي يؤدي إلى وفاة ابنة العم وعشيقها لا قيمة له.
بعد الحديث عن الموضوع يتدرج الناقد إلى الأسلوب عند المنفلوطي، فيؤكد أنه في «هذه القصة وسواها، فأسلوب رجل لا يبالي من أي مدخل دخل القارئ» ويميز بين اللفظ والمعنى، ليقف بعد ذلك على هيمنة المفعول المطلق والنعوت والأحوال والمرادفات في كتابة المنفلوطي، مبرزا دلائل الضعف، وفقر الذهن. ثم يتساءل عن كيفية تناول المنفلوطي لموضوعه، والفكرة العامة التي نظر بها فيه؟ وماذا أعدَّ لها وكشف عنها؟ وهل اللغة صادقة؟ فيستنتج الإغراق في التفاصيل التي يعدها زائدة، ولا تضيف شيئا إلى القصة.
يبدأ الناقد في تحليله للقصة، للجواب عن هذه الأسئلة بالانطلاق من المنفلوطي (السارد) مؤكدا أنه يروي عن نفسه، ويحدث بما ينبئ أنه كان شاهده في غرفة مكتبه المطلة على غرفة الطالب، وهو بطل القصة في البيت المقابل له في الشارع. من هذا التأطير العام للمكان الذي يوجد فيه «السارد» يبدأ التحليل لمقاطع طويلة من القصة، نكتفي منها بمثالين اثنين. في المثال الأول: «كنت أراه من نافذة مكتبي، وكانت مطلة على بعض نوافذ غرفته، فأرى أمامي فتى شاحب الوجه، منقبضا جالسا إلى مصباح منير في إحدى زوايا الغرفة ينظر في كتاب، أو يكتب في دفتر، أو يستظهر قطعة، أو يعيد درسا».
يعلق المازني على هذا المقطع بالقول: كيف استطاع المنفلوطي التمييز بين الاستظهار، والإعادة، وكيف رأى شحوب الوجه، والوقت غير مناسب (الليل، البرد) وبين النافذتين عرض الشارع. وكل هذا لا يمكن الوثوق به لأنه غير ممكن. في المثال الثاني يواصل متابعة العلاقة بين السارد والبطل في الوضع نفسه، متوقفا على أن أمام اليتيم دفترا كان يكتب فيه، وهو يبكي، فانمحت كلمات من الصفحة». ويطرح الأسئلة نفسها مبرزا تهافت الكتابة لدى المنفلوطي.
عندما قرأنا هذا النقد في مرحلة البكالوريا كنا معجبين جدا بانتباه الناقد إلى هذه التفاصيل، التي لم نكن نوليها اهتماما. وفعلا كان نقد المازني يقدم لنا نماذج وأمثلة تساعدنا على كتابة موضوع يؤهلنا للنجاح. وكنا نرى في نقده حرارة وعمقا في جعلنا نتخذ موقفا من كتابة المنفلوطي، التي صرنا نتعامل معها أنها كتابة للأحداث، ولا علاقة لها بالإبداع الرفيع.
في الوقت الذي كُتب فيه الديوان، كان النقد الغربي قيد التحول، فالنقد الجديد في إنكلترا، وحركة الشكلانيين الروس في بداية عطائها، وكتاب بيرسي لوبوك «صنعة الرواية» (1921) يقدم رؤية جديدة لتحليل الرواية، وكان له تأثير في الروائيين الغربيين. لكن عدم مواكبة ما يجري في الغرب لأسباب كثيرة كان وراء تأخرنا عن المشاركة في تطوير النظرية الأدبية عامة، والسردية خاصة. إن أهم ما يستوقفني في نقد المازني هو عدم تمييزه بين الراوي والسارد. فهو يتحدث عن المنفلوطي السارد، كما كان يتحدث العقاد عن شوقي الشاعر. فالمنفلوطي يسكن في غرفة مقابل غرفة بطل القصة، وهو نفسه الذي يحدثه، ويطلب منه أن يسرد عليه قصته، وهو من يشاركه آلامه وأوصابه. ولذلك نجد كل الأسئلة التي طرحها بخصوصها مستحيلة ودالة على التهافت، ترتد إلى هذا الخلط بين الراوي والسارد المستمر، عندنا، رغم مرور قرن من الزمان.
كاتب من المغرب
مارس المنفلوطي تجربة خاصة في الكتابة الأدبية. واشتغل المازني برؤية نقدية مختلفة، فكان نقده للمنفلوطي، تعبيرا عن تجربة جديدة كانت وقتها قيد التشكل. لقد مرّ الآن أكثر من قرن من الزمان على إصدار «العبرات» (1915) كما مرّ قرن على صدور الديوان (1921) الذي ساهم فيه المازني بنقد المنفلوطي. فهل يمكننا إعادة قراءة العبرات قراءة جديدة؟ وماذا يمكننا أن نقول عن النقد «السردي» كما نسميه اليوم، الذي مارسه المازني على قصة اليتيم من العبرات، التي استأثرت باهتمام الناقد، وكرس لها حوالي ست عشرة صفحة؟
يبدأ المازني بتقديم فكرة مجملة عن «موضوع» القصة مبرزا أن اليتيم طلبت منه زوجة عمه الانتقال إلى منزل آخر من منازلها، لأن ابنتها التي كبرت معه مقبلة على الزواج. اسودت الدنيا في عيني الفتى، و»انسل من البيت ليلا، وآثر أن يسترشد، ثم سكن الغرفة العليا من المنزل المجاور لمنزل المنفلوطي». وبخصوص حالة اليتيم يؤكد الناقد أنه كان صحيح الجسم، وإذا «كان الأمر على خلاف ذلك، فالذنب للمنفلوطي الذي نسي أن يذكر لنا علله وأوصابه الجسدية». ينتقل الناقد بعد ذلك إلى تبرير موقف زوجة العم، التي لم تكن تدري بعشق اليتيم لابنتها، بل إن اليتيم نفسه «لم يكن يعلم ذلك ويدريه، ومصداق هذا قول الفتى، وهو يحدث المنفلوطي». ويخلص في ضوء هذه الملاحظات أن موضوع القصة تافه، وأن العشق الذي يؤدي إلى وفاة ابنة العم وعشيقها لا قيمة له.
بعد الحديث عن الموضوع يتدرج الناقد إلى الأسلوب عند المنفلوطي، فيؤكد أنه في «هذه القصة وسواها، فأسلوب رجل لا يبالي من أي مدخل دخل القارئ» ويميز بين اللفظ والمعنى، ليقف بعد ذلك على هيمنة المفعول المطلق والنعوت والأحوال والمرادفات في كتابة المنفلوطي، مبرزا دلائل الضعف، وفقر الذهن. ثم يتساءل عن كيفية تناول المنفلوطي لموضوعه، والفكرة العامة التي نظر بها فيه؟ وماذا أعدَّ لها وكشف عنها؟ وهل اللغة صادقة؟ فيستنتج الإغراق في التفاصيل التي يعدها زائدة، ولا تضيف شيئا إلى القصة.
يبدأ الناقد في تحليله للقصة، للجواب عن هذه الأسئلة بالانطلاق من المنفلوطي (السارد) مؤكدا أنه يروي عن نفسه، ويحدث بما ينبئ أنه كان شاهده في غرفة مكتبه المطلة على غرفة الطالب، وهو بطل القصة في البيت المقابل له في الشارع. من هذا التأطير العام للمكان الذي يوجد فيه «السارد» يبدأ التحليل لمقاطع طويلة من القصة، نكتفي منها بمثالين اثنين. في المثال الأول: «كنت أراه من نافذة مكتبي، وكانت مطلة على بعض نوافذ غرفته، فأرى أمامي فتى شاحب الوجه، منقبضا جالسا إلى مصباح منير في إحدى زوايا الغرفة ينظر في كتاب، أو يكتب في دفتر، أو يستظهر قطعة، أو يعيد درسا».
يعلق المازني على هذا المقطع بالقول: كيف استطاع المنفلوطي التمييز بين الاستظهار، والإعادة، وكيف رأى شحوب الوجه، والوقت غير مناسب (الليل، البرد) وبين النافذتين عرض الشارع. وكل هذا لا يمكن الوثوق به لأنه غير ممكن. في المثال الثاني يواصل متابعة العلاقة بين السارد والبطل في الوضع نفسه، متوقفا على أن أمام اليتيم دفترا كان يكتب فيه، وهو يبكي، فانمحت كلمات من الصفحة». ويطرح الأسئلة نفسها مبرزا تهافت الكتابة لدى المنفلوطي.
عندما قرأنا هذا النقد في مرحلة البكالوريا كنا معجبين جدا بانتباه الناقد إلى هذه التفاصيل، التي لم نكن نوليها اهتماما. وفعلا كان نقد المازني يقدم لنا نماذج وأمثلة تساعدنا على كتابة موضوع يؤهلنا للنجاح. وكنا نرى في نقده حرارة وعمقا في جعلنا نتخذ موقفا من كتابة المنفلوطي، التي صرنا نتعامل معها أنها كتابة للأحداث، ولا علاقة لها بالإبداع الرفيع.
في الوقت الذي كُتب فيه الديوان، كان النقد الغربي قيد التحول، فالنقد الجديد في إنكلترا، وحركة الشكلانيين الروس في بداية عطائها، وكتاب بيرسي لوبوك «صنعة الرواية» (1921) يقدم رؤية جديدة لتحليل الرواية، وكان له تأثير في الروائيين الغربيين. لكن عدم مواكبة ما يجري في الغرب لأسباب كثيرة كان وراء تأخرنا عن المشاركة في تطوير النظرية الأدبية عامة، والسردية خاصة. إن أهم ما يستوقفني في نقد المازني هو عدم تمييزه بين الراوي والسارد. فهو يتحدث عن المنفلوطي السارد، كما كان يتحدث العقاد عن شوقي الشاعر. فالمنفلوطي يسكن في غرفة مقابل غرفة بطل القصة، وهو نفسه الذي يحدثه، ويطلب منه أن يسرد عليه قصته، وهو من يشاركه آلامه وأوصابه. ولذلك نجد كل الأسئلة التي طرحها بخصوصها مستحيلة ودالة على التهافت، ترتد إلى هذا الخلط بين الراوي والسارد المستمر، عندنا، رغم مرور قرن من الزمان.
كاتب من المغرب