محمد محمود غدية - المقهى القديم

رسمت الملوحة والتشققات
على جدران المقهى، لوحات وخرائط وتضاريس بلا معالم أو عنوان، المقاعد والطاولات قديمة غير لامعة لكنها نظيفة، صورة صاحب المقهى تتصدر الواجهة طاردة لا جاذبة من تكشيرة وعبوس صاحبها،
المقهى قطعة من الحياة أشبه بقطار طويل يتأهب زحمة وحشد، فى محطة القطار مودعون وجلبة، داخل هذه الفوضى، قصص ومآس لأشخاص أقبلوا على الحياة بخطى متماسكة، جميعهم تفرقوا فى محطات الوصول،
ذلك الرجل الخمسيني، إختارته طاولة فى ركن بعيد عن جلبة المقهى، وصخب فيشات الطاولة والنرد والدومينو، كما إختار الكتابة، أكثر النشاطات إنعزالية فى العالم، يرى أن المشكلة الحقيقية التى تواجه إنسان القرن الحادى والعشرين، أنه لايعرف متى يبدأ ولا متى يتوقف، إختار الشعر أو هو الذى اختاره، يسبح فى فضاءات لا تنتهى، يحمل في قلبه آلام مثل طائر أعياه الترحال، يقاوم الريح والإعصار بضراوة، خشية من النهايات البائسة والموت غريبا منسيا،
- سأله يوما أحد الأصدقاء عن سبب بكائه : فأجابهم بقصيدة محمود درويش: أنا لا أبكى / كل مافى الأمر /
أن غبار السنين / قد دخلت عينى .
كان يعشق البحر قبل أن يصبح من رواد المقهي الدائمين، يشكو إليه غياب الأحباب، يرقب أمواجه وهى تتدافع بقوة حتي تصطدم بالشاطئ، فى إيقاع متواتر عنيف، يتشابه مع إيقاع مشاعره داخل صدره، التى تضج بالصخب والعنف ،
يعود من البحر بشيء من السكون أشبه بالدمع المعلق فى محجر العيون لايفيض ولايذهب، يحتسي فنجانا من القهوة أثناء غرقه فى حبر الكلمات، يمضغ أحزانه ويلوك تعاسته فى صمت مدهش،
قال عنه البعض من بين ثرثرات المقهي : أنه خرج معاشا مبكرا، وأنه لم يتزوج لأنه صدم فى التى أحبها،
لا أحد يعرف حقيقة الغريب الذى يجيء ويذهب وحيدا، قصائده رغم الوجع، تقطر عذوبة ونقاء، لا يمكنك الدخول إليها قبل خلع حذائك وطرق الباب ليؤذن لك بالدخول،
لابد أيضا اذا سبحت فى أشعاره، أن تكون صافى الوجدان هامس الصوت،
الصباح لم يعد دافئا كعادته، فقد جاء الخريف بلسعات برد متمهلة، بعد أن تناثرت حزم الضوء التى بدأت بالإنسحاب عن طاولته،
لم ينتفض من البرد كالآخرين الذين إرتدوا معاطف الشتاء، لأن الصقيع بداخله، لديه شوق لرؤية حبيبته التى لم تغب عنه يوما واحدا،
بعد أن تمكنت منه وسكنته،
مزق الشاعر شهادات التقدير التى حصل عليها في منتديات الشعر،
غادر الشاعر المقهى بعد أن كتب في ورقة مزقت لحقا بدفتر أشعاره،
إنتظرتك سنوات طوال أن تعودي / ولم تعودي / بعد أن ماتت أغنياتي / وانكسر عودي .
لاتطرقى الباب كل هذا الطرق الباب موصد،
وأنا لم أعد هنا، أنا حيث الغياب، كل الأبواب موصدة، حتي ثقوب الذاكرة وثنايا الأحلام المعطوبة، ودفاتر شعرى وأوراقى باتت في مرمى العاصفة،
ظلت طاولة الشاعر التى إختارته خالية منه لسنوات، لا أحد يعرف أين ذهب..؟بعضهم قال : هاجر والبعض قال : مات
شاخ المقهى والنادل والكراسي والطاولات، وهطل المطر الذى غسل البيوت والشوارع، فرحت به نبتة ذابلة، وأرض متشققة عطشى .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...