كرم الصباغ - عطش الصوف.. قصة

ما إن ينصب الأهالي الخيام الكبيرة، حتى تضج أطراف النجع بالزحام، و الثغاء؛ فالربيع انتصف، و موسم ( الجلامة)* حل بعد طول انتظار. على باب كل خيمة يقف رجل قوي البنية، يدخل الأغنام بنظام، فإذا ما انتهى الصواف من جز فروات الكباش و النعاج، أخرج الأغنام المقصوصة من باب خلفي، و سلم صاحبها الصوف دون زيادة أو نقصان.
تتوجه إلى هناك بقلق بالغ؛ فهي لا تملك من المال إلا القليل، تسير بحياء و خجل؛ فقد كانت الأنثى الوحيدة وسط حشد من الذكور. الباعة رجال لا يغلبون، تطوف عليهم الواحد تلو الآخر، تفحص أكوام الصوف المنتفشة أمامهم. يتباهى كل منهم بجودة بضاعته، و يعرضها بأثمان باهظة. ربما دفعها تشددهم إلى التخلي عن خجلها قليلا، و بعد جدال و فصال ، و بعد أيمان مرسلة، تشتري ما يلزمها، و تدفع مبلغا زهيدا، يتناسب مع وفرة الصوف في مثل هذا الوقت من العام.
تعود إلى دار طينية واطئة مجردة من الزينة و الطلاء. تنكفئ على دوارة الغزل، و تنهمك في العمل. تتدلى خيوط الصوف إلى حجرها. تقف من وقت إلى آخر، و تعلق الغزول على مسامير رشقتها في الحائط.
تتطلع إلى باب الدار بوجه، ملأته التجاعيد على غير أوان؛ تزفر بحرقة و حزن، و تلتفت إلى صغير ذي سنوات سبع، اتخذ من الحجارة لعبا، نثرها على الأرض. تطيل النظر إليه، تبحث في وجهه عن عزيز، طالت غيبته، عزيز ترك وراءه شبها، تراه صباح مساء في وجه ولدها الوحيد.
(٢)
يقتحم الدار بغتة، يمثل أمامها، تراه رأي العين؛ يبدو متعبا كاسف البال، يطرق إلى الأرض في صمت، و لا يبادلها الكلام. تذهل عن صوفها، و تمد يديها إليه، لكنه يختفي، فجأة؛ فقد كان طيفا؛ و الأطياف لا تستقر بمكان، و لا تروي عطش امرأة، يقتلها الحنين.
انقطعت أخباره، منذ خمس سنين، كان فارع الطول، نحيف القد، ناعم الشعر، وسيم الوجه، كان مسرة نهارها، و دفء ليلها، رغم غرابة أطواره، و تقلب مزاجه. يغادر الدار و النجع، دون سابق إنذار، يغيب مليا، و يعود بعد أسابيع من الانقطاع بهيئة مزرية؛ فتستقبله بفرحة من عثرت على روحها الضائعة، تسأله بلهفة: أين كنت؛ فيجيب: في أرض الله الواسعة. تحاول أن تستوضح أكثر؛ فيلوذ بالصمت؛ تثور، و تصرخ في وجهه؛ فيهز رأسه، و ينهض متثاقلا، يدخل غرفته، و ينام يوما كاملا، و عندما يستيقظ، يمازحها، كأن شيئا لم يكن.
(٣)
في ليلة مطيرة، أسند رأسه إلى الحائط، و استدفأ بركية نار، وضعها أمامه، كان يتحدث إليها بنبرة عادية، و فجأة، اتسعت حدقتاه، و خشن صوته، و راح يتحدث إلى شخص آخر، لا تراه. لم تستوعب ما يقول؛ كانت كلماته مبعثرة، غير مرتبة، لكنها فهمت بالكاد أن هناك من ينتظره على أحر من الجمر. ظل يهذي؛ فهزته بقوة؛ لعله يستفيق، و لما لم يفعل، نضحت في وجهه الماء؛ فهب واقفا، و اندفع إلى الباب؛ فاندفعت وراءه، و تعلقت بذراعه؛ فدفعها بعيدا. خرجت خلفه مباشرة، تلفتت تحت سيول الأمطار المنهمرة، دارت عيناها في جميع الاتجاهات، لكنها لم تجد له أثرا، كأن أرض الله الواسعة انشقت، و ابتلعته في غمضة عين.
قالت نساء النجع: لا تبكي عليه طويلا؛ فلا تأمن عاقلة غدر الرجال. غمزت إحداهن بعينها، و سألتها بخبث: ألا تشمين رائحة امرأة في الحكاية، أم أنك مزكومة لا تشمين؟! قالت المرأة، ثم انفجرت بالضحك، بينما بكت هي.
(٤)
تنحسر أشعة الشمس، التي تسللت من بين جريد السقف رويدا رويدا؛ فتغشى الغبشة أرجاء الدار. تدس الصوف الذي لم يغزل بعد في أكياس البلاستيك، و تضئ لمبة الجاز، و تشعل نار الكانون، و تدس بين أحطابه إناء الماء، و تفتش في القش عن رزق العشاء. تعثر على ست بيضات، جادت بها الدجاجات؛ فتتنفس الصعداء، تتوجه إلى الإناء، و تنتظر فوران الماء، و تصبر صغيرها المتبرم. تردد بصرها بين الجدران؛ تبصر سيل العتمة المتدفق من باب الدار المفتوح، يتنامى إلى سمعها طنين غليظ؛ تشعر بالرهبة؛ فتحكم إغلاق الباب بيد امرأة غاب ظلها. تطعم صغيرها، و تضمه إلى صدرها، تمسد خده و شعره؛ فينام. تحمله إلى الفراش، تتمدد بجواره، تحملق في السقف، تتحسس جسدها الظامئ؛ يستعر شبقها، تهب واقفة، تسرع إلى صندوقها الخشبي المغلق، تخرج قفطان زوجها، تتشمم رائحة عرقه، تحتضنه بلهفه، تنهمك في لثمه، تحاول إطفاء عطشها، لكن الملح يملأ حلقها. ترتد إلى فراشها، تخرج من تحت وسادتها صورته الباهتة، تتحدث إليه طويلا، يمر الوقت، و هي على تلك الحال، يباغتها الصبح، يتسلل نوره من بين جريد السقف؛ فتشعر بذات الرعشة الواهنة، تنتبه، تفتح باب الدار، و تحلم بدخول عزيز، طالت غيبته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...