د. سيد شعبان - لبن العصفور

يمور العالم داخل بطن فرن مشتعل كالذي أمسكت يوما بعصاه الحديدية و شويت بها قفا ابن عم لي ؛ كنا نتصارع على رغيف الخبز، ومن تلك الساعة وأنا في دوامة تأخذني حيث لا أكاد أشبع صغاري، خيل لي أن المحرقة التي أعدها هتلر ما يزال شبحها يخيم من جديد متوعدا بفناء هذا الكون، فم السقاء عبث به فأر الجيران الذين أدمنوا تناول السائل الأصفر؛ يقال إنهم يخمرونه في سرداب بيت يطل على النهر العجوز، الشمس اقتربت من ظاهر الأرض فضريت عقول الناس،يهذون فيلوكون الآراء دونما غاية يتحرونها، السيد القابع في البيت الأبيض يرسل ثعابينه كل آونة؛ليحيل المروج أشلاء ممزقة!
رغم هذا المرار الطافح أجد نفسي في بلاهة تتمادى، أشبه بميت فقد شعوره بالحياة فسيق إلى قبره على عجالة.
هل أخبركم بما أنا فيه؟
أعلم أن ذلك ترفا لا أملكه، بدأت ألون ثيابي بخليط زاه من نسيج القطن الذي صار نادرا مثل لبن العصفور، ما عادت لدي طاقة لأن أتحمل مزيدا من الألم النفسي،في ظاهر أمري أنا أتمتع ببنية قوية،جسد يقاوم عوامل العجز، وجهي نحاسي أشبه بقطعة ماعون عفى عليها الزمن،فهي ملقاة في غير اعتناء.
جسدي خاصم رغائبه،في يوم اشتهيت أن أكون أحد هؤلاء المتسربلين بكساء الخيلاء،صبغت شعري،ارتديت الملابس الطافحة بالزهور،والتي تختال بها الحسناوات.
حقا فالمرأة تخفف كثيرا من ثقل هم النهار،لكنها بالليل تظل سرا يصعب تفسيره،هي أشبه بدهليز فراعنة أجادوا ملاعبة الحجر ومدارة البشر.
تدبرت شأني،أزمعت الرحيل صوب جهة المجهول التي لا يعود منها الراحل فيها.
تدافعت الأصوات داخل التلفاز، نحن هذه الأيام في وصلة عداء ربما تحمل في نذرها شرارة الحرب الثالثة، يغالي البقال الذي يحتل واجهة الحارة بلبن الأطفال؛يمنعه عن الفقراء، يعطيه قربانا لأصحاب الياقة البيضاء!
أنا هزيل مثل ريشة عبث بها الصغار ساعة انتهوا من لعبهم، يتقاذني الهواء ويلقي بي في زاوية معتمة وفي الصباح تركلني أقدام الباحثين عن رغيف خبز مخلوط برائحة عرق مقززة.
كلما تسامعت أنباء مفزعة هربت داخل أوردتي،تدثرت بالخوف، لا رجاء لي في وجبة شهية،ولا تطلع لأن أتزوج بذات العين الخضراء.
تقبع الأوراق الرسمية التى احتفت بي في الزمن المنتهية صلاحيته فوق حائط حجرة رطبة كأنما هي بقايا مقبرة مهجورة اتخذها لصوص الليل وكرا لهم.
الأحلام حبيسة الوهم،لم أبك مثلما فعلت اليوم حين اكتشفت أن المكان صار إنسانا يئن أصابته الحسرة التي قطعت صلة النجاة الوحيدة التي تعللت بها؛ أن تبقى لي ذكرى طاهرة.
فذفني العابرون بفضلاتهم التي أثقلت كاهلهم، صرت مدعاة للسخرية، ثوبا وسحنة حتى هويتي ما عادت غير هيكل عظمي لبقايا جسد ضربه الوهم وتحلل داخله الوهن.
الرقع التي في ثوب صلاتي غير آمنة، جمعتها أمي مثل أرغفة الشحاذ وقد امتلأت بها سلة بالية يحملها على ظهره،يقذفه الصغار بالحجارة وقد تحين النجاة.
أمسكت بطرف ثوبي، وضعت طرفه في فمي، أجيد الهروب في أشد المواقف رعبا، حتى وجدت نفسي تافها بلا قيمة، الجميع يعلم ضعفي،وهل لمثلي فاقد العزم أن يقاوم الشوك؟
وحدها ألقت بشباكها فأوقعت بي،كانت تبحث عن مرفأ نجاة بعدما هزمها الزمن، لا نفع يرتجى من هارب فقد هويته،إنها تمسك بي خوف اللقب الذي تبغضه الأنثى،تحتمي بظل معوج.
أقامت حفلا راقصا،وضعت عطرا مثيرا،كل هذا تميمة ساحر إفريقي لتجلب الحظ،قيل إن دهن العطار يعيد زهوة الصبا،أنفقت ما اختزنته طوال عمرها،لقاء يوم يرواد خيالها، حتى إذا ما احتوتني كانت تعانق السراب.
التفاعلات: جورج سلوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...