عصام الدين محمد أحمد - في الحانة

في الـــحـانــة
يقطع مدحت الهمس المُرتبك :
التاريخ سوق كبير .
أنشغل عنه مُعالجاً غصتي، يستطرد مُفسراً :
سلع جلبها الآخرون .
المغص – الذي في نافوخي – ينتحب، أرنم بهدوء مُستفز :
سمك ،لبن ،تمر هندى .
مدحت يرشف الكأس دُفعة واحدة، يتقيأ الحكمة :
لا شيءفى السوق سوى النفايات والعطب .
أصفق، قلبي يخمل، لساني ينفلت من عقاله :
تبا لكل الأسواق ، ولكل كراسات التارخ .
اكتظت الحانة بالرواد، الأفواه مفتوحة، الألسن مُتدلية في بُحيرة الكحول، الأبدان تتمدد، تحتوي الفراغ،في الأحتواء عقول تتوه ،تنصهر ، تتبخر ،وفجأة تتقزم، تنكمش في جراب التساؤلات، تتصادم الكلمات ، تتخلخل مفاصل الطاولات ، النوادل يكدسون الزُجاجات، وأجواف الثمالى بيد تبتلع الكئووس وتجف، أهز الكأس بأنامل ناقمة :
حضر العمدة ،ذهب العمدة ،لا نملك إلا الإنحناء ،نبدي آيات النقديس ،وكأننا نقطن معبدا بوذيا فى كبد الصحراء .
يتربع فوق مقعده لابسا قفطانه الأبيض الشاهي المليء بالجيوب ،رزم أوراق النقد تختنق من الزحام داخلها ، ينشغل بفرز الفلوس الجديدة وعزلها عن القديمة ،يعد كل ألف على حدة ويلف حوله استك .يفرغ المحل من البشر إلا العمدة وتشاوين البطيخ المتناثرة فى شتى الزوايا وكأنها تماثبل الآلهة أو شواهد القبور .
أغمضت عيني هرباً من الأطلال، بل أنك تكذب، فما كان أغماضك للعينين إلا تبريراً لعدم رؤية العمدة في صُحبة غانية يتمازجان بالتغييب، وسُرعان ما يكتشف وجودكما، فيباغتكما مُكشراً ناصحاً!
يحيطون به من كل جانب ،يشيعونه إلى أقصى يمين الحانة ، يحثك وجوده على المغادرة ،لكنك لا تمتثل ،ففى الحانة يتساوى الجميع ، تفرغ الزجاج، تخفر زُجاجة بكُر فوق المنضدة، تفض بكارتها ، والآن علي الذهاب إلى دورة المياه .
أللمياه دورة ؟ ؟
هأ … هأ … ألها مواعيد ثابتة ؟ ؟
أسكُب محتويات المثانة والأفكار، أبحلق في وجهي المُتخادن في صفحة المرآة المُعتلية المبولة.
أتشعُر بالتقزُز ؟ ؟
وما الذى يدعوك للتقزز ؟
فالوجه هو الوجه ، والعينان مبحلقتان فى بشرة وجهك المرتخية ،طال العمر أم قصر فالعفن هو المثوى فى غابة الديدان .
تحمل يا سيدي، ومن المُمكن أن تقُص هذا الجزء من سطح الورقة ! !
نرجع مرجوعنا، يقاوم الوجه بوادر السُكر، أعض على نواجذي، آلام الوضع تمزق أحشائى ،تعود إلي الطاولة، الظمأ هو جوفي، كل خمور العالم لا ترويني ،أغتصب زُجاجة ثانية .
ما أحلى أن تشرب والعمدة قابع يمارس الترنح .
شحب وجه مدحت وتصمغ، في ذهنه خيالات تتبرج بالتبرير فأحباله الصوتية تلهج :
السقوط .
كرجع الصدى وبنبرات بطيئة أقول :
طموح السقوط .
وفي ذهني مائة ألف رجلاً يمثلون بضائع سوق النخاسة يتشابطون :
ما جدوى السفر في الأدمغة ؟ ؟
ما نفع القص واللزق ؟ ؟
لماذا يصر العمدة على مطاردتي ؟
من الذى يطارد من ؟
لماذا أسعى لكشف السر ؟
لماذا تأبى النفس الانعتاق وبعنت تتشرذم ؟
لماذا ينحتون اسم العمدة على سور القلعة ؟
أتمتد جذوره إلى المماليك ؟
ربما حملوا جده الأكبر من جنوة أو البانيا ٍ.
وكيف يكون هو العمدة وفى رقبته سوار الرق ؟
دعك من دروب اللوع و مزق كتاب التاريخ
يرسل مدحت زجاجة نبيذ معتق للعمدة ، لماذا لا أقتحم عليه خلوته ؟
أجرجره بقصاصات التاريخ ،أصب جم غضبي على مدحت الذى أتى بي إلى هذا المكان ، من المؤكد معرفته بتردد العمدة على هذا الماخور يوميا ، يتحدث ،لاأعي ما يتفوه به ، يستمر فى لغطه ،ها هى بعض المعانىي تتضح :
شيخ قبيلتكم ،كل مساء ترافقه هذه المرأة ، لحم مترجرج ، أنثناءات البطن والصدرتعزف نغما متأججا ، أنحرافات عجيزتها تدفعك لقتل من يلتفت إليها .
العاملون بالحانة يدخلون وبيد كل واحد بطيختين زيرو ، عشر عمال بعشربن بطيخة ،ألمح سائق العمدة النوبي يغلق شنطة السيارة ، وفجأة تتقارع الطاولات والمقاعد، ساعة تُمر، وفي ذيلها الضحايا يتزايدون كالنبت الشيطان ، دهر يتساقم، تتصارع الأيادي، وما يحدُث ليس خيالاً ألفه العقل المُرتجف، كادت زجاجة منقذفة أن تشج رأسي ، أترنم :
ما أنا إلا فناء ..تعمر رائحته البيداء .
هدأت العاصفة من تلقاء نفسها ،زجاجة كبيرة تتهادى بيد النادل ،وقبل أن تركن فوق الترابيزة ، أتجرع نصفها دفعة واحدة ،تغيب عني الرؤية:
خالي حمودة يسحبني كالخروف، ينسل من بين عربات الفاكهة والخضار المتزاحمة ،رجال ونساء وأطفال يمثلون مفردات اللوحة العبثية ، مسارات الخطو تائهة تبحث عن الكهف المسحور ، وأنا فى ذيله كالابن الذى يخشى فقد أمه ،عرج خالي إلى غرزة عبد الصمد المقطوعة يده اليسرى ،دخن عشرة أحجار حشيش ،دوائر الأدخنة منعشة ، سلمني لابن عمه تاجر الخضار تسليم أيادي ، يزيح مدحت ألبوم التذكر بقوله :
يا عم انظر العمدة يوزع من رزمة الفلوس الجديدة بأسراف ،والمرأة غادرت المطرح ،ورفاقه أحاطوا بالطاولة .
أيقنت أن مدحت يستهلك الوقت فى الثرثرة ،ويابى الخروج من أطار الصورة ،أتجرع النبيذ شفطة شفطة ،الهيئات تتماهى :
تهل سيارات الطماطم تباعا ،أضع حشية القماش فوق كتفي الأيسر ،أحمل آلاف الأقفاص ، وعبد الحميد يرص العدايات فى صفوف رأسية ؛ ثمانية فى الصف الواحد ، البائعون يتكاثرون ،الحشية تتشبع بعصير الطماطم الكبريتي ، يطقطق ظهري ، كاد أن ينهار ، لن تشفع لك القرابة ، لم يمهلني عبد الحميد دقائق للراحة ،سوط كلماته الموجع يحفر أخاديده فوق ظهري ، ثابر يافتى ،فما أيسر الخنوع.
يقطع مدحت حبل التدلي إلى قاع البئر:
المغني الشهير يجلس جوار العمدة .
بصوت واه :
يا عم مدحت كف عن التتبع .
يحتد :
لماذا تتعالون على الناس ؟
لكل واحد منكم دماغه ودنياه ولا تفتحون الباب لكل طارق .
“اللى يربط رقبته فى حبل ألف من يسحبه “
“كل يوم يجي من الصعيد مليح إلا رجالها والريح “
ترتج الأرض أسفل مدحت ، يقاوم السقوط أثناء نهوضه ،أمد له يد المساعدة ، قبل أن يتمكن منها أسحبها متراجعا ،أنشغل ببقايا الزجاجة البئر :
أفتح باب السيارة الخلفىي،أتشعلق فوق السطح ،أزحزح عداية الطماطم بمشقة ،جريد القفص الجاف يجرح يدىي ،أتشبث بباب الصندوق المستند عليه ، و الشيال عملاق الطول يسند العداية بذراعيه المرتفعين والمفرودتين ، وبسهولة يناولها لعبد الحميد .
الصف الرأسي به سبع ، أناوله أربع منها ، ثم يشد الثلاث الباقيات بسلاسة ، تتخلخل الرصة بتنزيل صف رأسي كامل ، فيبقى ستة صفوف أفقية.
أرص الأقفاص على حافة سطح السيارة ،خمس عمال ينقلونها من السطح ،السرعة والقوة هما كفتا ميزان العمل ، نصف ساعة تستغرقها السيارة .
أحمل أربعمائة وتسعين عداية على ذراعيّ وركبتيّ للسيارة الواحدة ،كالبهلوان أتناقل بين أسطح السيارات، الساعة تبلغ الثانية مساء .
أتثاقل إلى ثلاجات الموز ،الأرض مرشوشة بالمياه ، الهواء منعش ،الرصيف رطب، فلأسترح برهة ،مائة ألف سكين انغرست فى ضلوعي ،جبل الصخور يتراشقني ،غفوت ،انتشلني بساط الريح.
منظرمدحت مضحك ،رجل فى اليمين والأخرى فى الشمال ،يتطاوح كأوراق الموز فى الريح الهوجاء ،أقوم لأساعده ، يقول:”
يا عبد المعين جيت تعينى لقيتك عاوز تتعان “.
أرجع مطرحي ،تبخر السكر :
تسعون يوما من العمل ، لم أقبض مليما من أجري ،أطلبه:
(ودن من طين وودن من عجين ).
شكوت إلى العمدة ، فأرسل أخيه إلى خالي صاحب محل الخضار ، فأحضر أجري كاملا .
المغني يشدو ، يدور حول دائرة مركزها العمدة ، الكاميرا تصور ، يرقص مدحت رقصة الرحاية ، يتجاذبنا الباب ، نركب طريق العودة ، يختفي ، لن أبحث عنه ثانية، الشارع طويل، وقدماي في محلهما سائرتان ، نصل السوق ، يصعد مدحت العنبر .
تشرئب الأعناق منصتة إلى المواويل الشجية .

عصام الدين محمد أحمد
التفاعلات: ليلى ناسمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...