ميشال سعادة - زَهرةُ الحِبرِ

[ قارئي أَعتَذِرُ مُسَبَّقًا مِنكَ
"زهرةُ الحِبْرِ " نصٌّ طويلٌ
لكِنَّهُ جَدِيرٌ بالقِرَاءِة ...
إِنْ كنتُ تَهْوَى الشِّعْرَ إقرأْ
وإلّا لا تُضَيِّعْ وَقَتَكَ سُدًى
ولا تَشتُمنِي . ]

فَجأةً –
كالعاصفةِ وَخَطفًا
يُقبلُ عليكَ العالمُ بشكلِ قَصيدةٍ
تَحارُ كيفَ تَتَلَقَّفُهُ
أنَّى للحُروفِ تشكيلُ هذي المُعجزَات ؟
للعالَمِ أحكامُهُ
للقصيدةِ احتمالُ قَصدٍ وصُدقٍ
كيف لها ترسُمُ صداهُ
في الفكرِ
في اللُّغةِ
وعلى وَرَقٍ مُسَطَّحٍ يابِس ؟

وَتَحارُ ، مُندهشًا مُرتبكًا ،
كيف للعلامات تَرتَسِمُ
على وُجوهِ الحروفِ ؟
كيفَ السَّبِيلُ من رُمُوزٍ غيرِ مرئيّةٍ
الى رموزٍ تأخذُ طريقها الى المَرئِيِّ ؟
كيف للقَصِيدَةِ تَتَجَلَّى غَامِضَةً
وَاضِحَةً مُعَقَّدَةً وَدَالِّةً
مكتوبةً بحروفٍ متعرِّجةٍ
على خَطٍّ مُستَقِيمٍ ؟
كيف قِرَاءَةُ هذا العالَمِ قبلَ الكتابةِ ،
فيها وبعدَها ؟
كيف التّأليفُ ؟
كيف الشِّعرُ يتغَلْغَلُ في الكيان ؟
أكاذبٌ هُوَ أم مُراوغٌ ؟
كيف حركةُ القصيدةِ
بَيْنَ ذَهابٍ وإيابٍ تتملّى ؟
أنقْصٌ أمِ اكتمالٌ بَيْنَ حضورٍ وغيابٍ ؟
كيف لها تَنطلِقَ على دروبِ الفعلِ ؟
أتَعويضٌ عملُ القصيدةِ ؟
أمّ هوَ موتُ العالَمِ وموتُنا في القصيدةِ
رَجاءَ قيامةٍ محتملَةٍ ومُرجأةٍ في آن ؟
وهلِ القصيدةُ مُوتٌ بَعْدَ قيامةٍ
أمْ قيامةٌ بَعدَ موت ؟
أهيَ ال " ماقبلُ " أمِ ال " بعدُ "
أم كلاهما معًا ؟
Sed fugit interia fugit "
Inreparabile tempus "
" إلَّا أنَّ الوقتَ يمضي ،
هذا الوقتُ لا يُعوّضُ "
[ فرجيل ]
نكتبُ كَبّتًا
ونَبّتُكُ بَتكًا ...
هَلْ لغةٌ هي الأقوى
كاتبها مجرَّدُ متلقٍّ ؟
أَصوَاتٌ .. أَصوَاتٌ
تُفَاجِئُنَا .. تَأتِينَا _
– صَوتٌ أوّل :
أحفرْ في نفسِكَ
سجِّلْ كما لو كان الهابطُ عليكَ
وَحيًا إلهيًّا أو شيطانيًّا
إلتقِطْ طاقةَ التّدفُّقِ
عدِّلْ هذي الطبيعةَ التي لا ..
لا تُعوَّضُ واسْعَ
ضَوِّىءْ دربَ المستقبلِ ..

– صوتٌ ثانٍ :
" ألزّمنُ يمضي ، هذا الزّمنُ
الذي لا يُعوَّضُ "
انتَ أُكتبْ ..
حاورْ صمتّ الصّفحةِ البَكْمَاءِ
برِّرْ هذي الماهيّةَ الحجريّة
إخترِقْ دومًا حاجزَ المنطقِ
كي يكونَ لكَ ان تتفهّمَ أكثَرَ
ألاعيبَ الخَيالِ
حوِّلْ تلكَ الرموزَ الخاصّةَ
بزمنٍ مجهولٍ
الى رموزٍ خاصُّةٍ بزمانكَ أنت
العالَمُ صفحةٌ والكتابةُ زمانٌ
لا تنتظرْ ربحًا أو خسارةً ..
لا شيءَ يُعوَّضُ
البحرُ واحدٌ
والموجةُ لا تتكرّرُ مرّتين
طيورُ النّورسِ شاهدةٌ أمينةٌ ..
لكَ فقط –
ان تتعرّفَ على جزءٍ من نفسكَ
في ما تُزوِّدُكَ بهِ صفحةٌ مكتوبةٌ
جامدة ..
تساءَلْ واسألْ –
كيفَ تَنّبَثِقُ القصيدةُ وإلامَ
تنتمي وهي لا تُفْصحُ بسهولةٍ ؟
كيفَ يولدِ هذا الكلامُ ؟
أولادةٌ مهمَّشةٌ لعالَمٍ مزيَّفٍ ؟

– صوتٌ ثالث :
ذاتَ مساءٍ قصيدةٌ كُتِبَتْ على
شاطىءِ البحرِ
ما زالتْ تسبحُ وَتَمُورُ في خفَرٍ ...
لا تَبحثْ عن زَمانها ..
كتبتْ على صفحةِ الماءِ
كأنّ الحروفَ لا تهنأُ
إلَّا على أُرجوحةٍ مائيّةٍ
المياهُ ! المياهُ !
قصائدِ تولدُ على فراشِ الرّملِ
لكنّكَ لا تَسْطِيْعُ إحياءَ تلك اللّحظاتِ
ولو لِمَرَّةٍ واحدةٍ ..
لحظاتٌ كالظلِّ هاربةٌ
هَلْ لكَ ان تَقرأَ ذَرَّةَ ماءٍ واحدة ؟
" كلُّ شَيْءٍ في سيلانٍ دائمٍ
لا ننزلُ الى النهر مرَّتين "
[ هرقليطس ]
صِغَارًا أَحبَبْنَا المَاءَ
لَعِبنَا وَاغتَسَلنَا بالتُّرَابِ
كِبَارًا أَدرَكنَا –
مِيَاهٌ تَتَدَفَّقُ تَسِيلُ تَتَجَدَّدُ قصائدَ مائيّةً ..
ولا قرار
حروفٌ كذرّاتِ الماءِ تُقرأُ
بصعوبةٍ ملحوظةٍ
مياهٌ هُيامُ هذا الوجودِ !
وجودٌ مائيٌّ في سيلانٍ متحوِّلٍ ..

– صوتٌ رابعٌ :
سُقراطُ أبقى أنظارَهُ معلّقةً
على جَرَيَانِ مياهِ نهرِ الإيليسوس
يستذكرُ هوميروس وهيرقليطس
لا تنسَ أنّكِ لا تَسّطيعُ النّومّ
في أحضانِ المياهِ
ولا في سريرِ الشّمسِ
لك مثلًا
ان ترى قمرًا سابحًا
في فضاءٍ يمورُ
" إنَّ الأشياءَ في حركةٍ دائمةٍ
أسوةً بأمواجِ البحرِ "
[ PLATON ]

– صوتٌ خامس :
قصيدتُكَ بحرٌ
تخضعُ لمبدإٍ ديناميكيٍّ
واحدٍ يُحرّكُ هذا العالَمَ واللُّغةَ
دَعْ كلماتِكَ تأتي
تهيمُ ثمّ تتّحدُ
تجتمعُ وتتآلفُ
أصغِ الى موجِ الكلماتِ
كأنْ انتَ حالةُ إصغاءٍ دائمٍ
وإنْ ، خادعةً هلِّلْ لها
لا فرْقَ إِنْ انتَ في صَحْوٍ
أو تغطَّ في نومٍ عميق
يقظةٌ ثمّ نومٌ هي الْحَيَاةُ
ونتساّى عَنِ المآسي الدّائرات ..

– صوتٌ سادس :
أكتبْ ثمّ أكتبْ لقارىءٍ مائيّ
لا تدعِ القلم يتعبُ
أو يأخذُ قسطًا من النومِ على الورقِ
القصيدةُ تذكُّرٌ
لكنْ –
إن كان لكَ ان تتذكّرَ
فلن يكونَ لكَ ان تتذكّرَ أيَّ شَيْءٍ
عن زمنِ المخاضِ
انتَ فقط _
تتمنّى إعادةَ إحيائهِ
فيما الموتُ يغمركَ غَمْرَ الرِّداء ..
واعلَمْ انّ ما ينكشفُ لكَ مرّةً
لن يعودَ
تنسى انه انكشفَ
وتنسى حتَّى انّك نسيتَ
لن ترى أبدًا ما رأيتَهُ ذاتَ مرّةٍ
حياةٌ يطويها النّسيانُ
نِسيانٌ كالعشبِ يُعرِّشُ
على الذّاكرة
وتسألُ –
هَلْ يستعيدُ الغريقُ
لحظاتِ الغرقِ ؟
الموجةُ التي غمرتكَ
يا صديقي
لن تعودَ هي ذاتها
يموتُ الشّاعرُ في قصيدتهِ
كما غريقٌ في البحرً ..
لكنّ القصيدةَ
على عكسِ كاتبها
تتنفّسُ تحتَ الماءِ
واعلَمْ ان لحظةَ الغرقِ
حدٌّ فاصلٌ بين الإستلقاءِ
على الرمالِ والإختناقِ
في حبيبات الماءِ
سبحانَ من كوّنَ الماءَ
يُحيي ويُميتُ !
لكَ ان تسبِّحَ
وتُمجّدَ نعمةَ الحروفِ
لكنّ حبسَ الحياةِ
في حُجُبِ الحروفِ
عصيٌّ عليكَ حَبسُ الهواءِ والنارِ
غمرُ الغمرِ لا بدَّ قاتلٌ
ووإنْ غمرْتهُ مرارًا
فلا نجاةَ إلَّا على خشبةٍ حَدباءَ
لن تُجديكَ سماءٌ
طرّزتْها خيوطُ شمسِ المَغِيبِ
بنورٍ خافتٍ ..
إنَّكَِ تحاولُ ان تفهمَ نفسَكَ
فيما انتَ مُبحرٌ في وحدةِ الأقدارِ
لكَ عِلْمُ الفَسارةِ
فسِّرْ ..
أوِّلْ بأسلوبكَ الشخصيّ –
هُوَ الفَهمُ ..
إستعِدْ ذكرى الخبزِ والخمرِ
تنسَ زمنَ المحنةِ ..
زمنَ الجلجلة !
الخبزُ والخمرُ والقصيدةُ
خلاصٌ في الأزمنةِ المشؤُومةِ ..

– صوتٌ سابعٌ :
ما أروعَ هذا الشُّعورَ !
كمْ يقطعُ الأنفاسَ !
وكم انتَ [ أيها الشّاعرُ ]
مباركٌ بَيْنَ إلهيْ الخبزِ والخمرِ !
كن يقظًا كي لا يمرَّ قطارُ المقدَّسِ
وانتَ غافلٌ
كُنْ .. لكَ "هنا " ..
ليس لكَ "هناكَ " ولا ما قبلَ
"هنا " أَو بَعْدَ " هناك " ..
بين هنا وهناك
مجرّدُ عطفٍ لا أكثر ..
وإن كان لكَ ان تبلغَ الهاويةَ
أرشدْ بنيكَ الى الدّربِ
وإنْ بصيصُ نورٍ خافتٍ
يَلُوحُ في ثوبِ العتمةِ ..
انتَ ، شاعرًا
قادرٌ على اختبارِ الإشاراتِ
التي ترسمُ إلهاويةُ معالمَها
وحدَكَ تلامسُ عمقَ الأشياءِ
وحدَكِ تلأَمُ الجراحَ بقصيدةٍ
نسيتَ ان تنساها
وإنْ وحيدةً نسيتَها تبكي
على شاطىءِ البحرِ
تداعبُ الموجَ غيرَ آبهةٍ
بما وراءَ الدائرةِ
وحدَكَ رأيتَ الى الشعرِ غناءً
رسمًا ومسرحًا وإنشادًا
الشعرُ كيمياءُ الفكرِ صائرًا صلاةً
وسُكنى ما بين الأَرْضِ والفضاء
القصيدةُ تُنْشىءُ العالمَ
بوصفها نداءً
يستدعي الأرضَ مأوًى
هكذا —
ما بين " أنشأَ " و " استَدعَى "
يستوي النداءُ باللغةِ
" الشّاعرُ مؤسّسُ الوجودِ "
" الشعراءُ يؤ سّسون أسس
ما يبقى "
[ هيدغر ]

– صوتٌ ثامن :
إسْمَعْ واصغِ جيِّدًا ولا تنسَ
الكلمةُ تهبُ الوجودَ
من خلالِ التّقلُّصِ
بصفتها شيئًا
تتسلّمُ مقاليدَ السُّلطةِ
لكنْ –
كُلَّما كتبتَ قصيدةً
شيءٌ ما ينقصُ في النهاية
الكلماتُ الكلماتُ
أنهارٌ نسيتْ أصلها
ولمّا تزلْ تحملُ عبقَ الأوراقِ
ومذاقَ الصَّخْرِ
وسقسقةَ الحروفِ على الحَصَى ..
مَنْ قَالَ إنَّ الحجارةَ لا تنفعلُ
ولا تستجيبُ ؟!
الحجارةُ جراحٌ تجمّدتْ شرايينُها ..
– صوتٌ تاسعٌ :
تخالُ ان المَعَانِي ضاعتْ
الى الأبدِ
وأنّ القصيدةَ أُرجوحةٌ
معلّقةٌ بحبالِ الوهمِ ...
إسْمَعْ _
لا شيءَ يضيعُ
سيلانٌ يتدفّقُ
كلماتٌ تتحابُّ
تحثُّكَ تجرفكَ الكلماتُ
ثمّ تنسحبُ بالحركة نفسها
وما الشعرُ سوى انبهارٍ
على محيّا الكلامِ ..

– صوتٌ عاشرٌ :
لا تنسَ ان تزورَ الغابةَ
بعيدًا من الْبَيْتِ
في الغابةِ نداءاتٌ كثيرةٌ
تعلّمْ لغةَ الصّرصَارِ
على غصنِ صنوبرةٍ عاتيةٍ
يعزفُ لكائناتٍ حبيبةٍ
أصغِ للضفدعِ يناجي السماءَ
من تحتِ الماءِ
للشحرورِ يُرنِّمُ قُبالَةَ بيتِها
كيفَ للسوادِ
يعمّرُ مداميكَ الغبطةِ
وسُلَّمَ الأفراحِ ؟
جالسْ نملةً
حبّةُ القمحِ حملٌ ثقيلٌ
إسرحْ وراءَ الفَراشِ خفيفًا
كهبّةِ عطرٍ
لملمْ حنانَ نسيمٍ يُداعبُ الأوراقَ
فكّكْ تراتيلَ العصافيرِ –
نغماتُها أجملُ التّسابيحِ
راقبْ جُندبًا يستعرضُ رقصاتِهِ
على صفحةِ الهواءِ
يُوقّعُ مشاهدَ لأُناسٍ
جاؤوا غابوا
تَرَكُوا بصماتهم هناكَ ..
هُناكَ على الفُؤُوسِ
أُقطفْ زهرةً .. داعبْ نسيمًا يراكَ
لا تراهُ لا تَخَفْ حيّةً تتلوّى
تلتفُّ حبيبةً
كالغَمرِ تغمركَ
ناجِ بلبلًا حطَّ بقربكَ
أو حسّونًا
جاء يتباهى بصوتهِ بريشِه
على غُصنٍ يابسٍ مَكسُور ...
في الغابةِ لا أحدَ يُقلًّدُ أحدًا
لتكن قصيدتُكَ كما الغابةُ
أصواتًا تتناصُّ
للصوتِ الواحدِ مهرجانٌ
كي تكونَ مهرجانَ صورٍ قصيدتُكَ
عمّدْها بماءِ نهرِ الأردن
إمسحْ جبينها بميرونِ البكارةِ
دغدِغْ مفاصلها تستبدَّ بكَ
حقولُ النرجسِ
وانعطافُ زهرةِ اللّوتوس
تقلّبكَ على جمر الحنانِ
تُشعلُ رغبةً
للرغبةِ بَعْدَ الغربةِ
شوقُ الرَّغابِ ..
في الغابةِ وحشيّةٌ
ما أطيبَها !
عانقْ وحْشيَّ الكلامِ
إنْ شئتَ قصيدةَ البكارةِ
خذْ دربًا في الوعرِ
واطبَعْ وشمًا
كما النّحلُ يقربُ زهرًا بريًّا
يقطفِ عسلَ الكلامِ .
في الغابةٍ لهجاتٌ
لغاتٌ كآبةٌ أحلامٌ
وقصائدُ برّيةٌ
لكنّ الحلمَ يدلّكَ الى الدّربِ
والقصيدةُ أمامها وراءَها دروبٌ
الكآبةُ مفتاحُ هذا الوجودِ
أعزفْ تراتيلَ الكآبةِ
تولدِ القصائدُ علىأفواهِ الغرباءِ
لا تَخَفْ أَنْ تكونَ كئيبًا
عندَ عَتَبَةِ المَسَاء

– صَوتٌ أخير :
أبْحرْ في الجزيرةِ المجهولَةِ
خلفها بحرٌ وآفاق
لا تبقَ على وجهِ الماءِ
معَ زَبَدٍ جُفَاء
غُصْ في العُمْقِ
لكَ كنوزُ اللآلىءِ
ماءُ الماءِ
وضياءُ سماءٍ ثانيةٍ
لَبِّ نداءَ اللُّغةِ
لا تَنْسَ زهرةَ الحِبْرِ
تَحْنو على قَلَمٍ وكِتاب ..

ميشال سعادة
أنهيتُ كتابةَ هذا النصِّ
في الخامسِ من آذار 2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...