عند الحديث عن الفعل الترجمي بين اللغتين العربية والعبرية لا يمكننا تجاهل السياق السياسي الذي نشأت داخله محاولات الترجمة بين الطرفين، وكذلك الخطاب الاستعماري المهيمن الذي توجهت به المؤسسة الصيونية إلى العرب واليهود العرب على حد سواء، في نطاق علاقات الأكثرية- الأقلية وما تفرضه من صراعات.
فالخلفية المعرفية والأيديولوجيات الفكرية التي يتبناها من يقوم بعملية النقل تكون هي المحرك الأول في اختيار نصوص بعينها يبث من خلالها مقاصده وتوجهاته؛ وإذا كانت الترجمة جزءا من المشروع الاستعماري يهدف لمعرفة الآخر ومراقبته، فالأمر يختلف عند الحديث عن الترجمة في السياق ما بعد الكولونيالي التي يكون هدفها استقصاء أشكال التمثيل: “الآخر للنفس، والنفس للآخر” وأهمية ذلك في بناء تمثيلات الثقافات المهمشة من قبل الكيان المهيمن.
ويعد نجيب محفوظ (1911- 2006) الأديب الحاضر بقوة في الفعل الترجمي، سواء إلى اللغات الأوروبية أو إلى اللغة العبرية، وتختلف أهداف ترجمة أعماله من مترجم لآخر ومن ثقافة لأخرى، وتتفق تلك الأهداف في أن نصوصه –كما يرى المنظر الفرنسي ريتشارد جاكومون- تلبي توقعات “الغربي” الذي يتطلع إلى صورة بانورامية للمجتمع المصري.
تتطلب عملية ترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية اهتماما خاصا؛ لكون عملية النقل الترجمي تتم في إطار منظومة قوى -سياسية وثقافية- غير متكافئة، تستنسخ فيها علاقات القوي بين اللغتين، حيث يُنقل الصوت العربي من خلال صوت المترجم الإسرائيلي ووساطته.
يؤكذ هذا الطرح رأي الناقد يهودا شنهاف الذي أورده في دراسته التي حملت عنوان “لم أبح بحكايتي لأن لساني كان مبتورا”، والذي يرى أن “نموذج الترجمة السائد هو نموذج المترجم الأحادي الفكر المغلق على نفسه، وأن عملية الترجمة نفسها تتم في إطار ثنائي المعارضة، كعنصرين يقف أحدهما مقابل الآخر: مترجم مقابل كاتب، أصل مقابل ترجمة، لغة مقابل أخرى، وهذا المبنى الثنائي يستنسخ العلاقات الهرمية والتراتبية الثقافية وعدم التكافؤ بين اللغتين”.
وكانت وساطة المترجمين اليهود في السنوات الأولى من إقامة الدولة واضحة، حيث أغدق المترجمون ترجماتهم بملاحظات وتفسيرات لغوية جزئية وتفضيلات استشراقية عكست انعدام التكافؤ بين اللغتين، وحالت تلك الملاحظات الاستشراقية المسبقة دون إمكانية قراءة الأدب الفلسطيني بشكل خاص، والعربي بشكل عام، بعيون جديدة.
ويمكننا القول بأن كل ترجمة أدبية من اللغة العربية إلى اللغة العبرية تتم على خلفية ثلاث حقائق مقلقة: الأولي أن 1.2% فقط من اليهود داخل إسرائيل تحت سن السبعين لديهم القدرة على قراءة الإنتاجات الأدبية العربية بلغتها الأصلية، هذا المعطى قد يكون مثيرا للإعجاب إذا ما أخذنا في الاعتبار أن غالبية السكان تحدثوا العربية لمئات السنين -حتى إقامة الدولة- وأن اللغة العربية كانت اللغة الأم لأكثر من 71% من السكان اليهود العرب في السنوات الأولى لإقامة الدولة. أما الحقيقة الثانية؛ فتتمحور حول نسبة النقل الترجمي من العربية إلى العبرية، حيث نجد النسبة ضيئلة للغاية، فبحسب معطيات المكتبة القومية لعام 2014 ، فإن أقل من 7% من مجمل الآدب المترجم للعبرية تم ترجمته من العربية، ذلك مقارنة بـ 97% من اللغة الإجليزية، كما أن 4% بالتقريب من النصوص المترجمة من العربية إلى العبرية حظيت بانتباه ما من قبل النقاد. فالخطاب الجماهيري لا يهتم بالأدب العربي، وكذلك ترفض دور النشر عروض الترجمة لعدم وجود سوق تجاري لها. أما الحقيقة الثالثة؛ فتتعلق بخلفية المترجم ، فغالبا ما تتم عملية الترجمة من العربية إلى العبرية في وضع ينعدم فيه التكافؤ بشكل مطلق، فباستثناء عدد قليل من الحالات، نجد أن المترجمين، والمحررين، والناشرين والعاملين في إطار تلك العملية من اليهود.
وقد نهضت بالفعل الترجمي لأغلب إنتاجات نجيب محفوظ إلى العبرية مجموعتان رئيسيتان من المترجمين المندرجين من هويات مختلفة: مجموعة يهود الغرب، ومجموعة اليهود أصحاب الأصول العربية. واختلفت بالطبع الأيديولوجية المتبناه بين ترجمة يهود الغرب لنجيب محفوظ والتي جاءت ضمن المشروع الاستعماري مثل: ترجمة مناحم كبليوك لرواية “اللص والكلاب” وعدد من القصص القصيرة مثل “القاتل، الجامع في الدرب، زعبلاوي” في نسختها العبرية، وبين ترجمة اليهود العرب لأعمال نجيب محفوظ في السياق ما بعد الكولونيالي من خلال روايات “الثلاثية، الشحاذ، الحب تحت المطر” التي ترجمها سامي ميخائل وقدّم لها عدد من أدباء اليهود الشرق مثل شموئيل موريه وساسون سوميخ وألموج بيهار.
وتلك الهويات -باعتبارها وسيطا اجتماعيا- هي نتاج التاريخ الجمعي الخاص بالمشروع الصهيوني الذي استخدم أساليب من العنف الرمزي في الممارسة اللغوية الخاصة بالهويات التي تندرج في إطاره، وذلك من خلال فرض استخدام اللغة العبرية، أولاً على المهاجرين اليهود القادمين من الدول الأوروبية، ثم على المهاجرين العرب اليهود، وأخيرا على العرب الفلسطينيين. وبالتوازي مع تلك الآليات التي جعلت من اللغة العبرية لغة قومية، قامت المؤسسة الحاكمة ببحث الطرق التي من خلالها يمكن تهميش اللغة العربية وغيرها من لغات “الشتات”.
فيرى الناقد عوز ألموج أن “استخدام اللغة كان أحد الوسائل المركزية في تشكيل الوعي القومي من قبل حركة قومية تسعى جاهدة لتأسيس نظام ثقافي واجتماعي جديد، وفي إطار تكوين هويتها، تسعى تلك الحركة إلى خلق نظام الرموز الخاص بها وغرسه داخل اللغة. ووفق درجة الصراع مع الثقافات الأخرى، التي تستخدم لغات أخرى، فإنها تصيغ أنماطا تنفيذية تهدف، في أحسن الأحوال، إلى ترجمة لغات هذه الثقافات إلى اللغة القومية، وفي أسوأ الأحوال، إلى محو هذه اللغات تماما”.
فإن أجهزة المجتمعات المختلفة التي عملت بكامل قوتها في العقد السابق على إقامة دولة إسرائيل قد أتاحت خلق إجماع حول هوية اليهودي الجديد ذي الأصل الأوروبي كمتحدث باللغة العبرية من ناحية، وكحامل للقيم العصرية الأوروبية من ناحية أخرى. وعلى عكس المجموعتين الآخرتين من مترجمي محفوظ: اليهود من الدول العربية والفلسطينيون المولودون في إسرائيل، فإن مجموعة المترجمين القادمين من الدول الأوروبية لم تدفع (بشكل واع) ثمنًا ثقافيًا/ لغويًا، فقد نشأ هؤلاء المترجمون في واقع أدت فيه العبرية بالفعل وظيفتها كلغة قومية رسمية لإسرائيل، واستفادوا من نتائج نظام الرموز الذي غرس داخل اللغة.
“اللص والكلاب” والترجمة ضمن السياق الكولونيالي:
حين تنقل الثقافة المهيمنة نصوصًا من الثقافة المسيطر عليها؛ فعادة ما تنظر إلى هذه النصوص على أنها غامضة وغير مألوفة وغريبة، ومن هنا تنتج خطابات رمزية مثقلة بجهاز نقدي يتمثل في إيراد مقدمات وشروح وتزييلات وخطابات ميتانصية، تهدف إلى فرض التأويل المقصود والذي يتوافق مع رؤيته المهينة على القارئ. وهذا النموذج الشارح “تمثّله المستشرقون بوصفهم الوسيط المرجعي الوحيد في تلك العملية النقلية لتعزيز صورة “الشرق” في ذهن القراء، ولفرض نمط خاص للقراءة ومن ثم صورة خاصة لتلك الثقافة”.
تندرج ترجمة مناحم كبليوك لرواية “اللص والكلاب” للأديب المصري نجيب محفوظ ضمن ذلك النمط من الفعل النقلي، فكبليوك (1900- 1988) يهودي أوروبي- روسي من أوائل المستشرقين الصهاينة الذين اتخذوا الترجمة من الثقافة العربية مشروعا لهم لتحقيق مقاصد الحركة الصهيونية السياسية والأيديولوجية بوصفها حركة استعمارية في المقام الأول. فعمد مناحم كبليوك إلى نقل عدد كبير من النصوص العربية إلى اللغة العبرية عبر فعل ثقافي مشروط بسياق الكولونيالية، ووفق ما يريد نقله للمتلقي. وقد كشفت الطبيعية الانتقائية للنصوص لدى كبليوك عموما عن إيمانه الواضح بالفكر الصهيوني الذي توجه بخطاب استعلائي للمجتمعات العربية ولمقوماتها الثقافية، وعن تمسكه بالسجل الاستشراقي في ترجمته لتلك الأعمال والتقديم لها إلى الحد الذي اختزل الشرق في الحيثيات التي يرغبها.
لذلك عند دراسة مقدمة المترجم لنص نجيب محفوظ يكون سياق الأمبراطورية حاضرا بقوة، حيث انشغل كبليوك في خطابه بتقديم معلومات عن تطور الأدب العربي عبر ذكر عدد من الأدباء الذين أثروا في المشهد الأدبي العربي واهتم في الأساس بنقل أعمالهم إلى العبرية، منهم الأديب طه حسين أول من ترجم له كبليوك؛ حيث ترجم روايته “الأيام” بعد ثلاث سنوات من صدورها بالعربية، وكذلك توفيق الحكيم الذي ترجم له “يوميات نائب في الأرياف”، وأيضا عائشة بنت الشاطئ وقصتها “قضية الفلاح”.
ومن الملاحظ هنا اهتمام كبليوك بالريف المصري ورغبته في نقل صورة معينة عن تلك المجتمعات للمتلقي في المجتمع الإسرائيلي، فلم يظهر كبليوك في صورة المترجم فحسب بل في صورة المستشرق الذي لا يستطيع المتلقي الإطلال على المجتمعات الشرقية إلا عبر منظاره ومن خلال السجل الذي دونّه عنها والمشروط بسياق الكولونيالية. ففي مقدمته وترجمته على حد سواء لم يخف كبليوك تلك الروح الاستشراقية والنظرة الاستعلائية تجاه الأدب العربي الذي ينقله، حيث صرح بأنه محاكاة واضحة للأدب الغربي تنم نصوصه عن عدم موهبة أصيلة للأدباء العرب؛ لذلك لم يتوانى في توجيه نقد مباشر لرواية “اللص والكلاب”؛ فكتب في مقدمته: “إن القارئ العادي للأدب الغربي والمستند على تيار الوعي يمكنه أن يقف على تلك الركاكة الأسلوبية الواضحة التي تميز بها السرد في الرواية، والتي اتضحت -مثلا -في عدم منطقية الأحداث والإطناب المبالغ فيها“.
كما صرح كبليوك باستراتيجيات الترجمة والإجراءات الإصلاحية- بتسميته- التي أنتهجها أثناء نقل الرواية إلى العبرية، ومنها إضافة العديد من الشروح داخل المتن وبعض التذييلات في الهامش لما رآه غامضا ويستحق تفسيره للمتلقي، فيؤكد في مقدمته على رغبته في “إصلاح النص” عبر حذف أجزاء منه أو تغيير بنيته أو إضافة شروح في متنه: “وجد المترجم أن من واجبه الإشارة إلى أنه قد سمح لنفسه في مواضع كثيرة أثناء ترجمته للقصة الأولي (اللص والكلاب) أن يحذف (كما في نهاية الفصل 12) أو يختصر ما وجده زائدا أو معرقلا لسير الأحداث، لذلك لم يحرص على ترجمة متكافئة شكليا خصوصا للبنى الحوارية غير اللائقة والتي جاءت مسهبة في إطالتها؛ ففضل أن يقوم بتغيير بنيتها وتحويلها إلى جمل سردية مكثفة”.
ولم يستطع كبليوك تجاهل الصوفية كملمح من ملامح النص المحفوظي سواء في الفعل الترجمي لرواية “اللص والكلاب” أو لقصة “زعبلاوي” -“البحث عن زعبلاوي” كما نقلها إلى العبرية-، أو في الخطاب التقديمي لهما بوصفه صورة من صور عملية الاستدعاء وتمثل الغربي للشرق وفق منظور الإيكزوتيك، الذي يعرض ارتكاز الشرق على الغيبيات وابتعاده عن مبدأ المنطق العقلي، ويؤكد على أن العقل العربي عقل عرفاني على عكس العقل الغربي الذي يحاول تصدير جواهرنيته كعقلانية برهانية.
الثلاثية والترجمة ضمن السياق ما بعد الكولونيالي:
إذا طبقنا أسس ما بعد الكولونيالية نجد أن ما بعد الصهيونية –بوصفها نموذجا بعد حداثي- تتوافق مع تلك الأسس في محاولتها لتفكيك الخطاب الصهيوني المهمين ومشروعه الاستعماري الذي توجه به إلى الشرق، ووصفه لنفسه بأنه خطابا تحريريا للقومية اليهودية؛ مرسخا لمبادئ السيطرة والهيمنة الثقافية التي من شأنها أن تخضع الآخرين لسيطرته بدعوى الحماية أو التحرير أو التنوير.
حيث قامت الصهيوينة –باعتبارها كيانا استعماريا- بعمليات قمع مزدوجة، تجاه الفلسطينيين من جهة وتجاه اليهود العرب من جهة أخرى، وكان الكشف عن العلاقات بين القامع والمقموع في المجتمع الإسرائيلي وفي كتابات اليهود العرب من إسهامات الناقدة الإسرائيلية عراقية الأصل إيلا شوحط (1959) التي استخدمت قوالب التحليل الثقافي والاجتماعي -التي استخدمها من قبل إدوارد سعيد- للتعرف على طبيعة العلاقات بين اليهود والعرب الفلسطينيين من ناحية، والإشكناز(يهود أوروبا) واليهود العرب من ناحية أخرى.
حيث نظرت الصهيونية إلى ثقافة اليهود العرب بازدراء، وبسبب هذه النظرة قام اليهود العرب بمحاولات تغيير سلوكهم حتى يتأقلموا مع الواقع الجديد، ولذلك نجد أن اليهود أصحاب الهوية الثقافية العربية في الخمسينيات والستينييات قد حاولوا كبت هويتهم الثقافية والانصهار في الواقع الجديد الذي دخلوا فيه، أما الجيل الجديد فقد بدأ في التفتيش عن هويته الثقافية وصياغة هويته الذاتية وتفكيك المفاهيم الكولونيالية والقومية وزعزعة القاموس التعريفي التي وضعه الخطاب الصهيوني للشرق على مدى مئات من السنين.
لذلك يمكن القول بأن اليهود العرب قد اعتمدوا الفعل الترجمي بوصفه خطابا بديلا لخطابات المركز المهين؛ فبرزت أهميته كنضال ضد العنصرية أو كرمز في سبيل استعادة الهوية المفقودة، وفي بناء تمثيلات الثقافات المهمشة. وكانت نصوص نجيب محفوظ التي نقلت إلى العبرية –من ضمن أعمال أخرى مترجمة إلى العبرية- قناة من القنوات التي أوجد من خلالها الصوت العربي روايته الخاصة وسرده البديل، داخل مجتمع أصرّ على تغييب هذا الصوت وتهميش تلك الرواية، وأراد عرضها وفق سياسته الخاصة.
ويعد الناقد والأديب العراقي الأصل ساسون سوميخ (1933- 2019) أهم من تناول نجيب محفوظ سواء بالدرس النقدي أو بالترجمة والتقديم لها، وقد شجع سوميخ العديد من الأدباء الإسرائليين على ترجمة أعمال نجيب محفوظ، منهم الكاتب العراقي الأصل سامي ميخائيل (1926) الذي ترجم الثلاثية المحفوظية. وقد تكثّفت الممارسة التقديمية لترجمة “الثلاثية”؛ فقدّم ساسون سوميخ للطبعتين الصادرتين في (1980) و(2017) في خطاب افتتاحي، وكتب الشاعر والناقد العراقي الأصل كذلك ألموج بيهار (1978) خطابا ختاميا للطبعة الأخيرة نفسها.
فقد صرح ميخائيل عن سبب اختياره لأدب نجيب محفوظ مستدعيًا أهم مفاهيم مقاربات ما بعد الكولونيالية مثل الهجنة والتفاوض والتذويت والرد بالكتابة، ليعارض الاستراتيجية الرمزية الخطابية للمركز وليواجهها بنقض مقولاتها قائلا: “ما زالنا نعد في نظر قطاع غير قليل من الإسرائليين مواطنين من الدرجة الثانية، وهو ما لم نكن نشعر به في العراق التي لم نكن غرباء داخلها، أنا هنا –في إسرائيل- أتبنى وطن أبنائي، عكس ما يحدث عادة حيث يتنبى الأبناء وطن آبائهم، لهذا رغبت من خلال ترجمتي للثلاثية إلى العبرية نقل قضيتي إلى جمهور واسع من اليهود“.
في حين اهتم سوميخ في خطابه المقدماتي للثلاثية في طبعتها الأخيرة (2017) بعرض رأي الكاتب نجيب محفوظ في نقل الثلاثية إلى العبرية، الذي رأى أن: “الرمزية التي تنطوي عليها عملية الترجمة إلى العبرية تمنح للرواية قيمة خاصة“، كما عمد سوميخ في خطابه إلى تقديم معلومات خاصة بعملية عنونة المترجم لأجزاء الثلاثية في النسخة العبرية وتغيير عناوينها لتتناسب مع مضمون كل جزء ومع مناخه العام.
فيشير سوميخ إلى الخصوصية المحلية التي عبرت عنها الأجهزة العنوانية لثلاثية نجيب محفوظ، حيث حملت العناوين أسماء أحياء مصرية وحاراتها المشهورة في القاهرة الفاطمية: بين القصرين- قصر الشوق- السكرية، لذلك لجأ المترجم إلى تغيير تلك العناوين لتشير إما إلى مكان الأحداث أو إلى مضمون العمل أو إلى الشخصية الفاعلة فيه؛ ليأتي الجزء الأول بعنوان “بيت في القاهرة” وهو الفضاء الذي تدور فيه أغلب الأحداث ونتعرف عبره على شخصيات العمل، أما الجزء الثاني فيحمل عنوان “كمال” وهو اسم الشخصية الرئيسة بالجزء التي جاءت لتمثل صراحة انحسار الطبقة الوسطى وشيوع ثقافة الغرب كنمط للحياة وكأسلوب للفكر، في حين يأخذ الجزء الأخير عنوان “الجيل الثالث” ليجسد تطور المجتمع من خلال تشكل جيل الأحفاد.
بينما جاء الخطاب الختامي للثلاثية الذي قدمه ألموج بيهار في طبعتها الأخيرة ليعلق على المقدمة الاستهلالية وكاتبها ساسون سوميخ من ناحية، وعلى كاتب النص نجيب محفوظ ومترجمه سامي ميخائيل من ناحية أخرى؛ فاهتم بيهار بشكل أساسي بقضية الهوية الثقافية الشرقية، حيث أكد في مقدمته التاريخ المشترك بين العرب واليهود، والدور الثقافي لليهود في البلدان العربية وضروة إبراز مكانتهم داخل الثقافتين العربية والعبرية. ويشير بيهار كذلك إلى أن الاهتمام بالرواية لم يأت فقط من منطلق اهتمام بجانبها الفني لكن أيضا بالرسالة التي يريد الكاتب، والمترجم بالتبعية، نقلها للمتلقي، فكانت ترجمة الأدب العربي إلى العبرية وسيلة لتمثيل قطاع كبير من اليهود العرب داخل المجتمع الإسرائيلي، وقناة تعبيرية مهمة لتصفية الاستعمار من داخلهم، ولذلك يقول: “إن محفوظ هو المبدع النثري الأكثر ترجمة إلى العبرية، مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي ترجمت معظم أعماله إلى العبرية كذلك“.
فالخلفية المعرفية والأيديولوجيات الفكرية التي يتبناها من يقوم بعملية النقل تكون هي المحرك الأول في اختيار نصوص بعينها يبث من خلالها مقاصده وتوجهاته؛ وإذا كانت الترجمة جزءا من المشروع الاستعماري يهدف لمعرفة الآخر ومراقبته، فالأمر يختلف عند الحديث عن الترجمة في السياق ما بعد الكولونيالي التي يكون هدفها استقصاء أشكال التمثيل: “الآخر للنفس، والنفس للآخر” وأهمية ذلك في بناء تمثيلات الثقافات المهمشة من قبل الكيان المهيمن.
ويعد نجيب محفوظ (1911- 2006) الأديب الحاضر بقوة في الفعل الترجمي، سواء إلى اللغات الأوروبية أو إلى اللغة العبرية، وتختلف أهداف ترجمة أعماله من مترجم لآخر ومن ثقافة لأخرى، وتتفق تلك الأهداف في أن نصوصه –كما يرى المنظر الفرنسي ريتشارد جاكومون- تلبي توقعات “الغربي” الذي يتطلع إلى صورة بانورامية للمجتمع المصري.
تتطلب عملية ترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية اهتماما خاصا؛ لكون عملية النقل الترجمي تتم في إطار منظومة قوى -سياسية وثقافية- غير متكافئة، تستنسخ فيها علاقات القوي بين اللغتين، حيث يُنقل الصوت العربي من خلال صوت المترجم الإسرائيلي ووساطته.
يؤكذ هذا الطرح رأي الناقد يهودا شنهاف الذي أورده في دراسته التي حملت عنوان “لم أبح بحكايتي لأن لساني كان مبتورا”، والذي يرى أن “نموذج الترجمة السائد هو نموذج المترجم الأحادي الفكر المغلق على نفسه، وأن عملية الترجمة نفسها تتم في إطار ثنائي المعارضة، كعنصرين يقف أحدهما مقابل الآخر: مترجم مقابل كاتب، أصل مقابل ترجمة، لغة مقابل أخرى، وهذا المبنى الثنائي يستنسخ العلاقات الهرمية والتراتبية الثقافية وعدم التكافؤ بين اللغتين”.
وكانت وساطة المترجمين اليهود في السنوات الأولى من إقامة الدولة واضحة، حيث أغدق المترجمون ترجماتهم بملاحظات وتفسيرات لغوية جزئية وتفضيلات استشراقية عكست انعدام التكافؤ بين اللغتين، وحالت تلك الملاحظات الاستشراقية المسبقة دون إمكانية قراءة الأدب الفلسطيني بشكل خاص، والعربي بشكل عام، بعيون جديدة.
ويمكننا القول بأن كل ترجمة أدبية من اللغة العربية إلى اللغة العبرية تتم على خلفية ثلاث حقائق مقلقة: الأولي أن 1.2% فقط من اليهود داخل إسرائيل تحت سن السبعين لديهم القدرة على قراءة الإنتاجات الأدبية العربية بلغتها الأصلية، هذا المعطى قد يكون مثيرا للإعجاب إذا ما أخذنا في الاعتبار أن غالبية السكان تحدثوا العربية لمئات السنين -حتى إقامة الدولة- وأن اللغة العربية كانت اللغة الأم لأكثر من 71% من السكان اليهود العرب في السنوات الأولى لإقامة الدولة. أما الحقيقة الثانية؛ فتتمحور حول نسبة النقل الترجمي من العربية إلى العبرية، حيث نجد النسبة ضيئلة للغاية، فبحسب معطيات المكتبة القومية لعام 2014 ، فإن أقل من 7% من مجمل الآدب المترجم للعبرية تم ترجمته من العربية، ذلك مقارنة بـ 97% من اللغة الإجليزية، كما أن 4% بالتقريب من النصوص المترجمة من العربية إلى العبرية حظيت بانتباه ما من قبل النقاد. فالخطاب الجماهيري لا يهتم بالأدب العربي، وكذلك ترفض دور النشر عروض الترجمة لعدم وجود سوق تجاري لها. أما الحقيقة الثالثة؛ فتتعلق بخلفية المترجم ، فغالبا ما تتم عملية الترجمة من العربية إلى العبرية في وضع ينعدم فيه التكافؤ بشكل مطلق، فباستثناء عدد قليل من الحالات، نجد أن المترجمين، والمحررين، والناشرين والعاملين في إطار تلك العملية من اليهود.
وقد نهضت بالفعل الترجمي لأغلب إنتاجات نجيب محفوظ إلى العبرية مجموعتان رئيسيتان من المترجمين المندرجين من هويات مختلفة: مجموعة يهود الغرب، ومجموعة اليهود أصحاب الأصول العربية. واختلفت بالطبع الأيديولوجية المتبناه بين ترجمة يهود الغرب لنجيب محفوظ والتي جاءت ضمن المشروع الاستعماري مثل: ترجمة مناحم كبليوك لرواية “اللص والكلاب” وعدد من القصص القصيرة مثل “القاتل، الجامع في الدرب، زعبلاوي” في نسختها العبرية، وبين ترجمة اليهود العرب لأعمال نجيب محفوظ في السياق ما بعد الكولونيالي من خلال روايات “الثلاثية، الشحاذ، الحب تحت المطر” التي ترجمها سامي ميخائل وقدّم لها عدد من أدباء اليهود الشرق مثل شموئيل موريه وساسون سوميخ وألموج بيهار.
وتلك الهويات -باعتبارها وسيطا اجتماعيا- هي نتاج التاريخ الجمعي الخاص بالمشروع الصهيوني الذي استخدم أساليب من العنف الرمزي في الممارسة اللغوية الخاصة بالهويات التي تندرج في إطاره، وذلك من خلال فرض استخدام اللغة العبرية، أولاً على المهاجرين اليهود القادمين من الدول الأوروبية، ثم على المهاجرين العرب اليهود، وأخيرا على العرب الفلسطينيين. وبالتوازي مع تلك الآليات التي جعلت من اللغة العبرية لغة قومية، قامت المؤسسة الحاكمة ببحث الطرق التي من خلالها يمكن تهميش اللغة العربية وغيرها من لغات “الشتات”.
فيرى الناقد عوز ألموج أن “استخدام اللغة كان أحد الوسائل المركزية في تشكيل الوعي القومي من قبل حركة قومية تسعى جاهدة لتأسيس نظام ثقافي واجتماعي جديد، وفي إطار تكوين هويتها، تسعى تلك الحركة إلى خلق نظام الرموز الخاص بها وغرسه داخل اللغة. ووفق درجة الصراع مع الثقافات الأخرى، التي تستخدم لغات أخرى، فإنها تصيغ أنماطا تنفيذية تهدف، في أحسن الأحوال، إلى ترجمة لغات هذه الثقافات إلى اللغة القومية، وفي أسوأ الأحوال، إلى محو هذه اللغات تماما”.
فإن أجهزة المجتمعات المختلفة التي عملت بكامل قوتها في العقد السابق على إقامة دولة إسرائيل قد أتاحت خلق إجماع حول هوية اليهودي الجديد ذي الأصل الأوروبي كمتحدث باللغة العبرية من ناحية، وكحامل للقيم العصرية الأوروبية من ناحية أخرى. وعلى عكس المجموعتين الآخرتين من مترجمي محفوظ: اليهود من الدول العربية والفلسطينيون المولودون في إسرائيل، فإن مجموعة المترجمين القادمين من الدول الأوروبية لم تدفع (بشكل واع) ثمنًا ثقافيًا/ لغويًا، فقد نشأ هؤلاء المترجمون في واقع أدت فيه العبرية بالفعل وظيفتها كلغة قومية رسمية لإسرائيل، واستفادوا من نتائج نظام الرموز الذي غرس داخل اللغة.
“اللص والكلاب” والترجمة ضمن السياق الكولونيالي:
حين تنقل الثقافة المهيمنة نصوصًا من الثقافة المسيطر عليها؛ فعادة ما تنظر إلى هذه النصوص على أنها غامضة وغير مألوفة وغريبة، ومن هنا تنتج خطابات رمزية مثقلة بجهاز نقدي يتمثل في إيراد مقدمات وشروح وتزييلات وخطابات ميتانصية، تهدف إلى فرض التأويل المقصود والذي يتوافق مع رؤيته المهينة على القارئ. وهذا النموذج الشارح “تمثّله المستشرقون بوصفهم الوسيط المرجعي الوحيد في تلك العملية النقلية لتعزيز صورة “الشرق” في ذهن القراء، ولفرض نمط خاص للقراءة ومن ثم صورة خاصة لتلك الثقافة”.
تندرج ترجمة مناحم كبليوك لرواية “اللص والكلاب” للأديب المصري نجيب محفوظ ضمن ذلك النمط من الفعل النقلي، فكبليوك (1900- 1988) يهودي أوروبي- روسي من أوائل المستشرقين الصهاينة الذين اتخذوا الترجمة من الثقافة العربية مشروعا لهم لتحقيق مقاصد الحركة الصهيونية السياسية والأيديولوجية بوصفها حركة استعمارية في المقام الأول. فعمد مناحم كبليوك إلى نقل عدد كبير من النصوص العربية إلى اللغة العبرية عبر فعل ثقافي مشروط بسياق الكولونيالية، ووفق ما يريد نقله للمتلقي. وقد كشفت الطبيعية الانتقائية للنصوص لدى كبليوك عموما عن إيمانه الواضح بالفكر الصهيوني الذي توجه بخطاب استعلائي للمجتمعات العربية ولمقوماتها الثقافية، وعن تمسكه بالسجل الاستشراقي في ترجمته لتلك الأعمال والتقديم لها إلى الحد الذي اختزل الشرق في الحيثيات التي يرغبها.
لذلك عند دراسة مقدمة المترجم لنص نجيب محفوظ يكون سياق الأمبراطورية حاضرا بقوة، حيث انشغل كبليوك في خطابه بتقديم معلومات عن تطور الأدب العربي عبر ذكر عدد من الأدباء الذين أثروا في المشهد الأدبي العربي واهتم في الأساس بنقل أعمالهم إلى العبرية، منهم الأديب طه حسين أول من ترجم له كبليوك؛ حيث ترجم روايته “الأيام” بعد ثلاث سنوات من صدورها بالعربية، وكذلك توفيق الحكيم الذي ترجم له “يوميات نائب في الأرياف”، وأيضا عائشة بنت الشاطئ وقصتها “قضية الفلاح”.
ومن الملاحظ هنا اهتمام كبليوك بالريف المصري ورغبته في نقل صورة معينة عن تلك المجتمعات للمتلقي في المجتمع الإسرائيلي، فلم يظهر كبليوك في صورة المترجم فحسب بل في صورة المستشرق الذي لا يستطيع المتلقي الإطلال على المجتمعات الشرقية إلا عبر منظاره ومن خلال السجل الذي دونّه عنها والمشروط بسياق الكولونيالية. ففي مقدمته وترجمته على حد سواء لم يخف كبليوك تلك الروح الاستشراقية والنظرة الاستعلائية تجاه الأدب العربي الذي ينقله، حيث صرح بأنه محاكاة واضحة للأدب الغربي تنم نصوصه عن عدم موهبة أصيلة للأدباء العرب؛ لذلك لم يتوانى في توجيه نقد مباشر لرواية “اللص والكلاب”؛ فكتب في مقدمته: “إن القارئ العادي للأدب الغربي والمستند على تيار الوعي يمكنه أن يقف على تلك الركاكة الأسلوبية الواضحة التي تميز بها السرد في الرواية، والتي اتضحت -مثلا -في عدم منطقية الأحداث والإطناب المبالغ فيها“.
كما صرح كبليوك باستراتيجيات الترجمة والإجراءات الإصلاحية- بتسميته- التي أنتهجها أثناء نقل الرواية إلى العبرية، ومنها إضافة العديد من الشروح داخل المتن وبعض التذييلات في الهامش لما رآه غامضا ويستحق تفسيره للمتلقي، فيؤكد في مقدمته على رغبته في “إصلاح النص” عبر حذف أجزاء منه أو تغيير بنيته أو إضافة شروح في متنه: “وجد المترجم أن من واجبه الإشارة إلى أنه قد سمح لنفسه في مواضع كثيرة أثناء ترجمته للقصة الأولي (اللص والكلاب) أن يحذف (كما في نهاية الفصل 12) أو يختصر ما وجده زائدا أو معرقلا لسير الأحداث، لذلك لم يحرص على ترجمة متكافئة شكليا خصوصا للبنى الحوارية غير اللائقة والتي جاءت مسهبة في إطالتها؛ ففضل أن يقوم بتغيير بنيتها وتحويلها إلى جمل سردية مكثفة”.
ولم يستطع كبليوك تجاهل الصوفية كملمح من ملامح النص المحفوظي سواء في الفعل الترجمي لرواية “اللص والكلاب” أو لقصة “زعبلاوي” -“البحث عن زعبلاوي” كما نقلها إلى العبرية-، أو في الخطاب التقديمي لهما بوصفه صورة من صور عملية الاستدعاء وتمثل الغربي للشرق وفق منظور الإيكزوتيك، الذي يعرض ارتكاز الشرق على الغيبيات وابتعاده عن مبدأ المنطق العقلي، ويؤكد على أن العقل العربي عقل عرفاني على عكس العقل الغربي الذي يحاول تصدير جواهرنيته كعقلانية برهانية.
الثلاثية والترجمة ضمن السياق ما بعد الكولونيالي:
إذا طبقنا أسس ما بعد الكولونيالية نجد أن ما بعد الصهيونية –بوصفها نموذجا بعد حداثي- تتوافق مع تلك الأسس في محاولتها لتفكيك الخطاب الصهيوني المهمين ومشروعه الاستعماري الذي توجه به إلى الشرق، ووصفه لنفسه بأنه خطابا تحريريا للقومية اليهودية؛ مرسخا لمبادئ السيطرة والهيمنة الثقافية التي من شأنها أن تخضع الآخرين لسيطرته بدعوى الحماية أو التحرير أو التنوير.
حيث قامت الصهيوينة –باعتبارها كيانا استعماريا- بعمليات قمع مزدوجة، تجاه الفلسطينيين من جهة وتجاه اليهود العرب من جهة أخرى، وكان الكشف عن العلاقات بين القامع والمقموع في المجتمع الإسرائيلي وفي كتابات اليهود العرب من إسهامات الناقدة الإسرائيلية عراقية الأصل إيلا شوحط (1959) التي استخدمت قوالب التحليل الثقافي والاجتماعي -التي استخدمها من قبل إدوارد سعيد- للتعرف على طبيعة العلاقات بين اليهود والعرب الفلسطينيين من ناحية، والإشكناز(يهود أوروبا) واليهود العرب من ناحية أخرى.
حيث نظرت الصهيونية إلى ثقافة اليهود العرب بازدراء، وبسبب هذه النظرة قام اليهود العرب بمحاولات تغيير سلوكهم حتى يتأقلموا مع الواقع الجديد، ولذلك نجد أن اليهود أصحاب الهوية الثقافية العربية في الخمسينيات والستينييات قد حاولوا كبت هويتهم الثقافية والانصهار في الواقع الجديد الذي دخلوا فيه، أما الجيل الجديد فقد بدأ في التفتيش عن هويته الثقافية وصياغة هويته الذاتية وتفكيك المفاهيم الكولونيالية والقومية وزعزعة القاموس التعريفي التي وضعه الخطاب الصهيوني للشرق على مدى مئات من السنين.
لذلك يمكن القول بأن اليهود العرب قد اعتمدوا الفعل الترجمي بوصفه خطابا بديلا لخطابات المركز المهين؛ فبرزت أهميته كنضال ضد العنصرية أو كرمز في سبيل استعادة الهوية المفقودة، وفي بناء تمثيلات الثقافات المهمشة. وكانت نصوص نجيب محفوظ التي نقلت إلى العبرية –من ضمن أعمال أخرى مترجمة إلى العبرية- قناة من القنوات التي أوجد من خلالها الصوت العربي روايته الخاصة وسرده البديل، داخل مجتمع أصرّ على تغييب هذا الصوت وتهميش تلك الرواية، وأراد عرضها وفق سياسته الخاصة.
ويعد الناقد والأديب العراقي الأصل ساسون سوميخ (1933- 2019) أهم من تناول نجيب محفوظ سواء بالدرس النقدي أو بالترجمة والتقديم لها، وقد شجع سوميخ العديد من الأدباء الإسرائليين على ترجمة أعمال نجيب محفوظ، منهم الكاتب العراقي الأصل سامي ميخائيل (1926) الذي ترجم الثلاثية المحفوظية. وقد تكثّفت الممارسة التقديمية لترجمة “الثلاثية”؛ فقدّم ساسون سوميخ للطبعتين الصادرتين في (1980) و(2017) في خطاب افتتاحي، وكتب الشاعر والناقد العراقي الأصل كذلك ألموج بيهار (1978) خطابا ختاميا للطبعة الأخيرة نفسها.
فقد صرح ميخائيل عن سبب اختياره لأدب نجيب محفوظ مستدعيًا أهم مفاهيم مقاربات ما بعد الكولونيالية مثل الهجنة والتفاوض والتذويت والرد بالكتابة، ليعارض الاستراتيجية الرمزية الخطابية للمركز وليواجهها بنقض مقولاتها قائلا: “ما زالنا نعد في نظر قطاع غير قليل من الإسرائليين مواطنين من الدرجة الثانية، وهو ما لم نكن نشعر به في العراق التي لم نكن غرباء داخلها، أنا هنا –في إسرائيل- أتبنى وطن أبنائي، عكس ما يحدث عادة حيث يتنبى الأبناء وطن آبائهم، لهذا رغبت من خلال ترجمتي للثلاثية إلى العبرية نقل قضيتي إلى جمهور واسع من اليهود“.
في حين اهتم سوميخ في خطابه المقدماتي للثلاثية في طبعتها الأخيرة (2017) بعرض رأي الكاتب نجيب محفوظ في نقل الثلاثية إلى العبرية، الذي رأى أن: “الرمزية التي تنطوي عليها عملية الترجمة إلى العبرية تمنح للرواية قيمة خاصة“، كما عمد سوميخ في خطابه إلى تقديم معلومات خاصة بعملية عنونة المترجم لأجزاء الثلاثية في النسخة العبرية وتغيير عناوينها لتتناسب مع مضمون كل جزء ومع مناخه العام.
فيشير سوميخ إلى الخصوصية المحلية التي عبرت عنها الأجهزة العنوانية لثلاثية نجيب محفوظ، حيث حملت العناوين أسماء أحياء مصرية وحاراتها المشهورة في القاهرة الفاطمية: بين القصرين- قصر الشوق- السكرية، لذلك لجأ المترجم إلى تغيير تلك العناوين لتشير إما إلى مكان الأحداث أو إلى مضمون العمل أو إلى الشخصية الفاعلة فيه؛ ليأتي الجزء الأول بعنوان “بيت في القاهرة” وهو الفضاء الذي تدور فيه أغلب الأحداث ونتعرف عبره على شخصيات العمل، أما الجزء الثاني فيحمل عنوان “كمال” وهو اسم الشخصية الرئيسة بالجزء التي جاءت لتمثل صراحة انحسار الطبقة الوسطى وشيوع ثقافة الغرب كنمط للحياة وكأسلوب للفكر، في حين يأخذ الجزء الأخير عنوان “الجيل الثالث” ليجسد تطور المجتمع من خلال تشكل جيل الأحفاد.
بينما جاء الخطاب الختامي للثلاثية الذي قدمه ألموج بيهار في طبعتها الأخيرة ليعلق على المقدمة الاستهلالية وكاتبها ساسون سوميخ من ناحية، وعلى كاتب النص نجيب محفوظ ومترجمه سامي ميخائيل من ناحية أخرى؛ فاهتم بيهار بشكل أساسي بقضية الهوية الثقافية الشرقية، حيث أكد في مقدمته التاريخ المشترك بين العرب واليهود، والدور الثقافي لليهود في البلدان العربية وضروة إبراز مكانتهم داخل الثقافتين العربية والعبرية. ويشير بيهار كذلك إلى أن الاهتمام بالرواية لم يأت فقط من منطلق اهتمام بجانبها الفني لكن أيضا بالرسالة التي يريد الكاتب، والمترجم بالتبعية، نقلها للمتلقي، فكانت ترجمة الأدب العربي إلى العبرية وسيلة لتمثيل قطاع كبير من اليهود العرب داخل المجتمع الإسرائيلي، وقناة تعبيرية مهمة لتصفية الاستعمار من داخلهم، ولذلك يقول: “إن محفوظ هو المبدع النثري الأكثر ترجمة إلى العبرية، مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي ترجمت معظم أعماله إلى العبرية كذلك“.