سعيد رفيع - مستر كانسل.. قصة قصيرة

من بين كل عشر كلمات يطلقها لسانه , فإن كلمة كانسل تتكرر مرتين على الأقل:
-أخبارك إيه يا حربي ؟
-إيرينا خلاص كانسل .
-إيرينا ؟! إنت مش كنت ماشي مع واحدة تانية إسمها ناتاشا؟
-دي برضو خدت وقتها وبعدين كانسل .
-سيبك من الكلام ده أخبار الوالدة إيه ؟
-العلاج مش نافع .. لازم عملية .
-وإيه المانع ؟
-ما إنت عارف .. العين بصيرة والإيد قصيرة .
حربي البازارجي .. يبيع التحف والجلابيب المطرزة للسياح , وهو أيضا يملك قاربا ذا قاع زجاجي , يدعو إليه الخواجات في رحلات مجانية , خواجاية واحدة جميلة في كل رحلة , وكأغلب أصحاب البازارات فإن حربي متعدد المواهب , فهو يرطن بعدة لغات أجنبية , وهو أيضا يستطيع التعرف على جنسيات الخواجات عن بعد , يكفي أن يلقي نظرة واحدة على السائحات المتسكعات أمام البازار , ليخبرك أن هذه الخواجاية فرنسية وتلك ألمانية أو روسية .
يقول حربي أنه محظوظ , ولديه عدد كبير من الصديقات الأجنبيات , في الوقت الذي كنت أتمنى فيه أن تكون لي صديقة أجنبية واحدة , مجرد صديقة لا أكثر , ولكن الأمر بالنسبة لي لم يتعد قط دائرة التمني , إذ بمجرد أن ألج إلى دائرة الفعل فإن الأمور عادة تسير سيرا مغايرا .
جربت ذلك مرة مع سائحة روسية , استجابت لدعوتي للشراب , ولكن لأنني لست موهوبا مثل حربي , فلم أجد ما أبدأ به حديثي معها سوى السياسة , إذ سألتها عن رأيها في إصلاحات يلتسين الإقتصادية , فلم تبد حماسا للإجابة , فعمدت إلى إثارتها , وسألتها عن سبب الموقف الروسي المتخاذل من إبادة الصرب لمسلمي كوسوفا , فقطبت جبينها , وهبت واقفة , وهي تغمغم بكلمات روسية لم أفهمها , ثم مضت لا تلوي على شئ.
-إنت عارف فين كوسوفا يا حربي ؟
-طبعا عارف .. في أوروبا .
-أيوه يعني فين بالضبط ؟
-جنب فرنسا من الناحية التانية .
وما حدث مع الروسية تكرر بصورة مشابهة مع سائحة أمريكية , وكنت قد تعلمت من تجربتي الفاشلة مع الروسية , فتجنبت الخوض في أمور السياسة , وحاولت أن أكون أكثر ظرفا , فبدأت حديثي معها عن الطقس الجميل , ثم تطرق حديثي إلى الشعاب المرجانية والكائنات الجميلة التي يحفل بها البحر , وكان لحديثي هذا فعل السحر على السائحة , إذ حدثتني بدورها عن مدينتها الصغيرة على شاطئ الباسفيكي , ثم عن إعجابها بمصر , وامتد حديث الإعجاب ليشملني شخصيا , فسألتها إذا كانت قد زارت مناطق أخرى في الشرق الأوسط , فأجابات بأنها زارت كلا من الأردن وإسرائيل , وهنا خرجت عن طوري دون أن أدري , وقاطعتها قائلا : "تقصدين الأردن وفلسطين؟" , فرمقتني بنظرة مستنكرة , لم أبال بها , بل واصلت حديثي قائلا : "لماذا تنظرون دائما إلى الأمور بعيون إسرائيلية ؟" ولم أكد أنتهي حتى كانت الأمريكية قد نهضت , ثم ولتني ظهرها , وسمعتها وهي تمضي تقول "عليك اللعنة".
ومع كل إخفاق لي كان حربي يحرز نجاحات عدة , ربما لأنه موهوب , وربما لأنه ورث مهارة الصيد عن أبيه , فهو يبدأ عادة بالتودد للسائحة بإهدائها جلبابا نسائيا مطرزا , أو لوحة منقوشة على ورق البردي , فتشكره السائحة على الهدية , وغالبا ما تتبع شكرها بقبلة سريعة , فيغتنم حربي الفرصة ليطبع قبلة أخرى على خدها البض , ثم يغازلها بكلمات يحفظها عن ظهر قلب , ويختم الغزل بدعوتها للعشاء , ثم الرقص في حلبة الديسكو , حيث يشهر حربي مجساته الدقيقة ليختبر مدى مناعة تخومها في وجه الإجتياح , وبعد أن يطمئن إلى هشاشتها , يواعدها على اللقاء صباح اليوم التالي عند مرسى القوارب , ليصحبها في رحلة بحرية مجانية.
وعادة ما يتخير حربي لرحلته تلك البقعة الهادئة المحصورة بين الجزر , حيث المياه ضحلة , فتكشف عما في جوفها من شعاب مرجانية وكائنات بحرية جميلة , وحيث يجد قاربه الصغير مأمنا من الريح ومن أعين الفضولين والنمامين , وما إن يصل القارب إلى غايته حتى يلقي حربي بخطافه , ولا يمضي وقت طويل بعد ذلك حتى يكونا قد تواريا تماما في قاع القارب .. ويشرع القارب في التأرجح على صفحة الماء .. رغم خمود الريح .. وسكون الأمواج .
-إنت مش متجوز يا حربي ؟
-كنت متجوز بنت خالتي وبعدين كانسل .
إنقطعت زياراتي لحربي بضعة أسابيع , وعدت لزيارته بعد وفاة والدته , التي ماتت متأثرة بمرضها الطويل , ثم صادفته في الطريق بعد ذلك بعدة شهور , وكانت برفقته شقراء في رداء أرجواني قصير , يكشف عن ساقين متناسقتين لوحتهما الشمس , وكان حربي يسير إلى جانبها خائرا ، حتى خيل إلي أنه يتعكز على كتفها , كما بدا لي نحيلا على غير ما عهدته , بينما سارت الشقراء بمحازاته .. مشدودة القامة .. فارهة .. وكانا عائدين من مرسى القوارب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...