أحمد عبدالله إسماعيل - الدوامة..

في وقت متأخر من الليل، أضاء الشموع، وشرع يرتب نفسه للنوم، وسواء أكان الوقت صباحًا أم مساء، فإن الأمر لا يختلف كثيرًا؛ كان هناك دومًا ذلك الضيق الذي لا يفارقه لحظة؛ لأن الحياة بالنسبة له ليست أكثر من مجرد مكان خانق رغم أنها لم تصل به إلى الدرجة التي تجعله ينهيها بنفسه؛ فمتى ينتهي هذا الألم؟!
كان دائمًا ذلك الشعور الذي يتجدد مع كل عمل يشارك فيه، الواقع الوحيد، والكذبة الكبيرة التي يعيشها كل يوم: يمثل دوره ببراعة دون أن تحقق الأعمال التي يشارك فيها الإيرادات المنشودة رغم جلسات النقاش والعمل المستمر حتى يخرج العمل إلى النور !
أخذ يتأمل ضوء الشموع المنعكس على المرآة وتفكّر في أمره، وببطء شديد تذكَّر كل ما مر به، دقَّق النظر في ملامح وجهه، تأمل بياض بشرته، و وجنتيه المدورتين، ونضارة جسده وعنقه، ولمعان شعره، وبريق عينه الممتلئة بالطموح رغم أنه مترف منذ الصغر.
ضاق صدره عندما رأى على جدار غرفته صورة المخرجة؛ إذ كانت، في الواقع، شخصية ذكية، مناوِرة، بلغت من العمر ما يمنحها الخبرة في الحكم على الأشخاص.
امتزجت مشاعره بين الأمل الذي يطارد نفسه، وعاصفة اليأس التي تجتاح كِيانه، حتى وإن أشاد قليل من النقاد به.
مرت ساعةٌ، سمع صوت رنين هاتفه المحمول. لعله منتج يطلبه لعمل جديد؟
ارتفع صوت المخرجة قليلًا، وقالت:
-«نجمنا الشاب، لمَ تشعر بالسخط؟ هل يبتهج قلبك بعد قراءة عبارات المديح فقط؟!»
المخرجة تعلم جيدًا أنه يريد أن يصرخ لكنه لا يستطيع. سمعت زفراته المليئة بالنفور والرفض فقالت:
-«الناقد الحقيقي هو من سيكتب عنك الجمعة المقبلة!»
تردد في الرد عليها، ثم تخلى عن نبرة صوته اليائسة، وأخذ يتبادل معها الآراء، وقد هدَأت ثائرته عندما قالت:
-«إنه يكرر نفس الكلام حين يوجه سهام نقده لأي فنان كبير».
في صباح اليوم التالي، التقى بها مبتهجًا، والأمر اللافت: حضر الناقد الذي كال عبارات التقريع بحقه، غير أنها قبّلته، وشرعت على الفور في قولها إنها تقدّر رأيه منذ زمن بعيد، وأن سوء تفاهم قد حدث!
فحص ملامح وجهها، وأخذ يلومها في داخله متعجبًا:
-«برغم أن بعض أعمالها ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ السينما بالإضافة إلى كونها أرملة أحد أشهر الفنانين، ومع ذلك فإن سماع كلماتها المغايرة لضميرها يثير بداخلي انتفاضة غيظ!»
ثم ابتسم ابتسامة، تتناقض مع ما يحس به من ألم نفسي، وكانت تعني:
«قبل دقائق انتقدَته، وقدحت في شرفه وذِمته بلا هوادة، والآن تنسج له من أبيات المديح قلادة؟!»
ظل صامتًا، عابس الوجه؛ إذ أحسَّ أن الجو الخانق الذي يحيط به قد غدا من الصعب تجاوزه أو الخلاص منه.
إن شعور الرفض الذي يتغلغل بداخله نحو ذلك الناقد لم يتغير، وكما أن المخرجة اصطنعت إزاء النقاد قاعدةً لا يمكنه قبولها، فقد تبنت رأيًا مفاده أنه لا يفعل بعض الأشياء التي كان ينبغي أن يفعلها، وأنه مسئول -هو نفسه- عن وضعه، إذ كانت تلومه "هبه أبوذكري" بلهجة ودية، وكان يستحيل عليه أن يتغير.
كان موقفه تجاه اللحظة الراهنة يتلخص في أن يُعلن للجميع أن مسئولية نجاح عمله القادم إنما تقع عليه وحده، وأن الإخفاق السابق ما هو إلا واحد من تلك المكدّرات التي يقابلها في حياته.
دام انتظاره شهرًا، شهرين، وقبل مرور عام، استقر على قصة الفيلم الجديد، وكان يحبس أنفاسه يوم العرض الخاص.
وعندما استيقظ في عصر اليوم التالي، وجد مقالة نقدية في الجريدة كتبها "حسن عاطف"، ولدى قراءة اسم الناقد بجوار صورته ضمن أحد مشاهد الفيلم، رفع رأسه ونظر إلى أعلى لحظات كأنه يشتكي إلى السماء دون أن يتفوه بكلمة، ثم قرأ بضع كلمات كشفت كل شيء؛ لأنه نجح أخيرًا !
بعد أربعة أسابيع، أقام المركز الكاثوليكي المصري للسينما حفلًا بقاعة النيل للآباء الفرنسيسكان، ولدهشة الجميع، أعلن رئيس المركز الأب شنودة دانيال عن تلقيه رسالة على بريده الإلكتروني من أكاديمية فنون وعلوم السينما الأمريكية تخطره باختيار الممثل "أيمن سيف" للمنافسة على جائزة الأوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي.
قبيل الفجر، عاد إلى حجرته، و أضاء الشموع؛ فرأى وجهه في المرآة التي كان يزيّن إطارها اللون الذهبيّ المبهج الذي لم ينتبه إليه في السابق، وقال:
-«لا شك أن طعم النجاح حلو، والأجمل هو أن يكون حقيقيًّا، هل كانت الأيام بتلك القسوة؟! تحرمني من النوم ليالٍ طوال تذوقت فيها طعم الظلم؟!"
استلقى على جنبه، ووضع يده تحت خده، ممددًا على ظهره، فدهش مما آل إليه الحال قائلًا:
-«نختنق في بعض الأحيان من ابتسامة النفاق بينما اعتاد المنافقون على العيش في سعادة، والأمر ذاته يحدث للملايين!
ربما أنا فقط من يريد تغيير هذا العالم بأكمله لكن أغلبيتنا تفوز دائمًا بغض النظر عن مدى رغبتنا في ذلك؛ لأن الأقلية يقبعون في المنطقة الحمراء المحرمة، فينتصر الغباء مرة أخرى، بل للمرة الألف تغرق الفطرة القلبية السليمة في بحر من العبارات الجوفاء المزيفة.
هذا هو الواقع الذي أحاول أن أستثنى نفسي منه لكنني أتساءل في حيرة: لماذا يستمر هذا الوضع؟
أليس بمقدورنا تغيير العالم من حولنا؟ هل نحن خائفون أم إننا لا نريد؟»
تذكر، في نشوة، ما حققه من نجاح مستحق على المستوى العالمي، وماتزال الشمعة في مكانها، ثم نهض؛ ليرى وجهه في المرآة فبدت عيناه تلمعان من الفرحة، كما أن الألم الذي اعتاد الشعور به، قبل نومه كل ليلة، قد توقف لأول مرة منذ وقت بعيد.


أحمد عبدالله إسماعيل

قصة من المجموعة القصصية نهر الموت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...