مناف كاظم محسن - الوداع..

أمضيت يومي مشغولاً بالتفاصيل الصغيرة التي تشبه الكمثرى. لكني ما أن فتحت الحاسوب وقرأت التأريخ الملعون *(الثاني والعشرين من أيلول) حتى استيقظت في ذاكرتي كل الذكريات القديمة التي ابتلعها النسيان فصارت في العدم لكنها لم تزل مؤلمة تلامس القلب وتترك فيه غصة اليمة. كنت في السادس عشرة من عمري، عصر ذلك اليوم الخريفي عندما أوصتني امّي (ولم أعرف حتى اليوم لماذا) أن أرافق أخي ورفيقه الجندي اللذين كانا يريدان الالتحاق لوحدتهما العسكرية، الى أن يركبا الحافلة. أنصت لحديثهما بفرح ممزوج بحزن الأمهات متمنياً أن أكون مع أخي في أيّ مكان يذهب اليه. لكن الذي غمرني بالسعادة في تلك اللحظة وجعلني كالطير المحلق في سماء زرقاء صافية، عندما أخبر أخي رفيقه بحماس وبعفويته التي تشبه براءة الأطفال عن تلك الأوقات الجميلة التي قضيناها معاً، عندما كان يأخذني الى السينما كي نشاهد أحد الأفلام التي كان يحبها. ثم طبطب على ظهري قائلاً لرفيقه (هذا أخي الصغير هو الأقرب الى قلبي من بقية اخوتي الكبار وهو الذي يحفظ سري). احتضنني بلهفة لم أعهدها من قبل، ثم قبلني ولم أكن أتخيل للحظة انّه كان يودعني الوداع الأخير. عندما ركبا الحافلة المكتظة بالركاب لوح لي بيده اليمنى، لوحت له أنا أيضاً قبل أن يتلاشى في الزحام. لقد أخبرني دون ان ينطق حرفاً واحداً. نعم بآخر نظرة وآخر تلويحه من يده بأنه لن يعود. كان يعرف ذلك رغم انه حاول ان يكتمه عني. تلك النظرة الأخيرة لن انساها ما حييت. مسحت دموعي ثم عدت لأمي. رأيتها في المطبخ تعد لنا الطعام يلفها الصمت ويرسمها الحزن لوحة من لوحات رسام عاش ويلات الحرب ومصائبها. قلت لها انني قد نفذت وصيتها ولم أخبرها عن توجسي ولا عن بكائي وأنا الوح له مودعاً ولا عن نظرته الأخيرة التي تركت ألم عميق في قلبي. لكنني رغم ذلك لم أستطع أن أحبس دموعي عندما رأيتها تبكي وتشكو خوفها الى الله.


*(الثاني والعشرين من أيلول- 1980) اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات وانتهت بتاريخ (8/8/1988).

مناف كاظم محسن
22-أيلول -2022

تعليقات

ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...