لم أكن أراها على باب بيتها إلا لتصرخ فينا كى نكف عن الجلوس على سلمها ، كان بيتها أشبه بالقلعة المنيعة ، لم أدخله أبدا إلا بعدما كبرت و تزوجت، ولم يكن ذلك في عهدها ، ولكن في عهد الساكن الجديد ، تعودت ألا أرى نوافذه مفتحة ، مساحته كبيرة جدا ، واجهته قبالة بيتنا و تمتد مساحته بعرض أربع بيوت خلفه، ينقسم إلى قسمين ، قسم من ثلاثة أدوار تعيش فيهم وحدها ، وقسم آخر فضاء واسع بباب كبير جدا من الحديد الأصم بلا فتحات أو نقوش ، وضعت فيه الطيور و الفرن و الخزين ومنه سلم متصل بالقسم الثانى تجلس فيه مع النساء اللاتى يخدمنها لتعطيهن الأوامر وتثرثر معهن بحكايات اللاتى تزوجن و طلقن و أنجبن ، وبعد أن تنتهى مهمتهن ، تجود عليهن بقليل من الخير الذى يملأ دارها،
مازالت عالقة بذاكرتى بعض ملامحها ، أعتقد أنها كانت فى الخمسين حينها، أبرز مافيها عيناها الجاحظتان وملامحها الجامدة ؛ و التى لا تنبيء عن حنان أبدا ، لا أعرف ما الذي كان يضايقها من جلوس ثلاث أو أربع بنات صغيرات _ بالكاد فى الصف الأول أو الثانى الابتدائى _ على سلم منزلها الوسيع !
ولا أعرف لماذا سلمها بالتحديد الذى كنا نفضله ، ربما لأن منزلها كان فى مواجهة تيار الهواء ، ولأننا كنا فى الإجازة الصيفية ، فيحلو لنا السمر و السهر و سرد الحكايات ولعب " الإيلان " و " الاستغماية " على سلمها، فنختبيء فى مداخل البيوت المجاورة ثم نلتقي على سلمها ونحن نصرخ أن وجدنا بعضنا مرة أخرى ٠
ربما صراخنا كان يزعجها ، فهى وحيدة لا أولاد لها ، فتآلفت مع الصمت ، فأصبح كل ما يهدد السكون الذى حولها يؤذيها،
كنا نسعد عندما نراها ذاهبة فى زيارة لصديقتها الحاجة بهية، وحيدة مثلها _تتاجر فى الملاءات اللف _ فقد كان فى دمياط مصنع لتلك الملايات، معظم نساء دمياط لم يكن يخرجن من بيوتهن إلا بالملاءات اللف ، والمتحفظات منهن يضعن البيشة على وجوههن ، حكت لي أمى أن جدتها كانت تضع البيشة علي وجهها و علي أنفها قصبة من ذهب ، أما جدتى لأمي فكانت تضعها من شيفون أسود بورود حمراء قانية لها أوراق خضراء ، وقد كانت تخفى الوجه فعلا ،
نظل نتابعها فى ملاءتها و قد شدتها جدا علي خصرها ، فكانت بعض هذه الملاءات لها رباط من الداخل ليشد على الوسط ليبرز مفاتن جسد المرأة : فكأنه فستان شديد التجسيم ، كانت ملاءتها من الحرير اللامع الجميل وهذه كانت غالية الثمن جدا ، و كانت تميزها عن كل النساء ، فتبدو لمن لم ير وجهها امرأة فاتنة !
وما إن تعبر شارعنا وتدير ظهرها لنا إلا ونعود لاحتلال السلم مرة أخرى٠
كانت هذه الزيارات شبه يومية ، كن يحتسين القهوة معا فى ساعات العصاري ، و يقطعن الوقت فى تمني الزوج الذى يملأ وحدتهما ويؤنسهما ، أفلحت الحاجة بهية فى استجلاب هذا الزوج ، فقد كانت تمتلك بعضا من أنوثة ، لكن صاحبتنا كانت فقيرة فيها جدا ، فلم تحظ بمثل حظ بهية ٠
الحقيقة أني لم أكن أحبها أبدا ، لم أجدها مرة مبتسمة ، دائما تنظر إلينا أنا و صديقاتى كأننا أجانب ، لا تشعرنا أبدا أننا بنات جاراتها التي تتسامر معهن،
أحيانا لتبعدنا عن سلم قلعتها : كانت ترش الماء علينا ونحن جلوس، فكنا نجرى و نحن مغيظات من فعلتها ، لكن لا نستطيع أن نقول لها شيئا.
فى فترة طفولتي كانت قد فرغت من زوج توفي و آخر أخذ جزءا كبيرا من مالها و طلقها،
الحاجة همت سيدة ميسورة جدا، ورثت عن والدها عدة فدادين و عن زوجها أيضا تلك القلعة و فدادين أخرى،
ظلت تحافظ على هذا المال طيلة حياتها ، لا ينتفع أحد منها بشيء ، حتى حام حولها قريب لها _ هي في منزلة جدته _أغدق عليها بالحنان و الهدايا و تولى أمرها لسنوات ، ثم استكتبها ورقة تتنازل فيها بالبيع عن كل ماتملك.
مازالت عالقة بذاكرتى بعض ملامحها ، أعتقد أنها كانت فى الخمسين حينها، أبرز مافيها عيناها الجاحظتان وملامحها الجامدة ؛ و التى لا تنبيء عن حنان أبدا ، لا أعرف ما الذي كان يضايقها من جلوس ثلاث أو أربع بنات صغيرات _ بالكاد فى الصف الأول أو الثانى الابتدائى _ على سلم منزلها الوسيع !
ولا أعرف لماذا سلمها بالتحديد الذى كنا نفضله ، ربما لأن منزلها كان فى مواجهة تيار الهواء ، ولأننا كنا فى الإجازة الصيفية ، فيحلو لنا السمر و السهر و سرد الحكايات ولعب " الإيلان " و " الاستغماية " على سلمها، فنختبيء فى مداخل البيوت المجاورة ثم نلتقي على سلمها ونحن نصرخ أن وجدنا بعضنا مرة أخرى ٠
ربما صراخنا كان يزعجها ، فهى وحيدة لا أولاد لها ، فتآلفت مع الصمت ، فأصبح كل ما يهدد السكون الذى حولها يؤذيها،
كنا نسعد عندما نراها ذاهبة فى زيارة لصديقتها الحاجة بهية، وحيدة مثلها _تتاجر فى الملاءات اللف _ فقد كان فى دمياط مصنع لتلك الملايات، معظم نساء دمياط لم يكن يخرجن من بيوتهن إلا بالملاءات اللف ، والمتحفظات منهن يضعن البيشة على وجوههن ، حكت لي أمى أن جدتها كانت تضع البيشة علي وجهها و علي أنفها قصبة من ذهب ، أما جدتى لأمي فكانت تضعها من شيفون أسود بورود حمراء قانية لها أوراق خضراء ، وقد كانت تخفى الوجه فعلا ،
نظل نتابعها فى ملاءتها و قد شدتها جدا علي خصرها ، فكانت بعض هذه الملاءات لها رباط من الداخل ليشد على الوسط ليبرز مفاتن جسد المرأة : فكأنه فستان شديد التجسيم ، كانت ملاءتها من الحرير اللامع الجميل وهذه كانت غالية الثمن جدا ، و كانت تميزها عن كل النساء ، فتبدو لمن لم ير وجهها امرأة فاتنة !
وما إن تعبر شارعنا وتدير ظهرها لنا إلا ونعود لاحتلال السلم مرة أخرى٠
كانت هذه الزيارات شبه يومية ، كن يحتسين القهوة معا فى ساعات العصاري ، و يقطعن الوقت فى تمني الزوج الذى يملأ وحدتهما ويؤنسهما ، أفلحت الحاجة بهية فى استجلاب هذا الزوج ، فقد كانت تمتلك بعضا من أنوثة ، لكن صاحبتنا كانت فقيرة فيها جدا ، فلم تحظ بمثل حظ بهية ٠
الحقيقة أني لم أكن أحبها أبدا ، لم أجدها مرة مبتسمة ، دائما تنظر إلينا أنا و صديقاتى كأننا أجانب ، لا تشعرنا أبدا أننا بنات جاراتها التي تتسامر معهن،
أحيانا لتبعدنا عن سلم قلعتها : كانت ترش الماء علينا ونحن جلوس، فكنا نجرى و نحن مغيظات من فعلتها ، لكن لا نستطيع أن نقول لها شيئا.
فى فترة طفولتي كانت قد فرغت من زوج توفي و آخر أخذ جزءا كبيرا من مالها و طلقها،
الحاجة همت سيدة ميسورة جدا، ورثت عن والدها عدة فدادين و عن زوجها أيضا تلك القلعة و فدادين أخرى،
ظلت تحافظ على هذا المال طيلة حياتها ، لا ينتفع أحد منها بشيء ، حتى حام حولها قريب لها _ هي في منزلة جدته _أغدق عليها بالحنان و الهدايا و تولى أمرها لسنوات ، ثم استكتبها ورقة تتنازل فيها بالبيع عن كل ماتملك.