طالعت اليوم في كتاب أصفر تآكلت حوافيه، أختزن في بيتي مجموعة قيمة من تلك الكتب، توراثت عن جدي بعضها؛ أما البقية فقد جاءتني من قريب لي يهب لمن أحبه نصوصا تقاوم النسيان في بلاد تحوطها العجائب من كل نواحيها.
تقول الحكاية: ذيل طويل يمتد مسافة ليلة ونصف، ظهر في مرآة عملاقة لطيف يتراقص عند منتصف الليل مطلع الشهر القمري، يلتف حول العالم الأرضي، تدور عقارب الساعة المثقوبة دائما، تتساقط أوراق شجرة الكافور العملاقة ونادرا ما يحدث هذا؛ يقال إنها شجرة تحفها عناية الله؛ تربض تحتها جنية منذ مئات الأعوام، جلس تحتها قطز وبيبرس يوم أن هزموا جحافل التتار، آوى إليها عبد الله النديم حين اختفى عن عيون الوشاة؛ في بلاد يتجمع فيها الفرح والقهر في مشهد واحد؛ أليست هي حبلى بالعجب تلده كل آونة.
الخالة مرزوقة لديها تأويل لكل الأحداث التي تنتاب قريتنا، في السنة الماضية ولدت عنزة الجيران صغيرتها برأسين لم تعش غير يوم وليلة، ساعتها قالت لنا: الجراد على وشك أن يهاجم حقول القمح، لم تكد تنتهي من تناول كوب الشاي المعد فوق بقايا أخشاب الصفصاف، حتى غطت السماء تلك الوحوش الطائرة، أخذنا نضرب فوق المواعين ونحرق القش، يزداد صريخنا كلما اقتربت.
ماتت ابنة العنزة، ركض حمار عمنا مسعود في طريق تسكنه حيات وعقارب؛ أقسمنا له إن حماره لن يعود، الخالة رأت ثعبانا كبيرا يمتطى ظهر الحمار؛ أنبأتنا بأن الفيضان سيجتاح قريتنا منتصف الليل، لم نعرها انتباها؛ إنها تخرف لقد تجاوزت التسعين عاما.
تأخر النيل أسبوعا كاملا ومن ثم صحونا وقد صار الدقيق فتات عجين، الطيور سبحت في الماء، حمدنا الله أن الصغار لم يمسهم سوء.
احتطنا لكل الأشياء الثمينة؛ نحفر في الحائط كوة؛ نختزن بها أسرارنا، عقود الزواج، حتى لا تتشابه علينا النساء بدأ كل واحد يضع وشما لامرأته، بعض الماكرين لم يفعلوا هذا، الخالة مرزوقة تفضح النسوة اللواتي يأتين ببهتان يفترينه في أثداءهن.
اعتدلت في جلستها، جزاء سخريتنا منها هكذا قالت لم تشأ أن تخبرنا بالموعد بدقة؛ من يومها نتحسب لكل ما تعظنا به، هذه الأيام لديها رحلة إلى ضفة النهر الأخرى؛ لها أخت تبلغ من العمر مائة عام تقول عنها: إنها تجدد عمرها؛ الأسنان اللبنية بدأت تظهر في مقدمة فمها، نضحك لأجل هذا، جعلناه طرفتنا مساء؛ الخالة مرزوقة ستعمر طويلا؛ نحتاج إليها لتأول لنا الأحلام؛ نشعر بالأمان حين تكون معنا.
لا ندري ما سيحدث لنا حين تغيب عنا، ظلت الأحلام تهاجمنا كل ليلة؛ غراب يجري وراء قطة بيضاء، شجرة الكافور العملاقة تطير عاليا حتى تستقر فوق مأذنة الجامع القبلي؛ الزاوية مليئة بأسماك القرش، طاحونة الكيال تزغرد فيها جنية حمراء، أبواب المدرسة الإبتدائية تقرضها فئران من حديد.
صرنا من دون الخالة مرزوقة أيتاما، تصلها أحلامنا لحظة بلحظة؛ نشك في أنها تخايلنا بكل هذا.
أغرب من كل هذا أننا نرى ثعلبا يجري وراء رجل كبير، يظهر في صفحة النهر حين يكون القمر بازغا، نخاف أن يغور الماء، اتسعت مساحة الحلم، كل سكان القرى المجاورة بدأوا يشعرون بثقل هذا الكابوس، انتاب الجميع هياج وصل بهم إلى حالة من الذعر، لا نرى الخالة مرزوقة، جاء خبر حزين: إنها تستعد لتسكن أطراف المدينة، سمع بها الحاكم، يحتازها لنفسه؛ ثمة مؤمرات تحاك ضده، يريد أن يستمر في مقعده؛ يحتسي أكواب الشاي في الشرفة العالية.
عليها أن تزورنا قبل أن ترتحل بعيدا، أوصينا عم مسعود أن يعلف حماره فولا حتى يستطيع أن يجر العربة المزينة ذات المقعد المذهب والمخصص للخالة مرزوقة؛ ستأول لنا كل الأحلام المؤجلة.
أشارت إلى طفل صغير يمسك بطرف ثوب أمه، يرتدي جلبابا ممزقا، يتدلى خيط من أذنه اليمنى، شفته العليا مشقوقة؛ أشبه بأرنب جبلي، تضع له أمه خرزة زرقاء في حبل تتطوح منه قوقعة كبيرة، أمسكت به الخالة مرزوقة، همست في أذنه، أخذ يتمرغ في التراب، سال ريقه ماء أشبه بمخاط أصفر، أخذ يعدو على يديه، تضرب وراءه امرأة زنجية بالطبلة؛ زغردت أمه، أخبرتنا الخالة بأنه صار المبارك أينما ذهب؛ أعطته سر تأويل الرؤيا، نتبادل القبلات، نرقص بالعصي؛ لن نخاف من تأويل أحلامنا.
لدينا قائمة بها، فتيات ينتظرن الزواج، خراف تهرب من الثعالب، سيقام مولد سيدي العريان في موعده؛ سنهبه ثيابا جديدة؛ نزرع قطنا، نجني خيوطا نغزلها في نواحي البر المبارك بالنهر يعبث بجسد الدلتا، يترك بها وشيا ملونا.
جاء خليفته المنتظر؛ يخرج من السرداب، نحن نسكن في قرية مباركة.
لم ننم تلك الليلة، نبني له حجرة أعلى المسجد، نعطيه لبن البقرة الشهباء، نطعمه لحما كل أسبوع، نشتري له حمارا أبيض، نحوطه بزينة.
حتى ﻻ يسرقه منا حاكم المدينة؛ اتفقنا أن نصعد به مأذنة المسجد الكبير، نكتب اسمه في ورقة صغيرة، نربطها في رجل حمامة، نطلقها صوب السماء، نخفيه في بئر؛ ندعي أنه سكن القمر.
فعلنا كل هذا، حتى إذا بلغت الخالة مرزوقة مائة عام، أوشكت أن تظهر لها الأسنان اللبنية، أوصت به حاكم المدينة، عند منتصف الليل جاء رجال غلاظ، خلعوا باب البئر الحجري الذي يختفي فيه.
أركبوه سيارة تدوي صافرتها رعبا، لم نعد نشعر بالأمان، نتبادل حماية بوابة القرية كل مساء؛ ثمة أنباء عن غول يلتهم الأبقار، يسرق النسوة ويذهبن بهن إلى ما وراء التلة الكبيرة؛ عندها ساحر له أنياب من ذهب، يلبسهن حريرا ويصرن كائنات تتراقص في صورة جنيات تلمع في مرآة.
لم نفعل شيئا، بكينا ضياع أحلامنا، ومن يومها تراكمت تلك الرؤى حتى صارت تلالا من الأوهام. أذان في مالطة يتردد
في بلاد تتقارب فيها المسافات ومن ثم يتلاحم فيها البشر كتلا من أجساد هؤلاء المغتربين عن عالمهم؛ صمت يضرب في العراء، مر المبارك من هنا تعدو به الخيل' تقزمت همتنا؛ نظن الخيال واقعا..
تقول الحكاية: ذيل طويل يمتد مسافة ليلة ونصف، ظهر في مرآة عملاقة لطيف يتراقص عند منتصف الليل مطلع الشهر القمري، يلتف حول العالم الأرضي، تدور عقارب الساعة المثقوبة دائما، تتساقط أوراق شجرة الكافور العملاقة ونادرا ما يحدث هذا؛ يقال إنها شجرة تحفها عناية الله؛ تربض تحتها جنية منذ مئات الأعوام، جلس تحتها قطز وبيبرس يوم أن هزموا جحافل التتار، آوى إليها عبد الله النديم حين اختفى عن عيون الوشاة؛ في بلاد يتجمع فيها الفرح والقهر في مشهد واحد؛ أليست هي حبلى بالعجب تلده كل آونة.
الخالة مرزوقة لديها تأويل لكل الأحداث التي تنتاب قريتنا، في السنة الماضية ولدت عنزة الجيران صغيرتها برأسين لم تعش غير يوم وليلة، ساعتها قالت لنا: الجراد على وشك أن يهاجم حقول القمح، لم تكد تنتهي من تناول كوب الشاي المعد فوق بقايا أخشاب الصفصاف، حتى غطت السماء تلك الوحوش الطائرة، أخذنا نضرب فوق المواعين ونحرق القش، يزداد صريخنا كلما اقتربت.
ماتت ابنة العنزة، ركض حمار عمنا مسعود في طريق تسكنه حيات وعقارب؛ أقسمنا له إن حماره لن يعود، الخالة رأت ثعبانا كبيرا يمتطى ظهر الحمار؛ أنبأتنا بأن الفيضان سيجتاح قريتنا منتصف الليل، لم نعرها انتباها؛ إنها تخرف لقد تجاوزت التسعين عاما.
تأخر النيل أسبوعا كاملا ومن ثم صحونا وقد صار الدقيق فتات عجين، الطيور سبحت في الماء، حمدنا الله أن الصغار لم يمسهم سوء.
احتطنا لكل الأشياء الثمينة؛ نحفر في الحائط كوة؛ نختزن بها أسرارنا، عقود الزواج، حتى لا تتشابه علينا النساء بدأ كل واحد يضع وشما لامرأته، بعض الماكرين لم يفعلوا هذا، الخالة مرزوقة تفضح النسوة اللواتي يأتين ببهتان يفترينه في أثداءهن.
اعتدلت في جلستها، جزاء سخريتنا منها هكذا قالت لم تشأ أن تخبرنا بالموعد بدقة؛ من يومها نتحسب لكل ما تعظنا به، هذه الأيام لديها رحلة إلى ضفة النهر الأخرى؛ لها أخت تبلغ من العمر مائة عام تقول عنها: إنها تجدد عمرها؛ الأسنان اللبنية بدأت تظهر في مقدمة فمها، نضحك لأجل هذا، جعلناه طرفتنا مساء؛ الخالة مرزوقة ستعمر طويلا؛ نحتاج إليها لتأول لنا الأحلام؛ نشعر بالأمان حين تكون معنا.
لا ندري ما سيحدث لنا حين تغيب عنا، ظلت الأحلام تهاجمنا كل ليلة؛ غراب يجري وراء قطة بيضاء، شجرة الكافور العملاقة تطير عاليا حتى تستقر فوق مأذنة الجامع القبلي؛ الزاوية مليئة بأسماك القرش، طاحونة الكيال تزغرد فيها جنية حمراء، أبواب المدرسة الإبتدائية تقرضها فئران من حديد.
صرنا من دون الخالة مرزوقة أيتاما، تصلها أحلامنا لحظة بلحظة؛ نشك في أنها تخايلنا بكل هذا.
أغرب من كل هذا أننا نرى ثعلبا يجري وراء رجل كبير، يظهر في صفحة النهر حين يكون القمر بازغا، نخاف أن يغور الماء، اتسعت مساحة الحلم، كل سكان القرى المجاورة بدأوا يشعرون بثقل هذا الكابوس، انتاب الجميع هياج وصل بهم إلى حالة من الذعر، لا نرى الخالة مرزوقة، جاء خبر حزين: إنها تستعد لتسكن أطراف المدينة، سمع بها الحاكم، يحتازها لنفسه؛ ثمة مؤمرات تحاك ضده، يريد أن يستمر في مقعده؛ يحتسي أكواب الشاي في الشرفة العالية.
عليها أن تزورنا قبل أن ترتحل بعيدا، أوصينا عم مسعود أن يعلف حماره فولا حتى يستطيع أن يجر العربة المزينة ذات المقعد المذهب والمخصص للخالة مرزوقة؛ ستأول لنا كل الأحلام المؤجلة.
أشارت إلى طفل صغير يمسك بطرف ثوب أمه، يرتدي جلبابا ممزقا، يتدلى خيط من أذنه اليمنى، شفته العليا مشقوقة؛ أشبه بأرنب جبلي، تضع له أمه خرزة زرقاء في حبل تتطوح منه قوقعة كبيرة، أمسكت به الخالة مرزوقة، همست في أذنه، أخذ يتمرغ في التراب، سال ريقه ماء أشبه بمخاط أصفر، أخذ يعدو على يديه، تضرب وراءه امرأة زنجية بالطبلة؛ زغردت أمه، أخبرتنا الخالة بأنه صار المبارك أينما ذهب؛ أعطته سر تأويل الرؤيا، نتبادل القبلات، نرقص بالعصي؛ لن نخاف من تأويل أحلامنا.
لدينا قائمة بها، فتيات ينتظرن الزواج، خراف تهرب من الثعالب، سيقام مولد سيدي العريان في موعده؛ سنهبه ثيابا جديدة؛ نزرع قطنا، نجني خيوطا نغزلها في نواحي البر المبارك بالنهر يعبث بجسد الدلتا، يترك بها وشيا ملونا.
جاء خليفته المنتظر؛ يخرج من السرداب، نحن نسكن في قرية مباركة.
لم ننم تلك الليلة، نبني له حجرة أعلى المسجد، نعطيه لبن البقرة الشهباء، نطعمه لحما كل أسبوع، نشتري له حمارا أبيض، نحوطه بزينة.
حتى ﻻ يسرقه منا حاكم المدينة؛ اتفقنا أن نصعد به مأذنة المسجد الكبير، نكتب اسمه في ورقة صغيرة، نربطها في رجل حمامة، نطلقها صوب السماء، نخفيه في بئر؛ ندعي أنه سكن القمر.
فعلنا كل هذا، حتى إذا بلغت الخالة مرزوقة مائة عام، أوشكت أن تظهر لها الأسنان اللبنية، أوصت به حاكم المدينة، عند منتصف الليل جاء رجال غلاظ، خلعوا باب البئر الحجري الذي يختفي فيه.
أركبوه سيارة تدوي صافرتها رعبا، لم نعد نشعر بالأمان، نتبادل حماية بوابة القرية كل مساء؛ ثمة أنباء عن غول يلتهم الأبقار، يسرق النسوة ويذهبن بهن إلى ما وراء التلة الكبيرة؛ عندها ساحر له أنياب من ذهب، يلبسهن حريرا ويصرن كائنات تتراقص في صورة جنيات تلمع في مرآة.
لم نفعل شيئا، بكينا ضياع أحلامنا، ومن يومها تراكمت تلك الرؤى حتى صارت تلالا من الأوهام. أذان في مالطة يتردد
في بلاد تتقارب فيها المسافات ومن ثم يتلاحم فيها البشر كتلا من أجساد هؤلاء المغتربين عن عالمهم؛ صمت يضرب في العراء، مر المبارك من هنا تعدو به الخيل' تقزمت همتنا؛ نظن الخيال واقعا..