أمل الكردفاني - بداية بلا نهاية.. قصة قصيرة

في ساعات العصر الحارة، حيث أويقات تترامي بين الرابعة والخامسة قبل أن يغزو الغروب السماء، ينفث التراب رائحة السموم من بطنه. شيء غريب يتمدد حول الروح، شيء كالاغتراب، وأمنية بأن لا يطفر السواد من فوق السماء. تلك اللحظة المائعة، التي تبدو فيها الذات منفصلة عن الواقع، جعلت سكون الغرفة إلا من صوت المروحة يبدو ازدهاراً للسقوط في التاريخ. لقد تلقى اتصالاً من شخص خارج الحدود، شخص يقول بأنه يعرفه، وهو يعرفه بالفعل، يعرفه كنبوءة مكتوبة على هامش أجندة سنوية. سأله من أحواله وطرح عليه توريد حديد خردة مقابل ثمن جيد سيبدد من أفق دماغه ذلك الشعور الغارق في سطوع صحراوي.
تحامل على نفسه وخرج من شقة صغيرة أعطاها له صديقه ليبقى فيها بلا مقابل. كان ذلك محرجاً، ولكن ما باليد حيلة.
استقل حافلة قديمة تبدو كما لو كانت من بقايا الحرب العالمية، تئن وتتمايل كمركب صياد في عرض البحر الهائج. والناس حوله شاحبون. كلما دخل راكب دخلت معه ذبابتان أو ثلاثة. وهكذا تحركت الحافلة بالبشر والذباب. عجلات الحافلة كانت قوية وتئن كزئير الأسد.
وفي دكان من الطوب ليس فيه سوى طاولة حديدية مرقعة بالصدأ وكرسي خشبي قديم وخزنة ضخمة مفتوحة تكدست فوقها رزم النقود الورقية من أسفلها حتى أعلى سقفها، قال العفاص:
- أنا لا أعمل في الخردة بل في المحاصيل..
كان يقطع الحديث حتى يكمل أشغاله ثم يعود إليه:
- قلت لي أنك خريج جامعة؟
أجابه:
- قبل سنوات..
قال التاجر وهو يشير إلى أحد الحمالين ليحمل جوالات الفول السوداني:
- دخول السوق ليس مزحة.. أنت لا تصلح له.. إنك تبدو مخنثاً.. ابحث عن وظيفة..
شكره وغادر الدكان، غير أن صورة الخزنة المكدسة برزم النقود ظلت تختلط بكلمة "مخنث"..
قال أحد الصحفيين من زملاء المدرسة القدامى:
- لا أحد في هؤلاء الرأسماليين بدأ من الصفر.. لقد بدأوا من الجريمة.. العمل الشريف لن يجعلك مليونيراً أبداً.. إن كنت تريد أن تصبح غنياً فاترك ما تعلمته في الكتب التي تحكي عن عالم لا رابط له بعالمنا خارجها..
لفح وجهه سموم ورائحة عفونة وعطر بلدي كريه.
كيف أصف تلك الرائحة الحارة؟ لا أعرف، وهذه مشكلة تواجه المخرجين السينمائيين. إنهم لم يخترعوا حتى الآن آلة تنقل لأنوفنا رائحة الأشياء ولم يخترعوا لغة تستطيع أن تصف الروائح بدقة. كل ما يمكنني قوله هو أن تلك الرائحة نفذت إلى صدره، فغشاه الغثيان، غير أنه لم يتقيأ.
بعدها تردد وهو يقف أمام دكان اكبر تجار الخردة، وجراء تردده ذاك، قابله التاجر بعدم اكتراث بل أنه تجاهل حتى الرد عليه. قال: اريد حديد خردة..
فنهض التاجر وقال دون حتى أن ينظر إليه:
- ليس لدينا..
فخرج.. وقد أحاط به الإحباط.. وتذكر كل الطعنات التي وجهها له الكثير من الناس بألسنتهم.
- دللك عمك لأنك كنت يتيماً ولذلك فشلت في حياتك..
كان يدرك بأنه هش وليس صلب. حاول كثيراً أن يكون صلباً وقوياً، غير أن ذلك كان يرهقه نفسياً. وفي تلك اللحظة قرر زيارة قبر عمه.
كانت المقابر واسعة وغارقة في الظلام. فأضاء مصباح هاتفه وبدأ يسير فوق القبور وبين فجاجها الضيقة ليصل إلى قبر عمه. ثم توقف أمام شاهد القبر المقصود وبدأ في قراءة الفاتحة. ولوهلة تذكر حديث الصحفي أثناء مراقبته للمقابر، وهو يرى الشواهد الحديدية القديمة. بعضها له مئة عام وأكثر.. إنها الحديد المطلوب.
في الصباح اختفت كل شواهد القبور الحديدية. وفي اليوم التالي اختفت شواهد مقابر ثانية، ثم ثالثة ورابعة وخامسة.
"اصبح الموتى بلا شواهد.. إنهم الآن بلا أرشيف أمام السماء".
قال ذلك، ثم بدأ رحلة انتزاع الشواهد من الأحياء.
لم يخبر أحداً ببدايته كلص شواهد. ولم يخبرني أنا كذلك.. لكنني كنت أعلم القصة من الصحفي. كان هذا الأخير قد أجرى تحقيقاً صحفيا عن اختفاء شواهد القبور ثم اشارت كل الخيوط نحو صديقه وزميله القديم فمزق الأوراق وحرق الأدلة واقتسم أرباح صادر الخردة معه.

~تمت ~
التفاعلات: هجيرة نسرين بن جدو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...