خالد السيد علي - لم أكن شهيدًا.. (من دفتر عواد التربي: حكايات الموتى)



تأخذني قدماي من حين لآخر إلى جبانات عتيقة لم تعد تستقبل الموتى منذ زمن بعيد، بسبب ما شاع عنها من أن العفاريت تقطنها، رغم أن عواد التربي ينفي ذلك كلما جلست معه ليروي لي حكاياته مع نزلاء الجبانات حيث يؤكد لي أنهم يخرجون ليلًا ويتحاورون فيما بينهم ومعه لذا يظن الأحياء أن هناك أشباح تخرج ليلًا تجوب المكان..
لقد صدقته خاصة بعد أن جلست مع بعض أرواح النزلاء.. نعم جلست وليصدقني من يشاء ويكذبني من يشاء، ولكنها الحقيقة..
أما عن عواد فهو رجل لم أر مثله من قبل.. هو رجل دون الخمسين أمضى عمره بين الأحياء والنزلاء.. انه رجل طويل القامة.. قوي البنيان.. اسمر اللون.. ذو شفاه غليظة، وعيناه واسعتان.. فؤاده أبيض، ومن النوع الفولاذي، أسنانه كضي القمر تلاحظها دائمًا لأنه يفتح أشداقه بابتسامة طولية لا عرضية كسائر البشر..
وتلك الليلة،
قبل أن يجيء عواد.. لم أشعر بثقل الوقت، فقد كنت شغوفًا وأنا أنصت لحكايات النزلاء؛ رغم أن عواد له أسلوب فذ في القص كأنه جاء من زمن الرواة قبل أن تسطر القصص في القراطيس مثلما أفعل.
وها هو النزيل رقم 1975 يبدأ سرد قصته في الحياة حتى الممات.. الحق اسمع صوته فقط ولكني أتخيله.
قال:
- أنا النزيل 1975 كانت جنازة أخي الأصغر الذي استشهد في حرب 1973 ذلك النصر العظيم جنازة مهيبة.. كان أخي جندي مقاتل أسد مرعب على أرض المعركة في سيناء.. قال عنه قائد الكتيبة آنذاك لقد كان أخيك صائدًا ماهرًا يصطاد الدبابات الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى بكل جسارة، وقال عنه الزملاء لقد كان عاشقاً لتراب مصر، ويقسم كل يوم وهو بينهم أنه لن يعود لدياره إلا بأفراح النصر أو مرفوع السيرة بالاستشهاد، وعاد أخي بأفراح النصر والاستشهاد معاً.. بينما أنا لا أستطيع إخفاء عار هروبي من تأدية الخدمة العسكرية في الجيش المصري، وذلك عندما قررت السفر لتحقيق الذات وجني المال خوفًا من ضياع العمر على أرض الهزيمة عقب نكسة سبعة وستين، ولكن للأسف تاهت أحلامي في الغربة وعدت يا مولاي كما خلقتني لم أحقق شيئًا.. كانت السخرية تلاحقني في عيون من يعرفونني وكأنهم يقولون ها هو خيب الرجاء، وها هو أخيه الأصغر الشهيد الذي وضعت يافطة باسمه على مدخل الشارع.. كنت أموت في اليوم الواحد ألف مرة لأنني لم أكن شهيدا.. حتى فقدت الإيمان بكل شيء وداهمني اليأس وسلمت نفسي للملحدين واقتنعت بأن الكون بلا إله وأنه يسير وفق الطبيعة وأننا نعيش بالطاقة وليس بالروح وأن الجنة أكذوبة، والنار هزلا، وأن بعد الموت لا حياة ولا نشور إلى أن استيقظ عقلي وأنا أجادل أصغر علماء الأزهر أعادني للصواب فهربت من مطاردة الملحدين، ولكنهم تمكنوا مني.
صمت النزيل 1975 فجأة ما أن جاء عواد؛ وكأن حكايته لم يعد لها بقية.. نظر عواد للنزيل 1934 وأذن له بهزة رأس ليبوح بقصته.. ثم بدأ يدون في دفتر أحوال الموتى..
تابعت ما يحدث دون أي تعليق، ولكني رأيت الموتى كأشباح وعواد بنظراته لهم يتحكم في من يجلس ومن يقف ومن يمشي ومن يسرد قصته في مجلس عواد اليومي..
وبدأ النزيل 1934 يقص قصته:
- عشت على أمل أن أجد من يقدرني، ويقدر قدراتي، فقد كنت متفوقًا طوال مراحل دراستي إلا أن سفينتي كانت دائمًا بين مواجهة الرياح العاتية التي تعصف بأحلامي، وبين الضباب الذي يحاصرني من كل الزوايا عندما كان ضميري الحي يأبى أن يلتهم حق الغير، وهو يرى بعينيه تساقط أوراق عمره دون أن يجد مكانًا له بين المحيطين به، الذين يلعنون ضمائرهم بل يشنقونها من أجل الذات وجني الأموال وتلقي الخدمات، لم أمكن النفس الأمارة بالسوء أن تخترق ضميري وتحتله وتقوده إلى الهلاك بل كان ضميري كالصخرة العتيقة التي لا يستطيع تحريكها حتى وإن كان إعصارًا..!
قام النزيل 1934 ووقف مكانه مترنحا كأوراق الشجر التي تتساقط في الخريف وهو يستأنف قوله متوجعًا:
- آه .. آه أيها النزلاء عندما تكون وحدك وسط نفوس حاقدة لأنك رغم المحن لم تسقط في البراثن التي سقطوا فيها، تأكد أنهم سيتجنبونك، وينبذونك أو ربما يطيحون بك بعيدًا عن لقمة الخبز بوصمة تنال من شرفك الأخلاقي، وهذا هو الأرجح في جميع الحالات، كما حدث ليّ ومن أقرب المقربين ليّ في العمل عندما كنت أتصدى له وأحاول تقويمه حتى لا أفضح أمره.. لقد كانت وصمة عار متُ عليها في السجن؛ فلم أحتمل تقبلها ولا تقبل نظرة المجتمع وأنا في نظرهم مرتشي، وما أنا بمرتشي !
بصوت شديد النبرة قال عواد:
- النزيل 1725 تفضل قل لنا ما حكايتك.
بنظراته العبوسة ولهجته الاندفاعية :
"كانت وستظل مصر مطمعًا عبر العصور كافة، وكثيرًا ما غزاها الغزاة، ودخلوها بمساعدة الخونة، كنت شاهد عيان على شنق" طومان باي" فبعد أن حاقت الهزيمة بالمماليك في موقعة الريدانية، وولوا الأدبار، اضطر "طومان باي" للتسليم بالهزيمة، واختبأ لدى أحد الأفراد في البحيرة، وكان"لطومان باي"عليه أياد كثيرة، وفضل، إلا أنه لم يرع ذلك وسلم"طومان باي"للعثمانيين.. لقد كانت أسوأ أيام في تاريخي، وأنا أرى جثة "طومان باي"معلقة ثلاثة أيام على باب زويلة بأمر"سليم الأول"تشفياً منه وانتقاماً، ثم دفنت، وانتهى عهد المماليك وبدأ عهد العثمانيين، وسيطرتهم على حكم مصر قرابة ثلاثة قرون.. من يعرف قدر مصر لن يفكر في خيانتها مهما كانت المغريات"
قاطعه عواد باسمًا:
"كل ما تقوله نعلمه، ولكن ما لا نعلمه قصتك أنت.. من أنت وكيف كانت نهايتك ؟"
رد 1725 مستطرد، وبنبرة آسى دفين:
"كنت من عامة الشعب .عامل . حرفي.. فقير كسائر معظم الناس آنذاك ، وكنت أصنع التحف الخشبية على المنابر والكراسي والمشربيات والأبواب بل وسقوف القصور بالأشكال الهندسية البديعة، هذا بخلاف شغل المساجد والكنائس إلى أن فارقت الحياة بعد أن تلقيت نصيباً من العنف والقمع والبطش؛ عندما رفضت دفع المزيد من الإتاوات، فمن أين لي الدفع، وأنا أعيش البطالة أكثر الأيام ولا أستطيع سد جوعي أنا ومن أعولهم .. "
وهنا لم ينبس عواد بكلمة وقد أغلق الدفتر وشرد وقد ارتسم التجهم على وجهه.. ثم انفجر في الضحك..
- هون على نفسك أيها النزيل.. لا تحزن غيرك مات لأنه لم ينل الشهادة.

تمت
قصة قصيرة ضمن مجموعة قصصية للكاتب
#الإبحار في الدهاليز
#الكاتب والسيناريست خالد السيد علي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...