أولى ضربات أنسي الحاج الشعرية، جاءت على صورة حرف رفض معقوف، حرف نهي، حرف نفي وممانعة على صورة منجل «لن» استله الشاعر من غفلة اللغة ليتخذه عنواناً لديوانه الأول (1960- دار مجلة شعر). كأنما استله ليجز به الكثير من السنابل القديمة الهشة، ويجريه في داخل المقدس الشعري والمقدس الديني فيولد في الشعر، أو يؤذن بميلاد قوة رفض جديدة هي أشبه ما تكون بقوة الخطيئة.
والرفض في اللغة هو الطرد والنقض، أي إفساد المبرم من العقود والبناء، وفي الفكر اللاهوتي والفلسفي مرتبط بالتمرد والعصيان. من هذه الإيحاءات السالبة للمفردة، قوة دفع إلى الأمام مثلما تتولد من حركة التجديف عكس الموج أو الريح للبحارة حركة تدفع بالمركب إلى الأمام.
اللغة الوحشية والمستنفرة لنصوص «لن» حملته من مرتبة الرفض إلى مرتبة هجومية أخرى أكثر تقدماً: الاجتياح : « أنت لا تفهمين غزلي. قهقهي. في عينيك البربر والمسوخ. الحب والذئب. الحب وغيري» (القصيدة الأخيرة في الديوان). هل المنادى امرأة؟ نحس في الجمل بشيء من السحر والهلع يمتزجان في مقام مفردة قديمة (الحب)، وكيف يتلاقى في عينيها «البربر والمسوخ، أوثان القهقهة والذبح …. والذئب … وغيري»، تلتقي في سفر واحد. هل المقصود امرأة؟ أم هي رمز ولعنة ومنجل ومطرح لإلقاء الهلع؟
لا يوصل نص أنسي الحاج في «لن» إلى تناول ثمار المعنى بسهولة بل على العكس من ذلك، إنه يميل إلى تنويم المعنى لإيقاظ نقيضه. إن قراءات متعددة لنصوص الديوان، لا تمنحك إمكان التفسير بل تدفعك دفعاً إلى التأويل. وهو على خلاف ما هو عليه الشعر العربي في خط سيره العام، من الجاهلية مروراً بالعصور الإسلامية وصولاً إلى عتبات الحداثة، فالقاموس في الاتجاه العام للشعر العربي كان دليلاً ومساعداً أولياً لفهم لغة القصائد، وما يستغلق من المعنى يفهم على ضوء أصول البلاغة من بديع وبيان. ولكن ثمة استثناء في هذا السياق العام للقصيدة العربية جاء على يد شعراء الباطن، سواء من استخدم منهم المصطلح الفلسفي أو من استخدم المصطلح الصوفي. إن المقاييس اللغوية لابن جني في الخصائص التي تستقيم لجلاء الغموض في بعض أشعار المتنبي، لا تصلح لجلاء الغموض في أشعار ابن عربي أو المعري. سنكون هنا محتاجين إلى معرفة باطنية صوفية أو معرفة فلسفية تزحل فيها الكلمات من معانيها الاصطلاحية في المعجم أو في دفتر النقد المدرسي، وذلك في اتجاه الرموز.
هل مال أنسي الحاج في «لن» إلى باطنية تعبيرية؟
يقول : «أخاف. الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظارتاي. أبتسم. أركع. لكن مواعيد السر لا تلتقي والخطوات تشع ويدخل معطف. كلها في العنق. آذان وسرقة «(هوية). أقول: عبثاً الشرح هنا. ولكن ليس عبثاً التأويل. فمفتاح القول «أخاف». وما تحته من جمل شتى هي بمثابة كريات تدور في فضاء الخوف. اسمع كلمة «أخاف «وأغمض عينيك وامش في دهاليز النص تحت مظلة الخوف. وأنت لست مدعواً لتفهم أنت مدعو لتهجس. الهاجس يسبق الفهم. الهاجس هو لب القصيدة.
عنوان القصيدة «هوية « وآخر جملة فيها «دم حديث»، وبين العنوان والنهاية سير عكس سير النصوص الشعرية العربية المألوفة ابتداءً من الشكل وصولاً إلى الإيقاع وبينهما دوران اللغة. فالشاعر يعرض للبصر شكلاً نثرياً ويعرض للسمع إيقاعاً شعرياً مختلفاً عن إيقاع الوزن والقافية، ولا نعرف ماذا نسميه على وجه الدقة إذا لم نسمّه « قصيدة». إذا كان هذا هو الشعر الجديد في لحظتذاك (1960) فهو لا شك شعر إشكالي بعناصره المعروفة بما في ذلك تلك المختلف عليها فيه. الواضح أنه شعر يحمل راية الضد. لو قلنا هذه «قصيدة – ضد»، سيمكن استعمال العبارة نفسها في الطرف الآخر من المعادلة فيكون الضد ضد ضده وتقوم الحرب. وهذا ما حصل بالفعل. «قصيدة نثر». لأن النص الثاني في الديوان وهو تحت عنوان «أسلوب» يعزز من فكرة القتال التي يحملها الشاعر. ففي منتصف النص المسربل بإشاراته الغامضة يقول: «على أصفى أراضيكم أشكّ يأسي». يقول ذلك كمحارب قديم برمح. ولكن من «هم» في «أراضيكم هذه»؟ ولماذا اليأس؟
في نصوص «لن» أنسي الحاج صاحب لغة ملغزة. الإلغاز ربما جاء وليد خوف وتقية، وربما كان وليد التباس أساسي في نفس الملغز. وقد يكون الإلغاز شيفرة تتوجه إلى فئة مقصودة بعينها لتحجب صاحبها وإخوانه عن فهم العامة اتقاءً لسوء فهمهم، أو لتحجبه عن أهل السلطة والبطش اتقاءً لبطشهم. هكذا فعل في الماضي «إخوان الصفاء» مثلاً. لكن الإلغاز اليوم هو أشد تعقيداً من أن يكون تقية أو نتاج الخوف وحده. هو أداة مواجهة سواء جاء في نص فكري أو سياسي أو شعري. النص الرامز نص يحتوي على قوة الغامض والمستعلي معاً. وهو نص مستفز. لذلك يتسرب إلى المجابهة والديمومة. النص القرآني مثلاً، في الآيات المتشابهات هو نص ملغز لذلك ينطوي على قوة لا تضاهى. لا يعني ذلك بالضرورة أن كل نص ملغز هو نص جوهري. كلمات السحرة والألعاب الطلسمية تشوش الوعي. ثمة إذاً إلغاز إيجابي (إذا صحت العبارة) وعليه يعول في النص الحديث .(…).
المقدمة
مع نصوص «لن» تغدو المقدمة التي وضعها الشاعر لديوانه في بعض مفاهيمها، أقل دلالة من الديوان نفسه، في البعض الآخر، بياناً مسانداً للديوان. فهو إذ يبدأ بجملة «هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ «لا يلبث أن ينخرط في ثنائية قديمة (شعر\ نثر) ويضع أصولاً لكل من هذين الفنين، أصولاً تقبل أن يقفز الواحد منها من مكانه إلى مكان آخر بسهولة. «النثر سرد والشعر توتر. النثر يقيم علاقة بالآخر على جسور من المباشرة والشعر يترك هذه المشاغل …». ومع أنه هو نفسه يشير إلى أن هذه الثنائية في فهم قصيدة النثر تجعل من البحث «هذياناً» إلا أنه يعود فيلصق بالنثر» الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة الأذن».
وبعصبية نقية مستميتة يدعو «للهدم والهدم والهدم. إثارة الفضيحة والغضب والحقد». وإن دعاة القصيدة الجديدة قد يتعرضون للاغتيال أو الجنون. وإن علينا أن نبجّ سد ألف عام من الشعر العربي. يقول: «أول الواجبات التدمير. التخريب حيوي ومقدس» وينهي بقوله: «نحن في زمن السرطان نثراً وشعراً وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن حليفته ومصيره».
كتب أنسي الحاج مقدمة «لن» عام 1960 وكأنه داعية من دعاة حركة سرية جديدة في الشعر. قرامطة جدد. ولا تخفى النبرة الآرتوية (الشاعر الفرنسي انطونان ارتو) على بيانه. وقد انضوت تحت هذا البيان جماعة من الشباب على امتداد اللغة العربية في المشارق والمغارب. لأن لهذا العنف في الدعوة جاذبية خاصة تجذب إليها دعاة الرفض وتحرير الشعب من عبودياته القديمة. لأن الشعر هو روح الأمة.
والآن. ماذا نرى في هذه الدعوة وفي هذا العنف؟ الآن وبعد خمسة وخمسين عاماً على صدور «لن» ومقدمتها؟
نقول نعم، إذا كان العنف من أجل تصفية النوع الشعري. نعم من أجل تصفية الحياة من أدرانها. رحلة ألف عام وأكثر للشاعر من الكلمات تستحق المغامرة لتصفية النوع الشعري. لاستحقاق الديمومة. ونحن نتفق معه في المبدأ ولكن نختلف في الماهية. ماهية الأقوى وماهية القصيدة. وهذا الاختلاف هو أمر حيوي على ما نرى. ولعل في قول الشاعر في المقدمة عينها «ليس في الشعر ما هو نهائي» إشارة إلى التغيرات التي طرأت عليه هو بالذات فطاولت الكثير من آرائه النقدية في المقدمة، ورأيه في ماهية قصيدة المستقبل، ورأيه في اختياراته من الشعراء.
إن توقيت هذه التغيرات الشجاعة مهم، إذ إنها جاءت عشية موته، في الأيام الأخيرة من المرض، وكأنها اعترافات آخر الرحلة. يقول في خواتم (3) تحت عنوان «كلما جرحت هذي البرتقالة\ تتبسم» (جريدة الأخبار): «العديد مما جزمت به في مقدمة «لن» نقضته في قصائد «لن» نفسها. يؤلم هذا التذكير وينعش اليقين بأن لا دائم في التنظير. لا ما يتناول الشكل فحسب بل الجوهر. وهل نعرف الجوهر لنحجمه؟ أوليس لكل جواهره؟ لم أتوقف عن الاعتذار عما اقترفته من تنظيرات اعتباطية في شأن لا يحتمل إلا التواضع. وما جاء من استنادنا أنا وأدونيس إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر إلا إغراق لنا في جملة أخطاء». يقول: «أحياناً أعاود مطالعة الشعر الذي تحمست له من زمان، فلا أصدق متى أغلق الكتاب وأرتاح من هذا الصدى. إيقاع الموت …». يقول: «ونحن معشر ديوك الحداثة، أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق «بندورا» واندلعت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش. أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القدر. أطعنا إشارات المرور الذي كان ممنوعاً وانتزعنا السدود وانتشينا بما تراءى لنا انتصاراً …».
جاءت كلمات أنسي الحاج هذه، وهو في صدد الكتابة على تجربة شعرية مغايرة لشعره، ومغايرة لتجربة قصيدة النثر، وهو إذ يضع إصبعه على موضع التقاطعات الجوهرية في الأشعار، يعلن تعديلاً في نظراته في المقدمة لماهية قصيدة المستقبل فيقول: «الشاعر شاعر في أي شكل أراد. العطية الشعرية لا تضيع بتنويع الأداء. بالعكس، الشعر أصواته جميع ما يرتدي وما الرداء سوى حيلة».
______
*الحياة
فبراير 18, 2015
*محمد علي شمس الدين
والرفض في اللغة هو الطرد والنقض، أي إفساد المبرم من العقود والبناء، وفي الفكر اللاهوتي والفلسفي مرتبط بالتمرد والعصيان. من هذه الإيحاءات السالبة للمفردة، قوة دفع إلى الأمام مثلما تتولد من حركة التجديف عكس الموج أو الريح للبحارة حركة تدفع بالمركب إلى الأمام.
اللغة الوحشية والمستنفرة لنصوص «لن» حملته من مرتبة الرفض إلى مرتبة هجومية أخرى أكثر تقدماً: الاجتياح : « أنت لا تفهمين غزلي. قهقهي. في عينيك البربر والمسوخ. الحب والذئب. الحب وغيري» (القصيدة الأخيرة في الديوان). هل المنادى امرأة؟ نحس في الجمل بشيء من السحر والهلع يمتزجان في مقام مفردة قديمة (الحب)، وكيف يتلاقى في عينيها «البربر والمسوخ، أوثان القهقهة والذبح …. والذئب … وغيري»، تلتقي في سفر واحد. هل المقصود امرأة؟ أم هي رمز ولعنة ومنجل ومطرح لإلقاء الهلع؟
لا يوصل نص أنسي الحاج في «لن» إلى تناول ثمار المعنى بسهولة بل على العكس من ذلك، إنه يميل إلى تنويم المعنى لإيقاظ نقيضه. إن قراءات متعددة لنصوص الديوان، لا تمنحك إمكان التفسير بل تدفعك دفعاً إلى التأويل. وهو على خلاف ما هو عليه الشعر العربي في خط سيره العام، من الجاهلية مروراً بالعصور الإسلامية وصولاً إلى عتبات الحداثة، فالقاموس في الاتجاه العام للشعر العربي كان دليلاً ومساعداً أولياً لفهم لغة القصائد، وما يستغلق من المعنى يفهم على ضوء أصول البلاغة من بديع وبيان. ولكن ثمة استثناء في هذا السياق العام للقصيدة العربية جاء على يد شعراء الباطن، سواء من استخدم منهم المصطلح الفلسفي أو من استخدم المصطلح الصوفي. إن المقاييس اللغوية لابن جني في الخصائص التي تستقيم لجلاء الغموض في بعض أشعار المتنبي، لا تصلح لجلاء الغموض في أشعار ابن عربي أو المعري. سنكون هنا محتاجين إلى معرفة باطنية صوفية أو معرفة فلسفية تزحل فيها الكلمات من معانيها الاصطلاحية في المعجم أو في دفتر النقد المدرسي، وذلك في اتجاه الرموز.
هل مال أنسي الحاج في «لن» إلى باطنية تعبيرية؟
يقول : «أخاف. الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظارتاي. أبتسم. أركع. لكن مواعيد السر لا تلتقي والخطوات تشع ويدخل معطف. كلها في العنق. آذان وسرقة «(هوية). أقول: عبثاً الشرح هنا. ولكن ليس عبثاً التأويل. فمفتاح القول «أخاف». وما تحته من جمل شتى هي بمثابة كريات تدور في فضاء الخوف. اسمع كلمة «أخاف «وأغمض عينيك وامش في دهاليز النص تحت مظلة الخوف. وأنت لست مدعواً لتفهم أنت مدعو لتهجس. الهاجس يسبق الفهم. الهاجس هو لب القصيدة.
عنوان القصيدة «هوية « وآخر جملة فيها «دم حديث»، وبين العنوان والنهاية سير عكس سير النصوص الشعرية العربية المألوفة ابتداءً من الشكل وصولاً إلى الإيقاع وبينهما دوران اللغة. فالشاعر يعرض للبصر شكلاً نثرياً ويعرض للسمع إيقاعاً شعرياً مختلفاً عن إيقاع الوزن والقافية، ولا نعرف ماذا نسميه على وجه الدقة إذا لم نسمّه « قصيدة». إذا كان هذا هو الشعر الجديد في لحظتذاك (1960) فهو لا شك شعر إشكالي بعناصره المعروفة بما في ذلك تلك المختلف عليها فيه. الواضح أنه شعر يحمل راية الضد. لو قلنا هذه «قصيدة – ضد»، سيمكن استعمال العبارة نفسها في الطرف الآخر من المعادلة فيكون الضد ضد ضده وتقوم الحرب. وهذا ما حصل بالفعل. «قصيدة نثر». لأن النص الثاني في الديوان وهو تحت عنوان «أسلوب» يعزز من فكرة القتال التي يحملها الشاعر. ففي منتصف النص المسربل بإشاراته الغامضة يقول: «على أصفى أراضيكم أشكّ يأسي». يقول ذلك كمحارب قديم برمح. ولكن من «هم» في «أراضيكم هذه»؟ ولماذا اليأس؟
في نصوص «لن» أنسي الحاج صاحب لغة ملغزة. الإلغاز ربما جاء وليد خوف وتقية، وربما كان وليد التباس أساسي في نفس الملغز. وقد يكون الإلغاز شيفرة تتوجه إلى فئة مقصودة بعينها لتحجب صاحبها وإخوانه عن فهم العامة اتقاءً لسوء فهمهم، أو لتحجبه عن أهل السلطة والبطش اتقاءً لبطشهم. هكذا فعل في الماضي «إخوان الصفاء» مثلاً. لكن الإلغاز اليوم هو أشد تعقيداً من أن يكون تقية أو نتاج الخوف وحده. هو أداة مواجهة سواء جاء في نص فكري أو سياسي أو شعري. النص الرامز نص يحتوي على قوة الغامض والمستعلي معاً. وهو نص مستفز. لذلك يتسرب إلى المجابهة والديمومة. النص القرآني مثلاً، في الآيات المتشابهات هو نص ملغز لذلك ينطوي على قوة لا تضاهى. لا يعني ذلك بالضرورة أن كل نص ملغز هو نص جوهري. كلمات السحرة والألعاب الطلسمية تشوش الوعي. ثمة إذاً إلغاز إيجابي (إذا صحت العبارة) وعليه يعول في النص الحديث .(…).
المقدمة
مع نصوص «لن» تغدو المقدمة التي وضعها الشاعر لديوانه في بعض مفاهيمها، أقل دلالة من الديوان نفسه، في البعض الآخر، بياناً مسانداً للديوان. فهو إذ يبدأ بجملة «هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ «لا يلبث أن ينخرط في ثنائية قديمة (شعر\ نثر) ويضع أصولاً لكل من هذين الفنين، أصولاً تقبل أن يقفز الواحد منها من مكانه إلى مكان آخر بسهولة. «النثر سرد والشعر توتر. النثر يقيم علاقة بالآخر على جسور من المباشرة والشعر يترك هذه المشاغل …». ومع أنه هو نفسه يشير إلى أن هذه الثنائية في فهم قصيدة النثر تجعل من البحث «هذياناً» إلا أنه يعود فيلصق بالنثر» الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة الأذن».
وبعصبية نقية مستميتة يدعو «للهدم والهدم والهدم. إثارة الفضيحة والغضب والحقد». وإن دعاة القصيدة الجديدة قد يتعرضون للاغتيال أو الجنون. وإن علينا أن نبجّ سد ألف عام من الشعر العربي. يقول: «أول الواجبات التدمير. التخريب حيوي ومقدس» وينهي بقوله: «نحن في زمن السرطان نثراً وشعراً وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن حليفته ومصيره».
كتب أنسي الحاج مقدمة «لن» عام 1960 وكأنه داعية من دعاة حركة سرية جديدة في الشعر. قرامطة جدد. ولا تخفى النبرة الآرتوية (الشاعر الفرنسي انطونان ارتو) على بيانه. وقد انضوت تحت هذا البيان جماعة من الشباب على امتداد اللغة العربية في المشارق والمغارب. لأن لهذا العنف في الدعوة جاذبية خاصة تجذب إليها دعاة الرفض وتحرير الشعب من عبودياته القديمة. لأن الشعر هو روح الأمة.
والآن. ماذا نرى في هذه الدعوة وفي هذا العنف؟ الآن وبعد خمسة وخمسين عاماً على صدور «لن» ومقدمتها؟
نقول نعم، إذا كان العنف من أجل تصفية النوع الشعري. نعم من أجل تصفية الحياة من أدرانها. رحلة ألف عام وأكثر للشاعر من الكلمات تستحق المغامرة لتصفية النوع الشعري. لاستحقاق الديمومة. ونحن نتفق معه في المبدأ ولكن نختلف في الماهية. ماهية الأقوى وماهية القصيدة. وهذا الاختلاف هو أمر حيوي على ما نرى. ولعل في قول الشاعر في المقدمة عينها «ليس في الشعر ما هو نهائي» إشارة إلى التغيرات التي طرأت عليه هو بالذات فطاولت الكثير من آرائه النقدية في المقدمة، ورأيه في ماهية قصيدة المستقبل، ورأيه في اختياراته من الشعراء.
إن توقيت هذه التغيرات الشجاعة مهم، إذ إنها جاءت عشية موته، في الأيام الأخيرة من المرض، وكأنها اعترافات آخر الرحلة. يقول في خواتم (3) تحت عنوان «كلما جرحت هذي البرتقالة\ تتبسم» (جريدة الأخبار): «العديد مما جزمت به في مقدمة «لن» نقضته في قصائد «لن» نفسها. يؤلم هذا التذكير وينعش اليقين بأن لا دائم في التنظير. لا ما يتناول الشكل فحسب بل الجوهر. وهل نعرف الجوهر لنحجمه؟ أوليس لكل جواهره؟ لم أتوقف عن الاعتذار عما اقترفته من تنظيرات اعتباطية في شأن لا يحتمل إلا التواضع. وما جاء من استنادنا أنا وأدونيس إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر إلا إغراق لنا في جملة أخطاء». يقول: «أحياناً أعاود مطالعة الشعر الذي تحمست له من زمان، فلا أصدق متى أغلق الكتاب وأرتاح من هذا الصدى. إيقاع الموت …». يقول: «ونحن معشر ديوك الحداثة، أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق «بندورا» واندلعت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش. أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القدر. أطعنا إشارات المرور الذي كان ممنوعاً وانتزعنا السدود وانتشينا بما تراءى لنا انتصاراً …».
جاءت كلمات أنسي الحاج هذه، وهو في صدد الكتابة على تجربة شعرية مغايرة لشعره، ومغايرة لتجربة قصيدة النثر، وهو إذ يضع إصبعه على موضع التقاطعات الجوهرية في الأشعار، يعلن تعديلاً في نظراته في المقدمة لماهية قصيدة المستقبل فيقول: «الشاعر شاعر في أي شكل أراد. العطية الشعرية لا تضيع بتنويع الأداء. بالعكس، الشعر أصواته جميع ما يرتدي وما الرداء سوى حيلة».
______
*الحياة
فبراير 18, 2015
*محمد علي شمس الدين