أمل الكردفاني- الأقانيم المظلمة- مسرحية من مشهد واحد

الشخصيات:
المريض
الطبيب
المرأة
الطفل

المسرح: عيادة طبيب نفسي،
(ينام الطبيب على الشيزلونج..في حين يجلس المريض على الكرسي قربه).

الطبيب: أعتذر لك مرة أخرى.
المريض: لا بأس..
الطبيب: كان بودي أن أكذب عليك وأخبرك بأن ذلك بسبب إنزلاقي الغضروفي.. لكنني لن أفعل.. بعض المرضى كانوا يعتقدون بأن هذه طريقة جديدة في العلاج ولا يصدقونني..
المريض: إنهم لا يصدقون أبداً.. أبداً..
الطبيب: عليهم أن يصدقوا.. ولكنهم لو صدقوا.. ماذا سيحدث لهم؟
المريض: سينتحروا..
الطبيب: هذا ما كنت أود قوله.. لا يمكنني أن استمع وأنا جالس..
المريض: ولا أستطيع أن اتحدث وانا راقد..
الطبيب: لماذا.. بماذا تشعر؟
المريض: أشعر بأنني مراقب..
الطبيب: هذا هو شعوري بالضبط.. لم أقرأ عن هذا في كتب الطب النفسي.. قرأت عن مرضى لا يستطيعون النوم والحائط خلف ظهورهم.. لا أعرف هل صنفها الدليل الخامس كمرض أم لا.. إنه دليل سخيف.
المريض: إنني.. إن..
الطبيب: إنك تتألم..
المريض: انا ضحية مخي..
الطبيب: هؤلاء هم أغلب البشر..
المريض: أريد أن أتحرر من مخي.. المخ.. المخ..
الطبيب: إنك تجبرني على الاستماع إليك..
المريض: لا يمكن لأحد أن يفهم ما يحدث داخل مخي.. الشيء الوحيد الذي أكد لي أن المخ لا ينتمي لي هو أنه يتحكم فيَّ، ليس فقط وهو يفرض عليَّ ما استطعمه من مأكل ومشرب، ولكن حتى هل سأنام أم سأظل مستيقظاً طيلة الليل، هل ستنتابني نوبات قلق، أم سأهنأ بشعور غير طبيعي بعدم الإكتراث.. هل سأهرب أم أواجه.. هذا المخ هو الشيطان الذي يحتل جمجمتي ويسيطر على حياتي سيطرة شمولية حقودة.. يسحقني ويتلذذ بألمي ويدفعني لكي أهزم نفسي بلا أدنى منطق..
الطبيب: ذلك الشيطان الأسود الذي يقرفص داخل جمجمتي.. ذو القرون والأنياب والمخالب.. الذي يقهقه ضاحكاً حين يمارس سطوته على حياتي كلها.. أفعالي وردود أفعالي.. سكوني وحركتي.. حتى مشاعري.. مشاعر يزيفها.. يدفع بنوبات من الهلع والتوتر العنيف داخل اوتاري العصبية.. يتحكم حتى في حالي.. يجعلني مريضاً باستمرار.. إنه الإله الحقيقي.. الإله الذي يخلقني بعنف.. والذي لا يمكنني التخلص منه إلا بقطع رأسي من جسدي.. إنه يضحك لأنه يدرك بأن موته يعني موتي.. لكنني أقسم لك بأنه لا ينتمي لي.. لا يمثلني.. أقسم بجميع الآلهة التي طرحت نفسها للبشرية عبر التاريخ بأن هذا المخ الذي داخل جمجمتي ليس أنا.. إنه ليس جزءً من كينونتي..
المريض: كيف أجعلكم تصدقون ذلك؟.. كيف أجعلكم تدركون بأنني لا أستطيع أن أسيطر عليه ولا أن أحمي نفسه من هجماته وضربه لي.. عدوانه المستمر عليَّ منذ الطفولة.. أقسم لكم أن هذا هو هو وليس أنا هو.. إنني لا أمثل.. لا أستخدم المجاز.. إنني أقول الحقيقة كل الحقيقة.. وأقولها ليس من أجل أن تصدقوني، بل من أجل أن أحمي نفسي من خداعه لي.. أحمي كينونتي من تلك المشاعر الزائفة والسلوكيات التي لا أفهمها والتي تبدو كما لو كانت صادرة مني وبإرادتي وهذا غير حقيقي..
المريض: هل تعلمون شيئاً عن سفن الحمقى، حيث كانوا يرسلون المضطربين عقلياً في سفن بلا قبطان.. سفن تهيم في المحيطات.. تهيم على وجهها.. تغرق أو ترسوا فوق أي جزيرة مهجورة في قلب المحيط.. أو تظل تطفوا فوق الماء وتمخر البحار بلا هوادة وبلا نهاية.. سفن الحمقى حيث كانوا يرسلون أمثالي مع ذلك كانت أفضل من تلك العصور حين كانوا يعذبوننا لأنهم يعتقدون وبكل صدق بأن الشياطين تتلبسنا فيلقون بنا في الزيت المغلي أو نيران الحجر الصخري أو الخازوق.. إنني أؤكد لكم بأن ما كانوا يظنونه حقيقي.. ليس الشيطان سوى هذا المخ داخل جماجمنا.. داخل جمجمتي.. ذلك الذي يجعلنا أقل قدرة على التكيف مع محيطنا.. أو يجعلنا مجرمين.. نصابين ومحتالين وقتلة.. أو يجعلنا منكسرين منهزمين.. أو يجعلنا متملقين أو خونة أو أوفياء.. أو يجعلنا أغنياء أو فقراء.. او يجعلنا عباقرة أو حمقى.. إنه يتحكم فينا تحكماً شاملاً، لذلك فأمخاخكم ليست أنتم.. ولكن من أنتمم إذاً؟.. من أنا؟..
الطبيب: إننا كائنات بريئة تعرضت للعنف.. فأضحت ضحية لإجرام المخ..ذلك الشيطان الذي يدغدغ جماجمنا وهو في الداخل، يكتبنا كيفما شاء.. يأمرنا.. يفرض علينا أن نفكر بأسلوبه هو لا بأسلوبنا نحن.. يقبل أن يحل معادلة رياضية بسهولة أو يرفض حل عملية حسابية بسيطة.. ونحن.. من نحن؟؟؟.. نحن كضحايا لهذا الشيطان.. من نحن؟ إننا حملان بريئة.. حملان طيبة.. حملان.. كان من المفترض عليها أن تكتفي بأكل العشب في السحاب.. لكنه يجبرها على سفك دماء الحملان الأخرى.. هذا المخ.. الذي لا يمكنني التخلص منه.. ليس لأنه أنا.. فأنا أقسم لكم مراراً وتكراراً بأنه ليس أنا.. أرجوكم.. أرجوكم صدقوني.. بل كل مافي الأمر إنني لا أستطيع التخلص منه لأنه فقط ملتصق بي كالفيروس ذو الأرجل الخطافية.. يغرس أذرعه في كل خيوط جهازي العصبي.. لكنني.. لا أستطيع التخلص من التصاقه به.. فهذا مستحيل.. مستحيل حتى أن فصل توأمين سياميين يبدو مسألة شديدة البساطة بالنسبه لفصل المخ من جمجمتي.. نزعه وإلقاؤه بعيداً وأنفاسي تتصاعد من الشعور بالرعب.. رعب التخلص من هذا الفيروس.. الفيروس الذي يستحيل التخلص منه.. إنني أحاول أن أتخيل ذلك..
المريض: أتخيل أنني تمكنت -بمعجزة ما- من أن أفصل هذا المخي عني وأرميه بعيداً.. بعيداً.. لا.. ليس بعيداً فقط.. بل سألقي به داخل بركان ملتهب.. وأهرول مبتعداً عنه.. أبعد مسافة ممكنة.. نعم.. أطول مسافة ممكنة.. ياه..
الطبيب:لن تتصوروا كم سيكون ذلك مريحاً بالنسبة لي.. سأرتاح.. سأرتاح أخيراً.. لأنني سأكون أنا حتى لو كان ذلك مقابل أن أبقى صامتاً إلى الأبد.. متجهماً حتى لحظة موتي.. جامداً ككوكب فقد مجرته فانفلت في فضاء مظلم عميق.. نعم.. إنه يسيطر عليَّ حتى وأنا أقول ما أقول.. إنه يغتصبني من جمجمتي.. لكن من ذا الذي سيصدق ذلك؟؟؟..
المريض: من ذا الذي يصدق بأنه ليس هو.. نيتشه ليس نيتشه.. أفلاطون ليس أفلاطون.. ليدي غاغا ليست ليدي غاغا.. هرقل ليس هرقل.. حتى المسيح ليس هو المسيح.. لا أحد منا هو هو.. هذه أكذوبة يفرض علينا المخ أن نصدقها.. تأملوا أنفسكم.. مخاوفكم.. ضحكاتكم.. إنها كلها وهم.. وهم يبثه مخكم وهو يحدد لكينونتكم كيف تتموضع في قلب الوجود.. أيها الكلب المدعو مخاً.. كيف سأفصلك مني؟؟؟.. كيف سأتحرر منك.. متى سأكون أنا.. فأنا أقسم بأنني لست أنا.. ولم أكن أبداً أنا.. إنه شر مهيمن لا أعرف كنهه.. لكنه يجعلني هوية له وليس العكس..
الطبيب: هذه عيادة طبيب نفسي.. اليس كذلك؟ أعتقد بأنك تحتاج لمتجر بيع الأسلحة أكثر مني.. أنا أيضاً أحتاج له.. متجر كامل.. بكل أنواع الأسلحة..
المريض: لن تغويني.. أليس كذلك؟
الطبيب: أحاول ترويض مخك.. ومخي أنا أيضاً.. إنها طريقة سافرة.. لكنها ليست كذلك.. إنها تجربة شخصية جداً..
المريض: جداً.. لا أستطيع أن أعيش عشرين سنة أخرى.. هذا كثير.. كثير جداً.. كثير ومؤلم..
الطبيب: ستفقد كثيرين أثناء الطريق..
المريض: يبدو كما لو .. لو كنت إناءً ممتلئاً يتم إفراغه باستمرار..
الطبيب: حتى آخر قطرة..
المريض: حتى آخر قطرة..
(ينهض الطبيب من الشيزلونج..ويتحرك باضطراب إلى يسار الخشبة..)
(يرقد المريض على الشيزلونج)
المريض: كل مواسم الأرض.. كل مواسمها معطرة..
الطبيب: معطرة.. بأي عطر؟
المريض: بعطورٍ شتى.. عطور ميتة..
الطبيب: عشت نصف قرن.. ألم يكن ذلك كافياً لأحفظ رائحتها..
المريض: لن تستطيع.. إنك لن تشمها بل ستشعر بها.. ستشعر برائحة العطر.. سيعود العطر كل موسم لتشمه من جديد حتى لحظة الموت.. لقد كنت أشمها منذ أن فتحت عيني على هذا الوجود ورايت وجه المرأة.. كان أول وجه أراه..
الطبيب: أمك؟
المريض: مربية في ملجأ الأطفال.. لا أعرف إن كانت تعاملني كأم أم كعدو.. لأنني لا أمتلك تجربة أصيلة أقيس عليها.. أليس كذلك؟.. ألسنا بحاجة لتجربة أصيلة لكي نقيس عليها الصواب من الخطأ؟.. الحقيقة من الزيف؟.. الصدق من الكذب؟ إنني لم أمتلك تجربة أصيلة.. كان كل شيء يبدو متحركاً كفيلم سينمائي في شاشة بعيدة عني جداً.. المخ.. مخي كان يفعل ذلك.. أليس كذلك؟.. أم أنكم أيضاً كذلك؟
الطبيب: لم أملك تجربتك الأصيلة هذي لكي أعرف الإجابة.. إنني مجرد أكاديمي يقرأ الكتب.. الكتب التي تحدد سلفاً أشياءَ كثيرة.. وبما أن الوجود لا يمكن حصره فالكتب ناقصة جداً.. لكنني.. لكنني لا اعرف إن كان علي أن أعتبر حالتك تستحق أن تكون جزءً من مقرر مدرسي أم لا..
المريض: لماذا؟
الطبيب: سأجلس على كرسيك..
المريض: تفضل.
الطبيب: هكذا استطيع أن اتكلم..
المريض: وهكذا استطيع أن أستمع..
الطبيب: إذا كنا شيئاً واحداً.. ألسنا كذلك؟..
المريض: لا أعتقد..
الطبيب: لا أعرف.. لكنني لو انتحرت فستموت معي..
المريض: حقاً؟
الطبيب: ربما.. عليَّ أولاً أن أحسم مسألة الموت هذه..
المريض: إنك تعرفه..
الطبيب: بشكل غير واضح..
المريض: بل تنكره..
(ينهض الإثنان.. يبتعدان عن بعضهما.. إلى اليسار واليمين)
(يخرج الطبيب زجاجة خمر من مكان ما، يتامله المريض)
الطبيب: هل تعرف الظلام؟..
المريض: ومن لا يعرفه؟
الطبيب: أقصد الظلام المصنوع.. الظلام الذي يأكل الزمن عن عمد ليتجاوز مشاهد من تكرار شرح الأحداث.. أو .. أحداث ثانوية.. كالأفلام.. كالمسرحيات.. هل تعرف الظلام؟
المريض: ومن لا يعرفه..
الطبيب: لا تجب عليَّ بسؤال.. أرجوك
المريض: وماذا أفعل؟
الطبيب: إنك تسألني مرة أخرى..
المريض: لأنك أنت الذي من المفترض أن يجيب.. لا أنا.. أنا لا أعطي إجابات..
الطبيب: بل أنت.. كم الساعة؟
المريض: الثانية ظهراً..
الطبيب: تماماً؟
المريض: تقريباً..
الطبيب: إنني أتقلب بين الخوف والكآبة.. لذلك أبحث عن قليل من النشوة..
(يرفع الزجاجة)
المريض: لا.. شكراً..
الطببب: سأحاول ملء الفراغ الذي تسرب إلى الأمام..
(تدخل امرأة وتصرخ)
المرأة: أيها المجرم.. أيها المجرم..
(تتجه نحو المريض)
المرأة: أيها المجرم.. المجرم..
المريض: من أنتِ؟
المرأة: قلتُ لك لا تجبني بسؤال؟
المريض: ولكنني لا أعرفك..
المرأة: أنت تعرف الطبيب.. الطبيب الذي يزيد مرضاه ألماً..
المريض: ولا حتى الطبيب.. ابتعدي عني..
المرأة: إنك لا تعرف شيئاً عن حنان الأم (تبكي)
المريض: قلت لك بأنني لا أملك تجربة أصيلة لأقيس عليها.. ألم تفهمي ذلك بعد..
(يجرع الطبيب من الزجاجة)
الطبيب: إنك لا تفهم شيئاً.. إنك أحمق..
المريض: لست أحمقاً.. مخي هو الأحمق..
المرأة: أنت مريض.. مريض أحمق.. فلا أحد يملك تجربة أصيلة في هذا العالم..
المريض: أنتِ كاذبة.. كاذبة مدعية..
الطبيب: لستُ كاذبة..
المريض: بل تكذبين.. إنني أمتلك تجربة أصيلة.. تجربة الألم.. هل تفهمين.. الألم..
(يدخل طفل)
الطفل: اصمتوا..
(يصمتون)
الطفل: هل تسمعون.. إنه.. إنه نباح كلب.. كلب ينبح.. إنه ينبح (يشير إلى المريض)..
المريض: (يبكي) ابتعد عني..
الطفل: إنك تنبح.. تنبح.. أرجوك (يصم اذنيه بكفيه) أصمت.. أرجوك.. لا تنبح..
المريض: إنك طفل.. طفل أبله.. لا تفهم شيئاً.. طفل أبله..
الطفل: أنت كاذب.. أنت مجرم.. مجرم كاذب..
المريض: أووو.. ابتعد عني..
الطفل: لا تقتلني..
المريض: لن أفعل..
الطفل: لا تفعل..
المريض: سأغادر كل هذا الجنون..
(يخرج)
المرأة: إنها الذروة.. أليست كذلك؟
الطبيب: لا.. لم يحن الوقت بعد..
الطفل: لا .. لا يجب ان يحن الوقت أبداً..
المرأة: يا صغيري الحبيب..
الطفل: أنت أم مزيفة..
المرأة: إنك لا تملك تجربة أصيلة لتحكم عليَّ..
الطبيب: بل أملكها.. (يصرخ) أملكها (يبكي) أملكها.. (يئن) أملكها..
المرأة: أنت كاذب..
الطفل: لا.. بل أملكها.. املكها.. (يخرج)
الأم: لا تتركني معه..
الطبيب: غادري أنتِ أيضاً..(يصيح) غادري كما تفعلون دائماً .. كما تفعلون دائماً (يبكي)..
(تخرج المرأة)
(يتوجه الطبيب نحو الشيزلونج، يرقد عليه)
الطبيب: هكذا فقط أستطيع أن استمع إليك.. والآن.. إحكِ لي قصتك منذ البداية..

(ظلام)
(ستار)
النهاية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...