فتحي زيدان جوابرة - ليلة سقوط عروس الرّوحة)

تنويه: العديد من الشخصيات والتفاصيل من نتاج خيال الراوي الذي روى للكاتب الذي كتب.

نحن الصغار كنا نتراكض حول سيارة الفولكسفاجن الخضراء ذات القفص التي حضر فيها حافظ أبو لبدة، وزميله أبو بسام الجلماوي، فعندنا عرسٌ، ونحن مبتهجون، صغارا وكبارا، إناثا وذكورا. العريس من عائلتنا والعروس من عائلة أخرى، والعائلتان تنتميان إلى قريتين من قرى الروحة (السنديانة وصُبّارين)، واليوم تسكن أشتات العائلتين في أماكن شتّى ، شتاتين منهما يقطنان في مكان واحد، جمعتهما طبيعته الوعرية، الملائمة لعيش المواشي، ليس غير. إنهما عائلتا العروسين، تقيمان اليوم عرسا.

العديد من المدعوّين توافدوا بعد العصر لحضور حِنّاء العريس هذه الليلة، ومنهم مَنْ سيبيت عندنا لليوم التالي، فالزفة غدا بعد صلاة الظهر. روّح الرعاة والفلاحون قبل الوقت المعتاد، وقد خططوا مسبقا لإنهاء أعمالهم كلها قبل أذان العصر، وأنهَت النساء أعمالهنّ المنزلية قبل الظهيرة ، ليتفرغن لمهمّات العرس، واجتمع العديد من الرجال حول حافظ الأقرع والجلماوي، والشباب يتهيؤون لسهرة الحناء. ونحن الصغار نتراكض في كل مكان، ونتفرج على كل المستجدّات الحاصلة، ونتناقلها فيما بيننا:

-"الحداية قاعدين في دار عمي حسين".

-"فاطمة الهبلة ماشية مع النسوان، وتتفرج على ثوبها الجديد".

-"دار عمي حبسوا عشر جفاري وخمسة خرفان، ذبائح العرس"

-" حضرت ثلاث نسوان لابسات فساتين قصيرة، واحدة منهن قاعدة تدخن عند النسوان".

-"مصطفى الحسن اشترى المسجّل، وخالد المحمود استأجر الكاميرا".

-" جاء واحد على الدراجة النارية، يلبس طاسة على راسه"

دلفتُ بجوار باب الغرفة حيث يجتمع هناك الرجال عند الحداية، وبصوت عال كانوا يتجادلون حول أمور وأحداث حصلت في السنديانة، أصغيتُ عند الباب، فناداني أبي وطلب مني أن أذهب إلى جدتي وأسألها عن أول عائلة سكنت السنديانة.

وذهبتُ مسرعا وبكل اهتمام وانتماء لهذا التكليف الذي جعلني مشاركا في قضايا الكبار، وكان عندها جمع من النساء المتجهّزات لحضور الحنّاء. لم تسمع جدتي السؤال بحرفيته، فقالت:

-"ما لها السنديانة يا ستي؟ راحت من أيدينا، ومن يومها ماتت قلوبنا وما عاد فيها وسع للفرح. لا يدوم على ما هو إلا هو يا ستي. إييه على أيام البلاد".

هذا كل ما قالته لي، وعدْتُ مسرعا، وجلستُ عند الباب أستمع لحديثٍ شدّني كثيرا، أكثر من العرس وكل الأشياء التي حولي، رغم أنني لم أكن أفهم كثيرا مما يتحدثون عنه. لكنني الآن أروي بصياغتي وترتيبي جزءا منه:

أدرك أهل السنديانة أنه لا بُدّ من اجتماع عام، فهذا الحاجّ علي الميتاني ومعه رفقة من رجال البلد قرروا أن يجمعوا الطرفين المتناحرين ويعقدوا بينهما مصالحة أو هدنة، ويضعوا حدّا ولو مؤقّتا للفتنة التي أنهكت البلد على مدار عقد من الزمن؛ فبلاد الروحة على وشك هجوم العصابات اليهودية، والجميع يتوقعون أن يُداهِم أفراد الإيتسل ومشمار هعيمك قريتنا في أية لحظة، ولا أحد كان قادرا على مواجهة تلك اللحظة إلا بالهروب من تلك اللحظة، شبح الرعب مما هو قادم، والخوف من ألف مجهول كان يخيّم على السنديانة، والذي زاد الأمر تعقيدا أنها باتت مكشوفة بعد أن غادرها أبناؤها الثوار وذهبوا مع المقاتلين إلى معركة كفر قرع.

إذن يتوجب على أهل السنديانة أن يدافعوا عنها، أو يتخذوا موقفا جماعيا حيال الخطب القادم، وهذا يتطلب إيجاد الثقة بين المتخاصمين وعموم أهالي السنديانة، وأنه لا بدّ من التخطيط المشترك واصطفاف الجميع لمصلحة البلد، كي يتمكنوا من صدّ الهجوم الوشيك؛ فاجتمعنا في بيت الحج علي قبل هروبنا القسري بخمسة أيام.

وقف المضيف والمتحدث باسم المصالحة الحاجّ علي بين الجالسين، وزَمّ عباءته فوق الجبّة والدماية، وقال:

- "لم نكن ندرك سر الطبخة ولا نعرف الطباخ، لم نكن سوى أدوات للطبخ فقط، أو ركائب تنقل الحطب لإشعال النار في الموقدة. في هذا الموسم فاحت الرائحة، وأدركنا متأخرا أن الطباخ هو عدونا جميعا، يستهدف البلاد والعباد، لكن لم يفت الأوان، عليكم أن تتفقوا الآن، وتتناسوا الماضي وتتعالوا على الجراح ولو مؤقتا، لنتمكن من التفكير معا بالغد. الهاغناه يحتفلون على مقربة منا في زمارين بانتصاراتهم، وهم قادمون عن قريب. صحيح أن يهود زمارين والمراح وبنيامينا تربطنا بهم علاقات اقتصادية واجتماعية وحسن جوار، ولم يظهروا العداء لنا، ولم يعلنوا الحرب علينا، لكنهم لن يمنعوا العصابات اليهودية من اقتحام البلد، ولن يفعلوا لنا شيئا. المختار يعقوب وتسافي غزال والخواجا ليسوا بيننا اليوم، إنهم هناك معهم يشربون النبيذ، فانظروا ما أنتم فاعلون".

عدّل المختار أبو سْعيد عقاله على الحطة المُنَيّلة، وقال:

- "يجب أن نبقى في البلد ولا نرحل مهما كلفنا الأمر. فكّروا في الطريقة التي تضمن لنا البقاء في بلدنا. علينا أن نحافظ على بلدنا وأراضينا وممتلكاتنا. الفريديس وجسر الزرقاء لم يخرجوا. اعلموا أنه في حيفا ويافا عائلات ما زالت في بيوتها، ولم تخرج منها".

قال أبو سويلم، وهو يتحسّس جيب قنبازه بحثا عن قداحة الكاز ليشعل سيجارة عربية انتهى من إحكام لفّها للتو:

- "هل نفهم من كلامك أنك مؤمن ومقتنع بما قاله لنا يعقوب المختار؟. "لا تخرجوا من السنديانة ونضمن لكم أنفسكم وممتلكاتكم". قولهم هذا محض هراء. هل هناك وعد موثق منهم؟".

قال الناصري ذاك الذي يتقن القراءة والكتابة، وثلاث لغات منها العبرية:

- "أعتقد أنه يمكن الحصول على كتاب موقّع من الهاغاناة: نطلب السلام والصلح، فلا سفك دماء ولا تدمير ولا جلاء. سيُطلَق الرصاصُ في الهواء من الطرفين، ثم يدخلون بلا قطرة دماء تُراق، ونعلن وقف حالة النزاع، ونبقى في بيوتنا، ولنا أرضنا وماؤنا وممتلكاتنا. لسْنا أوّل من يفعل هذا. الحكم اليهودي أمر واقع لا محالة شئنا أم أبينا، فلنصنع سلاما وننهي الأمر كله. بوسعي أن أقوم بهذه المهمة إن وافقتم".

أيّده حكيم البلد العجوز المخضرم:

- "هذا أفضل من أن نقاوم المدافع الشابة ببنادق عاجزة فاسدة، فنخسر المعركة، ثم نخسر أنفسنا وبلدنا وممتلكاتنا. ها هم أهل بريكة لاجئون بيننا. هل تقبلون أن نصبح لاجئين في الشرق؟ "

ردّ محارب قديم:

- "إنه الاستسلام والذّل. القبول بالحكم اليهودي خيانة للوطن والدّين".

قال كبير الحراسات الليلية:

- "في الصباح الباكر نحفر خنادق ونجدّد الاستحكامات ونغلق طريق زمارين، وننادي للفزعة والمناضلين، ونستجلب السلاح من الشمال، ويتمترس مسلّحو البلد وثوارها في المقدمة، أما المتطوعون والأهالي يتحصّنون في الخلف".

قال ابن الزامل:

- "التل الفوقاني يدافعون عن أحواشهم ويغلقون الطرقات إليها، وكذلك التل التحتاني وحارة النزلة".

وقال المقبل ذو العقال المائل:

- "كل حمولة تجهز شبابها بالعدة والسلاح ويدافعون عن بيوتهم وأحواشهم. وكل عائلة تستسلم تتحمل مسؤولية الهزيمة".

قال الحمداني الذي يجلس في صحن العقد:

- "هذه المقترحات لا تضمن تعاونا مشتركا، ولا مصيرا واحدا".

فأضاف كبير الحراسات الليلية:

- "وربما يحصل اتفاق سري مع الهاغناه من جهة، وعندها تكون المؤامرة ويحصل الغدر والطعن في خاصرة الجهات الأخرى".

وقال العثماني:

- "إذن نقاوم كتفا إلى كتف مع بعض، فإذا صددنا الهجوم نحتفل جميعا بالنصر، وإذا انكسرنا لا سمح الله نكون كلنا في الهواء سواء. وهكذا نكون شركاء إما في النصر أو الهزيمة".

وقال المحارب القديم:

- "في الصباح الباكر سأستقدم الثوار الذين يتمركزون في وادي عارة وجبال أم الفحم. ونستدرج اليهود إلى معركة في السنديانة".

قاطعَ المتحدثين حكيم البلد ذلك العجوز المخضرم:

- "هل تريدون إحداث مجزرة في السنديانة؟".

فبادر الرجل المتزوج من امرأتين ولديه خمس فتيات بالقول:

- "أخشى ما أخشاه أن يحصل معنا كما حصل في دير ياسين. هناك قبل شهر قتلوا النساء والأولاد ولم يرحموا أحدا. هل نحن أغبياء حتى نكرر هذه المذبحة في بلدنا؟"

قال المقبل:

- "إذن فليخرج الأولاد والنساء وكبار السن ويبقى الشباب للدفاع عن القرية. هكذا لا نحن استسلمنا ولا سلّمنا أعراضنا ورقاب أطفالنا لهم".

أيّده الحمداني قائلا:

- "بمعنى أوضح وأكثر صراحة، نخرج من البلد على أن نعود إليها بعد أن تنتهي المعارك. رأي عقلاني وأنا موافق".

الرجل الذي فقد ابنه قبل سنوات، خرج عن صمته، وعلا صوته بين الحضور:

- "أنتم غير واثقين من بعضكم، وثقافة الأنا تطغى على نفسياتكم المهزومة، خوفكم من بعضكم يخرس ألسنتكم عن قول الحقيقة. وعلى ذلك فأنا لست مستعدا أن أفقد ابني الآخر. سأرحل وأترك هذا البلد الذي لم يجلب لي حقي في ابني القتيل".

وصرخ المحارب القديم بصوت جهوري خشن:

- "الكثير من الحاضرين هنا جبناء، وكل واحد منهم يبحث عن فرصة للنجاة، قولوا: نريد أن نرفع الراية البيضاء".

ثم نظر شزرا إلى الناصري، وأكمل غاضبا متهكّما:

- "المختار يعقوب ينتظر إشارة منكم. اذهبوا إليه وهو سيرتب عملية الاستسلام".

وتعالت الأصوات واختلطت، وعمّ الجدال الذي لا طائل وراءه، وحدثت الجلبة، ولم يعد أحد يسمع أحدا، ولا يستمع لأحد، لكن عبارة واحدة كانت تُسمَع في خضمّ الأصوات المختلطة:

- "سأفعل ما أراه مناسبا".

وتفرّق الحاضرون، وخرجنا من البيت الكبير دون اتفاق ولو بجزئية واحدة، وهذا يعني توافقا على الرحيل بلا اتفاق معلَن.

بعد أن انفضّ الاجتماع اتّخذتُ مع عدد من الرفقاء لا يتجاوز أصابع اليد قرارا بالتّسلّح، وعقدنا النية أن نخرج أنا والعثماني والمحارب القديم في الصباح الباكر إلى طولكرم، على أمل أن نجلب سلاحا وعتادا، حيث تناهت إلينا الأخبار أنهم جلبوا سلاحا وذخيرة من سوريا، ويمكننا أن نحصل على عدّة بنادق وعتاد بلا ثمن، والمال الذي معنا نبقيه لضرورات المقاومة والاشتباك، فلا نعلم ما سيجري في مقبل الأيام. والملتقى على عين البلد عندما يشقشق ضوء الصباح. هذا ما بِتْنا عليه في تلك الليلة.

انطلقنا جهة الشرق فولجنا في وادي عارة ثم إلى أم الفحم، وجدنا هناك في سفح أم الفحم جمعا من المهجّرين، قدموا من حيفا وقرى الساحل، قالوا لنا: في هذه الجبال يتواجد ثائران من قريتكم، كانا من المقاتلين في حيفا، والبارحة نزلا إلينا هنا بحثا عن طعام، وسألانا عما إذا كنا نعرف أخبارا عن السنديانة وبريكة.

أطرق صاحبنا المحارب القديم قليلا، وبانت على وجهه مسحة من سرور، وقال:

- "لن أكمل معكما الرحلة، سأنضمّ إلى رفاقي هناك في الجبل. وعندما تأزف ساعة القتال ستجدوننا أمامكم".

ومن أم الفحم إلى يعبد مررنا بأم الريحان، لنا فيها صديق قديم، رغبنا أن نسلّم عليه، فقالوا لنا إنه خرج قبل شهر ولم يعد. ثم عرّجنا على تلال الطرم، وهناك وقفنا على تلة مشرفة، تنهّدنا بحرقة، وترحّمنا على الشيخ عز الدين القسام، وقرأنا الفاتحة على أرواح الشهداء، ثم أكملنا المسير.

في يعبد تسير الحياة بشكل طبيعي، لم يكونوا خائفين من هجوم مباغت، لكنهم قلقون مما ستؤول إليه الأمور، وأن اليهود لا أمان لهم، فأحلامهم كبيرة تصل إلى النيل وإلى الفرات. قال لنا صاحب فرّامة التبغ:

- "حسب قرار التقسيم ستكون يعبد جزءا من الدولة العربية الجديدة، ومستوطناتهم بعيدة عنا فلن يأتوا إلى هنا".

ومن يعبد إلى باقة الشرقية إلى عتيل ودير الغصون إلى شويكة حتى طولكرم، لم نكن نتوقع أن أهل السنديانة سوف يسيرون ذات المسير بعد أيام، ويُلقون عصا ترحالهم في هذه البلدان.

هناك في طولكرم اعتقدوا للوهلة الأولى أننا مرسَلين لمعرفة احتياجاتهم وما ينقصهم، أو أننا جئنا لمجرد الزيارة والاطلاع على استعداداتهم الدفاعية والاستفادة من تجاربهم في المقاومة، واستهجنوا أن بلاد الروحة ينقصها السلاح والذخيرة. واستاء الجميع من حال المقاومة ومن كل ما يجري، وبِتْنا متأكدين أن الغاية من مقاومتنا ليست الانتصار في الحرب، ولا دحر اليهود إلى المستوطنات، إنما هي الالتزام بواجب الدفاع عن كرامتنا وبلادنا، وعلى الأقل نحصل على شرف المحاولة. أعطونا رشاش ستن وبندقيتين من نوع مارتينة، وثلاثة مسدسات ميزر وحقيبة قنابل، وذخيرة تكفينا لمواجَهة واحدة. وجلبوا لنا حمارة معتادة على السفر، وقد ولدت حديثا، وعلبة دهان صغيرة وفرشاة، وقالوا لنا:

- "عندما تصلون أطلِقوا الدابة لتعود، واكتبوا تحت بطنها (ص س). ويعني وصلنا بسلام. وإذا حصل مكروه لا سمح الله اتركوها تعود بلا كتابة".

عدنا ليلا إلى البلد بعد ثلاثة أيام من غيابنا عنها، ودخلناها من الجنوب جهة المقبرة، كنّا نعرف أن بعض العائلات خرجت من البلد منذ أيام، وحتى قبل الاجتماع العام هناك أناس غادروا إلى الفريديس وقلقيلية والنبي صالح، وكنا نعرف أنّ الناس الذين لم يغادروا بعْد يعيشون حالة من الهلع والترقب المقيت، تقتلهم الحيرة بين البقاء أو الخروج، لكن لم نكن نتوقع ألّا نرى في تلك الليلة أحدا بالمرة من أهل السنديانة فيها.

سمعنا هدير سيارات عسكرية، ولمحنا أضواء تلمع فجأة وتختفي، فعرفنا أنهم يتواجدون في قلب البلد، وسمعنا جعير أبقار متقطعا يصل إلينا من مِقيل العجّال، فعرفنا أن أصحاب الأبقار لم يحضروا إلى المقيل لاستلامها عند المساء كالعادة. ثم حضرت ثلاث مركبات من طريق زمارين جهة الشمال، وتوغلت في عمق البلد، ثم توقفت وأطفأت الأنوار.

أخفينا الأسلحة في المقبرة وأطلقنا الحمارة بلا كتابة، وتسللنا نحو شمال البلد من الجهة الغربية، كانت أبواب بيوت دار عويس والميتاني مكسرة ومفتوحة، وثمة كلب دلف من الزقاق هاربا وعوى عواء مبتورا واختفى. مررنا بالقرب من حظيرة أغنام أبو سرحان فوجدناها فارغة، إلا من عنزة طريحة في ركن الحظيرة، بدا عليها المرض والوهن، كانت ترمقنا بعينين لامعتين. اتجهنا بخلسة وترقّب نحو بيوت حارة المدرسة، كل البيوت والأحواش التي اجتزناها كانت صامتة كئيبة معتمة، لا يُسمع فيها رنين جرس ولا ثغاء شاة ولا بعاق طفل، ولا حتى خبطة حمارة أو همهمة عنزة. لحظتها أدركنا ماذا يعني مفهوم الأسى. ثم ما لبثت أن كشفتْ أضواء سياراتهم لنا عددا من المسلحين يمرّون باطمئنان في الدرب، ولا يبدو عليهم الاستنفار أو الحذر، ففهمنا كل ما حدث...

غادر الناس البلد ولم ينتظروا عودة الأبقار من المرعى، ولا رُعاتها ولا المسافرين إلى حيفا والقرى المجاورة، خرجوا منها وتركوها تواجه مصيرها وحدها أمام العصابات. أبواب البيوت مخلوعة، والأشياء مبعثرة، وليس ثمة كلاب تعوي كالعادة، ولا سخال تثغو، وجمال ترغو.

اتّضح لنا أنهم اقتحموها، بل دخلوها دون مقاومة، وفتّشوا البيوت وعبثوا فيها، ودمّروا وخرّبوا. ولأول مرة نسمع أصواتا غريبة دخيلة على البلد تنطلق من بيدر البلد، كانوا يتنادون ويرطنون، كنا بعيدين عنهم فلم نفهم شيئا من كلامهم، إلا أن نبرة الأصوات كانت توحي بنشوة النصر. تحولنا إلى منطقة الطوابين، واختبأنا بجوار طابون أم زيدان، شعرنا بالدفء ونوع من الطمأنينة، وآنستنا الأدخنة والروائح المنبعثة منها، وبدا لنا أن هذه الطوابين غير مكترثة بما يجري، وأنها ترفض الاعتراف بسلطة اليهود على السنديانة.

انتظرنا طويلا حتى شعَرْنا بسكون حركتهم قليلا، ثم تسلّلنا عبر الأزقة نحو ديوان الحج مرشد، فربما نجد بقايا ناس أو رائحة ناس في هذا البيت الكبير، الذي طالما اجتمع فيه الناس، فتفاجأنا باليهود يتمركزون فيه، ارتبكنا وقررنا على عجلة من الأمر أن نذهب إما إلى ديوان المختار، أو جامع البلد، لعلنا نجد أحدا تأخّر عن الهروب أو تعثّرت به السبل، فاحتمى هناك، أو أحدا لم يكن على علم بما جرى، فدخل البلد مثل ما دخلنا، وبصعوبة بالغة دلفنا من الزقاق الأول إلى الثاني، وكنا نتسلل من حوش إلى حوش ملتصقيْنِ بالجدران مثل وزَغَتيْن مرعوبتين من بومة في الجوار، حتى وجدنا أنفسنا قرب الجامع، فآثرنا الاختباء فيه، كان الباب مخلوعا، والحصير والقناديل والأشياء كلها كانت مبعثرة مقلوبة. حين رأيتُ المصاحف ممزقة ومبعثرة في زوايا المسجد أدركت معنى الذل بأبشع صُوَرِه. وبدتْ لي قريتي كصورة امرأة طاهرة عفيفة، اغتُصِبتْ ثم قُتلت....

سمِعنا بالقرب من المكان، قِطّة تموء بأسى شديد، دخلتْ إلى الجامع، واقتربتْ نحونا، كانت منفوشة الشعر، وبدَا كأنها تسألنا عن أشياء كثيرة، ثم غادرت... ضاقت الدنيا بنا وشعرنا أنه لم يعد لنا أمان في الدنيا كلها إلا هنا في بيت الله، ثم جمعنا المصاحف والكتب وأعَدْناها مكانها، واتّخذنا ركنا لائذا واتكأنا على الجدار، فانتبه رفيقي لزوادة الأكل التي ما زالت مثبتة على ظهره، ولهول الموقف لم يكن يفطن لها، فانتزعها بسرعة جنونية وأقسم أن لا يأكل منها شيئا، وطرحها خارج الباب، وقال:

- "القطط التي بقيت في البلد أولى بالأكل منا".

همّ رفيقي العثماني بالعودة إلى المقبرة لجلب السلاح والاشتباك معهم، وبعد صعوبة منعته وأقنعته أن ننتظر الصباح، وحينها نقرر كيف نشتبك ونقاتل.

بَكيْنا بحرقة ثم غفونا من شدة الأسى والحزن العميق، وبقينا على هذا الحال حتى أذان الفجر. اجتاحتني رعشة انتصار مؤقتة حين سمعنا الأذان العابر إلى مسجدنا من قرية شرقية بعيدة، فَأذّنَ صاحبي بصوت مخنوق مهزوم مرتجف:

يا ظريفَ الطولْ وقفْ تا قولّكْ - رايحْ ع الغربة وبلادكْ أحسنْ لكْ.

مع تغلغل الأذان في سواد الليل ازداد جعير البقر، كان يُصدِر جعيرا ممطوطا في مِقيَل العجال، كان الصوت مؤلما يقطّعُ نِياط القلوب، فشعرنا بالهزيمة من كل شيء... في تلك الليلة، ليلة 12/5/1948كانت أبقار البلد تجعر وتجأر وتبكي أصحابها الهاربين قسرا إلى كل الاتجاهات، هاربين مشيًا وعلى كل دابّة يتفرقون إلى كل فجّ قريب أو بعيد.

بزغت الشمس وبان كلّ شيء، راياتهم كانت ترفرف على المدرسة والبنايات العالية. والسنديانة التي كانت عامرة بأهلها ودوابّها أصبحت خالية من عُمّارها، إلا من بضع أبقار تسير حزينة بغير هدى في الدروب. وقلت:

- "يا عثماني: القتال الآن لا يجدي أبدا، إنه انتحار. علينا أن نلحق بالآخرين".

قال بحزن عميق:

- "وهل سنترك بنادقنا مخبّأة في المقبرة؟ وبعد أن ينتصر جيش الإنقاذ نعود ونطلق بها رصاص النصر؟".

أغلقنا باب المسجد، وتسللنا بين الأزقة كأننا لصوص غرباء في بلدٍ كانت بالأمس لنا، واتّجهنا نحو الشرق.

اكتب أيها الكاتب على لساني أنا الراوي:

" فَزعْتكم إلى حميركم عندما "هَبّتْ النار والبارود غنّى"، لتضعوا عصيّكم هنا في المضارب، وفي مخيمات طولكرم وجنين وجنزور، هذا الذي ضربته الثلوج والرياح، تآمرت عليه هي الأخرى وقذفت بقاطنيه إلى نور شمس، وتفرّعتْ بقاياكم في الفارعة وغير بعيد عن يعبد وقباطية، والباقتين، وفي كل الأماكن.

لماذا تركتم سنديانتكم وحيدة؟ انسلختم عن لحائها ولم تصمدوا كالصبّار فيها، وهربتم قبل أن تصل العصابات، فلما وصلوا لم تُطلَق عليهم رصاصة واحدة. ركزوا لواءهم في قلب القرية، كأنه سكين مغروز في قلوبنا جميعا، ثم رقصوا وطربوا وشربوا النبيذ.

اعتقدْتم أنكم ستغيبون عنها عدّة أيام، ثم تعودون، لتحصدوا القمح وتقطفوا البندورة، لكنّكم صرتم لاجئين، وها أنتم تقيمون عرسا، صورة فرح لا بدّ من رسمها على حصاد البؤس والعجز والمرارة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...