ودّعها، قبّلها، قال لها سأشتاقكِ كلّ يومٍ، بل كلّ ساعة، بادلته المشاعر والكلام، قالت له: حاول أن تتّصل إذا تسنّى لك ذلك، أتمنّى لكَ سفرةً موفّقة.
ركبت سيّارتها منطلقةً، وقبل أن يدخل قاعة الزوّار التفت ليلوّح لها مودّعًا، كانت قد انطلَقَت.
المطار مزدحمٌ كأنّه يوم الحشر، كأنّ الكلَّ هاربٌ من هذه الدولة، يبحثون عن منفذ وعن منفسٍ.. وهو مثلهم أعيته الأيّام وطلبات العائلة اللامتناهية، وحرف الباء بات يقلقه ما أن يخرج من فمِ أحد أولاده، أو من بين شفتي زوجته حتّى يجفلَ: بمبا، بسكوت، بوظة، بامبرس، بودرة، بادي، بالون، بريللي، بيسلي، بيجلا، حتّى "أبروبو" يقولها ابنه الصغير "بروبو"... و"فستق" يطلبه قائلًا "بدّي بستق"، وهو كم كان بودّه لو اختفى هذا الحرف من اللّغة، حرفٌ ما أن يُنطَق حتّى تتطاير النقود من الجيب ومن الجزدان ومن الجارور...
ياااه كم يشعر بالفرح وبالغبطة، مسافرٌ للمشاركة في اجتماع عمل، وسيخلو بنفسه بضع أيّام، سينسى حرف الباء والضجيج والألعاب، وهذا يجلس على قدميه، وتلك تلقي نفسها في حضنه، وزوجته تئنّ، تعنّ، تنقّ، تريد، لا تريد، تضع قوانين الممنوعات والمسموحات التي تُنقَض كلَّ اليوم وتُعاد صياغتها بصيغة جديدة، ولا قوانين ولا هيئة تشريعيّة تُحتَرَم، ولا هيئة تنفيذيّة... عجبًا كيف تُدار الدول إذا كانت البيوت صعبة الإدارة!
استرخى على مقعد الطائرة بعد أن مرّ طريق الآلام، والفحص والأسئلة الأمنيّة وغير الأمنيّة، وفتْح الحقيبة ونبشِها، وتفتيشه جسديًّا ونفسيًّا... لا ضيرَ أنّه لا يجلس قرب النافذة، فهو لا يريد أن يرى شيئًا، يريد أن ينام في الطائرة ليصحو هناك في الجنّة...
أيقظته من غفلتِه، طلبت منه أن يفتح لها طريقًا لأنّ تذكرتها تشير إلى مقعدها، قربه، قرب النافذة، هي جلست عن يمينه، وأحد المتديّنين اليهود جلس عن يساره، حمَدَ ربَّه، فذاك يقرأ في كتابه الدينيّ، وهي تكاد تخرج من النافذة، وهو سيرتاح الآن، حاول أن يُغمض عينيه، لكنّه انتظرَ أن تنهي مضيفة الطيران تعليماتها، تُذكّرهم كيف ينجون بنفسهم إذا ما تعرّضوا للخطر أو الغرق، وهو لا ينتبه، "فالمبلول لا يخاف من قطرة" ستسكتُ خلال ثوانٍ، شكرَتِ القبطان وحيّتْ زملاءَها على متن الطائرة، وذكّرت المسافرين أنّ الرحلة تستغرق ثلاث ساعات ونصف، تمنّت لهم الوصول بالسلامة، وصمتت... الآن ربّما يطفئون الأضواء ويتركون للمسافرين فسحةَ راحة.
أدارت وجهها نحوه، نظرت إليه نظرةً مستغربة، تلك النظرات يعرفها، تشبه نظرات الإعجاب، وكأنّها نظرات الاستغراب، نظرات التساؤل، أشاح بوجهه عنها، لا يريد أن يبدأ حديثًا، ولا أن يرى مثل تلك التعابير التي كثيرًا ما يراها، عابرة، لا معنى لها ولا استمراريّة... لكنّها أصرّت، يا إلهي فليتجاهلها، فليتصنّع النوم، أغمض جفنه.. سمعها تسأله، بل ربّما شعر بيدها تهزّه من يده لتنبّهه...
- إلى أين أنت مسافر؟
- ألسْنا في نفس الطائرة؟
ما أغباها، هذا ما كان ينقصني، غبيّة تجالسني وأنا هارب...
- لا، ظننتك ستنزل في فيينا وتكمل مسيرك إلى مكان آخر، وأنا سأنزل في فيينا، أوه، فيينا الجميلة، فيينا الخلّابة، من يزرها مرّة يعشقها، هل زرتها مرّة؟ هل كنت في...
لم يعد يسمع، هي تتحدّث دون توقّف، المتديّن قربه يقرأ وكأنه يعنّ، ألم يعلّموه القراءة الصامتة؟ وهو لا يريد أن يسمع، لا يريد أن يجيب، وهي لا تنفكّ تتكلّم، وتتكلّم وتسأله: هل أنت متزوّج؟
- متزوّج؟ نعم!
- وأين زوجتك؟ هل هي في الطائرة؟
- في البيت مع الأولاد.
هل سيعطيها كلّ تفاصيل حياته؟ هل يغيّر مقعده؟ هل يهرب إلى غرفة المرحاض الضيّقة في الطائرة ويسدّ الباب على نفسه هناك؟ هل سيكثر المتزاحمون على باب المرحاض؟ ليتها تسكت تلك النحيلة، ليتها تشيح عنه رقبتها المجعّدة، هو لا يسمعها، لكنّها ما زالت تشرح له عن جمال فيينا، وتهنّئه أنّه فاز بزوجة عاقلة وافقت أن تبقى مع الأولاد، وتتابع أسئلتها لتكتشف أنّ زوجته غير ملحاحة ولا تتواصل معه كلّ الوقت، فثقتها فيه كبيرة، ووقتها مستغَلٌّ حتّى الدقائق الأخيرة من اللهاث والتعب بين البيت والعمل والأولاد.. وهو... ستأخذ منه استراحة لأسبوع، من طلباته، من ميوله، من هدوئه، من استكانته، من عدم مساعدته لها كما تتوقّع منه...
وتلك طلبَـت رقم هاتفه، تكاد ترسل له التهانئ عبر الواتس أب لأنّ زوجته امرأة عصريّة، ما لها ولزوجته؟ صحيح أنّه يحاول التملّص من واجباته الأبويّة والزوجيّة، العاطفيّة والاجتماعيّة أحيانًا، لكنّه يحبّها، هو الذي اختارها، هو الذي حارب الكلّ من أجلها...
وتلك ليتها تسكت، لكن لا صمت ولو لثوانٍ، انتقلت من اسئلتها عن عائلته، لتشرح له ميولها، وماذا تحبّ، وأين تسافر، وهواياتها في السفر، وكيف تكتشف الأماكن الجديدة، وتتذوّق المأكولات الجديدة... وهو صامت، مستمع كريم، مستمع يريد أن يغفو، أن يتخلّص منها، أن يغادر الطائرة، أن يصل إلى أيّ مكان بعيد عن كثرة لغطها... يحاول أن يقول لها "أنا" .. "أنا أريد"... أنا
فقالت له: كلّكم عندكم الأنا، لكن أناك تشبه "أنا من نظر الأعمى إلى أدبي..." ولِمَ التكبّر؟
- تكبُّر؟ المتنبّي؟
أتهذي هذه؟ صحيحٌ أنّه لا يكتب القصائد كما المتنبّي، لكنّه حكيم وذكيٌّ ويعرف كيف يصل وكيف يحقّق أحلامه... المتنبّي ليس أكثر شأنًا منه...
وهي تطبّل وتزمّر له، تغنج بصوتها:
- أحبّ هذه الرجولة الخارجة من "أنا" أبو فراس...
- أبو فراس؟ أنا أبو لؤي
- ههههه، لم أقصدك أنت، رغم أنّني بدأتُ أعشق رجولتكَ... قصدتُ أبو فراس الحمدانيّ...
- "إنّي وإن كنتُ الأخير زمانه...."؟
- ما أروعَكَ! أظنّك الأخير والأوّل.
واقتربت منه، سألته أيّ فندق حجز؟ أين سيقضي أيّامه في فيينا؟ هل سينهي اجتماعه ويزور معالمها السياحيّة؟
هو لم يستمع كثيرًا، كانت الخيلاء تأخذه حيث الخيل والليل والقرطاس والقلم، كانت رجولته تهبّ من سباتِها، كانت يدها قد بدأت تلامس أطراف جسده ويده، كان حديثها مجرّد كلام، ونظراتها توقظ فيه "الأنا" النائمة منذ سنوات، تحسّس تحت أنفه، ظنّ أنّه أصبح فجأة مع شارب...
المتديّن اليهوديّ بدأ يفهم لغتهما، سيخسر صلاته إذا تابعا في غيّهما، غضب، نظر إليها نظرةً مؤنّبة، لم تأبه به، تحاشاها، أغلق كتابه وأغلق عينيه.. ترك لها مساحةً من الزمان والمكان، ترك لجاره المتوسط مساحة من الخيال والتخييل على صهوة فرس الرجولة...
سألها: ما اسمكِ؟
لفظت حرف الباء، وضع اصبعه على فمها قال لها: لا تُكملي...
عضّت الإصبع بغنج، ثارت ثائرته، لا يريد أن يسمع حرف الباء في رحلته،كم كان قريبًا من الجنّة في تلك الأعالي، هل سيهبط إلى الأرض ثانيةً؟ لو ترتفع به الطائرة لتوصله إلى سابع سماء، هل سيُحرَم الجنّة بسبب هذه الثرثارة؟ هل سيأكل من تفّاحة آدم؟ حاوَل أن يصمّ أذنيه، لا يريد لهذه "العجوز" أن تتسلّط على أفكاره، عدّلَ من جلسته، أبعد جسده عن التصاقها به، مرّت المضيفة طلبت من الجميع أن يضعوا الأحزمة، ستهبط الطائرة بعد قليل، حاول أن يضع حزامه، ارتبك، هل انقضت الساعات الثلاث والنصف؟ هل لم يغفُ؟ هل اقترب من الجنّة أم من جهنّم مع هذه الثرثارة التي لا يعرف اسمها، ولا من أين هي، ولا ماذا تفعل، تلك التي أيقظت غفوة سنواتٍ من رجولته... عادت إليه المضيفة موبّخةً أن يربط حزام الأمان، أمان؟ يده ترتجف، مدّت يدها ولسانها ما زال يثرثر، قالت له أنا أساعدك... ساعدته، ساعدتْه أبعد ممّا توقّع...
سينزل من الطائرة بعد ربع ساعة ويعود إلى طبيعته، سينال الجنّة، حتمًا سينال الجنّة هو لم يرتكب خطيئة...
هبطت الطائرة وتلك التي تثرثر قربه تخطّط كيف ستنتقل من المطار، تخطّط ماذا ستفعل الليلة، وقف أغلب المسافرين في انتظار وضْع درج الطائرة لتسريحهم، وقف هو، وقفت قربه، وضعت رأسها على صدره، حرّكت أصابعها فوق قميصه.. مدّت يدها حول خصره، حوّطت ظهره، لم يعد يعرف كيف مدّ يده واحتضنها.. لم يعد يعرف كيف كان قلبه يغنّي "ليالي الأنس في فيينا، نسيمها من هوا الجنة"، لم يعد يعرف إذا كان المتنبّي أو أبو فراس يركبان معه الطائرة، كان ينظر هناك بريبةٍ فيرى أبا فراس يرمقه من بعيد، وعلى أوّل درجة من درج الطائرة كان المتنبّي ينشد "أطاعن خيلًا من فوارسها الدهر" ...
راوية جرجورة بربارة
2022-10-05
* القصّة من وحي حادثة حقيقيّة سمعتها ورأيتها بأمّ عيني وأنا في طريقي إلى فيينا مع صديقتي، وما زلنا مدهوشتين مما قد تفعله ثلاث ساعات ونصف في الطائرة.
www.facebook.com
ركبت سيّارتها منطلقةً، وقبل أن يدخل قاعة الزوّار التفت ليلوّح لها مودّعًا، كانت قد انطلَقَت.
المطار مزدحمٌ كأنّه يوم الحشر، كأنّ الكلَّ هاربٌ من هذه الدولة، يبحثون عن منفذ وعن منفسٍ.. وهو مثلهم أعيته الأيّام وطلبات العائلة اللامتناهية، وحرف الباء بات يقلقه ما أن يخرج من فمِ أحد أولاده، أو من بين شفتي زوجته حتّى يجفلَ: بمبا، بسكوت، بوظة، بامبرس، بودرة، بادي، بالون، بريللي، بيسلي، بيجلا، حتّى "أبروبو" يقولها ابنه الصغير "بروبو"... و"فستق" يطلبه قائلًا "بدّي بستق"، وهو كم كان بودّه لو اختفى هذا الحرف من اللّغة، حرفٌ ما أن يُنطَق حتّى تتطاير النقود من الجيب ومن الجزدان ومن الجارور...
ياااه كم يشعر بالفرح وبالغبطة، مسافرٌ للمشاركة في اجتماع عمل، وسيخلو بنفسه بضع أيّام، سينسى حرف الباء والضجيج والألعاب، وهذا يجلس على قدميه، وتلك تلقي نفسها في حضنه، وزوجته تئنّ، تعنّ، تنقّ، تريد، لا تريد، تضع قوانين الممنوعات والمسموحات التي تُنقَض كلَّ اليوم وتُعاد صياغتها بصيغة جديدة، ولا قوانين ولا هيئة تشريعيّة تُحتَرَم، ولا هيئة تنفيذيّة... عجبًا كيف تُدار الدول إذا كانت البيوت صعبة الإدارة!
استرخى على مقعد الطائرة بعد أن مرّ طريق الآلام، والفحص والأسئلة الأمنيّة وغير الأمنيّة، وفتْح الحقيبة ونبشِها، وتفتيشه جسديًّا ونفسيًّا... لا ضيرَ أنّه لا يجلس قرب النافذة، فهو لا يريد أن يرى شيئًا، يريد أن ينام في الطائرة ليصحو هناك في الجنّة...
أيقظته من غفلتِه، طلبت منه أن يفتح لها طريقًا لأنّ تذكرتها تشير إلى مقعدها، قربه، قرب النافذة، هي جلست عن يمينه، وأحد المتديّنين اليهود جلس عن يساره، حمَدَ ربَّه، فذاك يقرأ في كتابه الدينيّ، وهي تكاد تخرج من النافذة، وهو سيرتاح الآن، حاول أن يُغمض عينيه، لكنّه انتظرَ أن تنهي مضيفة الطيران تعليماتها، تُذكّرهم كيف ينجون بنفسهم إذا ما تعرّضوا للخطر أو الغرق، وهو لا ينتبه، "فالمبلول لا يخاف من قطرة" ستسكتُ خلال ثوانٍ، شكرَتِ القبطان وحيّتْ زملاءَها على متن الطائرة، وذكّرت المسافرين أنّ الرحلة تستغرق ثلاث ساعات ونصف، تمنّت لهم الوصول بالسلامة، وصمتت... الآن ربّما يطفئون الأضواء ويتركون للمسافرين فسحةَ راحة.
أدارت وجهها نحوه، نظرت إليه نظرةً مستغربة، تلك النظرات يعرفها، تشبه نظرات الإعجاب، وكأنّها نظرات الاستغراب، نظرات التساؤل، أشاح بوجهه عنها، لا يريد أن يبدأ حديثًا، ولا أن يرى مثل تلك التعابير التي كثيرًا ما يراها، عابرة، لا معنى لها ولا استمراريّة... لكنّها أصرّت، يا إلهي فليتجاهلها، فليتصنّع النوم، أغمض جفنه.. سمعها تسأله، بل ربّما شعر بيدها تهزّه من يده لتنبّهه...
- إلى أين أنت مسافر؟
- ألسْنا في نفس الطائرة؟
ما أغباها، هذا ما كان ينقصني، غبيّة تجالسني وأنا هارب...
- لا، ظننتك ستنزل في فيينا وتكمل مسيرك إلى مكان آخر، وأنا سأنزل في فيينا، أوه، فيينا الجميلة، فيينا الخلّابة، من يزرها مرّة يعشقها، هل زرتها مرّة؟ هل كنت في...
لم يعد يسمع، هي تتحدّث دون توقّف، المتديّن قربه يقرأ وكأنه يعنّ، ألم يعلّموه القراءة الصامتة؟ وهو لا يريد أن يسمع، لا يريد أن يجيب، وهي لا تنفكّ تتكلّم، وتتكلّم وتسأله: هل أنت متزوّج؟
- متزوّج؟ نعم!
- وأين زوجتك؟ هل هي في الطائرة؟
- في البيت مع الأولاد.
هل سيعطيها كلّ تفاصيل حياته؟ هل يغيّر مقعده؟ هل يهرب إلى غرفة المرحاض الضيّقة في الطائرة ويسدّ الباب على نفسه هناك؟ هل سيكثر المتزاحمون على باب المرحاض؟ ليتها تسكت تلك النحيلة، ليتها تشيح عنه رقبتها المجعّدة، هو لا يسمعها، لكنّها ما زالت تشرح له عن جمال فيينا، وتهنّئه أنّه فاز بزوجة عاقلة وافقت أن تبقى مع الأولاد، وتتابع أسئلتها لتكتشف أنّ زوجته غير ملحاحة ولا تتواصل معه كلّ الوقت، فثقتها فيه كبيرة، ووقتها مستغَلٌّ حتّى الدقائق الأخيرة من اللهاث والتعب بين البيت والعمل والأولاد.. وهو... ستأخذ منه استراحة لأسبوع، من طلباته، من ميوله، من هدوئه، من استكانته، من عدم مساعدته لها كما تتوقّع منه...
وتلك طلبَـت رقم هاتفه، تكاد ترسل له التهانئ عبر الواتس أب لأنّ زوجته امرأة عصريّة، ما لها ولزوجته؟ صحيح أنّه يحاول التملّص من واجباته الأبويّة والزوجيّة، العاطفيّة والاجتماعيّة أحيانًا، لكنّه يحبّها، هو الذي اختارها، هو الذي حارب الكلّ من أجلها...
وتلك ليتها تسكت، لكن لا صمت ولو لثوانٍ، انتقلت من اسئلتها عن عائلته، لتشرح له ميولها، وماذا تحبّ، وأين تسافر، وهواياتها في السفر، وكيف تكتشف الأماكن الجديدة، وتتذوّق المأكولات الجديدة... وهو صامت، مستمع كريم، مستمع يريد أن يغفو، أن يتخلّص منها، أن يغادر الطائرة، أن يصل إلى أيّ مكان بعيد عن كثرة لغطها... يحاول أن يقول لها "أنا" .. "أنا أريد"... أنا
فقالت له: كلّكم عندكم الأنا، لكن أناك تشبه "أنا من نظر الأعمى إلى أدبي..." ولِمَ التكبّر؟
- تكبُّر؟ المتنبّي؟
أتهذي هذه؟ صحيحٌ أنّه لا يكتب القصائد كما المتنبّي، لكنّه حكيم وذكيٌّ ويعرف كيف يصل وكيف يحقّق أحلامه... المتنبّي ليس أكثر شأنًا منه...
وهي تطبّل وتزمّر له، تغنج بصوتها:
- أحبّ هذه الرجولة الخارجة من "أنا" أبو فراس...
- أبو فراس؟ أنا أبو لؤي
- ههههه، لم أقصدك أنت، رغم أنّني بدأتُ أعشق رجولتكَ... قصدتُ أبو فراس الحمدانيّ...
- "إنّي وإن كنتُ الأخير زمانه...."؟
- ما أروعَكَ! أظنّك الأخير والأوّل.
واقتربت منه، سألته أيّ فندق حجز؟ أين سيقضي أيّامه في فيينا؟ هل سينهي اجتماعه ويزور معالمها السياحيّة؟
هو لم يستمع كثيرًا، كانت الخيلاء تأخذه حيث الخيل والليل والقرطاس والقلم، كانت رجولته تهبّ من سباتِها، كانت يدها قد بدأت تلامس أطراف جسده ويده، كان حديثها مجرّد كلام، ونظراتها توقظ فيه "الأنا" النائمة منذ سنوات، تحسّس تحت أنفه، ظنّ أنّه أصبح فجأة مع شارب...
المتديّن اليهوديّ بدأ يفهم لغتهما، سيخسر صلاته إذا تابعا في غيّهما، غضب، نظر إليها نظرةً مؤنّبة، لم تأبه به، تحاشاها، أغلق كتابه وأغلق عينيه.. ترك لها مساحةً من الزمان والمكان، ترك لجاره المتوسط مساحة من الخيال والتخييل على صهوة فرس الرجولة...
سألها: ما اسمكِ؟
لفظت حرف الباء، وضع اصبعه على فمها قال لها: لا تُكملي...
عضّت الإصبع بغنج، ثارت ثائرته، لا يريد أن يسمع حرف الباء في رحلته،كم كان قريبًا من الجنّة في تلك الأعالي، هل سيهبط إلى الأرض ثانيةً؟ لو ترتفع به الطائرة لتوصله إلى سابع سماء، هل سيُحرَم الجنّة بسبب هذه الثرثارة؟ هل سيأكل من تفّاحة آدم؟ حاوَل أن يصمّ أذنيه، لا يريد لهذه "العجوز" أن تتسلّط على أفكاره، عدّلَ من جلسته، أبعد جسده عن التصاقها به، مرّت المضيفة طلبت من الجميع أن يضعوا الأحزمة، ستهبط الطائرة بعد قليل، حاول أن يضع حزامه، ارتبك، هل انقضت الساعات الثلاث والنصف؟ هل لم يغفُ؟ هل اقترب من الجنّة أم من جهنّم مع هذه الثرثارة التي لا يعرف اسمها، ولا من أين هي، ولا ماذا تفعل، تلك التي أيقظت غفوة سنواتٍ من رجولته... عادت إليه المضيفة موبّخةً أن يربط حزام الأمان، أمان؟ يده ترتجف، مدّت يدها ولسانها ما زال يثرثر، قالت له أنا أساعدك... ساعدته، ساعدتْه أبعد ممّا توقّع...
سينزل من الطائرة بعد ربع ساعة ويعود إلى طبيعته، سينال الجنّة، حتمًا سينال الجنّة هو لم يرتكب خطيئة...
هبطت الطائرة وتلك التي تثرثر قربه تخطّط كيف ستنتقل من المطار، تخطّط ماذا ستفعل الليلة، وقف أغلب المسافرين في انتظار وضْع درج الطائرة لتسريحهم، وقف هو، وقفت قربه، وضعت رأسها على صدره، حرّكت أصابعها فوق قميصه.. مدّت يدها حول خصره، حوّطت ظهره، لم يعد يعرف كيف مدّ يده واحتضنها.. لم يعد يعرف كيف كان قلبه يغنّي "ليالي الأنس في فيينا، نسيمها من هوا الجنة"، لم يعد يعرف إذا كان المتنبّي أو أبو فراس يركبان معه الطائرة، كان ينظر هناك بريبةٍ فيرى أبا فراس يرمقه من بعيد، وعلى أوّل درجة من درج الطائرة كان المتنبّي ينشد "أطاعن خيلًا من فوارسها الدهر" ...
راوية جرجورة بربارة
2022-10-05
* القصّة من وحي حادثة حقيقيّة سمعتها ورأيتها بأمّ عيني وأنا في طريقي إلى فيينا مع صديقتي، وما زلنا مدهوشتين مما قد تفعله ثلاث ساعات ونصف في الطائرة.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.